أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - العقل الأخلاقي العربي















المزيد.....


العقل الأخلاقي العربي


فتحى سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 4211 - 2013 / 9 / 10 - 16:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العقل الأخلاقي العربي

خصص الجابري الجزء الأول "تكوين العقل" والثاني "بنية العقل" من مشروعه الكبير "نقد العقل العربي" عن (العقل النظري) أما الجزء الثالث والرابع فقد خصصهم في (العقل العملي) ففي العقل السياسي كان الحديث عن واقع الحكم / السياسة كما مارسها الحكام، أو بمعنى أدق كما وقعت بالفعل، أما السياسة كجزء من "العلم المدني" والأخلاق جزؤه الأول فالمقصود بها "السياسة" كما ينبغي أن تكون، فقد افرد له كتابه الأخير "العقل الأخلاقي العربي" وفي الأجزاء الثلاثة السابقة كان تركيزه على "النظام المعرفي" وفي هذا الجزء الذي يختتم به مشروعه، كان تركيزه على "نظام القيم في الثقاقة العربية الإسلامية" .
يؤكد الجابري في مقدمته لهذا الكتاب، على الفقر النظري الذي لازم المكتبة العربية فيما يتعلق بالأخلاق، فالمكتبة العربية خالية من أية محاولة جادة وشاملة، تحليلية ونقدية، لنظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، لذلك فهو يقوم بمهمتين الأولى : القيام بكتابة تاريخ للفكر الأخلاقي في الثقافة العربية، والثانية : تدشين مهمة النقد لهذا الفكر بوصفه يحمل ويروج لنوع من القيم السلبية ما زال الكثير منها يؤثر في السلوك ويوجه الرؤى في حياتنا المعاصرة .
ينطلق الكتاب من مسلمة تقول أن عالم القيم في الثقافة العربية هو في الحقيقة عوالم وليس عالما واحدا، كما أن العقل الأخلاقي العربي هو "عقل" متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته، حيث أن نظام القيم العربي يتشكل من خمس نظم ثقافية وأخلاقية هي :
1. الموروث العربي الخالص : أخلاق المروءة .
2. الموروث الإسلامي : المستمد من أخلاق الدين .
3. الموروث الفارسي : أخلاق الطاعة .
4. الموروث اليوناني : أخلاق السعادة .
5. الموروث الصوفي : أخلاق الفناء .

في البدء كانت أزمة القيم : حتم وفود موروثات من خارج الثقافة العربية وجود "أزمات أخلاقية كبرى" يعزوها الجابري أولا : لوجود فراغ فأحداث “السقيفة” بعد وفاة الرسول هي أزمة، وحروب الردة في عهد ابو بكر كانت أزمة، وما أسماه الجابري “صراع الغنائم” على عهد عمر هو أزمة، والفتنة الكبرى على عهد عثمان هي أزمة، ثم استطرد إلى ظهور الفرق وصراعات السياسة، ثم رد الأمور كلها إلى السياسة وصراعات المجتمع حتى “أصبحت القيم الدينية نفسها بل الدين نفسه موضوعاً للسياسة، والأزمة المسوغة لذلك كله هي الأزمة التي تكون أدت إلى حد يشبه الفراغ الفكري، وذلك بأن يفضي التهافت والتهاتر في الخصام إلى حد الإفتقاد الكامل للفاعلية، فتصير القوى المتخالفة من حدة الخصام ومن تساوي أطرافه مما ينتج العدم .
كما ان الفتوحات في بلاد مختلفة الأديان السماوية وغير السماوية، ومختلفة الحضارات الفارسية واليونانية وغيرها، ومختلفة الأوضاع السهلية والجبلية والصحراوية، ومختلفة أنماط الإنتاج الرعوي والزراعي والتجاري ومختلفة اللغات والشعوب والتواريخ، ولذلك فإن بقاء الدولة وبقاء الشعور الجماعي بالانتماء المشترك وبالجماعة، كان مرهونا بالوفود الحضاري والفكري من “مناطق الضغط المرتفع” كما يقول علماء الجغرافيا، أي تنحية العنصر الموروث أو العنصر الأصيل، أو على الأقل امتزاجه بالعناصر الوافدة، كى تعصم هذه الدولة الوليدة والمترامية الأطراف من التفكك والانهيار .
السبب الثاني لاحتدام الأزمة يعود : إلى الاختلاف حول طبيعة الأيمان باعتباره جوهر الدين الإسلامي، فبعد فتنة مقتل عثمان واشتداد المعارك بين على ومعاوية، كان الجواب عن سؤال "ما الإيمان؟" يضع صاحبه في موقف المفتي : إما بقتال الأمويين، وإما بالقتال معهم؟، ومن أجل الإفلات من هذا السؤال الإرهابي، ظهر موقف ثالث بـ "الإرجاء" إرجاء الحكم في هذه المسألة إلى الآخرة، أي ترك الحكم لله، وما ينطوي عليه الموقف من "استقالة العقل" هذا ما حدى بالجابري إلى البدء بالمورث الفارسي ليسبق المورثات العربية والإسلامية،ولكنني أثرت أن أبداء بالسبق التاريخي كي تتضح ملامح التطور في منظومة الأخلاق العربية .

