أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمامي - أطروحات سريعة من وحي ثورة مغتصبة















المزيد.....


أطروحات سريعة من وحي ثورة مغتصبة


محمد عمامي

الحوار المتمدن-العدد: 4744 - 2015 / 3 / 10 - 04:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أطروحات سريعة من وحي ثورة مغتصبة


يعتقد كثير من ممتهني "الثورة" أنها مشروع مخطط له بصفة مركزية ضمن هياكل أحزابهم ومنظماتهم "الطليعية" التي تقوم بتحريض الشعب حتى يهبّ لمواجهة آلة القمع وقلب النظام القائم. وإذا ما تسنى له ذلك تولى حزبهم الثوري (الأحزاب الثورية بالنسبة للبعض) عزل الرئيس والحكومة والبرلمان القائمين، من جهة، وتطهير بقية أجهزة الدولة من عناصر النظام القديم. وهكذا تكون الثورة قد حققت أهدافها المباشرة بحملهم هم إلى السلطة ووضع حزبهم في موقع الهيمنة صلب النظام "الجديد". غير أن الثورة التونسية أتت بما يفند كل هذه المسلمات وأسست لمفهوم مغاير للثورة.
فما هي الثورة، إذن، وفقا لتجربتنا الخاصة لا وفقا لمخطط رجال المخبر؟

ما هو أصيل في الثورة

حسب التجربة التونسية، الثورة فعل مرتجل، مبتدع في اللحظة، مفاجئ ومتصاعد، ينفجر، أوّلا ضمن مجال محلي محدود (مدينة، قرية، حي، قطاع)، ويتوسع بصورة فجئية وغير مدروسة ولا حتى متوقعة ليعم البلاد مجتاحا جهات وأقاليم ثم البلد بأكمله. وهي لا تخضع لتخطيط ولا لرسم مسبق من منظمات أو أحزاب سياسية مهما كانت ثوريتها. والثورة لا تحدد بنتائجها ولا بكيفية انطلاقها ولا بالقوى السياسية التي تفعل فيها، بل بتطورها كمسار متصاعد يستهدف قلب المنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة بصورة جذرية. ويمكن لهذا المسار أن ينجح بتوفر شروط النجاح كما يمكن أن يفشل لغيابها ولتوفر ظروف مضادة للنجاح. غير أنّه يخلق، مع ذلك، حالة ذهنية جديدة تصبح بموجبها كل المسلمات السابقة خارج اللحظة وعديمة الجدوى لا بل مضرة. فإذا تطورت تلك الذهنية الثورية إلى حالة واعية، ومدروسة ومنظرة دفعت بالمسار الثوري نفسه أشواطا جديدة وفتحت آفاقا واسعة أمام تثوير جميع الحقول والمجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، أما إذا عجزت تلك الذهنية على أن تتبلور في منظومة فكرية وثقافية جديدة وعلى أن تترجم في أطروحات وخطط وبرامج ثورية فمآلها الخبو ثم التلاشي وإن بعد حين. وسينجم عن ذلك انقلاب لحظي، هو الآخر، يتجلى في انحدار وتقهقر يمكن أن يتطورا إلى حالة من الانحطاط وحتى الهمجية، فتبرز للواجهة قوى رجعية تؤسس لهيمنة استبداد أعتى من كل سابقيه.

