أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شعريَّةُ الحدَثِ المصْريِّ المعِيْشِ وتمصِيْرِ الخِطَابِ الشِّعريِّ















المزيد.....



شعريَّةُ الحدَثِ المصْريِّ المعِيْشِ وتمصِيْرِ الخِطَابِ الشِّعريِّ


شريف رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4737 - 2015 / 3 / 3 - 00:39
المحور: الادب والفن
    




على الرَّغمِ منْ شيوعِ ظاهرَةِ قَصِيدَةِ النَّثرِ المصْريَّةِ ، في المشْهَدِ الشِّعريِّ ، بشَكْلٍ عَام ، فإنَّ القليْلَ منْ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ هيَ مَا تُعَدُّ نماذِج ناجِزَة لقَصِيدَةِ النَّثرِ المصْريَّةِ ، على مستوى الرؤى والأداء ، وَتبدو في المشْهَدِ عَلامَاتٍ شِعريَّةٌ في تأصِيْلِ الشِّعريَّةِ المصْريَّةِ ، في مَشْهَدِ القَصِيدِ النَّثريِّ ، وَفي طليعَةِ هَذِهِ التَّجاربِ ، مَا يلِي :
حَيَاةٌ عَادِيةٌ ، لمحمَّد صَالح .
كُرسِيَّانِ مُتقابِلانِ ، لعَلاء خَالِد .
مترو الأنفاق ، لإبراهيم المصْرِيِّ .
وَهِيَ تجاربُ مختلِفَةٌ ، وَلكنَّهَا تتَّفِقُ في سَعْيهَا إلى تمصِيْرِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، في القَصِيدِ النَّثريِّ ، وَإنجازِ خِطَابَاتٍ شِعريَّةٍ خاصَّةٍ ، في رُؤاهَا ، وَآليَّاتها الشِّعريَّةِ ، على النَّحوِ الَّذي يتَّضِحُ بالولوجِ إلى كلِّ مَشْهَدٍ منْ مَشَاهِدِهَا الشِّعريَّةِ الخاصَّةِ .



