أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة















المزيد.....

شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة


شريف رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4721 - 2015 / 2 / 15 - 01:05
المحور: الادب والفن
    







جَسَّدتْ الذَّاتُ الإنْسَانيَّةُ ، الفَرْدِيَّةُ ، العَاديَّةُ ، في الخِطَابِ الجديدِ لِلْقَصِيدِ النَّثريِّ المصْريِّ ، حَقِيقَتَهَا الإنْسَانيَّةَ ، وَتَاريخَهَا الشَّخصِيَّ ، وَحَيَوَاتِهَا المعِيشَةَ ، وَبلاغَتَهَا الشَّخصِيَّةَ ، وَقَدْ جَاءَ حُضُورُ الذَّاتِ بِبُعدِهَا الإنْسَانيِّ الشَّخصِيِّ ، وَوَقَائِع حَيَاتِهَا اليَومِيَّةِ ، وَأشْيَائِهَا الصَّغيرَةِ ، وَتَفَاصِيلِهَا الشَّخصِيَّةِ ، وَنزوعِهَا إلى آليَّاتِ السِّيرِذَاتيِّ ، رَدَّ فِعْلٍ ، لهيمَنَةِ الذَّاتِ بأبعَادِهَا الميتافيزيقيَّةِ وَالتَّجريديَّةِ ، في شِعريَّةِ الحدَاثَةِ ، وَتأسِيسًا لِشِعريَّةِ السِّيرِذَاتيِّ في القَصِيدِ النَّثريِّ الجدِيدِ .
وَالملاحَظُ أنَّ خِطَابَ السِّيرِذَاتيِّ ، قَدْ تجلَّى ، في البِدَايَةِ ، في حَقْلِ السَّرديَّاتِ ، فيْمَا عُرِفَ بأدَبِ التَّرجمَةِ الذَّاتيَّةِ : الأتُوبيوجِرافيِّ ، وَتأسَّسَ على مَرْجِعيَّةِ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ الذَّاتيِّ ، وَمَرْكزيَّتِهَا ، بجهودِ عَدِيدينَ ، يأتي في طَلِيْعَتِهِمْ : جان جاك رسوّ ، وفولتير ، وتولستوي ، وهيرمان هسَّه ، وفي مَشْهَدِ الأدَبِ العَرَبيِّ تأسَّسَ هَذَا الشَّكلُ بجهودِ : طه حُسَين ، وتوفيق الحكيم ، وأحمد أمين ، ولويس عوض ، ومحمد مندور ، وشُكري عيَّاد ، وَغَيْرِهِمْ .
وَسرعَانَ مَا تَسَرَّبَ خِطَابُ السِّيريِّ ، إلى مَشْهَدِ المتنِ الرِّوائيِّ ، في أعَمَالٍ ، مِثْلِ : (رَسَائل بيتِ الموْتَى) لديستوفيسكي ، وَ(صُورَة الفَنَّانِ في شَبَابِهِ) لجميس جويس ، وَ(الرِّق البَشَريّ) لسومر سِت موم ، وَفي السَّرديَّةِ العَرَبيَّةِ ، بَرَزَ القَصُّ السِّيرذَاتيُّ ، في أعْمَالٍ ، مِثْلِ : (أصْدَاءِ السِّيرَةِ الذَّاتيَّةِ) لنجيب محفوظ ، وَ(تُرَابها زَعْفَرَان) وَ(يَا بَنَات اسْكِنْدريَّة) لإدوار الخرَّاط ، وَ(تِلْكَ الرَّائحة) لصُنْع الله إبراهيم ، وَ(قَدَر الغُرْفَةِ المقْبِضَةِ) لعبد الحكيم قاسِم ، وَ(وَرْدِيَّة ليْلٍ) وَ(مَالِك الحزِيْنِ) لإبراهيم أصْلان ، وَ(بَيْضَة النَّعَّامَةِ) لرؤوف مُسْعد ، وَ(الخُبْز الحَافِي) لمحمَّد شُكري ، وَ(تحتَ خَطِّ الفَقْرِ) لإدريس علي ، وَ(أحْلام محرَّمَة) لمحمود حَامِد .
وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ بَرَزَتْ شِعريَّةُ السِّيريِّ ، في القَصِيدِ النَّثريِّ العَرَبيِّ الجدِيدِ ، بِدَرَجَاتٍ مُتَفَاوتَةٍ ، مُنْذُ أوَاخِرِ القَرْنِ الماضِي ؛ عَبْرَ الاشْتِغَالِ على جُزْئيَّاتِ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، وَتَفَاصِيلِ الوَاقِعِ الحيَاتيِّ المعِيشِ ، وَالاحْتِفَاء بِالبِنْيَةِ السَّرديَّةِ ، وَبالذَّاتِ الإنْسَانيَّةِ الفَرديَّةِ ، في هَشَاشَتِهَا الحقِيقيَّةِ ، وَصَبَوَاتِهَا ، وَانْكِسَارَاتِهَا ، وَوُجُودِهَا الحياتيِّ المعِيشِ الحقِيقيِّ ، دُوْنَ أنْ تَتَلاشَى في ذَاتٍ كُلِّيَّةٍ ، أوْ تُصْبِحُ ذَاتًا أيدلوجيَّةً ، أوْ ذَاتًا ابستمولوجِيَّةً ، وَتَتَخَطَّى الذَّاتُ ، بهذَا المعْنَى ، مَفْهُومَ الذَّاتِ في التَّصوُّرِ الرُّومَانتيكِيِّ المتورِّمِ بِالمثَاليَّةِ وَالوِجْدَانيَّةِ ؛ لِتُحَقِّقَ حُضُورَهَا الإنْسَانيَّ الحيَّ ؛ الَّذي ظَلَّ مُغَيَّبًا عنْ الأفْقِ الشِّعريِّ طَويلا ، وَلمْ يَكُنْ يحضُرُ مِنْهَا سِوَى إشْرَاقَاتٍ نَادِرَةٍ .
وَقَدْ جَاءَتْ شِعريَّةُ السِّيرَيِّ ، نتيجَةً لِتَشْكِيلِ الوَعْي الميتَاحَدَاثيِّ ، في القَصِيدِ النَّثريِّ ، في فَضَاءِ الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، مُنذُ نهايَاتِ القَرْنِ الماضِي ، بَعْدَ تَصَدُّعِ العَالمِ الَّذي هَيْمَنَتْ فيْهِ ثقَافَةُ الحدَاثَةِ ؛ برؤاهَا التَّجريديَّةِ ، وَانْهِمَامِهَا بالتَّجريبِ اللغويِّ ، وَبِتَعدُّدِ الدّلالاتِ ، أوْ فَتْحِ آفَاقِهَا ؛ فَمُنْذُ العَامِ التَّاسِعِ وَالثَّمَانين بَدَأتْ خريطَةُ الأيدلوجيَّاتِ في التَّصدُّعِ ؛ بِتَصَدُّعِ الاتِّحَادِ السُّوفيتيِّ ، وَسُقوطِ حَائِطِ بارلين ، وَتَصَدُّعِ منظومَةِ القوميَّةِ العَربيَّةِ ، على إثْرِ غَزْوِ العِرَاقِ الكُويتَ ، وَمَا تَرَتَّبَ عليْهِ منْ تَشَظِّياتٍ ، وَانْهِيَارَاتٍ ، وَصُعودِ الإمبراطوريَّةِ الأمْريكيَّةِ ، كقُوَّةٍ عُظْمَى ، وَحِيْدَةٍ ، على أنْقَاضِ الأيدلوجيَّاتِ ، وَ" مَعَ سُقوطِ أوْهَامِ الأيدلوجِيا ، بسَرْديَّاتِهَا الكُبْرَى .. وَمَعَ الانْكِمَاشِ الَّذي أصَابَ العلومَ الاجْتِمَاعيَّةَ ، انْتَقَلَ التَّشَكُّكُ في الخِطَابَاتِ الاجْتِمَاعيَّةِ – الَّتي يموجُ بهَا المجتمَعُ – إلى التَّشَكُّكِ في قَوَاعِدِ الخِطَابَاتِ وَآليَّاتِهَا البنائيَّةِ ، وَبَدَا أنَّ الأدَبَ مُطَالَبٌ بالخروجِ مِنْ برجِهِ العَاجِيِّ وَفَتْحِ نَوَافِذِهِ على العَالمِ الَّذي أصْبَحَ يُنَادِيْهِ ."