أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجربةِ رياض الصَّالح الحُسَين















المزيد.....

شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجربةِ رياض الصَّالح الحُسَين


شريف رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4734 - 2015 / 2 / 28 - 05:45
المحور: الادب والفن
    


تُعدُّ تجربَةُ الشَّاعرِ رياض الصَّالح الحُسَين (1954- 1982) ، واحدةً منْ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ الأسَاسيَّةِ ، الَّتي قادَتْ إلى المَشْهَدِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ باشتغالاتِهَا الجَمَاليَّةِ المَائزةِ ؛ المُتمثِّلةِ في احتفائِهَا بجَمَاليَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ الدَّالةِ ؛ بسرديَّاتِهَا المُعَاصِرَةِ ، وَتفاصِيلِهَا الحَيَاتيَّةِ المَعِيشَةِ ، وَأدائِهَا الشِّفاهيِّ الحَيِّ الحَمِيمِ وَنَبَرَاتِهَا الشَّخصِيَّةِ ، وَخُروجِهَا على وثنيَّةِ اللغَةِ الشِّعريَّةِ ، وَكيميائيَّةِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ ، وَتَعَدُّدِ شَفَرَاتِ النَّصِّ .
وَرِياض الَّذي لمْ يمكُثْ في دُنيَانَا أكثرَ منْ ثمانيَةٍ وَعِشْرينَ عَامًا ، هُوَ واحدٌ منْ حلْقَةِ شُعَرَاء أسَّسوا هذَا التَيارَ في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ ، في سُوريا ؛ مُتخلِّصِينَ منْ ضَجيجِ الأيدلوجيِّ وَالمِيتَافيزيقيِّ وَالذِّهنيِّ ، المُحِيطِ بهِمْ ؛ عَاكِفيْنَ على اليوميِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ لِصِيَاغَةِ خطابٍ شِعريٍّ جديدٍ ، ضَمَّتْ هذِهِ الحلْقَةُ مجموعةَ أصْوَاتٍ شِعريَّةٍ ، يأتي في طليعتِهَا : بندرعبد الحميد ، ومُنْذر مِصْري ، وعادل محمود ، وكانَ رياض أصغرَ شُعرَاءِ هذِهِ الحلْقَةِ ، وَكانَ لهذَا التَّيَّارُ حضورٌ آخرٌ في الشِّعريَّةِ الجديدَةِ في لبنانَ ، بَرَزَ في نصوصِ وديع سعادة ، ثم بسَّام حجَّار ، وَالفلسطينيِّ المُقيمِ بلبنانَ حينئذٍ أمجد ناصِر .
وُلِدَ رياض في درعا ، وَعَمِلَ في مركز الدِّرَاسَاتِ الفلسطينيَّةِ في دمشقَ ، وَقدْ مَنَعَهُ المَرَضُ منْ إكمَالِ دراسَتِهِ ، وَكانَ قدْ أصِيْبَ بالصَّممِ في عامِ ، عَقِبَ عمليَّةٍ جِرَاحيَّةٍ في الكليتيْنِ 1967 ؛ فدَأبَ على تثقيفِ نفسِهِ بالتَّجاربِ العَرَبيَّةِ الجديدَةِ وَالمُترجَمَةِ ، وَاضطُرَ إلى العَمَلِ مُبكِّرًا ، وَتُوفِّيَ في مستشفى المُوَاسَاةِ ، بدِمشقَ ، عَصْرَ يوم 12 / 11 / 1982 بسبب قُصورٍ في عَمَلِ الكليتيْنِ ؛ نَجَمَ عنْه توقُّف عَمَلِ القلْبِ .
أصْدَرَ رياض في حياتِهِ ثلاثَةَ دواوين ، هيَ : خَرَابُ الدَّورةِ الدَّمويَّةِ : 1979- أسَاطيرُ يوميَّةٌ : 1980- بسيطٌ كالمَاءِ ، وَاضِحٌ كطلقَةِ مُسَدَّسٍ : 1982، وَصَدَرَ الرَّابعُ ، وهو أبرَزُ هذِهِ الأعمَالِ ، عَقِب وفاتِهِ ، تحتَ عنوانِ : وَعْلٌ في الغَابَةِ : 1983 ، وَبالإضَافةِ إلى هذِهِ الأعمَالِ الشِّعريَّةِ ، كَتَبَ رياض القِصَّةََ القَصِيرَةَ ، وَالمَقَالةَ ، وَكَتَبَ للأطفالِ ، وَفي النَّقدِ الأدبيِّ .
