أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان جاسم - كتابة على جدران المدن المستباحة-8















المزيد.....

كتابة على جدران المدن المستباحة-8


قحطان جاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4689 - 2015 / 1 / 12 - 23:07
المحور: الادب والفن
    


كتابة على جدران المدن المستباحة

(8)

كم هي صعبة الكتابة، بمعنى ان تمنح ارتعاشة اصابعك واوجاعك للورقة، وتهرول خلف خيالك كي تقتنص فكرة ، نغمة، ضحكة وربما مشهدا لوداع لا يريد ان يغيب. وفي هذه الكتابة تسعى لتؤسس فيها بعض ايامك الهاربة ، احاسيسك واوهامك المهشمة وتفيض فيها كينونتك .. انت تعرف ان اللغة وعاء الممارسة الانسانية، غابة الدفء السحرية التي لا يطالها سوى السحرة اوالفوضويين والشعراء. وما يتبقى على الارض " يؤسسه الشعراء " كما قال الشاعر الالماني هولدرين.
وللاسف وبحرقة قاتلة اقولها " لست بشاعر"..بي شيء شبيه بذلك: دفق من الألم، مزقٌ من الخوف المتبعثرة وحاشية من الدموع، هوامش من تفاصيل أمحت بعض بهائها..ودهشة لا تزال ماثلة في غور الروح. بي شيء من ذلك، لكن ما ادريه ليس بالشعر! فالشعر هو ما يأتي عصيّا من أقاصي الجسد، نوافذه الخمسة، من ذلك الجلال الخفي الخافق بين جوابنها ..كم هي شاقة إذن الكتابة، حينما تنوي أن تكتب الى صديق، تقودك بعض الرغبات ان تعيش معه لحظات قصيدة فوضوية معه..قصيدة متحفزة للأتلاف مع الكون و ترفض الانصياع الى الخوف..كتلك القصائد التي كنا نكتبها ونقرأها في مقهى ابي سعد في باب المعظم..مع اصدقائك : جلال ، موفق، ناظم ، وصفي ، رزاق وغيرهم؟ بعضهم قتلهم النظام؟ هل تتذكرأبا سعد ؟ هذا الرجل الذي كانت له القدرة على ان يشتّم حقيقة الناس. فقد اكتشف بعد عدة ايام على ارتيادي للمقهى ان ملابسي الجامعية وكتبي الطبية لم تكن سوى كذبة مزورة.. فراح يبدي اهتماما ..تعارفنا دون ان ندخل في تفاصيل ما..واتفقنا دون وعود اخلاقية. كان يحذرني كلما احس خطرا ما فاذهب الى الجهة الخلفية للمقهى..هل تتذكر "ابو سعد"، حين اخبرته قبل ليلة واحدة انك ستغادر بغداد في وقت مبكر ليوم غد ، وان غيابك سيطول، وربما سيكون ابديا، لا لقاء بعده. لم يطرح اسئلة او يعلق على شيء، لكنه طلب منك أن تبيت تلك الليلة عنده في المقهى، وان يعزمك على عشاء وداع ..كنتَ مترددا جدا فرغم ثقتك المتناهية بأبي سعد، لكن الظروف والوضع آنذاك طوّر عندك حاسة غريبة : الشك ! لكنك في النهاية قبلت بعد ان قلّبت كل الاحتمالات في رأسك.حضرت في تلك الليلة بعد الساعة الثانية عشر ليلا، اغلق ابو سعد باب المقهى واسدل ستائرها. كان قد أعد مائدة متنوعة من الطعام كما دعى فرقة موسيقية صغيرة، كانت تعود الى أصدقائه. فقد كان يعرف حبك للمقام العراقي. شربنا تلك الليلة، أكلنا وضحكنا كثيرا، وعند الساعة الرابعة ودعت ابا سعد..عانقك، ذرف دمعتين، وطبع قبلة على وجهك، وقال لك: أعرف انني لن التقيك بعد اليوم، فلا توعدني، لقد ودعت عديدين قبلك. كان عليك قبل ان تذهب الى المكان الذي ستنطلق منه الى كردستان فيما بعد، قرب اكاديمية الفنون الجميلة، الذهاب لتوديع صديقك ماجد، الذي كان يسكن في فندق وضيع وقذر..الشاب الأشيب الشعر، جميل الروح ، الذي كان يعمل نجارا في محل يقع تحت الفندق في نفس الزقاق، لا يبعد عن المقهى الا امتارا. كنت أبيتُ ليال عديدة عند ماجد في هذا الفندق..كان حجم غرفة ماجد يساوي تقريبا السرير الذي ينام عليه ..ولذلك كان عليك عندما تبيت عنده ان تنام تحت السرير بعد ان تجتازالعقبة الكبرى؛ صاحب الفندق السمين والذي يقع مكتبه في مدخل الفندق. كان ماجد يقف في باب مكتبه ويسد عليه كل رؤية، فتمر دون ان يلمحك صاحب الفندق ..ولحسن الحظ ان سمنته كانت تمنعه من تتبع نزلاء فندقه...كثيرا ما غنينا وسكرنا وضحكنا وكأننا في فندق خمسة نجوم ونتمتع بحرية كاملة . كان لدى ماجد دفترا تقاعديا من الخدمة العسكرية مزورا اتاح له العمل والسكن دون مشاكل، بينما كان وضعي ملتبسا. تركت له قبل الوداع بعض الملابس وعددا من ملاعق الشاي التي كنا نسرقها من البارات ونحن نغرق في الضحك. كان وداعا سريعا وبدون كلام. في تلك الليلة ايضا كنت أخذتَ معك جنان جاسم حلاوي، كي تخلصه ربما من موت اكيد. لمن ستكتب الى أبي سعد ام ماجد ؟ ..وكيف ستكتب؟ ومن اين تبدأ؟ ومن سيحمل رسائلك؟
كم صعب ان تقول لهما وجمرة في الفم : الارض واسعة والخطى منفى والرحيل مسافة للتيه..! كم صعب ان تبث هواجسك المجنونة التي تحتويك الآن بعنف، فتتمنى ؛ " ان السماء لا تكون قريبةٌ ولا ارضي بعيدة ! "
ولماذا تكتب اذا كانت الرسائل لا تأتي، رغم انك تعرف ان لكل الاشياء رسائلها. ولم لا يوقف احبتك الزمن لحظة في السطور ، قد تكون ارتعاشة، أمنية ، هوسا ، كذبة فيكتبون لك.. وهم يعرفون انك لا تجيد سوى كتابة الرسائل..لكن الرسائل لا تأتي ..!!
كم صعب أن تبدو للآخرين غريبا ، صامتا، في حين ان كل ما فيك يفيض جنونا ورغبات وإلفة ..كيف لي أن اترجم لهم :
ولو تزعل
ولو ادري
العتاب يعذب الخاطر
لكن لا
ماخلي خصامي يطول للاخر
نتعاتب على المكشوف
وبعينك أكللك شوف
خلص عمري
وصفيت بعشرتك خاسر..!
كيف لي فالنار غير قابلة للترجمة الى الماء.
الطرقات خالية ولا أيدي تلوّح كلما عبرنا محطة او مدينة. المراثي كثيرة. أي منها سيقينا من المحنة ورمل الويلات. اي الجسور سنسمع في صدأ مساميرها صدى خطانا، او طفولة مدننا التي خربتها الحروب، عفونة الساسة، والخيانات اليومية. اي الامطار سيغسل عنّا عذابات بلاد تلاحقنا . كان الشاعر عبدالامير الحصيري محقا ذات يوم، حينما صرخ وهو يجلس ثملا حدّ الفجاجة، مستجديا تحت جدارية جواد سليم، وقد استفزه شرطي من المارة: أمطري، امطري ..أن ماءك ، ايتها السماء الساخرة فوقي ، لا يغسلنا ..نحن لا نغتسل الا بالدم او الطين !!" ربما كان الحصيري يقصد ، على ما اظن " طين الحرّي".. ولا اعتقد ان لغة في العالم يمكنها ان تنقل في حسيّتها مفردة " الحرّي " التي تفيض منها عراقية خاصة.
والرسائل لا تأتي ، حتى غفلة :
احجارة جفني وما غمض !
وأنّى له أن يغمض ؟
فماذا لو تكتب لصديقك و تقول له: لا بأس ان تتوسل لاصابعك، وهي تمانع عن الكتابة، وان تخبرها: أن الجميع كفوا عن الكتابة ، واخبرها علنا، ان الرسائل لا تأتي، واذا تمنكت فأمرها أن ترتعش لحظة فربما تكتب سهوا شيئا ما ، ولتكن شتيمة ، لاني ادري ان شتائم القلب ليست سوى شارات للمحبة والوفاء.