(1)
وَلمْ يَكُنْ هَذَا التَّحوُّلُ خَاصًّا بالشِّعريَّةِ وَحْدَهَا ، وَلا بالمشْهَدِ الأدَبيِّ في مُجْمَلِهِ ، وَإنَّمَا كَانَ جُزْءًا منْ تحوُّلٍ أكبر في حَركَةِ الأدَبِ العَالَمِي ؛ ارْتَهَنَ بتحوُّلاتٍ سَياسَيَّةٍ دُوليَّةٍ كبيرَةٍ (2) ، وَهَكَذَا بَدَأتْ مَرْحَلَةٌ جَديدةٌ في تاريخِ الأدَبِ ؛ مَرْحَلةٌ " حَلَّتْ فيْهَا كِتَابةُ الذَّاتِ وَالأبعَادِ الإنْسَانيَّةِ وَالاجْتِمَاعيَّةِ .. محلَّ الألعَابِ الشَّكليَّةِ ؛ الَّتي مَيَّزَتْ[ شِعريَّةَ الحدَاثَةِ ، عَادَتْ إلى الذَّاتِ إنسَانيَّتُهَا وَتَاريخُهَا الشَّخصِيُّ المعِيشُ ، كَمَا عَادَتْ مُتعَةُ الحَكْي ، مَرَّةً أخْرَى ، تُهَيْمِنُ على ] النَّصِّ الرِّوائيِّ ، وَبَدَا أنَّ الكُتَّابَ، قَدْ تَوقَّفُوا عنْ تقطِيْعِ أوْصَالِ السَّردِ وَتعقِيْدِ خيوطِهِ ، وَتَوقَّفُوا عنْ اعْتِبَارِ الشَّخصيَّاتِ الرِّوائيَّةِ كائِنَاتٍ وَرقيَّةً ، وَمُرَكَّبَاتٍ لغويَّةً ، وَعَنْ التَّشكِيكِ في قُدرَةِ الأدَبِ في التَّعبيرِ عنْ الوَاقِعِ ، تَوقَّفُوا عنْ اعْتِبَارِ الأدَبِ مِرْآةً لِذَاتِهِ ، عَادَ هؤلاءُ إلى الاهْتِمَامِ بالإنْسَانِ ، وَبالتَّاريخِ الَّذي هَجَرتْهُ " الرِّوايَةُ الجديدَةُ "(3)، وَشِعريَّةُ الحداثَةِ ، وَبَدَا أنَّ الشُّعرَاءَ اكْتَشَفُوا حَيَوَاتِهِمْ الإنسَانيَّةَ الحقِيقيَّةَ المعِيشَةَ ، وَاكْتَشَفُوا الشِّعرَ في تفاصِيلِهَا ، وَتحرَّرُوا منْ كُلِّ مَا يُعطِلُّ هذِهِ الحيوَاتِ ، أوْ يكبَحُهَا ، فَبَدَأتْ مَرْحَلَةٌ جديدَةٌ منْ عُمْرِ الأدبيَّةِ ، لا الشِّعرِ فَقَطْ .
وَهَكَذَا بَدَأتْ الأنَا ، في حَيَواتِهَا الإنسَانيَّةِ الحقِيقيَّةِ ، تتبدَّى في القَصِيدِ النَّثريِّ الجديدِ ، على نحوٍ كبيرٍ ، وَقَدْ جَاءَ التَّشديدُ على فرديَّةِ هذِهِ الذَّاتِ وَاضِحًا وَحَادًّا ، تجلَّتْ فيْهِ الأنَا فرديَّةً ، وَبَسِيطَةً ، وَعَاديَّةً ، وَمُهَمَّشَةً غَالبًا ، وَتعِي أنَّ خِطَابَهَا – أيضًا – خِطابٌ هَامِشِيٌّ ، شَخْصَانيٌّ ، خَاصٌّ ، كَمَا تعِي بوجُودِهَا المتَعَيَّنِ الخاصِّ ، يتبدَّى هَذا في قَوْلِ عبد الوهاب داود (1966- ) ، في البيانِ الثَّامِنِ منْ بياناتِهِ الهامشِيَّةِ الَّتي لا تهتمُّ كثيرًا بالنِّظامِ العَالمِي الجديدِ :