أولا : الموروث العربي الخالص : في حفرياته في الموروث العربي، يقف الجابري عند "المروءة" باعتبارها القيمة المركزية في الموروث العربي الخالص، وفي حضورها كقيمة أخلاقية واجتماعية منذ العصر الجاهلي وحتى اليوم، وبالأخص في العصر الأموي مع انتشار الموروث الفارسي وقيمه، إما بتأثير منه، وإما كرد فعل ضده؟ وفي بحثه عن مصادر الأخلاق والقيم في الموروث العربي، يرى أن كتب الأدب هي مصادرنا، وما تم جمعه وتدوينه من أشعار العرب وأخبارهم وحروبهم ومكارمهم في الجاهلية والإسلام .
ومفهوم المروءة في الذهن العربي يجمل الخصال المحمودة، ويمنع الصفات المذمومة، ويأتي الكرم على رأس القائمة، فالكرم مرتبط بالعطاء الذي هو مصدر أساسي من مصادر العيش في المجتمع العربي قبل الإسلام وبعده، ودلالة هذه الكلمة ترتفع في المخيال العربي إلى أسمى درجة تحمل معنى الشرف، فوصف الشيء بكونه كريما يعنى أنه ذو قيمة غالية، كما تأتي الفتوة كقيمة في الموروث العربي وهي تعنى الصحة والقوة البدنية والوفاء وحماية الضعيف وإغاثة الملهوف والسيادة مع التواضع، وكان من صيغ الفتوة وتجلياتها في الحياة العربية ظاهرة الصعلكة، التي كانت قائمة على الغزو والسلب من الأغنياء الأشحاء وتوزيع الغنائم على الفقراء والمحتاجين .

ثانيا : الموروث الإسلامي : في سبيل البحث عن أخلاق إسلامية يقف الجابري عند أربعة من الفقهاء الكبار : الحارث بن أسد المحاسبي وأزمة القيم عنده دفعته إلى اعتبار أخلاق الدين هي أخلاق الاستعداد للآخرة، وهنا يتساءل الجابري أليس الإسلام ديناً ودنيا؟ هذا ما لم ينتبه إليه المحاسبي صاحب كتاب " الرعاية لحقوق الله " ولكن الماوردي راح يغطي هذا الجانبً، فيؤلف في أخلاق الدنيا، حيث كانت محاولاته تندرج في إطار أسلمة الأخلاق، ثم ينتقل الجابري إلى الأصفهاني ومحاولاته الرامية إلى التركيز على مكارم الشريعة، ثم الغزالي الذي يلتقي مع المحاسبي في أن أخلاق الدين هي أخلاق الاستعداد للآخرة .
ويخلص الجابري بعد ذلك إلى أن التقوى هي القيمة المركزية في كل دين، وإن ما يشكل خصوصية الإسلام كون التقوى فيه يؤسسها العمل الصالح، لذلك فهو يرى ان محاولة الفقيه العز ابن عبدالسلام في كتابيه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" و "شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال" تبدو أقرب منهجية إلى تأسيس أخلاق إسلامية للدين والدنيا مستلهمة من القرآن والحديث واضعة القيمة المركزية التى هي مراعاة المصلحة والعمل الصالح كأساس للأخلاق الإسلامية، من هنا أهمية العز بن عبد السلام، الذي تحرر من الانغلاق الفقهي والكلامي، ومن إغراءات الأسلمة، أسلمة آداب الفرس (الماوردي) وأسلمة الأخلاق اليونانية (الأصفهاني)، وأسلمة آداب السلوك الهرمسي (الغزالي)، لقد تجاوز ذلك كله ورجع إلى الأصل، هكذا كان مشروع سلطان العلماء العز بن عبد السلام الأكثر أصالة فقد اعتمد على القرآن الكريم والسنة الصحيحة، واتخذ من المصلحة هدفا وغاية وتجاوز بنية الأخلاق اليونانية، وفتح هذا المشروع باب التجديد واسعا وقدم الإسلام على أنه إيمان وعمل صالح.