دمشق- سوريا آذار. 1985



#قحطان_جاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتابة على جدران المدن المستباحة
- آصرة الحكمة والشعر في ديوان -خارطة اللون..قبعة السماء- لسمية ...
- تصريحات بابا الفاتيكان وإصلاح الدين الاسلامي ؟
- -الانسان الضيق الافق-
- المفكر الدانماركي الوجودي سورن كيركگورد (1813-1855) و الفيلس ...
- حشود عاشوراء والاستخدام المزيف لها من قبل قادة الاسلام السيا ...
- تجربة اليسار في اميركا اللاتينية: هل تصلح دليلا لاصلاح اوضاع ...
- غيمة تتدحرج على نافذة
- هل سيعمق انخفاض اسعار النفط الصراع السياسي في العراق ؟
- هل يحتاج الانسان الى وساطة آيات الله و المشايخ والملالي وفتا ...
- شبح ماركس ودموع فقراء العالم...!
- فكرة الموت في ديوان - حين أستيقظت ميتا- لعلي رياض
- المفكر الدانماركي سورن كيرككورد ، الاسلام الجماهيري و طقوس ع ...
- آخر المرثيات
- المدينة- الثكنة
- كلّ يحمل آثامه
- مدوّنة الألم
- -القراصنةُ ما غادرونا !-
- المفكر الوجودي الدانماركي سورن كيرككَورد وصراعه ضد الدين الأ ...
- الماركسية ليست إيمانا، بل فكر قابل للمناقشة والتعديل .!


المزيد.....




- فنان فلسطيني يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحاته (ص ...
- فنان فلسطيني روسي يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحا ...
- هيبقى فيلم جباااار..حقيقة تحويل لعبة جاتا لفيلم سينمائي في ا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان جاسم - كتابة على جدران المدن المستباحة-8