" أيُّهَا المواطِنُون
يُعْلِنُ عبد الوهاب داود ؛ الَّذي هُوَ بالتَّأكيدِ أنَا ، وَالَّذي تَعْرِفُونَهُ جميعًا ، وَإنْ جَهِلَ البَعْضُ ، وَأنْكَرَ البَعْضُ ذَلكَ ، عنْ تخلِّيْهِ الكَامِلِ عنْ نبؤةِ الشَّاعِرِ ، وَحِسِّهِ التَّاريخيِّ وَالمجازيِّ ، وَبلاغَةِ الأسلوبِ ، وَجَزَالةِ اللفظِ الَّتي لا يعرِفُ مَعْنَاهَا .. وَلا يُريدُ .
كَمَا يُعْلِنُ عنْ رغبتِهِ الجامحةِ ، في كُلِّ نِسَاءِ الأرْضِ ، ابتدَاءً بشارون ستون ويسرا وجوليا روبرتس وديمي مور ونعومي كامبل وجيهان نصر ووتيني هيوستن ، مرورًا بسيندي كراوفورد ، وصوفي مارسو وبياتريس دال وسوسن بدر وسلوى خطاَّب وراكيل وولش ، وَليسَ نهايةً بكلوديا شيفر وحنان التُّركي ووفاء عامر .
فَقَطْ يستثني منهنَّ اثنتينِ تعرفُونهمَا جيِّدًا ، وَلنْ يذكرهما خوفًا منْ تهمَةِ السَّبِّ وَالقَذْفِ العَلنيِّ الَّتي يُمَارِسُهَا سِرًّا ."(4)
وَتجنَحُ هَذِهِ الذَّاتُ الفرديَّةُ البسِيطَةُ ، المنفَصِلةُ عَنْ الجماعَةِ ، وَعَنْ خِطابَاتِهَا ، وَآليَّاتِهَا ، إلى سَرْدِ تفاصِيلِهَا المعيشَةِ القريبةِ ، وَالكَشْفِ عَنْ حَالاتٍ إنسَانيَّةٍ عميقَةٍ دَاخلَ هذِهِ التَّفاصِيلِ المسْتَمَدَّةِ منْ تاريخِهَا الشَّخصيِّ ، كَمَا في قولِ سمير درويش(1960- ) :
" جميعُهُمْ احتفَلُوا بعيدِ الرَّبيعِ ، جماعَاتٍ
بينَمَا بقيْتُ في شقَّةٍ مُقْفَلَةٍ
أُصَحِّحُ العَدَدَ الأخِيرَ مِنْ " الكَاتِبِ العَرَبيِّ "
وَآكلُ فطيرَةً بَاردَةً صَنَعَتْهَا أمِّي .. وَأنَامُ !
جميعُهُمْ انْتَهَوا مِنْ احْتِفَالاتِهِمْ وَتَفَرَّغُوا إيذائِي
رُبَّمَا لأنَّني لا أُتْقِنُ فنَّ الاحْتِفَالِ
وَرُبَّمَا لأنَّهُمْ ، جميعُهُمْ ، وَجميعُهُنَّ
وَجَدُوا بَدائِلَ لي
أنَا المكتَئِبُ أبدًا .
بماذَا ، وَبمَنْ أسْتَبْدِلُهُمْ وَأسْتَبْدِلُهُنَّ ؟
وَإلامَ ينبغِي تأجِيْلُ فَتْحِ الملفَّاتِ المغْلَقَةِ ؟ "(5)
إنَّ الذَّاتَ الشِّعريَّةَ هُنَا تُؤسِّسُ خِطَابَهَا الشِّعريَّ ببلاغَةِ تفاصِيلِهَا الحياتيَّةِ المعِيشَةِ ، منْ تاريخِهَا الشَّخصِيِّ المتعيَّنِ ، عَبْرَ صَوْتٍ سَردِيٍّ فَرْدِيٍّ ، ذَاتيِّ النَّبرَةِ .