على خلاف ما يعتقد الكثير، لا تسير الثورة باتجاه قلب رأس السلطة المركزية بداية، والإسراع باستبدال الحكومة والبرلمان والرئاسة كإجراء أوّلي، بل تستهدف قبل كل شيء، وبحكم المواجهة المباشرة، جذور الدولة المنتشرة والمتجذرة في عمق المجتمع والمتحكمة في مجالاته الأقرب إلى حياة الناس، في الأحياء والقرى والمدن والقطاعات الإنتاجية ومسالك التوزيع والخدمات الاجتماعية. وهكذا تهجم الجماهير الثائرة على سلطات الدولة المحلية تسقطها الواحدة تلو الآخرة، تحتل مقراتها وتطرد رموزها المنصبة. وقد أثبت المثال التونسي هذا التوجه. وبحكم ضرورة حماية الثورة من هجمات البوليس والميليشيات المعادية، تستنبط هياكل دفاع ذاتي (لجان حماية الثورة في المثال التونسي) متكونة من شباب ثائر مسلح بما أتيح له من وسائل دفاعية مستنبطة من المحيط المحلي (أسلحة بيضاء، هراوات، حجارة، أطر مطاطية، حواجز...) وكذلك لجان شعبية لتسيير الحياة اليومية للناس من لوجستيك وتضامن وتوزيع وخدمات أولية كالتنظيف والإسعاف. كما تعوّض هياكل الدولة بهياكل تسيير ذاتي تملأ الفراغ الذي أحدثه غيابها. وكما حدث في المرحلة الثورية التونسية، تناسلت تلك الهياكل على نطاق القرى والمدن والجهات، مبرزة مشاركة مواطنيّة واسعة في النقاش والقرار والتسيير. وأصبح للنساء والشباب قدرا كبيرا من الحضور والمساهمة بالرأي وبالفعل. وما اُعتبر في 2008 خاصية من خاصيات تحركات الحوض المنجمي أصبح إثر 17 ديسمبر 2010 حالة تعم مناطق البلاد من شرقها إلى غربها ومن جنوبها إلى شمالها. ولكن لم يتسن لهذا المسار الخارج من عمق الحراك الثوري والذي تطور بسرعة في المجالات المحلية والجهوية والإقليمية أن يتطور ويتعمق ليصبح حالة دائمة ومنظومة متكاملة ومترابطة البناء ولم يصل إلى إفراز سلطة فدرالية على نطاق البلد كله. ويعود ذلك إلى ثقل تدخل الكوابح الداخلية بسرعة حالت دون بلورته على مدى زمن كاف خاصة أنه لا يستند لتجارب سابقة تلهمه وتجنبه الدوران في حلقات مفرغة أحيانا نتيجة أمراض نمو لا يزال في طوره الأول. و أبرز تلك الكوابح الداخلية بلا منازع هي الأجهزة البيروقراطية للاتحاد العام التونسي للشغل وأحزاب اليسار التي كانت تعمل على واجهة مضادة تماما لهاذا المسار، واجهة الدفاع عن الدولة واستبدال المسار الثوري بمسار مواز أطلق عليه اسم "مسار الانتقال الديمقراطي".

القصبة 2 المنعرج

وفعلا فمنذ القصبة 2 تمكنت الأحزاب ومنظمات "المجتمع المدني" من التأثير على قيادات الحراك الثوري كي يصهروا نشاطاتهم من أجل أهدافهم الخاصة، الانضواء تحت "المجلس الوطني لحماية الثورة الذي ضم كل أطياف المعادين للثورة" إلى جانب الأحزاب التي تدعي النطق باسمها، واختزال المطالب في إسقاط الحكومة والبرلمان القديمين وإجراء انتخابات لإرساء جمعية تأسيسية تعيد هيكلة الدولة القائمة عبر شرعية انتخابية جديدة تجري بصورة فوقية وتحصر السلطة في بعض المتراهنين المدعومين من قبل الرأسماليين العالميين والمحليين. وهكذا أعيد المارد إلى قمقمه وتفرغ محترفو السياسة إلى تنظيم عملية استبدال جديدة. ولقد لعبت البيروقراطية المنحدرة من طبقات اجتماعية مختلفة دورا رئيسيا في الدفاع عن دولة توفر لها امتيازات لا تستطيع التفريط فيها لسواد عيني "الشعب". فإلى جانب البيروقراطية النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل انضمت بيروقراطية الأحزاب والمنظمات غير الحكومية وبعض ما يعبر عنهم بالشخصيات الوطنية ممن يدورون دوما في فلك الدولة دون التخلي عن فرادتهم التي يستمدونها من استقلالية كاذبة وحياد وموضوعية مغشوشين.