حَيَاةٌ عَادِيَةٌ ، لمحمَّد صَالح
حَيَاةٌ مِصْريَّةٌ


يكشِفُ الخِطَابُ الشِّعريُّ ، في هَذَا العَمَلِ الشِّعريِّ ، عنْ وَلَعٍ وَاضِحٍ بحكَايَا التَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، وَوَقائِعِهِ الخاصَّةِ ، عَبْرَ سَرْدٍ استذكاريٍّ شِفاهِيٍّ مُكثَّفٍ ؛ يَسْتَنْهِضُ مَعَالمَ وَتَفَاصِيلَ وَتَاريخَ حَيَاةٍ مِصْريَّةٍ عاديَّةٍ وَبسيطَةٍ ، في وَاقعٍ ريفيٍّ ذَوَتْ مَعَالمُهُ منْ المشْهَدِ المصْريِّ المعيشِ الرَّاهِنِ ، يَسْتَعِيْدُ السَّاردُ ؛ الَّذي عَاشَ هَذِهِ الحيَاةَ في طفولتِهِ ، وَيَتَوَسَّعُ الخِطَابُ الشِّعريُّ في سَيْرَنَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، وَشَعْرَنَةِ السِّيرَةِ الذَّاتيَّةِ ؛ حَيْثُ يتوسَّعُ في سَرديَّاتِ تفاصِيلِ وَاقِعٍ رَيفيٍّ مِصْريٍّ ، شَديدِ المحلِّيَّةِ وَالخُصوصِيَّةِ ، يَبْرُزُ فيْهِ الوَاقعُ الرِّيفيُّ (القديمُ) المعيشُ بملامحِهِ ، وَأهلِهِ ، وَرَوَابطِهِ العَائليَّةِ ، وَثقافتِهِ الرِّيفيَّةِ ، وَطقوسِهِ شَديدَةِ المحلِّيَّةِ وَالخُصوصِيَّةِ ؛ مُسْتَنْهِضًا وَقَائعَ وَتفاصِيلَ وَحَالاتٍ ، بوعيٍ ، وَمِنْ مَنْظُورِ ، طِفْلٍ عَاشَ هَذَا الوَاقعَ وَهَذِهِ الحيَاةَ ؛ وَهُوَ مَا يُغلِّفُ الرُّؤى بظِلالٍ أسطوريَّةٍ وَمَلحمِيَّةٍ ، وَبخاصَّةٍ في رَصْدِ مَوْتِ الجدَّةِ ، وَمَوْتِ الأبِ بدَاءِ الكوليرا ؛ فيرصُدُ مَرَضَ الجدَّةِ الأخيرِ ، وَوَفاتهَا ، في سَرْدٍ استذكاريٍّ شَخْصَانيٍّ ، على هَذَا النَّحوِ :
" عِنْدَمَا مَرِضَتْ جَدَّتي
حملنَاهَا إلى دَارِنَا
كَانَتْ وَحِيْدَةً
وَكُنَّا يَتَامَى
مَدَّدنَاهَا في قاعَةِ الفُرْنِ
أسْفَلَ خَزَانَةِ الكُتُبِ في الحائِطِ
وَغطَّيناهَا بحرِامِ أبي
ثمَّ جَاءَ الكِبَارُ
وَوَصَفُوا لهَا شَرَابَ اللوزِ
قَالوا إنَّ جَدَّتي عَادَتْ طِفْلَةً
وَأنَّهُ أقرَبُ مَا يكونُ إلى لبنِ الأمِّ
وَلشهورٍ طَويلَةٍ
ظَلَّتْ جَدَّتي تُحْتَضَرُ
كَانَتْ معدتُهَا تطرُدُ كلَّ شَيءٍ
حتَّى ذَلكَ الشَّرَابَ الحليبيَّ
الَّذي كُنَّا نشمُّ رَائحَتَهُ في أنفاسِهَا
وَكَانَ وَجْهُهَا الأبيضُ يزدادُ بَيَاضًا
كُلَّمَّا نَصَلَتْ حِنَّاءُ شَعْرِهَا
وَكَانَتْ تخرُجُ منْ غيبوبَةٍ
لِتَدْخُلَ في أخْرَى
وَكلّ مَرَّةٍ
كَانَتْ تُكلِّمُ آخريْنَ لا نَرَاهُمْ
وَتُنَادينَا بغيرِ أسمائِنَا
حتَّى كَانَ ذَاتَ ليْلٍ
كَانَ أخي يَدْفِنُ طفلتَهُ في الحائِطِ
عِنْدَمَا استيقظَتْ جَدَّتي
وَطَلَبَتْ أنْ نفتَحَ المقبرَةَ
كَانَ الطَّريقُ طَويلاً
وَكَانَ هُنَاكَ مَا يكفِي كَلَحْدٍ
لكنَّهَا انتزَعَتْ الطِّفلَةَ منْ الشَّقِّ الضَّيقِ
وَقَالَتْ إنَّهَا ستأخذُهَا مَعَهَا
وَفي الصَّبَاحِ
مَاتَتْ جَدَّتي "(1)
تعمَلُ آليَّةُ التَّذكُّرِ هُنَا على استحضَارِ وَقائِعِ حَيَاةٍ شَديدَةِ الخصوصِيَّةِ ، في سَرْدٍ شِعريٍّ سِيَرِيٍّ حِكَائيٍّ محكَمٍ ، يُجَسِّدُ هذِهِ الحيَاةَ في بنيَةِ الخِطَابِ تجسِيدًا دالاًّ ، وَيَبْدُو منظورُ الطِّفلِ ؛ الَّذي كَانَ ، في رَصْدِ الحَدَثِ ، وَفي تعبيرَاتٍ مثلَ : (وَكُنَّا يَتَامَى) ، (ثمَّ جَاءَ الكِبَارُ) (كَانَ الطَّريقُ طَويلاً) ، وَتَبْدُو بعضُ مَلامحِ المثيولوجيا الرِّيفيَّةِ في قولِهِ : (كَانَ أخِي يدفنُ طفلتَهُ في الحائِطِ) ، وَعَلى النَّحوِ ذَاتِهِ يتمُّ استحضَارُ وَاقعَةِ مَوْتِ الأبِ الفجائعيَّةِ ، بوباءِ الكوليرا ؛ الَّذي حَصَدَ أرْوَاحَ الآلافِ منْ المصريِّينَ الرِّيفيِّينَ ، في عامِ 1947، كانَ الولدُ في الخامِسَةِ منْ عُمْرِهِ ، يلعَبُ بَيْنَ أكياسِ القُطنِ ، حِيْنَ أتوا بجثَّةِ أبيهِ مُغَطَّاة بالجيرِ الحيِّ ، في سيَّارَةٍ ذاتَ أجْرَاسٍ ؛ لِيُدفَنَ ، دونَ وَدَاعٍ ، وَدُونَ أنْ يَصْحبَهُ مُعزُّونَ ؛ بلْ دُونَ أنْ يُغَسَّلَ أوْ يُصَلَّى عليْهِ ، وَيعتمِدُ السَّاردُ العَليمُ صِيغَةَ ضَميرِ الغَائِبِ ؛ لِيرصُدَ ذَاتَهُ كآخَرٍ - مِثْلَمَا فَعَلَ طه حُسَين (1889- 1973) ، في : الأيَّامِ – وَهَذَا الوَضْعُ السَّرديُّ يُتِيْحُ لهُ رُؤيَةَ المشْهَدِ منْ الخارجِ ، وَمُتَابعَةَ تفاصِيلَهُ ، وَالوقوفَ على تحوُّلاتِهِ ، وَاسْتِكنَاهَ وَقائعَهُ وَأحْدَاثَهُ :
"لابُدَّ أنَّ الوَقْتَ كَانَ أوَّلَ الخريفِ
فَالطِّفلُ الَّذي كَانَهُ
كَانَ يَلْهُو آنئذٍ
في الفَرَاغَاتِ بَيْنَ أكيَاسِ القُطْنِ
الَّتي كَبَسُوهَا بقُوَّةٍ
وَوَضَعُوهَا مُنْتَصِبَةً
في البَاحَةِ الخارجيَّةِ لبيْتِ الخَالِ
وَفي وَعْيهِ مَا تَزَالُ
الرَّائحَةُ النَّفاذَّةُ لِلْجُوتِ
وَأنَّهُ كَانَ وَحِيْدًا في الدَّارِ
وَلابُدَّ أنَّهُمْ جَاءُوا سَاعَتئذٍ
بجثَّةِ أبيهِ
وَقدْ غَطُّوهَا بالجيرِ الحيِّ
في العَرَبةِ المغلقَةِ
ذَاتَ الأجْرَاسِ
الَّتي كَانَتْ نذيرَ شُؤمٍ
وَالَّتي ظَلَّتْ تُعْوِلُ
على طُولِ الطَّريقِ إلى المقْبَرَةِ
فيْمَا كَانَ الأحْيَاءُ
يُسَارعُونَ إلى إغْلاقِ الأبوابِ
وَلابُدَّ أنَّهُمْ كَانُوا في عَجَلةٍ منْ أمرِهِمْ
حتَّى إنَّهُمْ دَفَنُوه بدونِ غُسْلٍ
وَلمْ يُصَلُّوا عَليْهِ . "(2)
وَلا يكتفِي الشَّاعرُ السَّاردُ باسْتدعَاءِ تفاصِيلِ المشْهَدِ الحياتيِّ المحيطِ بالطِّفلِ ؛ الَّذي كَانَهُ ، وَإنَّمَا يَتَعَدَّاهُ إلى الالتحَامِ بمنظورِ الطِّفلِ ، وَالتَّمَاهِي مَعَ وَعْيهِ ؛ فيُضيِّقُ المسَافةَ بَيْنَ سَاردِ النَّصِّ وَالسَّارِدِ المشَخْصَنِ في السَّردِ ، وَيلتحِمُ بكينونَتِهِ :
" ذَاتَ مَرَّةٍ وَجَدْتُ كَنْزًا
قِطَعَ فِضِّيَّةٍ منْ فئَةِ القِرْشَيْنِ
مُسْتَدِيرَةً وَلامِعَةً
أعْطَانيْهَا أحَدُ الكِبَارِ
وَقَدْ وَقَفْتُ أقلِّبُهَا تَحْتَ الشَّمسِ
في باحَةِ دَارِنَا
لكنَّهَا قَفَزَتْ فَجْأةً
وَاخْتَفَتْ في ذَلكَ الصَّدعِ
أسْفَلَ عَرِيشَةِ السُّلمِ
وَقَدْ حَاوَلْتُ سُدَىً
أنْ أعِيْدَ كَنْزِي
فَعَلَى طُولِ ذِرَاعِي كَانَتْ الهوَّةُ البَارِدَةُ
تَزْدَادَ اتِّسَاعًا وَعُمْقًا
حتَّى لَكَأنَّهُ سَقَطَ في جُبٍّ
لكنَّني سَمِعْتُ الرَّنينَ
عِنْدَئذٍ لمعَتْ الفِكْرَةُ
لابُدَّ أنَّ كُلَّ هؤلاءِ الأسْلافِ
قَدْ كَنَزُوا شَيْئًا ."(3)
وَيعكِسُ هَذَا السَّردُ الشِّعريُّ نستولجيا كثيفَةً ؛ تتضمَّنُ حَنينًا وَاضِحًا إلى هذِهِ الحيَاةِ ، بالهِجْرَةِ مِنْ الحيَاةِ الرَّاهنةِ ، وَيَتَجلَّى مخيالُ الطِّفلِ الرِّيفيِّ الخاصِّ ، وسردِهِ الخاصِّ ،كذلكَ ، في قولِهِ :
" أتذكَّرُ أنَّني عَلى سَطْحِ دَارِنَا
أضَعُ فُتَاتَ الخبزِ في الماءِ
وَأرْعَى جَرْوي
عِنْدَمَا خَطَرَ لي
أنْ أعُودَ إلى دَارِ جَدَّتي
نَزَلْتُ السُّلَّمَ الطِّينيَّ القَصِيرَ
إلى الفنَاءِ الصَّغيرِ
غَيْرِ المسْقُوفِ
كَانَ البَابُ مُوْصَدًا كَمَا تَرَكْنَاهُ
وَكَانَتْ الدَّارُ مَهْجُورَةً
وَكَانَتْ الشَّمسُ إلى الغَرْبِ
وَظِلَّ البَابِ
رصَاصٌ رَائِقٌ
وَفي مُوَاجَهَتي
خمْسُ جِرَارٍ مَثْقُوبَةٌ
مُعَلَّقَةٌ على عقدِ البَابِ
بحِبَالٍ
وَمَسَاميرَ
وَأوْتَادٍ
وَقَدْ بَاضَ فيْهَا اليَمَامُ ."(4)
ثمَّةَ حُضورٌ كَثيفٌ لِلْمَعِيشِ الغَابِرِ ، يمتدُّ على مجمَلِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، عَبْرَ تفاصِيلَ حَياتيَّةٍ شَدِيدَةِ الخصوصِيَّةِ وَالبَسَاطَةِ ، وَيَتَمَاهَى الأدَاءُ السَّرديُّ في هَذِهِ البسَاطةِ المعيشَةِ ، عَبْرَ رُؤى وَمخيالٍ رِيفيٍّ خَالِصٍ ، في سَرْدٍ سِيَرِيٍّ ، حِكَائيٍّ ، اسْتذكَاريٍّ ، بَصَريٍّ ، مُحْكَمٍ ، تَلْعَبُ فيْه التَّفَاصِيلُ المعِيشَةُ - عَبْرَ تفعيْلِ آليَّةِ التَّذكُّرِ - الدَّورَ المرْكَزيَّ ، في اسْتِنْهَاضِ وَقائِعَ وَمَوَاقِفَ وَأشْخَاصٍ منْ أغْوَارِ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ وَدَفْعهَا في خِطَابٍ شِعْريٍّ سِيَرِيٍّ شَخْصَانيٍّ .
وَثمَّةَ حَنينٌ كَثيفٌ إلى هَذِهِ الحيَاةِ ، وَافتقَادٌ لهؤلاءِ الأهْلِ ، وَهَذِهِ المشَاعِرِ ، في هذِهِ الحيَاةِ الرَّاهِنَةِ :
"تَرَكَتْ أمِّي تِسْعَةَ قَرَاريط
وَخُلْخَاليْنِ منْ فِضَّةٍ
وَضَفَائرَ مُسْتَعَارَةً
صُنِعَتْ منْ حَريرٍ
وَتَرَكَتْ هَذَا الصُّندوقَ
أفتَحُهُ
فأجِدُ أشْيَاءَ أمِّي
أجِدُهَا
وَلا أجِدُ أمِّي ."(5)