وَمِنْ الآليَّاتِ التي تبدو بوضوحٍ في شِعريَّةِ السِّيريِّ ، آليَّةُ التَّذكُّرِ ؛ الَّتي تجنحُ لها الذَّاتُ ، في سَرديَّاتِها مَوَاقفَ دالةٍ ، منْ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، في بنيَةٍ حِكائيَّةٍ ، تتضمَّنُ تفاصِيل خَاصَّة ، يتمُّ فيْها الكشْفُ عن فَضَاءاتٍ خاصَّةٍ ، وَأنَوَاتٍ خَاصَّةٍ ، عبْرَ سَرْدٍ شِعريٍّ استذكاريٍّ ؛ تلعبُ فيه الذَّاكرةُ دورًا رئيسًا ، في إعَادةِ تشكيلِ الحكايةِ الإنسَانيَّةِ ، وَإحياءِ مسَاحَاتٍ منْ حَيَوَاتٍ عاشَتْهَا الأنَا ، أوْ اسْتِحْضَارِ بَشَرٍ غَابرينَ ، وَتَفَاصِيل مَعِيشَة طُوِيَتْ ، اسْتِحْضَارًا منْ زَمَنِ الحكَايَةِ إلى زَمَنِ السَّردِ ، وَقَدْ يَتَقَارَبُ الزَّمنَانِ ؛ نتيجَةً لاتِّحَادِ الأنَا الرَّاويةُ بالأنَا المرويَّةِ ، وَيُعَدُّ اسْتِحْضَارُ عَوَالمِ الطُّفولةِ مِنْ المواقِفِ الأثيرَةِ الَّتي تكْشِفُ عَنْ رَفْضِ العَالمِ الآنيِّ ؛ بالكَشْفِ عنْ عالمٍ آخر ، وَلَّتْ تفاصِيلُهُ ، إلى مَنَاطِق ضَبَابيَّةٍ ، وَتُوشِكُ أنْ تَتَلاشَى فيها ، إنَّ هذِهِ الحيَاةَ الأولى، هِيَ الفِرْدَوسُ المفقودُ ، وَهِيَ – كَمَا أوْضَحَ شوبنهاور – جَنَّةُ عَدْن الَّتي نَظلُّ نرنو إليْهَا ، وَهِيَ تَتَبَاعَدُ منْ وَرَائِنَا "(6)، وَيَتَمَسَّكُ محمَّد صَالح (1942-2009) ، بالكثيرِ منْ تفاصِيلِ هَذِهِ المرحَلةِ ، عَبْرَ بنيَةِ التَّذكُّرِ، في سَرْدٍ اسْتِذْكَاريٍّ يُحَاولُ اسْتِجْمَاعَ تفاصِيلِ الوَقائِعِ ، وَأحْيَانًا يعتمِدُ بنيَةً التَّرجِيْحِ ، في اسْتِقْصَاءِ التَّفاصِيلِ ، ويميلُ فيها إلى التَّغلِيبِ ، كَمَا في قوْلِهِ :
" لابُدَّ أنَّ الوَقْتَ كَانَ أوَّلَ الخريفِ
فَالطِّفلُ الَّذي كَانَهُ
كَانَ يلهو آنئِذٍ
في الفَرَاغَاتِ بَيْنَ أكْيَاسِ القُطْنِ
الَّتي كَبَسُوهَا بقُوَّةٍ
وَوَضَعُوهَا مُنْتَصِبَةً
في البَاحَةِ الخارجيَّةِ لبيْتِ الخَالِ
وَفي وَعْيهِ مَاتَزَالُ
الرَّائحَةُ النَّفَّاذَةُ للجُوتِ
وَأنَّهُ كَانَ وَحِيدًا في الدَّارِ
وَلابُدَّ أنَّهُمْ جَاءوا سَاعتئذٍ
بجثَّةِ أبيْهِ
وَقَدْ غَطُّوهَا بالجيْرِ الحيِّ
في العَرَبَةِ المغْلَقَةِ
ذَاتَ الأجْرَاسِ
الَّي كَانَتْ نذيرَ شُؤمٍ
وَالَّتي ظَلَّتْ تُعولُ
على طُولِ الطَّريقِ إلى المقْبَرَةِ
فيْمَا كَانَ الأحَيْاءُ
يُسَارعونَ إلى إغْلاقِ الأبْوَابِ
وَلابُدَّ أنَّهُمْ كَانُوا في عَجَلةٍ منْ أمْرِهِمْ
حتَّى إنَّهُمْ دَفَنُوهُ بدونِ غُسْلٍ
وَلَمْ يُصَلُّوا عَليْهِ . "(7)
إنَّ الأنَا (الحَاليَّةَ) ، تَسْتَعِيدُ ، هُنَا ، أنَاهَا الأولى ، عَبْرَ تَفَاصِيل رِيفيَّةٍ خَالصَةٍ – ذَوَتْ مَلامحُهَا مِنْ المشْهَدِ المعِيشِ الرَّاهِنِ – كَانَتْ ، فيها ، طِفْلا يلعَبُ بينَ أكْيَاسِ القُطْنِ ، فيْمَا سَقَطَ أبُوه في وَبَاءِ الكوليرا الكاسِحِ ؛ الَّذي اجْتَاحَ مِصْرَ ، في أوَاخِرِ الأربعينيَّاتِ منْ القَرْنِ الماضِي ، وَدُفِنَ – بِسُرعَةٍ – على هَذَا النَّحوِ الفَاجِعِ ، في مَشْهَدِ لمْ يَغِبْ ، بتفَاصِيلِهِ الدَّقيقَةِ ، منْ ذَاكِرَةِ الطِّفلِ الَّذي كَانَهُ ؛ على الرَّغمِ منْ مرورِ عقودِ الزَّمَانِ .
وَعلى المحورِ نفْسِهِ ، يتبدَّى هَذَا المشْهَدُ المعِيشُ الرِّيفيُّ الدَّالُ ؛ الَّذي يَسْتَعِيدُ فيْهِ عماد أبو صَالح (1967- ) ، صُورَةَ الأمِّ ، وَهِيَ تُغَادِرُ البيتَ ، بَاكيَةً ، منِ ضَرْبِ أبيْهِ / زَوْجِهَا إيَّاهَا ، فيْمَا يَتَشَبَّثُ الصَّغيرُ بهَا ، وَيُلاحِقُ خطواتِهَا المتعجِّلَة إلى بَيْتِ أبيْهَا ، وَكأنَّهَا لا تَشْعُرُ بِهِ :
" حِيْنَمَا كَانَ أبي يَضْرِبُهَا
وَتَهْجُرُ البيْتَ
كُنْتُ أتَشَبَّثُ بذيْلِ ثَوْبِهَا
وَأجْرِي في الغِيْطَانِ
خَلْفَ خطواتِهَا المتعجِّلَة
وَحَطَبُ القُطْنِ يخدِشُ خَدَّيَّ .