ثالثا : الموروث الفارسي : قد يكون أخطر موروث على العقل الأخلاقي العربي هو الموروث الفارسي أخلاق الطاعة والانقياد إلى السلطان ولو كان غاشما ظالما جبارا، لقد تغلغل هذا الفكر في بنية العقل العربي بدرجة خطيرة جدا حتى صارت أخلاق الطاعة تجد مستندها من القرآن والأحاديث النبوية و كتب الأدب العربي، فخطاب الطاعة الكسروي، كان أول ما دون في الأخلاق في الثقافة العربية؟ ففي عهد هشام بن عبد الملك، الذي دخلت فيه الدولة الأموية الناشئة في طور الأزمة وكثرت من حولها الحركات المعارضة، تم الشروع في نقل الموروث الفارسي إلى الثقافة العربية، والذي قدر له أن يستفحل في عهد الدولة العباسية التي أنشأت على أنقاض دولة بني أمية .
وأكبر شاهد على ذلك نصوص عديدة تمتد على مدى ثمانية قرون من "كليلة ودمنة" لابن المقفع، إلى الأبشيهي في (المستطرف في كل فن مستظرف)، إلى "العقد الفريد" لابن عبد ربه، أن ما تنقله هذه النصوص في مجال القيم يتمحور حول موضوعتين رئيسيتين يرجع فيهما بصورة أساسية إلى ملكين كانا من أعظم ملوك الفرس (أردشير وكسرى أنوشروان) أما الموضوعان فهما: علاقة الدين بالملك (الدين والملك توأمان)، وعلاقة الطاعة بالعدل (طاعة السلطان من طاعة الله) .
تغلغل نظام الطاعة الكسروي في الثقافة العربية، وأصبح مفعولة يعلوا على جميع نظم القيم الأخرى بعد ان روجه كتاب الدواوين عبر ما يسميها الجابري بظاهرة الترسل، وارتفع بمبدأ الطاعة إلى منزله الإلهي بحيث أصبحت طاعة الملك من طاعة الله، وفي وقت لاحق باتت الطاعة مطلوبة لذاتها فهي أعطت الأولوية للطاعة على المطاع. هذه الأولوية جعلت من الملك إلهاً، ومن الناس عبيداً لا يجدون سعادتهم إلا بعبادة الملك وطاعته، لنقل طاعة الملك العضوض (فمن اشتدت وطأته وجبت طاعته) .
في هذا السياق تحول الخليفة الأموي إلى كسرى جديد. وتحول أبو جعفر المنصور لاحقاً إلى أردشير الدولة الجديدة. والغريب في الأمر أن أولوية الطاعة على المطاع والارتفاع بمبدأ الطاعة إلى منزلة الإلهي قد اتخذت طابعاً جديداً، تماماً مع ظهور فكرة ألوهية الإمام لدى بعض الفرق المنتسبة للشيعة التي أحلت الإمام محل كسرى وعظمته، ومع أن تعظيم الأئمة الذي يرتفع بهم من المستوى البشري إلى المستوى الإلهي على طريقة الفرس، يعد غريبا عن الأفق العربي والإسلامي، إلا أن إيديولوجيا الإمامة الشيعية والإسماعيلية خاصة، تقوم على أن الإمام هو وارث أسرار الدين، لا بل وارث النبوة، بل هو الإله نفسه، الذي حل كله أو جزء منه في جسم البشر، فطاعته هي نفسها طاعة الله، وقد انتقل مبدأ الطاعة إلى الإسلام السني الرسمي، وهذا ما جعل من مدينة أردشير، واحدة من المدن العربية التي يرأسها ملك عضوض، وتحولت إلى مدنا بلا أحلام، يقول الجابري "إن مدينة كسرى لا تترك للحلم مكاناً في هذا العالم" .