عَبْرَ التَّفاصِيلِ المعيشَةِ الدَّقيقَةِ يُسْتَعَادُ بنَاءُ حَيَاةٍ عَاديَّةٍ ؛ حَيَاةٍ مِصْريَّةٍ ، مَضَتْ ، وَلمْ يَعُدْ منْ أثَرٍ يدُلُّ عليْهَا ، وَإذْ يُنْجِزُ الشَّاعرُ سِيرتَهُ ، في خِطَابِهِ ، فإنَّهُ يُنْجِزُ مَعَهَا سِيرَةَ المكَانِ الرِّيفيِّ المصْريِّ ، في أربعينيَّاتِ القَرْنِ الماضِي ، في خِطَابٍ شِعْريٍّ أسَّسَ بنيتَهُ الشِّعريَّةَ الخاصَّةَ ، على المرْتَكَزَاتِ الجمَاليَّةِ الآتيَةِ : سَيْرَنَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، هَيْمَنَةِ البنْيَةِ الحِكَائيَّةِ ؛ بتفاصِيْلِهَا السَّرديَّةِ الخاصَّةِ الدَّالةِ ، تفعِيْلِ آليَّةِ التَّذكُّرِ وَاسْتِحْضَارِ الماضِي المعيشِ الحميمِ ، تبنِّي مَنْظُورِ الطُّفولةِ ، شِفَاهيَّةِ الأدَاءِ السَّرديِّ .





كُرسيَّان مُتقابِلانِ ، لعلاء خالد
بلاغَةُ الحيَاةِ المعِيشَةِ




يتشكَّلُ المتنُ الشِّعريُّ في هَذَا القصيدِ، مِنْ قِسْمَيْنِ ؛ القسْم الأوَّل – وهو الأكبرُ حَجْمًا – عنوانُهُ : جِيرَةٌ دَافِئةٌ ، وَالثَّاني عنوانُهُ :سَنَواتِي الجَمِيلَة . في الأوَّلِ يَرْصُدُ الشَّاعرُ حَيَوَاتِ المقرَّبينَ مِنْهُ ، وَالمتَفاعِليْنَ مَعَهُ ، في المشْهَدِ المعِيشِ . في الأوَّلِ تُهيمِنُ جَمَاليَّاتِ المشْهَدِ السَّرديِّ البَصَريِّ ، وفي الثَّاني تُهيمِنُ جَمَاليَّاتُ الشَّخصانيَّةِ وَالغنائيَّةِ .
وَتكشِفُ النُّصوصُّ مُجتَمِعَةً عنْ ملامحِ الحَيَاةِ المصْريَّةِ لبُسَطاءِ المصْريِّينَ الكادِحِينَ ؛ الَّذينَ يُواجِهونَ قَسْوَةَ الحيَاةِ وَالأمْرَاضِ المفترسَةِ ، كَمَا تكشِفُ عَنْ مجموعَةٍ مِنْ الخَصَائصِ البنائيَّةِ ؛ الَّتي تأسَّسَتْ بهَا بِنيَةُ الخِطابِ الشِّعريِّ ، وَتتمثَّلُ في :

- 1 -
وَفْرَة ُالحضورِ الإنسَانيِّ

تكشِفُ نصوصُ هذَا القصيدِ ، عَنْ نزوعٍ واضِحٍ إلى كتابَةٍ شِعريَّةٍ نابضَةٍ ، حَيَّةٍ ، تستمِدُّ نَبْضَهَا ، وَحَياتَهَا منْ سَرديَّاتِ الحَيَاةِ المعِيشَةِ ، وَوَقائِعِهَا ، وَتفاصِيلِهَا الحَياتيَّةِ ، وَناسِهَا الحَقيقيِّينَ ، وَبِخَاصَّةٍ البُسَطاء مِنْهُمْ ، في مَوَاقِفَ إنسَانيَّةٍ حيَّةٍ ، شديدَةِ الدَّلالةِ ؛ فبالإضَافَةِ إلى اسْتِبطانِ الأنا الشَّاعرَةِ عَوَالمَهَا الدَّاخليَّةَ ، وتاريخَهَا الشَّخصِيَّ ، تجنَحُ أكْثرَ إلى رَصْدِ حَيَوَاتِ بُسَطاءِ النَّاسِ ، وَالمهمَّشِينَ مِنْهُمْ على وَجْهِ الخُصوصِ؛ كَالخَادمَاتِ ، وَالبوَّابِ ، وَالكُمسَاري (زميلِ الطُّفولةِ) ، وَسَائقِ التَّاكسِي ، وَالكَوَّاءِ ، وَرَصْدِ مُعَاناتِهِمْ اليوميَّةَ المعِيشَةَ ، وَمُعَاناتِهِمْ الأشَدّ أمَامَ جبروتِ الأمْرَاضِ الضَّاريَةِ، رَصْدًا دقيقًا وَدَالاًّ ، وَتحويلِ المعِيشِ إلى لوحاتٍ سرديَّةٍ شديدةِ الدِّقةِ ، في خِطابٍ شِعريٍّ دَالٍّ ؛ فَعَنْ البَوَّابِ يذكرُ أنَّهُ :
" كانَ يعملُ بوَّابًا لإحْدَى العِمَارَاتِ المجاورَةِ
يقطعُ كلَّ يومٍ مَاراتونات ضَاحِكةً لِلْعَيشِ وَالخضَارِ
بجانبي كانَتْ هُناكَ محطَّةٌ ظليلةٌ ؛
مجموعةٌ مِنْ القُللِ علَّقَها جَاري لِعَابري السَّبيلِ

لا يستطعمُ بأيِّ ماءٍ
إلا بهذَا الماءِ الجمَاعيِّ .
دَائمًا أحذيتُهُ تفوقُ قدمَهُ عُمْرًا وَطُولا .
لِسَيرِهِ صَوْتٌ خَشِنٌ ،
وَلكنَّ هَذِهِ الغفوة في القدَمِ
هيَ أكثرُ مَا تُشعرُني بطيبتِهِ ،
هِيَ وغفوة في لسَانِهِ
يتكلَّمُ فتهرَبُ الحروفُ بغيرِ رَجْعَةٍ .

في إحْدَى المرَّاتِ ، أشَارَ إلى جُزءٍ منْ سبَّابتِهِ
وَأخْبَرَني بأنَّ حبَّةً بحجْمِ الفاصُوليا
نبتتْ في رأسِ زوجتِهِ . أعَادَ عليَّ مَا أخبرَهُ به الطَّبيبُ .
الطَّبيبُ أيضًا كانَ يرى الحقولَ
الَّتي يحتفِظُ بها في يدِهِ وتحتَ أظافرِهِ .

أثناءَ مرورِهِ ، أستوقِفُهُ
وَأسْألُهُ عنْ مَصِيرِ حبَّةِ الفاصُوليا .
يهزُّ يدَهُ يمينًا ويَسَارًا
كقاربٍ مَنْسِيٍّ وَسْطَ المياهِ .
يده المرتعِشَة كانَتْ أكثرَ حِكْمَةً .

منْ سَيرِهِ بَدَأتُ أحْدسُ بمصيرِ تلكَ الحبَّةِ ،
أحْيانًا أسْتوقِفُهُ
أحْيانًا أتركُهُ يُكمِلُ رحْلَةَ الجمْعِ وَالطَّرحِ إلى البيتِ .

وَلكنْ في كلِّ الأحْيَانِ
لم ييأسْ منْ حُبِّهِ للمِيَاهِ وَالظِّلِّ .
صَارَ سُؤالي محطَّةً لي أيضًا
شُهورٌ وَالقاربُ يمتلِئُ بالمياهِ
تميلُ اليدُ إلى ناحِيَةٍ وَاحِدَةٍ .