ومع انطلاق "مسار الانتقال الديمقراطي" القائم على "التوافقات الكبرى" و"الشراكة بين جميع مكونات الطيف السياسي"، و"نبذ الاستثناء والاستئصالية"، بزعامة رئيس مؤقت ورئيس حكومة، هما من سدنة نظام بن علي نفسه، انطلق مسار الالتفاف وتفكيك المنجزات الهشة للثورة، فسخرت كل وسائل التخبيل وإرشاء ثلة من خيرة القادة الميدانيين للثورة، ثم قامت بمجهود كبير كي تخضع هياكل التسيير الذاتي لرقابتها وكي تختزلها إلى هياكل استشارية للولاة والمعتمدين وباقي منصبي الدولة التي خلقوا في صراع ضدها. باختصار، تختزل أهداف الثورة، بالنسبة للمركزيين التسلطيين بيسارهم ويمينهم، في تجديد الرؤوس الكبرى للدولة (رئاسة وحكومة وبرلمان وهيئات عليا وإصلاح الإعلام والقضاء، أي في أحسن الحالات، تعويض طغمة حاكمة بأخرى وهو ما تم بجزئية كبيرة في تونس ما بعد الثورة المهزومة. إن ما حدث في تونس هو، إذن، على ما هي عليه من تميز وأصالة، يؤكد ما حدث في عديد الثورات المعادية للرأسمالية طوال القرن العشرين: ثورة من تحت تبدأ فورا في تقويض أسس الدولة وتستنبط هياكلها المسيرة ذاتيا لتعويضها غير أنها تصطدم "بثورة" فوقية هي في الحقيقة جنين ثورة مضادة، يقودها بيروقراطيو منظمات تنسب نفسها لثورة التحت بالذات. ومع تعقيد الرابطة بين قيادات الثورة الميدانيين وبين قياداتهم الحزبية المضادة للثورة تتعطل الثورة من تحت ويقع كبح الهياكل المسيرة ذاتيا بشتى الطرق المتراوحة بين الاحتواء (كما هو حال الثورة التونسية ، والقمع المسلح كما هو حال الثورة الاسبانية وغيرها من تجارب مشابهة).

البيروقراطية ودورها في الثورة


ولئن سمح وجود بيروقراطية ثورية على رأس ثورات النصف الأول من القرن العشرين بتحطيم الدولة الرأسمالية واستيلاء أحزاب عمالية على سلطة دولة ناشئة سميت دولة عمالية لتفرض على الرأسمال إصلاحات اجتماعية جوهرية حققت مكاسب اجتماعية هامة لصالح العمال والطبقات الشعبية، سميت "اشتراكية" فقد كشفت للجميع عن طبيعتها الحقيقية بعد عقود من الوهم والهروب إلى الأمام. لم تكن اشتراكية الدولة، "الاشتراكية الدولانية" سوى رأسمالية دولة شديدة المركزية والدكتاتورية لا بل شمولية. ومع مطلع القرن الواحد والعشرين، كشفت الثورة التونسية على منعرج حاد في طبيعة ودور
البيروقراطية الاشتراكية والشيوعية. فمن قيادة ثورية متسلطة ومركزية لثورات القرن العشرين إلى مدافع شرس على الدولة البرجوازية "الجمهورية" "المدنية" "الديمقراطية". لقد تأكد، إذن، ذلك الانزلاق اليميني لمجمل الأجهزة البيروقراطية لنقابات وأحزاب اليسار المنبثق على حركة الستينات وبداية السبعينات، قاطعة بذلك مع التقاليد الثورية (ولو تسلطية) لمراجعها التاريخية. إنّ البيروقراطية العمالية والبرجوازية الصغيرة في القرن 21 ارتبطت أكثر بأجهزة مرتشية وغنية بما لا تتناسب مع مواردها البشرية، وهي تجني من هكذا وضع منافع كبيرة في علاقة بتواطئها مع السلطة القائمة حتى من موقعها كمعارضة إصلاحية. وفعلا فقد انطلقت منذ التسعينات عملية إرشاء واسعة النطاق لزعامات المعارضات وكوادرها مما جعل مصيرها مرتبطا بالنظام السائد وبموقعها المتميز في المعارضة أكثر بكثير من ارتباطها بقواعدها وبالفئات الاجتماعية التي تعبر عنها، وهو ما جعل عديد المنظمات تكتفي بعشرات من الأعضاء وتقوم على تنفذ عائلات بعينها تتحول معها تلك المنظمات إلى ظاهرات إعلامية وربما انتخابية فارغة . وهكذا طورت طرق جديدة للتفاوض والشراكة المعلنة أحيانا والضمنية أحيانا أخرى مع مراكز التمويل والتوجيه العالمية والإقليمية والمحلية بدل النضال الطبقي والنشاطات الثورية.

