|
ملامح التجربة وتشكلات الخطاب عند محمد بنميلود الشعرية
شريف رزق
الحوار المتمدن-العدد: 4736 - 2015 / 3 / 2 - 17:30
المحور:
الادب والفن
يكشف الخطاب الشعري لمحمد بنميلود عن صوت شعري باذخ، شديد الالتحام بتجربته الحياتية المعيشة، منها ينتقي مفردات ولقطات عالمه الشعري، ويؤسس نسيج خطابه الشعري الخاص. تحضر سرديات الحياة المعيشة، بمشاهدها الحقيقية النابضة وتفاصيلها الخاصة، وتحضر الذات الإنسانية بينها، ذات بسيطة كادحة موحشة في جحيم المدينة، ذات تتمسك بوضعها الهامشي، جانحة إلى التمرد والصعلكة، وثمة نزوع واضح إلى سرديات حياة البسطاء، وثمة تواشج عميق بين المعيشي والشخصاني، في الخطاب، واحتفاء بجماليات الوضوح وشعرية التقرير، وجسارة على فخاخ المباشرة، ويتبدى الخطاب الشعري عاريا من الزخارف المحددة، ملتحما بحركة التجربة المعيشة، وفي نصوص بنميلود ما يشدد على انتمائه الإنساني والجمالي، ومن ذلك قوله :
أنا شاعر من الطبقة الغاضبة» من العمال المسرحين من الخدمة والجنود الذين يكرهون الجنرالات والنجارين الذين لا يملكون ورشة ولا أدوات نجارة واليساريين المتطرفين الذين أنهكت الزنازين السرية أجسادهم ولم تنهك أرواحهم والمهندسين المدمنين على المشروب والمهدئات المهندسين النحيفين الانطوائيين الذين بلا عائلة يتركون رسومات العمارات تنهدم في الورق الشاسع فوق حياتهم البئيسة وينزوون في نظرة عصابية صالبين سواعدهم حول سيقانهم كالأسرى كي يهندسوا مبنى عاليا ونحيفا من ألمنيوم الفضاء بمشنقة ناعمة للعالم كجديلة المومس أنا شاعر من أولئك الرجال الصموتين الكتومين الميؤوس منهم ذوي العيون الصغيرة المريبة والنوايا الغامضة أكره الفلسفة والفلاسفة والمثقفين والشعر البطولي واللف الكثير والدوران قبل قول الحقيقة كلامي مسنن وواضح كرمية النبال وحياتي قصيرة وسريعة كالطريدة لا أحب الميتافيزيقا ولا أرتاح كثيرا لرفقة الملائكة في طريق بعيد ولا في غابة حين أرى السماء فأنا أرى السماء سحبا وغماما وطيورا مهاجرة وطائرات حرب لا أرى شيئا آخر غير مرئي وحين أكتب الشعر فأنا أكتب الشعر كمن يحكي حياته لرفيق حياته التي كانت حذرة ككلبة حبلى في أحياء الصفيح العملاقة حيث التهوية سيئة والبنات جميلات والسرقات مشاعة بين الناس كالنصائح ومن هناك الشرف يطل بجبن على الزقاق المظلم الخطير فيعود أدراجه مدحورا إلى مدن الفضيلة حياتي السيئة التي كانت بين عمال مسرحين من الخدمة دون معاش وجنود يكرهون الجنرالات ونجارين أصحاب نكتة لا يملكون ورشة ولا أدوات نجارة ويساريين متطرفين أنهكت الزنازين السرية أجسادهم ولم تنهك أرواحهم ومهندسين وسيمين انتحروا نشرب الشاي البارد من كأس واحدة وأنا أحكي لك حياتي يا رفيق كأني أكتب الشعر».