رابعا : الموروث اليوناني : يميز الجابري، من خلال وقوفه على أصول الموروث اليوناني، بين ثلاث مرجعيات، يعود إليها كل ما نقل إلى الثقافة العربية من هذا الموروث في الأخلاق والقيم: أفلاطون وأرسطو وجالينوس، ويشير إلى أنه حصل الجمع بين آراء أفلاطون وأرسطو في الأخلاق كما في مجالات أخرى، وحصل الجمع بين آراء هذين وبين آراء جالينوس. ومع ذلك، يخلص إلى التمييز في الفكر الأخلاقي المستمد من الأصول اليونانية بين نزعات ثلاث : نزعة طبية علمية (مراجعتها جالينوس( نزعة فلسفية (ومراجعتها أفلاطون وأرسطو( نزعة تلفيقية تقتبس من المراجعات الثلاث. وكثير منها لا يميز بين الصحيح والمنقول، ويخلص إلى وجود فارق أساسي بين الاخلاق المستمدة من الموروث الفارسي والموروث اليوناني، فإذا كانت اخلاق الطاعة ونظام الحاكم الذي يؤسس حكمة على الدين والاستبداد لتشييد امبراطورية ترتبط بالموروث الفارسي، فان الأخلاق المستمدة من اليونان تقوم على الفلسفة، وبناء تصور للكون، والقيمة المركزية لها "السعادة" أضف إلى ذلك أن الدولة لم تكن في الخطاب الفلسفي اليوناني سلطاناً أو سلطنة بل كانت مدينة، والمدينة ليست إمبراطورية، ولا ملكية، كما أَنَّهَا ليست مجرد مكان، بل هي منسوبة إلى المواطن، فالأصل فيها المواطن، ومن هنا كانت الدولة/المدينة هي مجموعة المواطنين .
ومن خلال تتبع تغلغل الموروث اليوناني في الثقافة العربية يستعرض الجابري اجتهادات الفلاسفة العرب الذين كرسوا النزعة الطبية في الأخلاق، ابتداء بالكندي (185-252 هـ) كأول فيلسوف يبدأ معه التاريخ للفلسفة العربية الإسلامية، وكان له اهتمام خاص بنقل نهج جالينوس ونزعته الطبية، ثم الرازي ( 250-320 هـ ) الذي يعتبره الممثل الرسمي للنزعة الطبيه المؤطرة بخلفية فلسفية هرمسية غنوصية ذات طابع ميتافيزيقي، وثابت بن سنان ( ت 363 هـ) صاحب كتاب "تهذيب الأخلاق" الذي تابع منهج جالينوس في النزعة الطبية للأخلاق، وفي إطار النزعة العلمية الطبية يقف الجابري عند ابن الهيثم (354-430 هـ ) وابن حزم (ت456 هـ) الذان كانا لهما دورا في هندسة الأخلاق بنزعة إنسانية تقع داخل نطاق أخلاق "السعادة" المستمدة أيضا من النزعة الطبية لجالينوس .
ينتقل الجابري إلى ممثلي النزعة الفلسفية التلفيقية حيث يرى أن الفارابي (260- 339 هـ) دمج علم الكلام بفلسفة أفلاطون وأرسطو وانصرف بتفكيره في تشيد المدينة الفاضلة عن أفكار أفلاطون التي ركزت على المكونات الاجتماعية والسياسية والتربوية وقامت على القيم الفاضلة، لم يقع الفارابي تحت هيمنة نظام القيم الذي كرسه المتكلمون وحدهم، بل وقع أيضا تحت تأثير القيم الكسروية المستمدة من "الآداب السلطانية" و"المدينة الأمامية" التى قال عنها إنها "مدينة فاضلة بأفعالها" هي مدينة أردشير التي كانت حاضرة بقوة في زمنه، وفي هذه المدينة يلغي الفارابي "السعادة" إما بتأجيلها إلى الحياة الآخرة، وإما بربطها في هذه الدنيا بنموذج أردشير، الحاكم المستبد، الحارس للدين مظهرا، والحارس لحكمه من الدين والشعب واقعيا .