إنّ هذا التباين بين ثورة التحت و"ثورة" الفوق هو في الحقيقة صراع بين من يسعى إلى التحرر لا فقط من ربقة الرأسمالية بل أيضا من جور الدولة، هذا الكائن الطفيلي المتسلط والحارس الأمين لمنظومة النهب الرأسمالي نفسها من جهة، والفارض لشتى أنواع القهر والقمع والاستبداد والتخلف، من جهة أخرى، أي بين من يسعى لقلب المنظومة السائدة برمتها وبين من يحصر أهداف "الثورة" في مجرد رسكلة النظام السائد وترميم الدولة القائمة وتنظيم "اللعبة" الديمقراطية بما يسمح لهم بالمشاركة في الحكم. إنّ الدولة، عكس ما يذهب إليه البعض، ليست مجرد حام لمصالح للرأسمال والرأسماليين ولا مجرد أداة لهيمنتهم على المجتمع. بل هي كذلك وأكثر بكثير، هي أيضا أداة تسلط حفنة من الطغاة والظلام وعباد التحكم والقهر والاستعباد، طلاب الامتيازات والسلطان ممن ينحدرون من طبقات اجتماعية متناقضة بما في ذلك من الطبقات المسحوقة. ينتظم طلاب السلطان في أحزاب تسلطية ومنظمات هرمية تعيد إنتاج وتعهّد علاقات الاستغلال والاستعباد والقهر والتحكم في مصائر الناس، في المجتمع والدولة كما هو الحال في منظماتهم. وهؤلاء ليسوا بالضرورة برجوازيين أو رأسماليين أو حتى أثرياء. زيادة على أنه في كثير من الحالات، وخاصة في عالمنا المتخلف، تصبح الدولة الأداة الرئيسية للإستثراء و"التبرجز". لذلك فالثورات التي أطاحت بالسلطة الاقتصادية للرأسماليين وحطمت علاقات استغلالهم لقوة العمل واغتصابهم للأملاك العامة، ولم تحطم الدولة، بنفس الوتيرة، أو هي حطمتها وأعادت بناءها على نفس الشكل الهرمي الاستبدالي الدكتاتوري منه أو ٍ الديمقراطي النيابي الشكلي، تنتهي، بلا شك، وإن بعد فترة، إلى إعادة هيمنة العلاقات الرأسمالية على المجتمع وإن تغيرت أجيال المستغلين والنهابين والمتسلطين. فالدولة بهذا المعنى ليست فقط حام للرأسمال بل منتج له وحافظ لتجدد علاقاته ولو بعد تحطيمها، وهو ليس حالها الراهن مع الرأسمالية فقط،، بل هذا ما كان عليه حالها دوما مع كل مجتمعات القهر والاستغلال السابقة واللاحقة. الدولة هي مخصب ومنبت علاقات الهيمنة الطبقية وغيرا لطبقية. وهي وسيلة فرض وتشريع وتبرير تلك العلاقات. وهذا الدور أو هذه الوظيفة هي أساس ومبرر وجودها أصلا. هي ضرورية لبسط تلك الهيمنة وفرض نظام توازن بين الغالبين يتقاسمون بفضله نفوذهم ويقننونه أمام باقي طبقات المجتمع.