في يومٍ أزْهَرَتْ حَبَّةُ الفاصُوليا
وَعَادَ برأسِ زوجتِهِ إلى موطِنِهَا في الحقولِ . " (1)

- 2 -
التَّركيزُ على المَعيشِ الحياتيِّ اليومِيِّ

إنَّ المُتاحَ اليومِيَّ القريبَ هو الأساسُ الَّذي تُشيَّدُ عليه بنيَةُ الخِطابِ ، منْ سَرديَّاتِ الحياةِ المَعِيشَةِ وشخوصِهَا ، بحيواتِهِمْ الخاصَّةِ ، وثمَّةَ تفاعلٌ واضِحٌ بينَ عناصِرِ المكانِ وَحيواتِ الشُّخوصِ ، وَثمَّةَ اهتمامٌ واضِحٌ بالبُسَطاءِ وَالمُهمَّشينَ ، وَالكَشْف عَنْ إنْسَانيتِهِمْ ، وَمُعَاناتِهِمْ اليوميَّةِ ، وَمَآسيهِمْ ؛ تذكُرُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ عَنْ الكَوَّاءِ الجَارِ :
" جاري في المحلِّ المجاورِ ، لا يثقُ إلا في أناقةِ النَّارِ . يرفعُ المكواةَ قرب خدِّهِ ؛ ليجسَّ حرارتِهَا . طوالَ عِشْرتَي له ، لم أجدْ أحدًا يقتربُ منه إلى هذا الحدِّ ، إلا المِكْوَاة .
لا يتحمَّل ُالحبَّ إلا إذا تركَ علامةً على جِلْدِه ِ.
عندما مرضَتْ زوجتُهُ ، خَشِيَ أنْ يجتمعَ بملاكِ الموتِ في غُرفةٍ واحدة ٍ، فكانَ يلوذُ بدكَّانِهِ ليبكيَ داخِله . أسبوعٌ كاملٌ وهو يضعُ تلكَ اللافتةِ " مغلقٌ للصَّلاةِ " .
لأبناءِ الحيِّ الرَّاقي ، لأرستقراطيَّةٍ عاشَ بينها كنباتٍ غيرِ مرئيٍّ ، كانَ ينحني ، وهو يفتحُ بابَ العربةِ ، ويدهُ اليُسْرَى خلفَ ظهرِهِ ، وميلٌ طفيفٌ في رأسِهِ ، كأنَّها سِنَةٌ منْ النَّومِ ؛ ليأخذَ صرَّةَ الهدومِ .
أقفُ بجوارهِ ِأشاهِدُ فيلمًا من الخمسينيَّاتِ ، وفي يدِهِ الخاشِعةِ خلفَ ظهرِهِ ، أتخيَّلُ خِنْجرَ أطْفالٍ منْ البلاسِتيكِ .
أيَّةُ مرارَة ٍكانتْ خُدْعَةً .
أيَّةُ صُرَّةٍ منْ الأسَى ، كانَ يُثقِبُهَا سريعًا بكوبٍ ثقيلٍ منْ الشَّاي .
كلُّ زبونٍ يأتي له بالمِكْوَاةِ ، يحدِّدُ له ميعادًا دقيقًا في اليوم التَّالي ، كأنَّهُ يحملُ في رأسِهِ مُفكِّرةَ طبيبٍ . في الغالبِ ينسى ، ولكنَّهَا كرامةُ المهنةِ ، فرصتُهُ الوحيدةُ ليمدَّ خيطَ الكلام ِ، لِيُخلِفَ وعدًا ، ثمَّ يعودُ سريعًا ليُصَحِّحَهُ .
لم يتخلَّ يومًا عن كلمةِ " أستاذٍ " التي يُناديني بهَا . لا يسهو أبدًا عن الجارِ الفاصِلِ بيننا ، البحث عنْ سببٍ ما لينقرَ ثقبًا ، ليرشقَ مِسْمَارًا ، يزيدُهُ تعلُّقًا بهذَا الجدارِ .
لم يتخلَّ يومًا أنْ يكونَ دكَّانه محطةً للمياهِ والطَّعامِ والاسْتراحَةِ لكلِّ بسطاءِ الحيِّ ؛ أولئكِ الذين يعقدونَ حِلفًا فِطريًّا معَ اللهِ .
ربَّما فقدتُ أصدقاء كثيرينَ ، ولكنِّي اكتسبتُ صديقًا ، في وقتٍ اعتقدتُ فيْهِ أنَّ الشَّارعَ هو منزلُ الفُرقَاءِ . " (2)

- 3 -
تذويتُ الخِطابِ الشِّعريِّ

لِلذَّاتِ حضورٌ وافرٌ ، يتبدَّى في التَّوسُّعِ في تاريخِهَا الشَّخصِيِّ ، وَالجَسَدانيِّ ، وَالرُّوحِيِّ ، في أدَاءٍ اسْتِبطانيٍّ وَبَصَريٍّ كثيفٍ ،ينفتِحُ على التَّاريخِ الشَّخصِيِّ السِّيَريِّ ، بأداءٍ يجنحُ إلى الحياديَّةِ وَيَتَخَفَّفُ منْ الهِيَاجِ العَاطِفيِّ ، كَمَا في قولِهِ :
" أعيشُ على ذِكْرَى مَكانٍ آخرٍ وُلدْتُ بهِ ، وُلدْتُ بدمشقَ في الفَجْرِ ، كانَ أبي مبعوثًا هُناكَ ، وفي شَهادَةِ مِيلادي كلمَةٌ غريبَةٌ ؛ وَهِيَ " الإقليمُ الشَّماليُّ " ، لا أذكرُ أيَّةَ تفاصِيلَ عَنْ هَذَا المكانِ ، وَلكنْ رُبما رائحةُ جليدٍ يصعَدُ الجبَلَ ، هَكَذَا حَكَتْ لي أمِّي ، أنَّ يومَ مِيلادي صَادَفَ تكاثُر َالجليدِ فوقَ الجبلِ . " (3)
وَأحْيَانًا يأتي اسْتدِعَاءُ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، عنْ طريقِ آليَّةِ التَّذكُّرِ ، عَبْرَ سَرْدٍ بَصَريٍّ مَشْهَدِيٍّ دالٍّ ، كَمَا في قولِِهِ :
" على فتراتٍ مُتباعِدَةٍ ،
أتذكَّرُ أبي
في كلِّ تذكُّرٍ ،
أقِفُ بجانبِهِ ، خَلْفَ نافذَةٍ
خفيفيْنِ مِنْ رَابطَةِ الأبوَّةِ وَالبنوَّةِ ،
مِنْ جاذبيَّةِ الحيَاةِ .
كاثْنينِ التقيَا صُدْفَةً
وَتحاشَيَا طويلاً أنْ تصْطدِمَ عيناهُمَا .
في كلٍّ مِنْهُمَا ،
مِقدَارُ حبَّةٍ بيضَاءَ منْ العتابِ . " (4)
وترصُدُ الذَّاتُ ذاتَهَا المشخصَنَةَ في السَّردِ الشِّعريِّ ، رَصْدًا بَصَريًّا يكشِفُ عُزْلَتَهَا وتأمُّلَهَا وَسَهوَهَا وَاسْتِقْصَاءَها عوالمَ الذِّكرى ، عَبْرَ تفاصِيلَ دَالةٍ ، تكشِفُ عَنْ الحُضورِ الذَّاتيِّ الكثيفِ ، في بنيَةِ المشْهَدِ الدَّالِ ، كما في قوله :
" أثْنَاءَ تناولي لوجبتي
أرْفَعُ السِّكينَ أمَامِي وَأسْهُو ،
كشَاهِدٍ على الاعتذارَاتِ .
على تلكَ الحافَّةِ المضِيئَةِ
تُولَدُ الذِّكرياتُ
وتموتُ .
على تلكَ الحافَّةِ ، تنشطرُ قِطَعُ الطَّعامِ
إلى أجْزَاءَ مُتناهِيَةٍ في الصِّغَرِ
أسِيرُ وَرَاءَ ذاكرتِي
كقفَّاءِ أثرٍ
كراعٍ رَحِيْمٍ . " (5)