وَبمُنْجَزِهِ الشِّعريِّ يقَعُ رياض في قلْبِ الحَلْقَةِ السُّوريَّةِ السَّبعينيَّةِ ، الَّتي أرْسَتْ جماليَّاتِ شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ البَسِيطِ ، في مَتْنِ الخِطَابِ الشِّعريِّ الجديدِ لِلْقَصِيدِ النَّثريِّ ، وَمُبكِّرًا ، عنْ مُعْظَمِ المَشَاهِدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ المُجَاورَةِ ؛ فَجَعَلتْ الهَامِشَ مَتْنًا ، وَانتصَرَتْ لتفاصِيلِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ ، وَسَرْديَّاتِهَا الحَيَاتيَّةِ ، وَشَوَاغلِهَا الشَّخصِيَّةِ الحَمِيمَةِ ، وَيَتَبَدَّى هذَا النُّزوعُ في العنوَانِ اللافِتِ للمَجْمُوعَةِ الشِّعريَّةِ الثَّانيَةِ لرياض : " أسَاطيْر يومِيَّة ".
وَيَعْكِسُ خِطَابُ رياض وَلَعَهُ ، في المَرْحَلَةِ المُبَكِّرَةِ منْ تجربتِهِ ، بحضورِ الأيدلوجيا في بنيَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، ويبدو صَوْتُ رياض في هذِهِ الحَالةِ كأنَّهُ يُعَمِّقُ تيَّارَ محمَّد المَاغُوط ؛ بنبرتِهِ الحَادَّةِ المُتمَرِّدَةِ وَمنظُورِهِ الأيدلوجيِّ وَلُغتِهِ السَّاخِطَةِ ، الَّتي تَجْمَعُ في دفعتِهَا الأيدلوجيَّةِ شَظايَا التَّفاصِيلِ اليوميَّةِ ، بأدَاءٍ لغويٍّ شِفاهِيٍّ تقريريٍّ ، وَاليومِيُّ في هذِهِ الحَالةِ ليْسَ في أهميَّةِ الأيدلوجيِّ ، وَإنْ كانَ رياض أكثرَ جنوحًا إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالمَعِيشِ ، وَالنَّبرَةِ البَاطِنيَّةِ ، وَأقلّ ضَجيحًا منْ المَاغُوط ؛ الَّذي قدَّمَ أقْصَى عَطَاءاتِهِ الشِّعريَّةِ عَبْرَ ديوانيْهِ الأوَّليْنِ : حُزْنٌ في ضَوْءِ القَمْر : 1959 ، وَ: غُرْفةٌ بمَلاييْنِ الجُدْرَانِ : 1964.
يتبدَّى هذَا النُّزوعُ ، لدَى رياض ، في قولِهِ :
" يَا سُوريَّا الجَمِيلة السَّعيدة
كمِدْفأةٍ في كانونَ
يَا سُوريَّة التَّعِيسَة
كعَظْمَةٍ بيْنَ أسْنَانِ كَلْبٍ
يَا سُوريَّة القَاسِيَة
كمِشْرَطٍ في يدِ جَرَّاحٍ
نحنُ أبناؤكِ الطيِّبونَ
الَّذين أكلْنَا خُبْزَكِ وَ زيتونَكِ وَ سِيَاطَكِ
أبدًا سَنقودُكِ إلى اليَنَابيعِ
أبدًا سَنُجفِّفُ دَمَكِ بأصَابعِنَا الخَضْرَاءِ
وَ دموعَكِ بشِفَاهِنَا اليَابِسَةِ
أبدًا سَنشُقُّ أمَامَكِ الدُّروبَ
وَ لنْ نتركَكِ تضيعِيْنَ يَا سُوريَّة
كأغنيَةٍ في صَحَرَاء . "
بالنَّبرَةِ الخَطَابيَّةِ التَّقريريَّةِ الجَهِيرَةِ الحَارَّةِ ، المَوْرُوثَةِ عنْ المَاغُوطِ ، تَحَوَّلَ رياض ، بالتَّدريجِ ، إلى أدَاءٍ يخُصُّهُ :
" سَأقِفُ، أيضًا، سَأقِفُ
لأُحَدِّثكمْ عَنِّي
مِثْلَمَا يتحدَّثُ الدِّيكتاتورُ عنْ سجونِهِ
وَ المليونيرُ عنْ مَلايينِهِ
وَ العَاشقُ عنْ نهديْ حبيبتِهِ
وَ الطِّفلُ عنْ أمِّهِ
وَ اللصُّ عنْ مفاتيحِهِ
وَ العَالمُ عنْ حُكَّامِهِ
سَأحدِّثكُمْ بحُبٍّ، بحُبٍّ، بحُبٍّ
بعدَ أنْ أشْعِلَ سِيجَارَة !."