البيروقراطية والدولة

ولئن تحافظ الدولة دوما على علاقات متميزة مع الطبقة السائدة اقتصاديا واجتماعيا، وهي علاقة تبعية متبادلة يهيمن فيها هذا الطرف أو ذاك حسب الظرفية، فإنّها تنبني أيضا على علاقة متميزة مع شريحة البيروقراطية التي تشق تقريبا جميع الطبقات الاجتماعية المتصارعة. وهذا ما ينجم عنه تعقد الصراع وتداخل المصالح الطبقية والفردية للمتدخلين في الصراع السياسي والاجتماعي الدائر، ومن ثمة صعوبة الفرز الطبقي في أحيان كثيرة. فالبيروقراطية لا تنفصل عن الدولة بحكم وظائفها التي لا تستقيم ولا تكتمل بدون مركز قرار (دولة) ناظم لتلك الوظائف، يميزها عن بقية الوظائف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... ويمنحها امتيازات تشريعية ومادية واعتبارية ويمنحها نفوذا يخوّل لها التجرؤ على إبراز طموحها إلى السلطة. إنّ ذلك ما يفسر استبسال البيروقراطيات العمالية والبرجوازية الصغيرة في الدفاع عن الدولة وعن مركزية الحكم واحتكار السلطان بيد قلة من "الكفاءات الوطنية"، أو "الخبراء" أو "التكنوقراطيين" أو السياسيين المحترفين ممن احتكروا الوطنية والمدنية أو الدين إلخ. وهي كلها صيغ الإسهال اللفظي الذي صنع ليغطي حقيقة الشراكة بين بيروقراطي اليوم رأسماليي الغد مع رأسماليي اليوم والغد. ذلك الإسهال الذي يرتكز على مغالطات فجة ليس أقلها تقديم "الكفاءة" السياسية على أنها اختصاص بعيد المنال وعصي الفهم على عقول المسحوقين، وحكر على ذوي الكفاءات العالية المنصبين ذاتيا ممن تعلموا أبا عن جد سوس الشعوب وإدارة الشأن العام.

إنّ ثورة لم تطح بالدولة، إذن، هي ثورة ميتة وهو ما يعني في ما يعني، إن ثورة لم تتخلص من بيروقراطيتها أي بيروقراطية المنظمات والأحزاب والنقابات التي ترافقها وتحاول "تأطيرها" ورسم سقف مطالبها ومراقبتها وكبح جماحها لتلتزم بحدود" معقولة"، هي ثورة ميتة. وإن ثورة لم تخلق في سياق حراكها هياكل تسيير ذاتي صلبة ودائمة، تتولى التسيير الفعلي وتطرح نفسها بديلا ديمقراطيا مباشرا عوضا عن الدولة القائمة على خدعة الديمقراطية النيابية التي ترتكز على توكيل أقلية متنفذة على مصالح ورقاب الجميع وتنصيبها ناطقا باسمهم هي أيضا ثورة ميتة.

بعض إشكالات الوعي الثوري

إن الوعي الثوري المطلوب بلورته كشرط من شروط نجاح الهبات الثورية القادمة في حاجة إلى بعض التدقيقات الأولية التي ادفعها للنقاش والتطوير.