- 3 -
بناءُ النَّصِّ الشِّعريِّ بناءً سَرديًّا حِكائيًّا خَالِصًا

الشِّعرُ ، هُنا ، قصٌّ خالِصٌ ، يعتمدُ شتَّى آليَّاتِ القصِّ الحكائيِّ ، في إقامَةِ البنيَةِ السَّرديَّةِ لِلْخِطابِ الشِّعريِّ ، بمَا يكشِفُ عنْ وَعْي وَاضِحٍ بأدوارِ السَّاردِ ، وَالمنظورِ ، وَالتقاط التَّفاصِيلِ الصَّغيرَةِ الدَّالةِ ، وَبناء السَّردِ الشِّعريِّ ، بناءً مُحْكَمًا وَدقيقًا وَمُكثَّفًا، مَعَ تركيزٍ واضِحٍ على العناصِرِ البَصَريَّةِ ، في بناءِ المشْهَدِ السَّرديِّ ، في نبرةٍ شعريَّةٍ باطنيَّةٍ خافتةٍ ومُحَايدَةٍ ، كَمَا في قولِهِ :
" كنتُ أرى السَّعادة َفي غرفةِ المطبخِ لبيتِ صَديقي . الأجسَاد الكثيرة التي تروح ُوتجيءُ ، الصَّدمات المتكرِّرة بدون اعتذاراتٍ أو انتظار لها ، برطمانات المخلِّل والأطعمة الحرِّيفة ، أرغفة الخبز الرَّقيقة . كلّ وجبة ٍكانتْ احتفالا ، بالخيطِ الذي يربطُ بينهم ، بالطَّعامِ ، بالكلامِ المهمِّ والفارغِ ، بالثَّرثرةِ .
سورٌ واحدٌ كانَ يفصلُ بيننا ، في نهاية اليوم كنتُ أتسمَّعُ منْ غرفتي لصوتِ أخته الرَّخيم ، وهيَ تغسلُ الصُّحونَ وتغني حافيةً ، كانتْ تحبُّ عبدَ الحليمِ ونجاة وأم ّكلثوم ، تحاولُ أنْ تُظهرُ جذوة َالنَّارِ التي تسكنُ خلفَ أصواتِهِم ْ.
انقطعَ حبلُ الغناءِ في بيتِ صَديقي ، ماتَ الأبُ وعبدُ الحليمِ حافظ وأمّ كلثوم . تزوَّجتْ البناتُ وأخذنَ لبيوتهنَّ حرارةَ الغناءِ في السِّينيَّاتِ . تزوَّج َصديقي وأنجبَ ، أصبحَ مُدمنًا لميراثِ البيتِ منْ الأغاني العاطفيَّةِ . اختارَ عملاً مناسِبًا ، يُتيحُ له أنْ يُؤجِّلَ عودتَهُ للبيتِ . اشْتَرَى تاكسيًا بمسجِّلٍ يابانيٍّ ، وأطلقَ لحيتَهُ ، يدورُ في الشَّوارعِ وَالأحياءِ الشَّعبيَّةِ ، ينحني للرِّزقِ ، ولَلبيوتِ التي يتصاعدُ منها الغناءُ القديمِ ؟. " (6)


- 4 –
تحويلُ الذِّكرى إلى واقعٍ مَعِيشٍ ، وَالواقعِ المعَيشِ إلى ذِكْرَى

المشْهَدُ المعَيشُ ، في الغَالبِ ، في حَالةِ تهديدٍ بالفقدِ ؛ وَلذلكَ ثمَّةَ سَعيٌ دائمٌ لرصْدِهِ ، رَصْدًا دقيقًا ، وَتعكِسُ زوايَا الرُّؤى نستولجيا وَاضِحَةً ، وثمَّةَ شعورٌ بالأسَى وَالألمِ يُحِيطُ بالأشْيَاءِ ، وَبِالمواقِفِ الحَياتيَّةِ المعِيشَةِ ، وَبالنَّبرَةِ الشِّعريَّةِ ، وَبالتَّذكُّرِ يتحوَّلُ الماضِي إلى حَاضِرٍ ؛ تتجسَّدُ فيْهِ التَّفاصِيلُ الحياتيَّةُ الحيَّةُ ، لا تكادُ الذَّاتُ الشَّاعرَةُ تشرعُ في التَّذكُّرِ حتَّى يتجسَّدَ الماضِي ، عَبْرَ التَّحوُّلِ مِنْ صِيغَةِ الماضِي إلى المضَارَعَةِ :
- " كَانَ يعملُ بوَّابًا لإحْدَى العِمَارَاتِ المُجَاورةِ
يقطع كل يوم ماراتونات ضاحكة للعيش والخضار. "(7)
- " كنتُ أرى السَّعادة َفي غرفةِ المطبخِ لبيتِ صَديقي . الأجسَاد الكثيرة التي تروحُ وتجيءُ ، الصَّدمات المتكرِّرة بدون اعتذاراتٍ أو انتظار لها ، برطمانات المخلِّل والأطعمة الحرِّيفة ، أرغفة الخبز الرَّقيقة . كلّ وجبة ٍكانتْ احتفالا ، بالخيطِ الذي يربطُ بينهم ، بالطَّعامِ ، بالكلامِ المهمِّ والفارغِ ، بالثَّرثرةِ ." (8)
- " أتذكَّرُ اليومَ السَّابقَ لِسَفركِ ،
كانتْ قدمَاكِ مُتشبِّثتينِ بالأرضِ ،
كلُّ حركةٍ تقومينَ بها ،
بطيئةٌ وتنكسرُ ويضيعُ صَدَاهَا . " (9)
وقد تآزرتْ هذهِ الآليَّاتُ ، في إنجازِ خِطابٍ شعريٍّ ، يُركِّزُ على شِعريَّةِ الحياةِ اليوميَّةِ المعيشَةِ ، وَرَصْدِ تفاصِيلهَا الحيَّة ، وأشخاصهَا الحقيقيِّينَ ؛ بحضورهم الإنسانيِّ والمعيشِ الخاصِّ ؛ حيث تتبجَّسُ الدَّلالةُ الشِّعريَّةُ منْ حَدثيَّةِ المشْهَدِ السَّرديِّ البَصَريِّ المعيشِ ، وكثافَةِ الحُضورِ الإنسَانيِّ الحميمِ ، ووقائعَ مصريَّةٍ خالصَةٍ ، تمنحُ النَّصَّ الشِّعريَّ إنسانيَّتَهُ ، ومرجعِيَّتَهُ الاجتماعيَّةَ الآنيةَ معًا .