وفي تحيز واضح إلى فلاسفة الاندلس ينتقل بنا الجابري إلى مفهوم آخر للنزعة الفلسفية التي تقوم على تدبير الفرد والمواطن من خلال مدينة فاضلة ممكنة، فيرى ان ابن باجة (475-533 هـ) لم يخرج عن أفكار أفلاطون في مدينته الفاضلة، وتحدث عن أرسطو الذي كان يرى أن المدينة الفاضلة حلم يصعب تحقيقة على أرض الواقع، أما ابن باجة فقد رأى عكس ذلك، وأن المدينة الفاضلة ممكن وجودها إذا انطلقنا من تكوين الفضلاء حتى إذا اجتمع منهم ما يكفي كونوا المدينة الفاضلة، إذن، فالبداية يجب أن تكون، لا بيان كيفية "تدبير المدينة الفاضلة" بل كيفية البنية الأولى في صرحها، كما يشيد الجابري بابن رشد والطريقة التي تعامل بها مع جمهورية أفلاطون، ويرى أنه لأول مرة في الثقافة العربية أمكن القول إننا أمام عمل متميز وأصيل، رصين وشجاع. وتتجلى أهمية المشروع الرشدي في الخصائص التالية:
• أنه لأول مرة - وأيضا لآخر مرة- يتم التعامل في الثقافة العربية مع المضمون السياسي لكتاب الجمهورية كما هو، بعيدا عن أية بطانة ميتافيزيقية (كتلك التي لفه فيها الفارابي) وعن منهج "المقابسات" و"سوق الأدب" الذي يقتطف عبارة من هنا وهناك، مع تجنب ما هو نقدي قد يفهم "إياك أعني واسمعي يا جارة . "
• أن ابن رشد بقي مخلصا لروح النص وطابعه التحليلي النقدي، وأكثر من ذلك وظفه في نقد السياسة في زمانه وبلده نقدا مباشرا، لا مواربة فيه ولا التواء .
• أنه لأول مرة في تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي والأخلاقي والاجتماعي في الثقافة العربية تواجه السياسة بخطاب صريح. ويتم نقد الاستبداد بمفاهيم مباشرة (وحدانية التسلط) وبجرأة وقوة وبإعطاء أمثلة من وقاع التاريخ العربي .
• وهذا ينطبق على ابن باجة أيضا هي أننا إزاء فكر سياسي وأخلاقي متحرر تماما من "أردشير" والقيم الكسروية. وبعبارة أعم، من "أخلاق الطاعة" ومتحرر كذلك من النزعة الصوفية، سواء على صعيد الأفق الميتافيزيقي، أو على صعيد الفعل الاجتماعي، حيث يهرب المتصوف من المقاومة الإيجابية إلى "المقاومة السلبية"، كما كان شأن المانوية في فترة من تاريخها .
المفارقة الكبيرة والخطيرة التي يقودنا إليها الجابري، أن مفكري الثقافة العربية إدخلوا الموروث اليوناني في صراع خفي مع الموروث الفارسي ضمن مبدأ المفاخرة. سرعان ما بدأ ينحو باتجاه المصالحة بين الموروثين لينتهي إلى الجمع الذي قام به كل من العامري ومسكويه، والذي ترتب عليه الجمع بين القيمتين المركزيتين: السعادة والاستبداد، وما حدث لاحقاً أن الأدبيات الأخلاقية السياسية في الإسلام قامت بإقصاء السعادة، وبهذا تكون القيم الكسروية قد أطلت بعنقها من جديد، وسيترجمها مثقفوا المقابسات خير ترجمة، والذين اقتبسوا الرديء من الموروث اليوناني، يقول أبو حيان في مقابساته "السلطان في تدبير الرعية كالشمس في تفصيل الأزمان، والجند كالرياح في التلقيح. والعلماء من الجميع كالنبت، والحيوان في نقل الأموال كالأرض في حمل الأنام، وما يكون به منافع الإنسان" وهنا يعلق الجابري بظرافة بقوله (لنضع الله في مكان الشمس، والبقية واضحة، إنها المماثلة من الحاكم في الأرض على الناس، والحاكم في السماء على السماوات والأرض، من هذه المماثلة تستلهم القيم، وعلى أساسها تبرز وتكرس في الثقافة العربية الإسلامية) .
في ظل هذا الوضع، يؤكد الجابري، غابت أخلاق السعادة، ونسبت إلى الموروث اليوناني نفس القيم الكسروية التي انتقلت مع الموروث الفارسي، وهكذا، فإن" السعادة" التي هي القيمة المركزية في هذا الموروث قد فقدت مضمونها الإنساني الواقعي، لتصبح سعادة في عالم ما ورائي لتتحقق بتخليص النفس من أغلال البدن والحياة الحسية، ومن ثم، تم القطع بين "السعادة" كقيمة مركزية في الموروث اليوناني وبين الأساس العقلاني الذي بنيت عليه أول مرة في حين ساد حضور أخلاق الطاعة، والقيم الكسروية الساحة الثقافية العربية