الثورة الاجتماعية المضادة للرأسمالية ليست مجرد مبارزة ثنائية بين عمال ورأسماليين أي بين الرأسمال والعمل، بل هي أعمق من ذلك بكثير. الثورة هي صراع بين منظومة كاملة من العلاقات القائمة على الاستغلال والقهر، يسود فيها الرأسمال نعم، ولكن تتمعش منها شرائح اجتماعية أخرى بصفة أقل فحشا، نعم، ولكنها كافية لجعلهم يدافعون عن الرأسمال وعن الدولة. والمثال التونسي يبين ذلك بما لا يدع للشك. لم يصمد البرجوازيون أو الرأسماليون بصفة عامة في مواجهة الثورة ولم تنفعهم كثيرا ميليشياتهم ولا قناصوهم إثر خلخلة الدولة واضطراب قواتها المسلحة، بل كانت البيروقراطية النقابية والمنظمات الحقوقية وأحزاب المعارضة "الديمقراطية" واليسارية وكوادر "المجتمع المدني" أشرس مدافع عن تلك المنظومة وعن دولتها. تلك الدولة التي يرى فيها الاتحاد العام التونسي للشغل، دولته باعتباره أحد الركيزتين الرئيسيتين في بنائها مع حزب الدستور. ولا غرابة أن يكون الوريث الشرعي لكل المدافعين عنها ولولاه لما بقي منها حجر على حجر. وعلى غرار ما وقع في مؤتمر طبرقة من تمرير السلطة على جهاز المنظمة النقابية بهدوء بمشاركة فاعلة من كوادر اليسار النقابي أشرف الاتحاد على "مسار الانتقال الديمقراطي" في البلاد وجمع كل الطامعين في الكراسي من كل قبيلة سياسية حول نواة متبقية من الدولة بذلك تلافى انهيارها. ولقد مر جهاو الاتحاد بمحطات مضنية ومعقدة ولكنه نجح نسبيا ولحد الآن في مهمته التي اضطلع بها أمام الوكلاء المحليين والعرب والعالميين لـ "ثورة الياسمين" الفوقية الهادئة.

الثورة التونسية لم تكن، إذن، ثورة عمالية ولا هي ثورة الفلاحين الذين لم يكن لهم وجود فعلي في صفوفها. بل هي ثورة المهمشين المقصيين من المنظومة الرأسمالية والمتروكين لمصيرهم، هي ثورة الشرائح الدنيا من البروليتاريا.. ثورة من هم دون الشغيلة.. ثورة المعدمين المتحدرين من آفاق طبقية متنوعة. وبسرعة يجب إضافة أن تلك الشرائح لم تعد تلك التي نعتت في أدبيات القرن 19 بالزعران وروث البروليتاريا والقوادين وكاسري إضرابات العمال الخ. مهمشو اليوم في جزء كبير منهم متعلمون. جزء منهم مثقفون ومبدعون وفنانون في حالة عطالة وقهر وتفقير فرضها عليهم تطور الرأسمال نفسه بعجزه على استيعاب خريجي الجامعات التي أرساها في سنوات انفجار الطلب على اليد العاملة المختصة والمتعلمة تعليما متقدما. ثوريو اليوم هم سكان المحيطات الرأسمالية في القرى والمدن والأحياء المنسية. هم المقهورون بفعل انتمائهم لطبقات مسحوقة أو أعراق مغلوبة أو ثقافات مهمشة ومدهوسة... هم النساء والشباب و المهاجرون... المحرومون من حقوقهم الأساسية كالمأكل والملبس والسكن والتداوي وحرية التنقل والتعبير.... وفي حين تدافع الأحزاب والنقابات العمالية على مكاسبها الخاصة وتضغط من أجل الإبقاء على امتيازاتها التي حازتها إثر نضالات تمتد على أكثر من قرنين، وإيمانا منها بأن تحسين وضعها مربوط أساسا بالأجور والتغطية الاجتماعية، وهو ما يتطلب بدوره عافية النظام الرأسمالي وضمانة الدولة الراعية، في نفس الحين، ليس للشرائح المهمشة ما يربحونه من الرأسمال ولا من الدولة وليس لهم ما يخسرونه في حالة قلبهما.