ثمة ولع واضح بالتوسع في التفاصيل الحياتية المعيشة؛ التي تمنح النص انتماءه إلى فضاء مكاني محدد، وتمنحه خصوصية الحياة، يصبح النص فضاء معيشا يتبدى فيه أناس حقيقيون، في لقطات مكثفة ودالة، ويلتمس النص خصوصيته من التحامه الكامل بهذا المعيش، يحضر الفضاء المكاني، بملامحه وأشيائه وشخوصه وكائناته، على نحو كثيف، في جزئيات معيشة تتلاحم؛ لتشكل فضاء النص، وفي نص شعري آخر دال على هذه الطبيعة الجمالية وانحيازاتها، يقول بنميلود: «لم أر أبدا في حياتي عندليبا، ولم أسمع صوته؛ لذلك لا أستطيع أبدا استعمال كلمة عندليب في قصائدي. كل ما رأيته في حياتي هو شظايا الزجاج الخضراء الحادة، الملقاة في طريق الحفاة، ولأنني شاعر رأيت الأقمار معكوسة فيها. أكتب أشعارا من دون عنادل، ومن دون سوسن، ومن دون أوركيد، ومن دون بيانو، ومن دون مرمر، ومن دون تاج فوق رأس الملوك، ومن دون لغة. أكتب بالمتلاشيات وبالبقايا، بعروسة القصب، بسدادات قناني الزيت التي تصلح عجلات للكون، بسكين مقص الأظافر، بسلك ناتئ من نعش، وبشق صغير في جدار غرفة العجوز التي بلا أحفاد، الشق الذي تبيت فيه الدوريات. أنت تحدق فقط بعيدا، بينما أنا دقيق جدا وضئيل يا صاحبي، كحبة غبار، إن لم أدخل في عينك، فلن تراني». هو إذا شاعر ما يعيشه بالفعل، والمخيلة لا تنفصل عن هذا الفضاء، بنثارات هذا المشهد، يتأسس الخطاب؛ كخطاب هامشي أيضا، ينتمي إلى حياة حقيقية أخرى، ويفي لجمالياتها وبلاغتها، ويلتقط من منطقة الموانئ، التي نشأ فيها، عناصر تشكيل خطابه الشعري الدال، في نبرة شعرية حادة، وأداء كثيف الشعرية:
«ولدت بلا إخوة في الحي الخطير كان عليّ أن أدافع عن نفسي بأظافر قطة الميناء أن أصطاد سمكة الفضة الجميلة التي في بؤبؤ عين الحياة وأن أترأس عصابة الصبية والآن أيضا لا شيء في العالم يتغير بعد مرور الحقب سوى انهيار الإمبراطوريات وتفرق الصحاب بين القارات ملاحقين الغبار وحيدا وبلا إخوة في مواجهة العالم ليس في يدي سوى سكين الخضار نصف الحادة وليس في عينيّ سوى غيوم الشعر تتحول سريعا إلى بكاء كلما نظرت خلفي رأيت الأفق حزينا كبحة الراقصات «
إن لغة بنميلود الشعرية لغة مدببة، لغة شفاهية شديدة التكثيف، لغة شخصية جسدانية وحياتية، لغة الحياة المعيشة في التحامها بالتجربة الإنسانية المتوقدة، في حضور منتخب بدقة ومقتصد، لغة تنزع إلى السرد البصري، وشعرية السير ذاتي، وتفاصيل عوالم المهمشين والبسطاء، في خطاب واضح الكثافة، كما في هذا النص:
« أسكن في حي شعبي ضاج بالأطفال والباعة ومصلحي الروبابيكيا ومشتري المتلاشيات والكوايين الجوالين والبراحين وثقابي آذان البنات الصغيرات بماكينة يدوية غير مرخصة من أجل أقراط جميلة وفالصو
رقم بيتي هو 04 قبالة بيت أرملة مشلولة لا تخرج لترى ضوء النهار إلا نادرا محمولة على عربة أساعد أحيانا في حملها مع شباب الحي العاطلين إلى الشارع المحفر ثم كل مرة يدفع بها العربة متطوع جديد
في الصباح توقظني عصافير الدوري غير الملونة وماكينة ورشة حدادة ليست بعيدة قرقعة ناعمة للحديد على الرصيف المقابل هي ما يوقظني الحلاق أيضا يحب رفع صوت المسجلة إلى أقصاها كي يسمع الجميع القرآن بصوت عبد الباسط إذ لا أحد يحلق شعره في الصباح الباكر أنا لا يزعجني ذلك بل أجد صوت عبد الباسط هو الأفضل إضافة إلى صوت سيد مكاوي خصوصا في الصباح عند الحلاقين أطعم الدوريات من قمح كتاكيت أمي وأكتب الشعر العاق كل يوم أمدح بالأشعار الطويلة عمي المنسي الذي كان إسكافيا ذا شأن في ما مضى وبناء مداخن عالية أمجده علنا في كل ما أكتب وأهجو الملوك والسلاطين والأبطال لسبب ما ودون سبب والآن إن كنتم تريدون قتلي ها أنتم تعرفون عني كل شيء وتعرفون الرقم 04 الذي هو رقم بيتي في الحي الشعبي الخطير المزدان بالجريمة حيث موت شاعر مغمور لن يحزن سوى الدوريات».