خامسا : الموروث الصوفي، أخلاق الفناء... وفناء الأخلاق: يعزي الجابري انتشار الصوفية في عصر ازدهار الحضارة العربية إلى الموروث الصوفي الفارسي الذي كان منتشراً في الكوفة والبصرة، واللتان تظهران كعاصمتين ثقافيتين قبل بغداد، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن جل سكانهما كانا من الفرس الذين شعروا بمرارة خضوعهم للعرب، وهم الذين كانوا يكنون بالأحرار؛ فمن الطبيعي أن يظهر التصوف في أواسط هاتين العاصمتين أولاً، كإشارة إلى زهد سياسي جماعي بعد أن تمت الغلبة للعرب، والثانية كسلاح حارب به الفرس العرب للقضاء عليهم بعد أن عجزوا عن مواجهتهم؛ فسلكوا سبيل الهزيمة واتخذوا القوى الغيبية معتقداً لهم، وسادت بينهم أخلاق الفناء وفناء الأخلاق، ويعلق الجابري على زهد أهل الكوفة فيقول "اعتزلوا السياسة فانقلب زهدهم تصوفاً يتغذى من الموروث الصوفي الفارسي والهرمسي" .
سبق للجابري في كتابه (بنية العقل العربي، 1986) الكشف على ان العرفان ليس شيئاً فوق العقل كما يدّعي العرفانيون، بل هو أدنى درجات الفعالية العقلية، واعتبر أن الحقيقة عند العرفانيين هي رؤية سحرية للعالم تكرسها الأسطورة، والنتيجة التي قادنا إليها أن العرفان يلغي العقل، وبما أن الصوفية تقوم على العرفان، فالموروث الصوفي يجسد استقالة العقل، ويعلو الآخرة على الدنيا، فهو مشحون بالقيم السلبية من الحياة، ويجذر مبدأ الطاعة من خلال علاقة الشيخ بالمريد، أو ملوك الآخرة (بعبيدهم ومريديهم) وقد مكن العرفان الصوفي من اكتساح الدائرة البيانية باسم التصوف السني، وأنتشاره أدي إلى إنشاء إمبراطورية روحية عبر العالم الإسلامي كله، كانت تقود الفقراء إلى الانسحاب من الدنيا حيث أن نعيمهم سيتحقق في الآخرة، وان هذه الإمبراطورية قدمت نفسها على أَنَّهَا البديل الحقيقي والصحيح لدولة أهل السنة على الأرض، لتقيم للمسلمين الفقراء مملكتهم في السماء، والأخطر من ذلك أن العرفان الصوفي الشيعي بشر بنفس الكسروية كما تتجلى في هيمنة القيم الكسروية على علاقة الشيخ بالمريد .
ويخلص الجابري بأن أخلاق الفناء التي كرسها الموروث الصوفي هي أخلاق اللاعمل، مبدؤها ترك التدبير وعدم التفكير في المستقبل. فليس غريباً إذن أن يقود انتشار التصوف في العالم العربي والإسلامي منذ الغزالي إلى صرف أهله عن التفكير في المستقبل، والعمل من أجله. لقد نظروا إلى الغزو الصليبي على أنه عقاب من الله؛ لأن المسلمين ضيعوا طريق الله، وهذا ما يقوله متصوفة معاصرون في حق أهلنا في فلسطين، والحق أن أخلاق الفناء لا تنتهي إلى فناء الأخلاق وحسب، بل إِلَى فناء الأمم، ولم يكن مصادفة أن قامت حركة الإصلاح في العصر الحديث على محاربة الطرق الصوفية .
إن الرحلة التي قام بها الجابري لتقصي أصول العقل الأخلاقي العربي، أفضت إلى تأكيده على حقيقتين هما:
الحقيقة الأولى: إن الرغبة في "اتقاء الفتنة" قد بررت على الدوام قبول العيش "باستكانة" تحت الحكم الذي أصله فتنة! فكانت النتيجة قيام الحكم في الإسلام، وعلى الدوام إلى الآن، على "وحدانية التسلط" وكانت مدينتنا إلى اليوم "مدينة الجبارين" فوضعية "القبول بالعيش باستكانة" مازالت تروج لنوع من القيم السلبية ما زالت تؤثر في السلوك وتوجه الرؤى في حياتنا المعاصرة .
الحقيقة الثانية: لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا غيرهم من بلاد الإسلام النهضة المطلوبة، والسبب عندي أنهم لم يدفنوا في أنفسه "أباهم" أردشير! الذي كرس الطاعة، ليس مجرد الطاعة للإله، بل الطاعة للملوك حتى لو كانوا فاسدين، أو مغتصبين للسلطة، ومستبدين بالحكم .