بهذِهِ النَّبرَةِ المُحَمَّلةِ بشَظَايَا منْ الوَاقِعِ المَعِيشِِ ، بنَى رياض نصوصًا تتجَاوَرُ التَّفاصِيلُ فيها ، لبناءِ نصوصٍ ، تُؤسِّسُ شِعريَّتَهَا بتفجيرِ المُفَارَقةِ في نِهايَاتِهَا ، كَمَا في هذا النَّصِّ :
" لسْتُ بائعَ خَرْدَواتٍ
وَلا مُهَرِّبَ دخانِ مارلبورو
وَلا أمْلِكُ مُسدَّسًا لأنتحِرَ
وَلا قُنبلةً لأخْطِفَ طَائرَةً
لمْ أبعْ قلبي بالمزَادِ العَلنيِّ
وْلمْ اشْترِ الويسكي منْ السُّوقِ الحُرَّةِ
لمْ أقتُلْ رَجُلاً
وَلمْ أصْفَعْ امْرَأةً بوَرْدَةٍ
فلِمَاذَا... لِمَاذَا
أيَّتُهَا الأحْجَارُ الَّتي لا تُحِبُّ المُوسِيْقَى
كُلَّمَا شَاهَدَنِي حفَّارو القبورِ
يَفْرُكونَ أيديهم بغِبْطَةٍ
وَيَدْعُوننِي لِزيَارتِهِمْ ؟."
وَ يكشِفُ الخِطَابُ الشِّعريُّ لرياض عنْ مجموعةٍ منْ الخَصَائصِ الجماليَّةِ المُتآزِرَةِ ؛ المُتمثلَةِ في : الجُنُوحِ إلى النَّزعَةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ ، وَبَسَاطةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ وَتَدَاوليَّتِهِ وَشِفَاهيَّتِهِ ، وَتخفُّفِهِ منْ المَوَاريْثِ البلاغيَّةِ المَوْروثَةِ اسْتنادًا إلى بلاغيَّةِ المَشْهَدِ المَعِيشِ ، وَ وَقائعِيَّةِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ ، وَأسْطَرَةِ المَعِيشِ ، وَالغنائيَّةِ الاستبطانيَّةِ الرَّهيفَةِ ذَاتَ النَّبرَةِ الفَجَائعيَّةِ ، وَالتَّعبيرِ عنْ ذاتٍ فرديَّةٍ بسيطَةٍ هَشَّةٍ وَسَاخِطَةٍ في مواجَهَةِ جَحِيمِ الوَاقعِ المَعِيشِ ، بنبْرَةٍ تحْمِلُ المَرَارَةَ وَالألمَ البَاهِظَ ، وَلِلْمَوْتِ حضورٌ وَافرٌ في الحَيَاةِ كَمَا أنَّ لِلْحَيَاةِ حضورًا وافرًا في المَوْتِ ، في تجربَةِ رياض ، وَبخَاصَّةٍ في عملِهِ الشِّعريِّ الأخيْرِ : وَعْل في الغَابَةِ .
تَحْضُرُالتَّفاصِيلُ الحَيَاتيَّةُ المَعِيشَةُ ، المُنْتَخَبَةُ بدِقَّةٍ ؛ لِتُشَكِّلَ بنيَةً شِعريَّةً مُحْكَمَةً وَمُكَثَّفَةً ، ذَاتَ أدَاءٍ إيقاعيٍّ حَادٍّ ، وَأدَاءٍ لغويٍّ شِفَاهيٍّ رَهِيْفٍ وَمُقْتَصِدٍ :
" غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ صَالحَةٌ للحَيَاةِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ ضَيِّقةٌ صَالحَةٌ للمَوْتِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ رطْبَةٌ لا تَصْلُحُ لِشَيءٍ
غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ فيْهَا :
امْرَأةٌ تُقشِّرُ البَطَاطَا وَ اليأسَ
عَامِلُ باطون لا ينَام أبدًا
بنتٌ تبكِي كثيرًا بدونِ سَبَبٍ
وَ أنَا وَلَدٌ مُشَاكِسٌ وَ غَيْرُ لئيمٍ
لدَيَّ كُتُبٌ وَ أصْدِقاءٌ
وَ لا شَيءَ غَيْرُ ذَلكَ . "
وَيَحْضُرُ الألمُ على نحوٍ كثيفٍ وَمُلحٍّ ، في خِطَابِ رياض الشِّعريِّ ، مَهْمَا بَدَتْ الحَياَةُ جَمِيلةً :
" نحْنُ مُتَّفِقانِ: 
الحَيَاةُ جَمِيلَةٌ       
وَالناسُ رَائِعُونَ       
وَالطَّريقُ لمْ تنْتَه وَلكِنْ انْظُرْ إليَّ قليلاً فإنَّني أتألَّمُ       
كَوَحْشٍ جريحٍ في الفَلاةِ. "

وَبالإضَافةِ إلى الحُضورِ الوَافرِ للألمِ ، يحضُرُ المَوْتُ على نحْوٍ كثيفٍ ، وَلا يبدو المَوْتُ لدى رياض نهايَةً للحَيَاةِ ؛ بلْ دخولا في حَيَاةٍ أخْرَى ، إنَّ في المَوْتِ حَيَاةٌ أخْرَى ، وَلاينقطِعُ المَوْتَى تمَامًا عن حَيَوَاتِهِمْ الأولى :

" المَوْتَى الَّذين مَاتُوا في الحُروبِ وَالأوبئَةِ ، في السُّجونِ وَالطُّرُقاتِ ،
المَوْتَى الذين مَاتُوا بالخِنْجَرِ وَالرّصَاصِ وَالدِّينامِيْتِ ، بِالفأسِ وَحَبْلِ المَشْنقَةِ ،
المَوْتَى الجَمِيلونَ ذَوُو الأسْنَانِ البَاليَةِ       
وَالوجوهِ النَّاتئَةِ  
تذكَّرُوا وَهُمْ في قبورِهِم  
ضَوْءَ القَمَرِ وَخُضْرَةَ المَرَاعِي  
تذكَّرُوا أنَّهُمْ لمْ يَعِيشُوا كَمَا ينبغِي  
لمْ يَنْتَبِهُوا إلى الأصْوَاتِ وَالألوَانِ
تذكَّرُوا: 
كَمْ قبلةً أضَاعُوا      
كَمْ ضَوْءًا أغْمَضُوا عيونَهُمْ كيْلا يَرَوْهُ      
كمْ زَهْرَةً لمْ يَزْرَعُوا      
كَمْ كلِمَةً طيِّبَةً لمْ يقولُوهَا  
المَوْتَى عَرِفُوا رُبَّمَا لِلْمَرَّةِ الأخِيْرَةِ  
كمْ هيَ لذيذةٌ
حَيَاةُ الأحْيَاءِ ."