لمْ تَكُنْ تحْمِلُنِي أبدًا
لمْ تَكُنْ تُبْطِئُ خطواتِهَا لأجْلِي أبدًا .

طَرْحَتُهَا السَّودَاءُ
؛ الَّتي يُطيِّرُهَا الهوَاءُ فَوْقِي
غَمَامَةٌ
تمطِرُ الدَّمعَ ."(8)
إنَّ آليَّةَ التَّذكُّرِ ، وَالجنوح إلى اسْتِحضَارِ الماضِي ، يَعْكِسَانِ شعورًا وَاضِحًا بالفَقْدِ ، يَتَشَكَّلُ عَبْرَ اسْتِدعَاءِ مَوَاقِف منْ التَّاريخِ الخاصِّ ، تكْشِفُ عَنْ ألمٍ باهِظٍ ، لمْ يُقدَّمْ بِصُورَةٍ تقريريَّةٍ فَجَّةٍ ، وَمِنْ ذَلكَ قَوْلُ علاء خالد (1960-)، مُناجيًا أمَّهُ ؛ الَّتي رَحَلَتْ :
" شَطْرٌ كبيرٌ منْ حَياتِكِ
اسْتَهْلَكْتِهِ في الحدِيثِ إلى صَديقٍ غَائبٍ
تَرْفَعِيْنَ إليْهِ دموعًا مُوثَّقَةً وَأذْرُعًا مخذُولةً .