#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في تاريخ الأحزاب المصرية
- ذكري إنتفاضة 18/19 يناير 77
- كيفية اكتشاف ورعاية المبدعين؟
- استطلاع الرأي الثالث
- تقييم انتخابات حزب الجبهة الديمقراطية
- النانو تكنولوجيا .. علم وصناعة القرن الجديد
- وداعا محمد عابد الجابري
- رأس المال الاجتماعي مدخل حديث للتنمية
- المواطنة ممارسة
- العلم وشروط النهضة
- هدم العقارت كارثة للملاك الفقراء وإهدار للثروة القومية في مص ...
- العالم بدون كلود ليفي شتراوس
- الطرق إلى الحداثة
- لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3
- لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 1 من 3
- تقارير التنمية الإنسانية تثير الجدل حول تردي الاوضاع العربية
- زمن ال -مابعد - 2 - 2
- زمن ال - ما بعد - 1 من 2
- زمن ال - ما بعد -
- دفاعا عن المنظمة التي تدافع عن حقوق الإنسان


المزيد.....




- مصر.. شهادة -صادمة- لجيران قاتل -طفل شبرا-: متدين يؤدي الصلو ...
- السعودية.. عائض القرني يثر ضجة بتعداد 10 -أخطاء قاتلة غير مع ...
- كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط ...
- العراق.. المقاومة الإسلامية تستهدف هدفاً حيوياً في حيفا
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن ضرب -هدف حيوي- في حيفا (في ...
- لقطات توثق لحظة اغتيال أحد قادة -الجماعة الإسلامية- في لبنان ...
- عاجل | المقاومة الإسلامية في العراق: استهدفنا بالطيران المسي ...
- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - العقل الأخلاقي العربي