ويذكر بنميلود، بنبرته الشعرية المتمردة الحادة الكثيفة – تأكيدا على انحيازاته ورهاناته، وطعنا في زيف النخب الاجتماعية – أسلافه من المهمشين، العظام ؛ الذين كانوا يجوبون البلاد ؛ فقراء مبدعين، وكانوا يخوضون الحروب، ويصنعون تاريخ البلاد:
«هذه البلاد تحتاج إلى مواطنين صالحين فاسيين أصليين ورباطيين أصليين ومتحذلقين بسحنات مهقاء وطرابيش أما أنا فأنحدر من الشعاب الموحشة من أشواك الطلح والجرنيج من سلالة نبيلة من الفقراء الأصليين والدراويش والمجانين والمتمردين الفوضويين تصل بنسبها الشريف إلى شاعر جوال هو جدي الأخير الذي يتذكرونه كان يطوف جبال الأطلس الشاهقة بالربابة متنكرا في زي سحابة لن تمطر يشارك الرحل حروبهم الاستنزافية الطويلة والمجانية».
على هذا النحو من تواشج الحياتي المعيش مع الإنساني الشخصاني الحميم، يتشكل خطاب محمد بنميلود الشعري – الذي لم يصدر كتابه الشعري الأول بعد – ويؤكد خصوصية نبرته الشعرية، في صعوده إلى المشهد الشعري الجديد، في طليعة جيله الحافل بوعود باذخة .
#شريف_رزق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دَهَاليز حلمي سالم وَالصَّيفُ ذو الوَطْءِ
-
شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهيِّ في تجرب
...
-
شِعريَّة الأداءِ السَّرديِّ في تجربةِ مُنْذر مِصْري الشِّعري
...
-
كثافة الحضور الإنساني والشخصي في تجربة وديع سعادة الشعرية.
-
آليَّاتُ الخِطابِ الشِّعريِّ في تجربة صلاح فائق الشِّعريَّة
-
الدِّيوانُ النَّثريُّ لأبي القاسِم الشَّابيِّ
-
مُشْكِلاتُ قصيدَةِ النَّثرِ الرَّاهِنَةِ
-
النَّثرُ الشِّعريُّ
-
الشِّعرُ المنثُورُ
-
النَّثرُ الصُّوفيُّ الشَّعريُّ
-
النَّثْرُ الفَنيُّ
-
شِعريَّةُ النَّثرشِعْريِّ
-
فَضَاءٌ آخَرٌ ، لِشِعْريَّةٍ أُخْرَى
-
الشِّعريَّاتُ الأساسيَّةُ في قصيدَةِ النَّثرِ العربيَّةِ
-
شِعريَّةُ السِّيرذَاتيِّ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّة
-
شعريَّةُ الغنائيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ المِصْريّ
...
-
شِعريَّةُ الغُرفَةِ في قصيدَةِ النَّثر المِصْريَّةِ
-
شِعريَّةُ المدينَةِ في قصيدةِ النَّثر المصْريَّةِ
-
المفاهيمُ النَّظريَّة للأنواعِ الشِّعريَّة في شِعرِ النَّثرِ
-
عَذَابَاتُ التَّجربَةِ الإنسَانيَّةِ في وَحْشَةِ العَالمِ
المزيد.....
-
شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى هجوم 7 أكتوبر
-
-يلا غزة-.. فيلم يروي صمود وأحلام الفلسطينيين رغم الحصار وا
...
-
القاص سعيد عبد الموجود فى رحاب نادى أدب قصر ثقافة كفر الزيات
...
-
مهاتير: طوفان الأقصى نسف الرواية الإسرائيلية وجدد وعي الأمة
...
-
باللغة العربية.. تعليق -هزلي- من جيرونا على تصدي حارسه لثلاث
...
-
ميكروفون في وجه مأساة.. فيلم يوثق التحول الصوتي في غزة
-
عبد اللطيف الواصل: تجربة الزائر أساس نجاح معرض الرياض للكتاب
...
-
أرقام قياسية في أول معرض دولي للكتاب في الموصل
-
” أفلام كارتون لا مثيل لها” استقبل تردد قناة MBC 3 على الناي
...
-
جواهر بنت عبدالله القاسمي: -الشارقة السينمائي- مساحة تعليمية
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|