إنَّ المَوْتَى في حَيَوَاتِهم الأخْرَى ، لاينقطِعُونَ عنْ اشتِغَالاتِهِمْ الَّتي كانَتْ في دُنياهم ، وَيُقدِّمُ رياض نصوصًا عنْ عَوَالمِ المَوْتَى شَديدَةِ الرَّهافَةِ وَالإحْكَامِ وَالدَّلالةِ ، مِنْهَا نصُّ : الخِنْجَرُ؛ الَّذي يقولُ فيْهِ :
" الرَّجُلُ مَاتَ
الخِنْجَرُ في القلْبِ  
وَالابتسَامَةُ في الشَّفتيْنِ
الرَّجُلُ مَاتَ
الرَّجُلُ يتنزَّهُ في قبْرِهِ  
يَنْظُرُ إلى الأعْلَى  
يَنْظُرُ إلى الأسْفَلِ  
يَنْظُرُ حَوْلَهُ  
لا شَيءَ سِوَى التُّرَابِ  
لا شَيءَ سِوَى القَبْضَةِ اللامِعَةِ
 لِلْخِنْجَرِ في صَدْرِهِ  
يبتسِمُ الرَّجُلُ المَيْتُ  
وَيُرَبِّتُ على قبْضَةِ الخِنْجَرِ  
الخِنْجَرُ صَدِيقُهُ الوَحِيْدُ
الخِنْجَرُ ذِكْرَى عَزِيْزَةٌ
منْ الَّذين في الأعْلَى. "

وَمِنْهَا كَذَلكَ نصُّهُ : العَاشِقُ ، الَّذي يقولُ فيْهِ :
" يَحْفُرُ العَاشِقُ بأظَافِرِهِ تُرَابَ القَبْرِ  
يَحْفُرُ في بقايَا التَّاريخِ  
يَحْفُرُ مُنذُ ألفِ عَامٍ  
يَحْفُرُ لِيَصِلَ  
يَحْفُرُ دُونَمَا ألمٍ (المَوْتَى لا يَتَألَّمُونَ)
وَالعَاشِقُ المَيِّتُ يُريدُ الوُصُولَ لمَنْ يُحِبُّ  
وَسَيَظلُّ يَحْفُرُ بالأظافرِ وَالأسْنَانِ       
تُرَابَ القَبْرِ
سَيظلُّ يَحْفُرُ إلى الأبَدِ ."

وَيوَاصِلُ المَيِّتُ في حَيَاتِهِ الأخْرَى إنْجَازاتِهِ ، الَّتي انتزعَهُ منْهَا المَوْتُ ، غَيْرَ آسِفٍ على مَا تَرَكَهُ خَلْفَهُ منْ أشياءَ في حَيَاتِهِ الأولى :
" لمْ يأسَفْ على شَيءٍ  
حِيْنَمَا أخَذُوهُ إلى المَقْبَرَةِ
لمْ يأسَفْ سِوَى على المِطْرَقَةِ والأزمِيلِ       
على الألوَانِ وَالفُرَشِ       
على اللوحَاتِ وَالتَّمَاثيلِ  
وَهَا هُوَ الآنَ في القبْرِ  
هيكلاً عظمِيًّا   
هَا هُوَ يقومُ جَامِعًا عِظَامَهُ  
سَيَصْنَعُ منْ سُلاميَّاتِ الأصَابِعِ       
خَوَاتمَ وَأقراطًا   
منْ الجُمْجُمَةِ دَوْرَقًا للنَّبيْذِ  
منْ العَمُود الفِقريِّ
صُحُونًا وَأكْوَابًا   
وَرُبَّمَا يَصْلُحُ عَظْم الكَتِفِ       
لِصُنْعِ طَائرٍ. "

وَيكتُبُ الشَّاعرُ في قبرِهِ ، قَصَائدَهُ وَأقاصِيْصَهُ الَّتي لمْ يُتِمَّهَا في حَيَاتِهِ الدُّنيَا ، لايكُفُّ عنْ الكِتابَةِ بموتِهِ :

" بريشَةٍ منْ العِظَامِ وِحِبْرٍ منْ الطَّمي  
يكتُبُ على جُدْرَانِ قبرِهِ
قَصَائدَ وَرِوَايَاتٍ وَقصَصًا   
قَصَائِدَ عنْ الحُبِّ  
وَرِوَايَاتٍ عنْ القُرَى وَالمُدُنِ
وَقصَصًا عنْ الأرانبِ وَالعُجولِ  
إنَّهُ يكتُبُ مُنذُ أنْ مَاتَ
يكتُبُ رَغْمَ أنَّ أحَدًا لا يقرَأُ مَا يكتُبُهُ  
يكتُبُ دُونَمَا توقُّفٍ ، يكتُبُ برَغْبَةٍ ،
بانْدِفاعٍ لا يفعلُ شيئًا سِوَى الكِتَابَةِ
يكتُبُ رُبَّمَا لأنَّ الكِتابَةَ فِعْلُ حَيَاة ."
   
وَيَجْنَحُ الأدَاءُ الشِّعريُّ الغِنَائيُّ إلى أسْطَرَةِ التَّفاصِيلِ المَعِيشَةِ وَتشْكِيْلِ الصُّورِ الدَّالةِ ، عَبْرَ التَّوسُّعِ في إعْمَالِ مِخْيَالٍ خَلاَّقٍ ؛ لِتَجْسِيدِ حَالةٍ شِعريَّةٍ مُشِعَّةٍ بالدّلالاتِ ، كَمَا في قولِهِ :
" الذِّئبُ الَّذي افترَسَنِي
تَرَكَنِي وَحِيْدًا في الغَابَةِ
مَنْ يُغطِّي جُثَّتِي بالأعْشَابِ
بأوْرَاقِ الأشْجَارِ اليَابسَةِ
بقليْلٍ منْ تُرَابٍ ؟
مَنْ يقرَأُ الفَاتِحَةَ على رُوحِي
مَنْ يُغْمِضُ عينيَّ الهَلِعَتيْنِ
مَنْ يَضَعُ على صَدْرِي
صَلِيْبًا منْ أزْهَار؟
الذِّئبُ الَّذي افترَسَنِي
صَارَ أنَا
أخَذَ وَجْهِي الشَّاحِبَ
وَ شَفَتَيَّ المُرْتَجِفتيْنِ
وَ قلبِي الطَّيِّبِ
وَ ظلَّ مُحْتَفِظًا بأنيَابِهِ
أنَا الذِّئبُ 
ذُو اليَدِ البَيْضَاءِ
أدُورُ في المَدِينَةِ وَ أعْوِي
أنَا الَّذي قَتَلَ الصَّيَّادَ في الغَابَةِ
أنَا الصَّيَّادُ
احْذَرُوا حُبِّي
وَ احْذَرُوا أنْيَابِي . "
إنَّ الأدَاءَ الشِّعريَّ في خِطَابِ رِياض الصَّالح الحُسَين لايَزَالُ على طَزَاجَتِهِ ، على الرَّغمِ منْ مرورِ أكثر منْ ثلاثَةِ عقودٍ على رَحِيْلِهِ ، بلْ هُوَ يقترِبُ أكثرَ منْ رَاهِنِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ ، وَبالفِعْلِ كَانَ رِياض أحَدَ الآبَاءِ الأسَاسِيِّينَ لِشُعرَاء تَحَوَّلُوا بشَكْلٍ جَمَاعيٍّ مُنْذُ نِهايَاتِ الثَّمانينيَّاتِ إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالتَّفاصِيليِّ وَالمَعِيشِيِّ وَ الشَّخصَانِيِّ وَالبَسِيطِ المُهْمَلِ ؛ الَّذي عَاشَ مُهَمَّشًا طويلا ، وَجَعَلُوا الهَامِشَ مَتْنًا ، في حِرَاكٍ شِعريٍّ كَثِيفٍ ، لايَزَالُ حَاضِرًا بقوَّةٍ ، في مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّة الجَدِيدَةِ .



#شريف_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شِعريَّة الأداءِ السَّرديِّ في تجربةِ مُنْذر مِصْري الشِّعري ...
- كثافة الحضور الإنساني والشخصي في تجربة وديع سعادة الشعرية.
- آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
- الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
- مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
- النَّثرُ الشِّعريُّ
- الشِّعرُ المنثُورُ
- النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
- النَّثْرُ الفَنيُّ
- شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
- فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
- الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
- شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
- شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ ...
- شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
- شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
- المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
- عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
- شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
- لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا ...


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجربةِ رياض الصَّالح الحُسَين