في السَّنواتِ الأخِيْرَةِ
كُنْتِ تَتَحَدَّثينَ بِصَوْتٍ عَالٍ
أسمعُهُ منْ غُرْفَتِي
فأتخيَّلُ أنَّ هُنَاكَ مَنْ يَقْتَسِمُ مَعَكِ الغُرْفَةَ

لم تَشُكِّي لحظَةً
بأنَّ صَدِيقَكِ هَذَا
رُبَّمَا يُعَاني مِثْلَكِ ، ضَعْفًا في السَّمعِ ."(9)

وَفي الغَالِبِ تقِفُ هَذِهِ الذَّاتُ على مَسَافةٍ وَاضِحَةٍ ، من الجمَاعَةِ ، مُتَمَسِّكَةً بخصوصِيَّتِهَا ، مُؤْثِرَةً مَنَاطِقَ الظِّلالِ ، عَاكِفَةً على عَوَالِمِهَا وَأشْيَائِهَا ، وَتَاريخِهَا الشَّخصِيِّ ، في سَرْدٍ اسْتِبطَانيٍّ مُتدفِّقٍ وَسَيَّالٍ ، يمزِجُ الخارجَ بالدَّاخِلِ ، في نَبْرَةٍ خاَفتَةٍ وَعَمِيقةٍ ، تأتي منْ القَرَارِ .