مِترو الأنفَاق ، لإبراهيم المِصْريِّ
شعريَّةُ الحَدَثِ المِصْريِّ المَعِيشِ



في عملِهِ الشِّعريِّ : مترو الأنفاق ، يعمدُ إبراهيم المِصريُّ إلى تفاصِيلِ الحِراكِ المَعِيشِيِّ المِصريِّ ، في أعقابِ ثورةِ 30 يونيه 2013 ، بزخمِهَا الحياتيِّ الموَّارِ ، وعذاباتِ البشرِ الحقيقيَّةِ في الشَّوارع والميادين ووسائل المُواصَلات ، وإذا كانتْ التَّفاصيلُ المَعيشةُ في القصيدِ النَّثريِّ - المِصريِّ تحديدًا – من الجماليَّاتِ المركزيَّةِ التي شدَّدتْ عليها شعريَّتُهُ ، في تشكيلِ مجازهَا السَّرديِّ والبَصَريِّ المَشْهديِّ ، فإنَّها في هذا العملِ الشِّعريِّ تحديدًا ، تصلُ إلى أقصى انهماكٍ في حركةِ المعيشِ اليوميِّ المِصريِّ ، في هذه المرحلةِ المُلتهبَةِ منْ تاريخِ مِصْرَ المُعَاصِرِ ، نحنُ بإزاء حيواتٍ حقيقيَّةٍ ، إلى حدِّ التَّسجيليَّةِ ، لا تتحكَّمُ قيودٌ جماليَّةٌ مُحدَّدةٌ في إدارةِ الفِعلِ الشِّعريِّ ، الشِّعرُ هنَا شهادةٌ ، ووثيقةٌ ، في شكلِ خطابٍ شِعريٍّ خالصٍ .
كانَ ثمَّةَ مقارباتٌ للمَعيشِ اليوميِّ ، في الشِّعريَّةِ المِصريَّةِ ، منذُ صلاح عبد الصَّبور ، وأحمد عبد المعطِي حِجازي ، وعبد المنعم عوَّاد يوسف ، ومجاهد عبد المنعم مجاهد ، وخارج التَّجربةِ المِصريَّةِ لدى سعدي يوسف ، ولكنَّ هذا المَعيشِ الشِّفاهي النَّادر المعاصِرِ ، يصلُ في : مترو الأنفاق ، إلى أقصى التحامٍ بالحِرَاكِ المَعيشِيِّ الحياتيِّ الجيَّاشِ ؛ لتجسيدِ عذاباتٍ يوميَّةٍ ، ملحميَّةِ الطَّابعِ ، وَتتكشَّفُ الشِّعريَّةُ هنَا ، في تداوليَّةِ الخِطابِ المُلتحِمِ بالحَدَثِ اليوميِّ النَّابضِ الحَيِّ ، ومنْ العلاقاتِ بينَ الأشياءِ المَعِيشَةِ ، ومنْ تجلّياتِ المُفَارَقاتِ ، ومِنْ اكتشافِ الأزليِّ الأبديِّ في تفاصِيلِ وعلاقاتِ اليومِيِّ البسِيطِ .
وتكشفُ القراءَةُ الطُّبوغرافيَّةُ لبناءِ الدِّيوانِ ، عنْ هذا الفَضَاءِ ، كشْفًا دالا ؛ فالعتبةُ النَّصيَّةُ الأولى : العنوانُ ، تُركِّزُ على مترو الأنفاق ؛ هذا المشروعِ العَصْريِّ ، الَّذي لم يعُدْ يفترقُ عنْ قطارِ الدَّرجةِ الثَّالثةِ ، المُزدحِمِ على نحوٍ باهِظٍ ، بطوائِفَ مُتعدِّدةٍ منْ الشَّعبِ المطحونِ ، ويأتي عنوانٌ شارحٌ مُوجَزٌ ، يُشدِّدُ على النَّوعيَّةِ : نصوص مِصْريَّة ؛ ليوضِّحَ أنَّ الشَّاعرَ يتحاشَى مُصْطلحَ شعرٍ وقصيدَةٍ ؛ لِينفتِحَ أكثرَ على النَّصيَّةِ العابرَةِ للتَّصنِيفِ المُستقرِّ ، وفي نعتِ نصوصٍ بالمصْريَّةِ ما يُشدِّدُ على نَسَبِهَا وَانتمائِهَا ، وتأتي لوحةُ الغُلافِ ؛ لِتكشِفَ عنْ سائرٍ وحيدٍ ، في نفقٍ طويلٍ ، آخرُهُ مُظْلمٌ ، يأتي الغُلافُ الأخيرُ ، تعلوه صورَةُ إبراهيم المِصْريِّ - هلْ كانَ هو العابرُ في الغُلافِ الأماميِّ ؟- في شكلِ بروفيلٍ جانبيٍّ ، تحتَهُ مَا يلِي :
" أيُّهَا السَّادةُ ، اسْمِي : إبراهيم المِصْريّ
وَكانَ وَاجبًا عليكُمْ
أنْ تكتبوا اسْمِي في الدِّستورِ
بحروفٍ منْ نورٍ
أوْ بحروفٍ منْ ظلامٍ
لا أنْ تتركونِي هَكَذا
بَاحِثًا .. في دَسَاتِيرِكُمْ
عَنْ اسْمِي
عَنْ بَيْتٍ أُقيمُ فيْهِ
عَنْ عَمَلٍ
عَنْ لُقمَةٍ نظيفَةٍ
عَنْ مُسْتشْفَى يُضَمِّدُ جرحِي بإنسانيَّةٍ
عَنْ أمَلٍ أعْطِي منْهُ
مَصْرُوفًا لزَوْجَتِي
وَأولادِهَا
وَعَنْ بلدٍ آمِنٍ وَمُتَصَالحٍ
مَعَ نفسِهِ ومواطِنيْهِ وَمَعَ العَالمِ ."
لِيَكْشِفَ عنْ الحَاجَاتِ المَعيشَةِ الأساسيَّةِ للمواطِنِ المِصْريِّ البسيطِ ، بعيدًا عنْ الشِّعارَاتِ ؛ الَّتي لمْ تُلبِّ مُطْلقًا حقَّهُ في الحياةِ الطَّبيعيَّةِ البسيطَةِ ، وفي عتبةٍ أخْرَى دالَّةٍ ؛ مَدْخَلٍ ، يُوجِّهُ خطابًا دالا، إلى سَاكِني هَذَا المَشْهَدِ :
" وَلا يستبدَّ بكم اليَأسُ
مِنْ أنَّ الدُّخانَ يغطِي كلَّ شَيءٍ
وَأنَّنَا نمشِي مُعبَّأينَ بالألمِ
فغدًا نقولُ عنْ كلِّ هذِهِ الأيَّامِ
(غُمَّةٌ وَانزاحَتْ)
عنْ قلبِ مِصْرَ وَعَنْ قلوبِنَا." (1)
مُشدِّدًا على أنَّ هذه المحنةَ ، لاشكَّ ستمضِي ، على الرَّغمِ منْ آلامِهَا البَاهِظَةِ .
يتضمَّنُ الخِطابُ أمكِنَةً وَأشخاصًا وَمُشَاهَدَاتٍ ، ويكشِفُ الأداءُ الشِّعريُّ عنْ منظورٍ جماليٍّ خاصٍّ ؛ يُشدِّدُ على التَّفاصِيلِ السَّرديَّةِ وَالبَصَريَّةِ المَعِيشَةِ ، مُتَعَامِلاً بجُرأةٍ مَعَ شِرَاكِ التَّقريريَّةِ وَالمُبَاشَرَةِ ، مُشدِّدًا على شِعريَّةِ الحَدَثِ المِصْريِّ الرَّاهنِ ، وعلى أدَاءِ شَهَادةٍ شِعريَّةٍ ، ووثيقةٍ عنْ هذهِ المرحلةِ المُلتهِبَةِ منْ التَّاريخِ المِصْريِّ ، وَعَذَابَاتِ المِصْريِّينَ اليوميَّةِ فيْهَا ، لا يهرَبُ الشَّاعرُ إلى الميتافيزيقِيِّ ، وَإلى حَرَائِقِ الحُضورِ اللغويِّ الجَيَّاشِ ، وَإنَّمَا ينخرطُ في تفاصِيلِ المَشْهَدِ الحياتيِّ المَعِيشِ ؛ بمفرداتِهِ وتفاصِيلِهِ الحَيَّةِ الدَّالةِ ؛ رَاصِدًا حيواتٍ مِصْريَّةً خاصَّةً ، منْ ديوانِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المِصريَّةِ في المُدَّةِ مِنْ نوفمبرَ إلى ديسمبرَ 2013 ، فيرصُد عذاباتِ المِصْريِّينَ اليوميَّةِ في عَرَبَاتِ المِيكروبَاصَاتِ المُزْدَحِمَةِ ، وَسيرهَا في شَوارِعَ شديدةِ الازدحَامِ :
" ثمَّةَ نَزلةٌ منْ المحَورِ أعَاقتْ الطَّريقَ
وَحَشَرَتْ السَّائقينَ في الشَّتائِمِ
وَالسَّائقاتِ في قِلَّةِ الحِيلَةِ
الصَّبرُ جَمِيلٌ
مَعَ اقترابنَا مِنْ القاهرَةِ
هَا نحنُ نقتربُ
وَالميكروباصُ يكبحُ جِمَاحَ رعونتِهِ
بقسوةٍ تَقلِبُ بطونَ الرُّكابِ
لا بَأسَ
إنَّهُ يتحرَّكُ عَشْرَةَ أمْتَارٍ إضَافيَّةٍ
وَعَشْرَةَ أمْتَارٍ أخْرَى
يَتَحَرَّكُ مترًا ثمَّ نصفَ مِترٍ
ثمَّ يتوقَّفُ تمامًا
فقدْ أصْبَحَ الشَّارعُ حَائطًا منْ سَيَّارَاتٍ
أفقيَّةٍ وعموديَّةٍ ."(2)