برلمان أم تسيير ذاتي؟

الآن وقد أكدت الثورة التونسية ما كشفته ثورات القرن العشرين حول طبيعة اشتراكية الدولة، أو حول اشتراكية الطغمة البيروقراطية المتسلطة على الثورة، الآن وقد تأكد أن اشتراكية الدولة تلك، هي رأسمالية دولة مؤجلة التنفيذ إلى غاية استعادة الرأسمال هيمنته بتمهيد من نفس الدولة "العمالية" التي تعيد صياغة الطبقة الرأسمالية الجديدة من بين بيروقراطييها بالذات. الآن والأمر على ما هو عليه من تعقيد وجدة لم يبق من مخرج للثورة سوى إعمال الفكر في تحديد أفق تحرري شامل يقطع مع الرأسمالية والدولة معا. يجب على الثوريين مجاراة القدرة الإبداعية للمواطنين واستيعاب تجاربهم العفوية الخلاقة أثناء الفعل الثوري. إنّ تنظير تلك الإبداعات واستخلاص دروسها مهمة عاجلة وحارقة وهي مهمة عليها مواجهة كل درن السلفيات اليمينية واليساية على السواء وهي سلفيات تلتقي بقدرة قادر حول إنابة أقلية متنفذة ومنصبة ذاتيا في كل ما يهم حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية. الآن وقد خبرنا ديمقراطيتهم، علينا أن نعمل لحسابنا هذه المرة، أي أن نعمل على تطوير هياكل التسيير الذاتي التي تنشأ من نشاط الجماهير نفسه تلك الهياكل التي يمكن، عند الوعي بحقيقتها وقوتها، أن تؤسس لنظام جديد تتوزع فيه السلطات بصورة أفقية ولا مركزية وتتفاعل فيه مختلف السلطات التي تفرزها ديمقراطية مباشرة قائمة على النشاط الذاتي لجميع السكان باعتبارهم مواطنين فاعلين لا جمهور مناورة وناخبين متواكلين خانعين موكلين أمرهم لنواب فرضتهم ماكينة الإعلام المركزي ومناورات الأجهزة الهرمية للدولة والمعارضة.



#محمد_عمامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البركوس
- الثورة الاجتماعية في مواجهة مسخها -الديمقراطي-
- البرنامج المباشر للثورة الاجتماعية والسياسية بالبلاد التونسي ...
- الهبة الشعبية الجديدة ودروس 32 أكتوبر 2011
- تونس ترتقي إلى مصاف الفريسة المتميّزة
- السلطة -للكفاءات الوطنية-والشارع للشعب الكريم!
- الإتحاد العام التونسي للشغل بين الوفاق البيروقراطي وتجذر قوا ...
- نداء إلى من اختار أن يسبح ضد التيار
- الثورة في خطر، نداء ما قبل الإنتحار الجماعي.
- القوى الثورية وحرب استنزاف حكم الالتفاف
- مسيرة اليوم للاتحاد العام التونسي للشغل، وماذا بعد؟
- رسالة مفتوحة إلى مناضلات ومناضلي النقابيين الأتحاد العام الت ...
- قراءة أولية لمشروع دستور حزب النهضة: نحو جمهورية إسلامية سني ...
- قراءة أولية لمشروع دستور حزب النهضة: نحو جمهورية إسلامية سني ...
- مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً(2)
- مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً (1)
- ديموقراطية الحكماء وديموقراطية الدهماء
- الإسلاميون وحالة الكمون الجديدة
- تونس في مفترق الطرق
- المطالب الاجتماعية الملحة والمهام الثورية


المزيد.....




- شاهد: دروس خاصة للتلاميذ الأمريكيين تحضيراً لاستقبال كسوف ال ...
- خان يونس تحت نيران القوات الإسرائيلية مجددا
- انطلاق شفق قطبي مبهر بسبب أقوى عاصفة شمسية تضرب الأرض منذ 20 ...
- صحيفة تكشف سبب قطع العلاقة بين توم كروز وعارضة أزياء روسية
- الصين.. تطوير بطارية قابلة للزرع يعاد شحنها بواسطة الجسم
- بيع هاتف آيفون من الجيل الأول بأكثر من 130 ألف دولار!
- وزير خارجية الهند: سنواصل التشجيع على إيجاد حل سلمي للصراع ف ...
- الهند.. قرار قضائي جديد بحق أحد كبار زعماء المعارضة على خلفي ...
- ملك شعب الماوري يطلب من نيوزيلندا منح الحيتان نفس حقوق البشر ...
- بالأسماء والصور.. ولي العهد السعودي يستقبل 13 أميرا على مناط ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمامي - أطروحات سريعة من وحي ثورة مغتصبة