وَتكْشِفُ شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ ، في فَضَاءِ القَصِيدِ النَّثريِّ المصْريِّ الجديدِ ، عنْ نزوعٍ وَاضِحٍ للانفِتَاحِ على تفاصِيلِ التَّاريخِ الشَّخصِيِّ للأنَا؛ في حَيَوَاتِهَا المختلِفَةِ ، وَسَرْدِيَّاتِهَا الحمِيمَةِ الخاصَّةِ ، وَالتَّخفُّف منْ الرُّؤى الميتافيزيقيَّةِ المطْلَقَةِ ، وَمنْ التَّوسُّعِ في التَّشكيلاتِ اللغَويَّةِ ، وَالمجازَاتِ البَلاغيَّةِ ، وَتَتَبَدَّى الأنَا ، هُنَا ، فرديَّةً ، شَخصِيَّةً ، عَاديَّةً ، تجنَحُ ، في كثيرٍ منْ الحالاتِ ، إلى آليَّةِ التَّذكُّرِ ، وَاسْتِحْضَار عَوَالمَ غَابَتْ ، بما يعكسُ تمسُّكَهَا بالتَّاريخِ الشَّخصِيِّ ، وَخصوصِيَّة حضُورهَا المستقِلِّ عنْ الجمَاعَةِ ، وَهُوَ مَا أبْرَزَ شَخْصَنَةَ الخطَابِ الشِّعريِّ ، كأحَدِ مَعَالمِ خصُوصِيَّةِ القَصِيدِ النَّثريِّ المصْريِّ الرَّاهِنِ .






الهَوامِشُ وَالإحَالاتُ

(1) كِتابةُ الأنَا وَكِتَابَةُ التَّاريخِ في الرِّوايةِ الفَرَنسِيَّةِ المعاصِرَةِ – د. سلمى مبارك – مجلَّة : الرِّواية : قضَايَا وَآفاق ، العددان : 4 ، 5 – الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب – ص : 208 .
(2) لاحِظْ – على سَبيلِ المثَالِ – التَّحوُّلَ منْ آليَّاتِ (الرِّوايَةِ الجديدَةِ) في فرنسَا ؛ حيثُ هَيْمَنَ الأدَاءُ الشَّكلانيُّ ، في مرحلةِ الحدَاثَةِ المتأخِّرَةِ ، إلى كِتَابةِ الأنَا ، وَفي الشِّعريَّةِ الفَرنسِيَّةِ ، كَذَلكَ تمَّ الانْتِقالُ منْ قَصِيدَةِ التَّركيبِ اللغويِّ التَّشفيريِّ ، إلى قَصِيدَةِ الحِكايَةِ وَالسَّردِ .
(3) كِتابَةُ الأنَا وَكِتابَةُ التَّاريخِ في الرِّوايةِ المعاصِرَةِ – سَابق – ص : 207 .
(4) عبد الوهاب داود – بياناتٌ هَامِشِيَّةٌ – الهيئة المصْريَّة العامة للكِتاب – 2000 – ص ص : 24 – 25 .
(5) سمير درويش – تصطادُ الشَّياطين – دار شرقيَّات – القاهرة – 2011 – ص ص : 58 -59 .
(6) عن : سعيد توفيق – تأمُّلاتٌ فلسَفِيَّة – مجلَّة : إبداع – العددان : 13 ، 14 – شتاء / ربيع 2010 – ص : 166 .
(7) محمَّد صالح - حَيَاةٌ عاديَّةٌ – أصْوَات أدبيَّة ، العدد :305، الهيئة العامة لقصور الثَّقافة – 2000 – ص ص : : 21 – 22 .
(8) عِماد أبو صَالح – كلبٌ ينبحُ ليقتلَ الوَقْتَ – عنْ موقعِ الشَّاعرِ ، على الرَّابطِ التَّالي :
www.Geocitiescom/emadabusaleh.
(9) علاء خالد – تُصْبِحِينَ على خَيْرٍ – دار شرقيَّات – القاهرة – 2007- ص :61 .













#شريف_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ ...
- شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
- شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
- المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
- عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
- شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
- لانبعَاثَاتُ الأولى لقَصِيدَةِ النَّثر في مَشْهَدِ الشِّعر ا ...
- شِعريَّاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ المصْريِّ الجديد في قصيدَةِ ...
- تداخُلاتُ الأنواعِ الأدبيَّةِ والفَنيَّةِ في قصيدةِ النَّثرِ ...
- إِشكاليَّاتُ النَّوعِ الشِّعريِّ في قَصِيدةِ النَّثْر


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شريف رزق - شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة