|
دَهَاليز حلمي سالم وَالصَّيفُ ذو الوَطْءِ
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4736 - 2015 / 3 / 2 - 02:12
المحور:
الادب والفن
دَهَاليز حلمي سالم وَالصَّيفُ ذو الوَطْءِ
(دَهَاليزي) و (الصَّيف ذو الوَطْءِ) قصيدتَانِ مَلحَميَّتَانِ منْ أبرزِ مَا أنتجَهُ شِعرُ السَّبعينيَّاتِ المِصْريِّ النَّثريِّ ، وَهُمَا مُعلَّقتَانِ عَصْريتَّانِ منْ الشِّعرِ الحُرِّ الجديدِ ، تنطويَانِ على أهمِّ المُرْتكزَاتِ الجَمَاليَّة الأسَاسَيَّةِ لأداءِ حلمي سَالم الشِّعريِّ ، وتتضمَّنَانِ- كَذلكَ – النَّبرَةَ الشِّعريَّةَ الخاصةَ لحلمي سَالم في المَشْهَدِ الشِّعريِّ الجديدِ ، وَ(دَهَالِيزي) - تحدِيدًا – هِيَ طَوَاسِينُ حلمي سَالم الشِّعرية ، يتشكَّلُ البناءُ النَّصيُّ ، فيْهَا، من بينَةِ المنولوجِ الدِّراميِّ ؛ الَّتي تَتَوَاشَجُ داخلَ بنيتِهِ الغنائيَّةِ بنيةٌ دراميَّةٌ ، وَأخْرَى مَلحميَّةٌ ، وَتتََجَلَّى البنيةُ الأخيرةُ في الأدَاءِ الأسطوريِّ ، على نحوٍ خاصٍّ . يَتَدَفَّقُ القصيدُ في غنائيَّةٍ ملحميَّةٍ مُحمَّلةٍ بالتَّشفيرِ الدَّلاليِّ ، المتوالي ، في أدَاءٍ يُعزِّزُ إبرازَ بنيةِ الخِطابِ أكثرَ منْ الرِّسالةِ الدَّلاليَّةِ ، وَهُوَ مَا يتمُّ فيه التَّشديدُ على شعريَّةِ الشِّعرِ . ويستمدُّ هذا الأداءُ خصوصيَّتَهُ - بينَ أشكالِ قصيدةِ النَّثرِ المتعدِّدةِ ؛ الَّتي رَسَّخَ لها شعراءُ جيلِهِ العربيِّ ؛ الَّذين شَقُّوا طُرقًا مُغَايرَةً عنْ الطَّريقِ الَّتي عَبَّدَهَا الروَّادُ المؤسِّسونَ - بالتَّشديدِ على تكثِيْفِ البنيَةِ المَجَازيَّةِ لِلخِطَابِ الشِّعريِّ ؛ بالتوسُّعِ في التَّشكيلاتِ المَجَازيَّةِ المُتَنوِّعَةِ المُبْتَكَرَةِ ، والتَّراكيبِ الجديدَةِ المُدْهِشَةِ ، والإيقاعَاتِ الخَاصَّةِ ؛ وبهذَا الأدَاءِ أصْبَحَ نسيجُهُ النَّصيُّ فضَاءً كثِيفًا للتآويْلِ المفتوحَةِ . ويُعَدُّ حلمي سَالم في طَلِيعَةِ شُعَرَاءِ جيلِهِ ، المِصْريِّينَ ، الَّذين تبنَّوا تيَّارَ التَّشكيلِ التَّشفيريِّ الكثيفِ الدَّالِ ، منذُ أواخِرِ السَّبعينيَّاتِ ، وَهُو مَا تمثَّلَ في قصيدتِهِ النَّثريَّةِ ، الخاصَّةِ ، الَّتي أنجزَهَا في هذِهِ المَرْحَلَةِ ، في : (دَهَاليزي)1978 - ( سَكندريًّا يكونُ الألم) 1981- ( الأبيض المُتوسِّط)1984 ، وَكَانَ حلمي في مُقدِّمة شعراء هذا التَّيار المُؤثِّرينَ في المَشْهَدِ الشِّعريِّ المِصْريِّ ، في الرُّبعِ الأخيْرِ منْ القَرْنِ الماضِي ، وقدْ شَهِدَ الخِطَابُ الشِّعريُّ لحلمي سالم، تحوُّلاً جديدًا ، في دِيوَانِ : ( سَرَاب التِّريكو)1995 ؛ حَيْثُ ظَهَرَ فيْهِ – بوضوحٍ – اشتغالُهُ على جَمَاليَّاتِ السَّردِ الشِّعريِّ وَشِعريَّةِ الصُّورَةِ السَّرديَّةِ ، وتخفَّفَ الخِطَابُ منْ هَيْمَنَةِ المَجَازِ الشِّعريِّ الكثيفِ ، لِصَالحِ التَّدفُّقِ السَّرديِّ ، وَقدْ تأكَّدتْ جماليَّاتُ السَّردِ الشِّعريِّ الخَاصَّةِ عندَهُ ، في دِيوَانِ : (يُوجَد هُنَا عِمْيَان) 2001 ، وَيُلاحََظُ أنَّ الجَوْهَرَ الشِّعريِّ العَمِيقَ ، ظلَّ قارًّا في مُعْظَمِ أشْكالِِ الشِّعرِ – بِمَا فيْهَا شعر التَّفعيلةِ - في خِطَابِ حلمي سَالم الشِّعريِّ ، دائمِ التَّحوُّلاتِ ، وَهُوَ مَا رَسَّخَ نبرتَهُ الشِّعريَّةَ ، في مَشْهَدٍ شِعريٍّ ، دائِمِ التَّحوُّلاتِ ، في تحوُّليْنِ مِفْصَليَّينِ ؛ أحَدُهُمَا كَانَ في أواخِرِ سَبعينيَّاتِ القَرْنِ المَاضِي ، وَالآخَرُ كَانَ في تِسعينيَّاتِهِ ، ويُلاحَظُ أن التَّحوُّلَ الأخيْرَ كانَ جُزءًا منْ تحوُّلٍ جَمَاعيٍّ شَارَكَ فيْهِ شُعَرَاءُ أبْدَعُوا في عِقْدِ السِّبعينيَّاتِ ، وَآخرونَ بَدَءُوا في عِقْدِ الثَّمانينيَّاتِ ، وَغَيْرُهُمْ بَدَءُوا في عِقْدِ التِّسعينيَّاتِ . وَمِنْ أبْرَزِ آليَّاتِ الأدَاءِ الشِّعريِّ في هَاتيْنِ القَصِيدَتيْنِ :
-1-
الانتقالُ منْ الأدَاءِ الغنائيِّ ، إلى الأدَاءِ الدِّراميِّ ، إلى الأدَاءِ الملحَمِيِّ ؛ وَهُوَ مَا يُعطِي الخِطَابَ حيويَّةً ، وَفاعليَّةً ، وَتَّدفقًا ، وَيُجنِّبُهُ الرَّتابَةَ الَّتي كانَ يُتوقَّعُ حُدُوثُهَا ، مَعَ تدفُّقِ الأدَاءِ الغِنَائيِّ ، وَحْدَهُ ، مَهْمَا احْتَشَدَ الخِطَابُ الشِّعريُّ بالتَّشكيلاتِ المَجَازيَّةِ دَائمَةِ الإشَارَاتِ ، وَبهَذَا الانتقالِ تُصْبِحُ بنيَةُ الشِّعرِ، هُنَا ، بنيَةً جَامِعَةً ، وَمنْ ذَلكَ قولُهُ : " أيُّهَا الإنسِيُّ الدَّفينْ . هِيْتَ لكَ أيُّهَا الإنسِيُّ الدَّفينْ . خُصَّنِي ، وَأخْبِرْنِي : هَلْ وَرَاءَ كُلِّ صَخْرَةٍ إيقَاعٌ ؟ كَانَ يقبَعَََُ في الهشِيْمِ فاتِنًا وَفَرْدِيًّا . جَاءَتْنِي الَّتي جَمَعَتْنِي عِنْدَ : لا تلتمَّ فأعْلَمْتُهَا أنَّنِي سَأكتبُ : فَحِيحُ المَدَى فِخَاخٌ وَهَذِهِ الرِّمَالُ أفئدةٌ قُلتُ : اصْرُخِي وَرَائِي : أيُّهَا المَجْهُولُ الجَمِيْلُ صَرَخَتْ وَرَائِي : أيَّهَا المَجْهُولُ الجَمِيْلُ . يَا آتِيًا منْ رَعْشَةِ : فَاعِلُنْ . شَدَدْتُهَا منْ وَرَائِهَا وَصِحْتُ : انْظُري يَا شَفِيقَةُ هذِهِ أحْجَارٌ تجْرِي إلى الفَضَاءِ فاخْرُجِي منْ الأغَانِي إلى المَفْتُوح . وَقُلْتُ : هَا هُنَا الكُثْبَانُ أجْسَامٌ وَنَبْرَةٌ أرْقَدَتْنِي في الكَمِيْن فأمْسَكتُهَا في الصَّلاة وَقُلتُ : يَا شَفِيقةُ أوْصِينِي بمَا شَربْتِ منْ جَرَّةِ اللبَن . فقالتْ : اصْنَعْ كُلَّ عُرْسٍ مِزْمَارًا ، وَضَعْ رِدَائِي على الزَّهرِ الجَنُوبِيِّ . ثمَّ قالتْ : ارْكُضْ مِنِّي إلى : فاعِلاتُنْ . فَصِحْتُ : أيُّهَا الإنسِيُّ الدَّفينُ هِيْتَ لكَ في الفِخَاخِ الجَمِيْلَةِ ." -2- وَكَمَا تَنْهَضُ الانتقَالاتُ المُتَواليَةُ منْ الأدَاءِ الغنائيِّ إلى الدِّرَاميِّ إلى المَلْحَمِيِّ ؛ لإحْدَاثِ دِينَامِيكيَّةِ الخِطَابِ ، تنْهَضُ – كَذلكَ - الانتِقَالاتُ المُتَوَاليَةُ لِلضَّمائرِ منْ المُتكلِّمِ إلى المُخَاطَبِ إلى الغَائبِ إلى المُتكلِّمِ – منْ جَديدٍ - لإحْدَاثِ الدِينَامِيكيَّةِ بتنوُّعٍ آخَر ، وَهُوَ مَا يتوَّلدُ عنْهُ – كَذلكَ - نموُّ الإيقاعِ ، وَتحقيْقُ مَلْحَميَّته ، وَإبْرَازُ دِرَاميَّةِ المُنولوجِ الشِّعريِّ ، وَيُسَاعِدُ – كَذلكَ – على التَّطوُّر الدِّرَامِيِّ للنَّصِّ ، وَمنْ ذَلكَ قولُهُ : " إنَّنِي أبدًا في : يكُونْ حَيْثُ الرِّمَالُ عضويَّةٌ وَالكَائِنَاتُ كَلِيمَةٌ حَيْثُ كُهُوفِ الجِنْسِ وَالذَّاتيَّةِ الضَّائعَةِ وَحَيْثُ كُلُّ نايٍ : مُرَاوَدَة قابلونِي هُنَاكَ في : دَاخِليًّا – دَاخِليًّا. سَلامًا أيَّتُهَا القُرُنْفَلَةُ الَّتي فَاضَتْ على جُثَّتِي سَلامًا أدْخَلتْنِي إلي سُرَّةِ الدُّجَى ندَّابَةً لِلفولكلوريِّ في نَحِيْبِهَا تَسَمَّيتُ اسْمًا وَكُنْتُ لا أُسَمِيَّ في القُرنفُلَةِ . كَانَتْ تُغنِّي غِنَاءً وَكُنْتُ أغنِّي غِنَاءً مَاسِكًا جُميزَةً ثقيلَةً دَلَفْتُ في عَتْمَةٍ أليقَةٍ وَفي كُلِّ تينَةٍ قِنْديْلٌ ."
-3-
تحْويلُ بنيَةِ الغِنَاءِ إلى بنيَةٍ دِرَاميَّةٍ ؛ بتحويْلِ بنيَةِ المُنَاجَاةِ إلى بنيَةٍ حِوَاريةٍَّ ، وَمنْ ذَلكَ قولُهُ : " حَاوَرْتُ شَبَابِي حِوَارًا : أنْتَ أثقلتَ غُصَّتِي وَغِبْتَ في الرَّحِيْلِ أنْتَ أفلتَّنِي منْ الفانتازيَا وَمنْ الرُّعبِ الصَّافِي وَلمْ تَهَبْ فؤادِيَ نقاوَةَ الخَطِيئَةِ . وَحَاورْتُ شَبَابِي : الفتاةُ في الجنينَةِ المُظْلِمَةِ وَالفتَى في الجنينَةِ المُظْلِمَةِ يَقْضِمَانِ ثَمَرًا غَامِضًا قالَتْ لَهُ : أجيؤكَ في الخَضَارِ الليليِّ قالَ لهَا : يَعْلَقُ عُشْبٌ بثوبِي وَيَنْصَرِفَانِ قلتُ لِشَبَابِي : بهِمَا مَسٌّ مِنْكَ وَزَعْفَرَانَةٌ . وَقُلتُ : مَا يَزَالانِ كُلَّ اعتَامَةٍ يَجِيئَانِ ، يَقْضِمَانِ ثَمَرَةَ الغُمُوضِ وَالتَّكلِيْمِ ، حَتَّى يَحْتَرِقَ الليْلُ عليْهِمَا وَهُمَا يَتَقَاضَمَانِ ، وَبثوبِهِمَا شَيءٌ منْ العُشْبِ البليْل . نَطَقَ شَباَبِي : كُلُّ ليْلٍ نَفَسٌ وَمِلاءَةٌ وَأنَا أغِيْبُ في الرَّحِيْل ."
-4-
اعْتِبَارُ الكَلِمَاتِ عَوَالمَ وَفَضَاءَاتٍ رَحيبَةً ، تتبدَّى دَاخِلَهَا الذَّاتُ الشَّاعِرَةُ وُجودًا إنسَانيًّا حَيًّا ، وَهِيَ تقنِيَةٌ مَعْرُوفَةٌ ؛ اسْتَخْدَمَهَا بعْضُ المُتَصَوِّفةِ ، مَعَ بَعْضِ آيَاتِ القُرآنِ الكريمِ ، أوْ بعْضِ مُفْرَداتِهِ ، أوْ بعْضِ الحُروفِ ، وَيَسْتخدِمُهَا حلمي سَالم – اسْتخدامًا خَاصًّا – بشكلٍ مُكثَّفٍ ؛ لتفجيرِ عَوَالمِ الكَلِمَاتِ ، وَالجُمَلِ ، وَالتَّوارِيْخِ ، وَمِنْ ذَلكَ قولُهُ : " إنَّنِي أبدًا في : يكون حَيْثُ الرِّمَالُ عضويَّةٌ وَالكَلِمَاتُ كَلِيْمَةٌ حَيْثُ كُهُوفُ الجنْسِ وَالذَّاتيَّةِ الضَّائعَةِ وَحَيْثُ كُلُّ نَايٍ : مُرَاوَدَةٌ قَابلونِي هُنَاكَ في : دَاخِليًّا – دَاخِليًّا ." وَأحْيَانًا تُصْبِحُ الجُمَلُ ، وَالعِبَارَاتُ ، عَوَالمَ وَفَضَاءَاتٍ ؛ كَمَا في قولِهِ : " أرْقدتْنِي تَحْتَ تِيْنَةِ : رِيْمٌ على القَاعِ وَرَقَصْتْ عَليّْ ." وَقولِهِ : " فَأرْقَدَتْنِي تَحْتَ سِكَّةِ : لمَّا رَنَا حَدَّثتْنِي ." وَقولِهِ : " كَانَتْ تُضُاجِعُنِي على فَسْقيَّةِ : كُلُّ السِّيوفِ قَوَاطِعُ ." وَأحْيَانًا يُصْبِحُ التَّاريخُ فَضَاءً ؛ كقولِهِ : " فأرْقَدَتنِي تَحْتَ خَيْمَةِ : 25 مارس 1973 ."
-5-
اعْتِمَادُ طَاقَاتِ الأسْطورَةِ ؛ حَيْثُ تتبدَّى - منْذُ بدَايَاتِ (دَهَالِيزِي) - الإشَارَاتُ إلى الأسْطورَةِ ، وإلى تَعَدُّدِ الدَّلالاتِ ، في قولِهِ : " قابلُوا صَفْصَافِي عِنْدَ مَهَابِطِ الوِدْيَانِ وَمَصَاعِدِ الجبَالِ ، قابلُوا نِسَائِي عِنْدَ الأسَاطِيْرِ وَغَرَائِبِ الأجْسَادِ وَانْتَظرونِي عِنْدَ اللغَةِ سَأجِيءُ دَلالةً بَعْدَ دَلالَةْ ." فَثَمَّ النِّسَاءُ عِنْدَ الأسَاطِيْرِ وَغَرَائِب الأجْسَادِ ، وَالمَرْأةُ على مَدَارِ المَتْنِ الشِّعريِّ ، هُنَا ، أسْطورَةٌ ، وَثمَّةََ تَحَوُّلاتٌ وَغَرَائِبيَّاتٌ للأجْسَادِ ، وَلُغَةُ الأسْطورَةِ تَسْتَدْعِي أسْطورَةَ اللغَةِ ، وَالأسْطورَةُ - كَمَا يَرَى رولان بارت (1915- 1980) " نَمَطٌ مِنْ الكَلامِ ، وَالتَّراكِيْبِ ، سَوَاء أكَانَتْ شفاهِيَّةً أوْ مَرْئِيَّةً " ؛ وَفي خِطَابِ (دَهَالِيزِي) نَرَى اللغَةََ ذَاتَهَا تعكِسُ أسْطوريَّةََ الأدَاءِ اللغويِّ ، وَأحْيَانًا تَصِلُ إلى آليَّاتِ الرُّقَى وَالتَّعازِيْمِ وَخِطَابِ السِّحرِ، كَقولِهِ : " أقْحُوَانْ – أقْحُوَانْ أقْبِلِي على النَّدى وَالأوَانْ ." وَأحْيَانًا تَصِلُ إلى طقوسِ السِّحرِ ، وَغَرَائبيَّةِ خِطَابِهِ وَتَرْمِيزَاتِهِ ، كَمَا في قولِهِ : " آلافٌ منْ العُشَشِ الخَفِيْفَة ِ تَجِيءُ . صَاحَ الجَسَدُ الَّذي يَجْرِفُ الشَّكلَ لِي : انْثُرْ البِلَّورَةَ ، انْثُرْ البِلَّورَةَ ، وَاخْرُجْ منْ جِهَةِ الجُمَيزيِّ إلى الكَمَائِنِ النَّاعِمَة ." وَمِمَّا يُؤكِّدُ الإشَارَةَ إلى خِطَابِ السِّحرِ وَالأسْطورَةِ ، مُخَاطَبَةُ الذَّاتِ الشَّاعرَةِ بلفظَةِ (الإنسِيِّ) ، في قولِهِ : " أيُّهَا الإنسِيُّ الدَّفينْ هِيْتَ لكَ أيُّهَا الإنسِيُّ الدَّفينْ ." وَكَذلكَ فيوضَاتُ الرُّؤى الَّتي تنتمِي إلى هَذَا العَالِمِ ، بِأدَاءٍ أقْرَب إلى الشَّطحِ الصُّوفِيِّ ، منْ التَّحلِيقِ السِّريالِيِّ ، كقولِهِ : " قَالُوا : هُنَا يتقلَّبُ الأزْرَقُ انْقِلابًا فَانقلبْتُ ، قَالُوا : هُنَا بَلحٌ لِلإثمِ الجَمِيْلِ ، قَضَمْتُ بَلحًا لِلإثمِ الجَمِيْل قَالُوا : الآنَ تأتِيكَ القُرُنْفَلُةُ الزَّرقَاء . خَرَجَتْ المَرْأةُ اللونيَّةُ منْ خَيْمَةٍ وَطِيْئَةٍ على جَبَلٍ وَطِيءٍ ، في بدنِهَا نَايٌ منْ البُوصِ الثَّقيْلِ ، وَقالَتْ : ألقَاكَ على كلِّ جَبَلٍ خَلاصًا. فكُنْتُ ، وَالبدو في ثِيَابِي ، أتَرَجْرَجُ في سَائلٍ يَصُبُّونَهُ منْ قدورِهِمْ مَخْلُوطًا في البَلحِ المَعْجُونِ بِالأعَضْاء ." وَثمَّةََ اسْتِخْدَامَاتٌ مُتعدِّدةٌ للسَّردِ – مِنْهَا سَرْدُ الشَّطحِ الصُّوفيِّ ، وَسَرْدُ الكَرَامَاتِ ، وَسَرْدُ الحَدِيْثِ النَّبويِّ الشَّريفِ - وَمِنْهُ حَدِيْثُ شَقِّ الصَّدرِ – في تَشْكِيْلِ أسْطورَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، وَمنْ أشْكَالِ الأسْطورَةِ أيضًا ، تمثُّلاتُ المَعْشُوقَةِ ؛ الَّتي تتبدَّى أسْطوريَّةً ، وَتَتَلاشَى أسْطوريًّا ، مُجَسِّدةً مَزيجًا مَلائِكيًّا شَيْطانيًّا ؛ مُتَمَسِّكةً بطبيعَتِهَا الطِّلِّسمِيَّةِ حِيْنَ تطلُبُ منْ العَاشِقِ ألاَّ يَبُوحَ بسرِّهَا : " قَالَتْ : لا تُسَمِّنِي عِنْدَ الجَنَائِن فَعَرَّيتُهَا وَصِرْتُ أرْشُقُ القَنَادِيلَ في لَحْمِهَا الوَطَنِيِّ حَتَّى صَارَتْ جُمَّيزَةً لِلقَنَادِيْلِ الحَالِكَة ."
-6-
احْتِوَاءُ بنيَةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ الغِنَائيِّ الدِّرَامِيِّ المَلْحَمِيِّ المُتَدفِّقِ على بنيَةِ الشِّعرِ المَقْطَعِيِّ المُكثَّفِ ؛ الَّتي تَتَّخِذُ الصُّورَةَ المَجَازيَّةَ شَكْلاً لهَا ، كَمَا في قولِهِ : " نَخْلَةً تَخْرُقِيْنَ السَّقيفَة وَتَقْضُمِيْنَ تُفَّاحَةََ التَّراجِيديّ ." كَمَا تَحْتَوى بنيَةُ شَكْلِ الشِّعرِ الحُرِّFree verse سَرْدًا يُشْبِهُ وَصْفَ الجَنَّةِ ، في التُّرَاثِ الدِّينِي ، وَهُوَ مَا يَحْدَثُ مَعَهُ الانتِقَالُ منْ شَكْلِ الشِّعرِ الحُرِّ إلى شَكْلِ قَصِيدَةِ النَّثرِ Prose poem ، كَمَا في قولِهِ : " كَانُوا أمَامَ أُفقٍ يقفون : جَاءَتْ بَنَاتٌ قُرْمُزيَّاتٌ عَاريَاتٌ يَتَقَاذَفْنَ أثدَاءَهُنَ المُضَاءَة ضَوْءًا : تَحْتَ كُلِّ بِنْتِ غَجَرٌ سُوْدٌ ضَاحِكُونَ يَخُبُّونَ في أحْوَاضٍ منْ النِّعنَاعِ المَطْبُوخِ ، وَفَوْقَ كلِّ بنْتٍ كُتلٌ منْ الكَونِ المُلَّونِ وَخَرَزٌ ضَخْمٌ سَاطِعٌ ، وَأمَامَ كُلِّ بنْتٍ مَآذنُ مَبْلُولةٌ وَمَنَاديلُ مَخْلُوطَةٌ بسَائلٍ يُشبِهُ زَيْتَ القنَادِيْلِ الَّتي تكونَ في الأضْرِحَةِ وَوَرَاءَ كُلِّ بنْتٍ مَرْجُ حِنَّاءٍ يَتَرَجْرَجُ ضَاربًا أدْبَارهُنَّ ، فَيَضْحَكْنَ مَائِسَاتٍ ، وَالغَجَرُ السُّودُ يَضْحَكُونَ مَائِسِيْن ." ويُبْرزُ هَذَا الأدَاءُ تنوُّعَ آليَّاتِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، وَتعدُّدِهَا ، كَمَا يَبْرُزُ هَذا التَّعدُّدُ – أيضًا – على المِحْورِ الإيقاعِيِّ ؛ فمِنْ الإيقَاعِ المَنْبُورِ المُكثَّفِ في جُمَلٍ قَصِيْرَةٍ ، إلى الإيقَاعِ المُمتدِّ ، المُتَوَاصِلِ ، في سطورٍ تنتهِي بانتِهَاءِ الدَّفقةِ ، وَتَتَضَمَّنُ البنيَةُ الإيقاعيَّةُ لِنَصِّ (الصَّيف ذُو الوَطْءِ) تَعَاضُدَ النَّثريِّ وَالوَزْنيِِّ ، في بنيَةٍ إيقاعيَّةٍ خاصَّةٍ ، تعتمدُ إيقاعَاتِ النَّثر في تَشْكِيْلِ بِنْيَتِهَا الإيقاعِيَّةِ .
-7-
بنَاءُ الصَّورَةِ السَّرديَّةِ ، بِأدَاءِ الشَّطحِ الصُّوفيِّ ، وَظِلالٍ سِريَاليَّةٍ ، كَمَا في قولِهِ : " دَهَنْتُ بالحَليْبِ جِلبَابِي وَجِسْمِي ، وَسِرْتُ حَتَّى آخر الرَّملةِ وَالارْتِعَاشِ ، ثمَّ التفتُّ كَانَ مَا يَزَالُ رَاقِصًا عِنْدَ : صُبَّتْ فقُلتُ بغتةً : أنْتَ علي قنديل ." وَأحْيَانًا يَتمُّ بنَاءُ الصُّورَةِ السَّرديَّةِ بوَعْي الأسْطورَةِ وَالسِّريَاليَّةِ وَالشَّطحِ الصُّوفيِّ مَعًا ، كَمَا في قولِهِ : " مَزْرُوعَةٌ خُطَايَ في تهدُّجِ الرِّثاءِ . طَلَعَ جِسْمٌ نَحِيْل ، وَصَارَ يَكْبُرُ حتَّى اسْتَوَى في سَمَاء : لا يَفْهَمُ المُلوكُ وَالأباطِرَةُ مَاسِكًا جَرَّةً مَثْقُوبةًَ تَنِزُّ حَلِيبًا مُخْضَرًّا وَفي إشَارَةٍ دَالةٍ يَخْتَتمُ الشَّاعرُ السَّاردُ نَصَّهُ ( دَهَاليزِي) بقولِهِ : " انْفَضَحَتْ رمُوزي وَأُفْرِغَتْ خَزَانَتِي المَكْنُوزَةُ وَهَا أنَا أخْتفِي في : لَكُمْ ." ليُجَسِّدَ- بهَذَا الفَنَاءِ الصُّوفيِّ ؛ فَنَاءِ الوَاحِدِ في الكُلِّ – خِتَامَ الأدَاءِ الدِّراميِّ المَلْحَمِيِّ ؛ غَيْرَ أنَّ الرّمُوزَ لمْ تَنْفَضحْ ، وَظَلَّتْ على اسْتِغْلاقِهَا السِّحريِّ ، في خِطَابٍ لا يكُفُّ عنْ الإشْرَاقَاتِ وَالإضَاءَاتِ ، مُؤكِّدًا على قِيْمَةِ التحَّقُّقِ الفِيزيقيِّ للغَةِ. وَفي مُقابلِ تنوُّع الأدَاءِ الشِّعريِّ ، في (دَهَاليزي) بَيْنَ الغِنائِيِّ وَالدِّرامِيِّ وَالمَلْحَمِيِّ ، يُهَيْمِنُ في (الصَّيف ذُو الوَطْءِ) الأدَاءُ الغِنائِيُّ ، ذُو الطَّابعِ السَّرديِّ ، في كثيرٍ منْ الأحْيَانِ ، وَيَتَخَفَّفُ - هَذَا النَّصُّ الأخِيْرُ- منْ التَّكثيفِ المَجَازيِّ ، لِصَالِحِ الغِنَاءِ السَّرديِّ ، وَعلى الرَّغمِ منْ خصوصِيةَِّ كلِّ نَصٍّ منْ هَذيْنِ النَّصّينِ الشِّعريَّينِ ، فإنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ في اسْتِخْدِامِ بَعْضِ الآليَّاتِ في إنْتَاجِ شِعريَّةِ النَّصِّ ، يَقِفُ في طَلِيعَتِهَا ، التَّشديدُ على سِحْريَّةِ الأسْطورَةِ ، وَالامْتِدَادِ المَلْحَمِيِّ لِلنَّصِّ ، وَالفَنَاءِ الصُّوفيِّ ، في خِتَامِ النَّصّينِ .
#شريف_رزق (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجرب
...
-
شِعريَّة الأداءِ السَّرديِّ في تجربةِ مُنْذر مِصْري الشِّعري
...
-
كثافة الحضور الإنساني والشخصي في تجربة وديع سعادة الشعرية.
-
آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
-
الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
-
مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
-
النَّثرُ الشِّعريُّ
-
الشِّعرُ المنثُورُ
-
النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
-
النَّثْرُ الفَنيُّ
-
شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
-
فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
-
الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
-
شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
-
شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ
...
-
شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
-
شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
-
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
-
عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
-
شِعريَّةُ قَصِيدَةِ النَّثرِ
المزيد.....
-
من فاغنر إلى سلاف فواخرجي: ثقافة -الإلغاء- وحقّ الجمهور بال
...
-
سيرسكي يكشف رواية جديدة عن أهداف مغامرة كورسك
-
الأفلام السينمائية على بوصلة ترمب الجمركية
-
الغاوون:قصيدة (وداعا صديقى)الشاعر أيمن خميس بطيخ.مصر.
-
الشَّاعرُ - علاَّل الحجَّام- فِي ديوان - السَّاعَةِ العاشِق
...
-
محمد الغزالي.. الداعية الشاعر
-
تحقيق المخطوطات العربية.. بين إحجام العالم وإقدام الجاهل
-
رواية -نيران وادي عيزر- لمحمد ساري.. سيمفونية النضال تعزفها
...
-
فنانة تشكيلية إسرائيلية تنشر تفاصيل حوار خطير عن غزة دار بين
...
-
مغني راب أمريكي يرتدي بيانو بحفل -ميت غالا- ويروج لموسيقى جد
...
المزيد.....
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|