" وَثمَّةَ سَيَّارةُ إسْعَافٍ عالقةٌ في الزِّحامِ
تصرخُ ولا يهتمُّ بهَا أحَدٌ
مَعَ أنَّ ثمَّةَ رُوحًا دَاخِلَهَا
... تَصْرُخُ
وَلا أحَدَ يَسْمَعُهَا
وَنحنُ نَصْرُخُ
وَالمِيكروباصُ يَصْرُخُ
وَالقاهرَةُ تَصْرُخُ
وَمِصْرُ كلُّهَا تَصْرُخُ
وَلا أحَدَ.. يَسْمَعُنَا." (3)
كَمَا يرصُدُ الزِّحامَ ، وَالاخْتِنَاقَ الطَّاحنَ ، في مِترو الأنفاقِ ، في نصِّ : مترو الأنفاقِ ، وَمنْهُ :
" كُلُّ مَا عليكَ أنْ تفعَلَهُ
أنْ تَضَعَ جَسَدَكَ أمَامَ البابِ
ثمَّ تنسَاهُ كُتلةً يدفَعُهَا
النَّازلونَ منْ المِترو
أو الصَّاعدونَ إليْهِ
وَكُنْ حَسَنَ النِّيةِ دائمًا
بعدمِ التَّفكيرِ في النِّظامِ
فَلا نِظَامَ هُنَا
وَأنتَ وَحَظُّكَ
إنْ ألقى بكَ الزِّحامُ في جوفِ المِترو
حيثُ الأجسادُ تُبْكِيكَ على قميصٍ
لمْ يكُنْ نظيفًا في يومٍ منْ الأيَّامِ
أوْ ألقَى بكَ الزِّحامُ في فَرَاغٍ نَفْسِيٍّ
دَائمًا مَا يُرافقُكَ
عنْ جَدْوى العيشِ في هَذَا البَلدِ
وَعلى أيِّ حالٍ
هو مترو أنفاقٍ
يأنسُ للظَّلامِ بانطفاءِ مَصَابيحِهِ الدَّاخليَّةِ دائمًا
وَتعطُّلِ التَّكييفِ وَمَرَواحِ التَّهويَةِ
حيثُ يعملُ كلُّ جَسَدٍ بمفردِهِ
على إنتاجِ شحنَةِ العَرَقِ اللازمَةِ
لِتلطِيْفِ المَآسِي ."(4)
ويرصُدُ ازدِحَامَ الشَّوارعِ ، بتفاصِيلَ مَعِيشَةٍ ، تنبئُ عنْ المُعَانَاةِ في كلِّ شيءٍ ، فمِنْ مَقْعَدٍ على مَقْهَى مُزْدَحِمٍ يُتَابِعُ ؛ بأدَاءٍ سِينمائيٍّ ، تفاصِيلَ المَشْهَدِ ، في الحَدَثِ اليَومِيِّ المَعِيشِ في الشَّارعِ المِصْريِّ المُزْدَحِمِ :
" مِصْريَّاتٌ نَاضِجَاتٌ جِنْسيًّا
وَلا أمَلَ يبدو
لإشْبَاعِ الرَّغبَةِ

قارئٌ يتلو مَا تَيَسَّرَ
منْ آياتِ الذِّكرِ الحَكيمِ
وَلا أحَدَ يُنْصِتُ إليْهِ

لكنَّ صَاحِبَ الدُّكانِ
يتبرَّكُ بِهِ في جَلْبِ رِزْقٍ
يبدو صَعْبًا على الجَميْعِ

سَيَّارَاتٌ لا تَتَوقَّفُ عَنْ المرورِ
وَلا تَتَوقَّفُ
أصْوَاتُ أبواقِهَا
وَلا الشَّتائِمُ
منْ أفوَاهِ سَائِقيْهَا

عَرَبَاتُ كارو
تجرُّهَا أحْصِنَةٌ وَحَمِيرٌ
تَتَشَارَكُ في مُغَالبةِ الزِّحَامِ
وَفي الجُوعِ

تكاتِكُ تزوغُ منْ الجَمِيعِ
وَتَشُقُّ طُرُقَهَا
منْ بَيْن سِيقَانِ العَابريْنَ

أتأمَّل كلَّ هَذَا
منْ كُرسِيٍّ على مَقْهَى
يمتدُّ بنفوذِهِ إلى مُنْتَصَفِ الشَّارعِ ." (5)
كَمَا يرصُدُ تقاعُسَ المَسْئوليْنَ عنْ النِّظَامِ في الشَّوارعِ وَالمَيَادِينِ ، عنْ أدَاءِ أعْمَالِهِمْ ، بيْنَ هَذَا الزِّحامِ :
" في مَيدَانِ طَلْعَت حَرْب
حيثُ لا أحَدَ يعرفُ
منْ أينَ أتى ، أوْ إلى أينَ يذهبُ
يجلسُ ضَابطُ الشُّرطةِ على كُرسِيٍّ خَشَبيٍّ
أمَامَ بوتيكٍ لبيعِ الأنتيكاتِ المزيَّفَةِ
وَاضِعًا على رُكبَتِهِ هَيْبَةَ الدَّولَةِ
... وَاضِعًا كَابَهُ
وَيثرثِرُ مَعَ صَاحِبِ المَحَلِّ في أمُورٍ
لا أريدُ بالتَّأكيدِ أنْ أعْرِفهَا
أمُرُّ منْ أمَامِهِ في طريقِي لِشِرَاءِ سَنْدَويتشَاتٍ
منْ مطعَمِ القَزَّازِ
يُثيرُنِي مَنْظَرُهُ إلى حَدِّ أنَّنِي
فَكَّرتُ في إعْطَائِهِ صَدَقةً
أوْ صَفْعَةً
كَوْنَهُ لا يقِفُ في المَيدَانِ كَمَا أمرتْهُ الدَّولةُ
لِيُنظِّمَ المَتَاهَةَ
وَيُشفِقُ قليلاً عَليْنَا
نحنُ الَّذين لا نعرفُ
منْ أينَ نأتِي ، أوْ إلى أينَ نذهَبُ ."(6)
كَمَا يرصُدُ مُعَاناةَ جنودِ الجيشِ وَالشُّرطةِ ، في تأمِينِ الطُّرقِ وَالمَدَاخِلِ :
" في الطَّريقِ منْ مَطَارِ بُرجِ العَرَبِ
إلى الإسكندريَّةِ
تنتشرُ دوريَّاتُ الجيشِ وَالشُّرطةِ
لِحِفْظِ الأمنِ
وَإبقاءِ الليْلِ مُطمَئِنًا
كَوْنَهُ تَعَدَّى مُنْتَصَفَهُ بسَاعَتَيْنِ
يبدو رِجَالُ القوَّاتِ المُسَلَّحَةِ
كَمَنْ يُغَالبُ نُعَاسًا مُزْمِنًا
ويبدو رِجَالُ الشُّرطةِ
كَكَائِنَاتٍ أكلتْهَا العِثَّةُ
وَلِهَذَا يَسْألُ أحَدُهُمْ :
عَمَّا إذَا كَانَتْ حقائِبُ المُسَافريْنَ هَذِهِ
وَالمُسَافرونَ
قدْ جَاءَا مَعًا في الحَقيقَةِ مِنْ المَطَارِ؟
يردُّ السَّائقُ الَّذي يُقلُّنَا بسَيَّارتِهِ :
(أيوه يَا بَاشَا مَعَ بَعْض)
وَيكتُمُ ضَحْكَةً تكادُ أنْ تُفَجَّرَ جَوْفَهُ
وَمَا إنْ يتحرَّكُ مُتَجَاوزًا كَمِينَ الشُّرطةِ
حتَّى ينفرِطَ في الضَّحكِ مُتَسَائِلاً:
( بالذِّمة دَا كَلام ، يعنِي إيه الشُّنط جَايَّه مَعَ
الرُّكَّاب ؟)
وَثمَّةَ بَرْدٌ
بَرْدٌ يُوْجِعُ
يُوجِعُ رجَالَ الجَيْشِ وَرِجَالَ الشُّرطَةِ
وَيُوجِعُنَا ." (7)
ويرصُدُ مُعَانَاةَ المُهَمَّشِينَ المَحْرومِينَ منْ كلِّ شيءٍ ، وَمنْهُمْ عامِلُ النَّظافَةِ ؛ الَّذي لا يُلقِي عليْهِ أحَدٌ السَّلامَ ، وَيَأنَفُ منْهُ الجميعُ ، كَمَا يأنفونَ ، بدرجَةٍ أخْرَى ، منْ مُهَمَّشِينَ آخَرينَ ؛ كَاشِفًا عنْ مُفَارَقاتِ المَشْهَدِ المِصْريِّ المَأسَويِّ :
" كُلُّ مَا كَانَ ينتظرُهُ عاملُ الصَّرفِ الصِّحيِّ
أنْ يُلقِي أحَدٌ السَّلامَ عليْهِ
كَانَ مُنْهَمِكًا مَعَ زملائِهِ
في تسليْكِ بالوعَةٍ
يمسَحُ عَرَقَ جبينِهِ بِظَهْرِ يدِهِ
وَيُحدِّقُ في العَابريْنَ
كَأنَّهُ يدعوهُمْ بعينيْهِ لإلقاءِ السَّلامِ عليْهِ
أمرُّ إلى جِوَارِهِ وَألقِي السَّلامَ
يردُّ طويلاً وَكَأنَّهُ يَسْتَبْقِينِي في المَوَدَّةِ
أحبُّكَ يَا أخِي في الحَيَاةِ تحتَ الأرْضِ
حَتَّى وَلو كُنَّا نَمْشِي فَوْقَهَا
وَنَأمُلُ أنْ يُلقِي أحَدٌ السَّلامَ عليْنَا
وَألاَّ يَتَحَاشَانَا الجَميعُ
بوَصْفِنَا رَائِحَةً تُزْكِمُ الأنوفَ
وَضِيعِيْنَ نعمَلُ في تَصْريفِ القَذَارَةِ
بالرَّغمِ مِنْ أنَّهَا قَذَارَتهُمْ
تِلكَ الَّتي ينتجونَهَا بالأطنَانِ
فيْمَا لا نملِكُ أنَا وَأنْتَ يَا أخِي
مَا يكفِي لِسَدِّ الرَّمَقِ
أوْ لإنتَاجَ وزنِ شِبَعٍ منْ الفَضَلاتِ
وَلِهَذَا نُعَانِي الإمْسَاكَ دائمًا
كَوْنَ أمْعَاؤنَا عاطِلةً عَنْ العَمَلِ
وَأعْلَمُ أنَّكَ حِينمَا تعودُ إلى بيتِكَ
سَوْفَ تجِدُ الكَهْرُبَاءَ مَقْطوعَةً
وَالمَاءَ كَذَلكَ
فلا تعرفُ كيفَ تُنَظِّفُ يديكَ
مِنْ خَرَاءِ بَشَرٍ
يعيشونَ فوقَ الأرْضِ
وَيُوظِّفونَ أمثالنَا نحْنُ الفُقَرَاء
لِتسليكِ أمْعَائِهِمْ." (8)
كَمَا يرصُدُ مَأسَاةَ عَامِلاتِ النَّظافَةِ ، ويكشِفُ عنْ مفارقاتٍ مِصْريَّةٍ مَعِيشَةٍ :
" نِسَاءٌ في يونيفورم مُوحَّدٍ
وَبرانيطَ تُشْبِهُ اليُتمَ
يكنسنَ الشَّوارعَ في مدينَةَ 6 أكتوبر
تبدو وجوهَهُنَّ مَسْلُوخَةً منْ فقرٍ دَامٍ
لا شَكَّ أنَّ منْ بينهنَّ .. سعديَّة ، سُعَاد وَسَعيدَة
لكنَّهنَّ لا يشْعرُن بالسَّعادَةِ
يُروِّحنَ بالمقشَّاتِ على الأرضِ
ليسَ لجمعِ القِمَامَةِ
وإنَّمَا لِنشرِهَا على أكبرِ مِسَاحَةٍ مُمْكِنَةٍ
فتبدو موزَّعةً بالعَدلِ
على قلوبٍ جَامِدَةٍ
تمرُّ منْ أمامِهنَّ وَلا تَسْألُ
أيُّ كرامةٍ لبلدٍ كَهَذَا
يدفعُ نِسَاءَهُ منْ كَنْسِ البيوتِ
إلى كنسِ الشَّوارِعِ
وَرُبَّمَا غدًا .. إلى كنسِ المَجَرَّاتِ
وَمِنْ صَفَاقتِهِ
يُنْشِئُ لهنَّ (المجلس القوميّ للمرَأةِ)
حيثُ نِسَاءٌ أخْريَاتٌ
يقمنَ في هَذَا المَجلِسِ وَفي غيرِهِ
بدورِ الخَادِمَاتِ ." (9)
على هذا النَّحو ، تُشدِّدُ النُّصوصُ على شعريَّةِ الحَدَثِ المِصْريِّ المَعِيشِ ؛ بآلامِهِ ، وَمُفَارقَاتِهِ ، وَعنائِهِ المَلحمِيِّ الخَاصِّ ، في نبرَةٍ مِصْريَّةٍ خالصَةٍ ، وَأداءٍ شِفَاهِيٍّ مِصريٍّ كثيفٍ .






الهَوامِشُ وَالإحَالاتُ


حَيَاةٌ عَادِيَةٌ ، لمحمَّد صَالح
حَيَاةٌ مِصْريَّةٌ

(1) محمَّد صَالح – حَيَاةٌ عَاديَّةٌ – أصْوَات أدبيَّة , العدد : 305 , الهيئة العامَّة لقصورِ الثَّقافة -2000- ص ص :13- 15 .
(2) السَّابق – ص ص : 21- 22 .
(3) السَّابق – ص ص : 28- 29 .
(4) السَّابق – ص ص : 16- 17 .
(5) السَّابق – ص : 23 .


كُرسيَّان مُتقابِلانِ ، لعلاء خالد
بلاغَةُ الحيَاةِ المعِيشَةِ
- 1 - علاء خالد - كُرسيَّانِ مُتقابلانِ - دار شرقيَّات – القاهرة – 2006 – ص ص :11
- 12 .
- 2 - السَّابق – ص : 15 - 16 - 19- 20 .
- 3 – السَّابق – ص : 63 .
- 4 – السَّابق – ص : 67 .
- 5 - السابق - ص : 79 .
- 6 - السَّابق – ص ص : 29 – 30 .
- 7 - السَّابق – ص : 11 .
- 8 - السَّابق – ص : 29 .
- 9 - السَّابق – ص : 37 .



مِترو الأنفَاق ، لإبراهيم المِصْريِّ
شعريَّةُ الحَدَثِ المِصْريِّ المَعِيشِ

(1) إبراهيم المِصْري - مِترو الأنفاق : نصوص مصريَّة - دار النَّسيم للنَّشر والتَّوزيع - القاهرة - 2013 – ص : 5 .
(2) السَّابق – ص : 11 .
(3) السَّابق – ص : 12 .
(4) السَّابق – ص ص : 39 – 40 .
(5) السَّابق – ص ص : 17 – 18 .
(6) السَّابق – ص : 13 .
(7) السَّابق – ص ص : 20 – 21 .
(8) السَّابق – ص ص : 41 – 42 .
(9) السَّابق – ص ص : 43 – 44 .



#شريف_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملامح التجربة وتشكلات الخطاب عند محمد بنميلود الشعرية
- دَهَاليز حلمي سالم وَالصَّيفُ ذو الوَطْءِ
- شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجرب ...
- شِعريَّة الأداءِ السَّرديِّ في تجربةِ مُنْذر مِصْري الشِّعري ...
- كثافة الحضور الإنساني والشخصي في تجربة وديع سعادة الشعرية.
- آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
- الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
- مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
- النَّثرُ الشِّعريُّ
- الشِّعرُ المنثُورُ
- النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
- النَّثْرُ الفَنيُّ
- شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
- فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
- الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
- شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
- شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ ...
- شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
- شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
- المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شعريَّةُ الحدَثِ المصْريِّ المعِيْشِ وتمصِيْرِ الخِطَابِ الشِّعريِّ