كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1301 - 2005 / 8 / 29 - 10:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قضية العروبة – ربما كسائر قضايا المنطقة – نادراً ما يتم تناولها بهدوء وعقلانية، تكفل للحوار نتائج إيجابية، بمنأى عن عواء ذئاب العروبة، التي تحطمت سفينتها على صخور شواطئ الكويت مع المغامرة الصدامية، وجمعت أشلاءها الطافية على أمواج بيروت، لتحرق في احتفالية لعب المجتمع الدولي فيها دور العراب، فيما فلول البعث تغادر شرقاً إلى آخر معاقلها، وبعدما صارت في كل بلد ضيفاً ثقيلاً غير مرغوب فيه، ومع ذلك فهو ينعم باحترام وتوقير، من قبيل الحياء أو الخشية، أو من قبيل البخل عليه برصاصة رحمة لا يستحقها!!
الإشكالية ليست في وفاة الإيديولوجية العروبية غير مأسوف عليها، وإنما فيما ترتب على ذلك من تيارات ودعوات فكرية، يتسم الكثير منها بالمراهقة، أو بملامح رد الفعل المضاد، فتلك الدعوات تعتمد ذات نهج الراحلة غير الكريمة، ليس فقط في تجاهل الواقع وتزييف التاريخ وإساءة قراءته، وإنما أيضاً في انتهاج ذات التوجه الفاشي والمعادي للآخر.
إذا كان السؤال هل نحن أمة عربية واحدة، فإن الإجابة بالقطع "لا"، فنحن أمم متعددة، مصريين وعراقيين وشوام وسودانيين ومغاربة. . . . . إلخ، فالمصريون أمة قبل أن يعرف التاريخ قوماً يسمون بالعرب، بأكثر من ثلاثة آلاف عام، بل هم أمة قبل أن تظهر على وجه البسيطة أمة أخرى، وأي ادعاء يجعل من مصر مجرد إقليم ضمن أمة من خليج إلى محيط، هو امتهان وتزييف للتاريخ، قبل أن يكون إهداراً لكل مقومات الواقع، وإذا كان الانتماء لهذه الأمة المزعومة شرف ما بعده شرف، كما تقول أدبيات البعث وسائر فلول القومجية، فإن المصري الأصيل لا يدعي لنفسه هذا الشرف العروبي الرفيع، ويكتفي بأن يكون مجرد مصري بن مصري!
فالأمة المصرية والدولة المصرية، ليست نتاجاً لاتفاقية "سايكس بيكو" مثلاً، ولا يكفي انتظامها في جامعة عربية، تأسست في أحضان الإمبراطورية البريطانية التي غابت عن أملاكها الشمس، لكي تتنازل عن هويتها الأصيلة إلى الأبد، فلابد لغبار الأكاذيب والادعاءات أن يتلاشى، لتلفظ الفقيدة أنفاسها بين أحضان السيد عمرو موسى، الذي مازال يرعاها وهي في حالة موت سريري، وهل فيما نقول مبالغة إذا كان أبسط ما قيل لنا كذب صراح، مثل ما يدعون من لغة مشتركة، رغم أن ما يسمى بالعربية الفصحى لم ولن تكون لسان أم لأي من شعوب المنطقة، فهي لغة ثانية نتعلمها في المدارس، ونفشل في إتقانها مهما بذلنا من جهد، والمصري البسيط إذا ما خاطبه متحذلق بالفصحى، لا يفقه حرفاً مما يسمع، ويبادره بالقول: كلمني عربي، فالعربي الذي يعرفه غير لغة قحطان وعدنان، لكنه لغة أخرى، هي مزيج من العربية ولغته الأصلية، مزيج لا تقتصر معالمه على مفردات من هنا ومن هناك، وإنما يمتد إلى تكون الجملة وشكلها.
لكن إذا كان السؤال هل هناك عوامل مشتركة بين مجموعة الأمم المحصورة أو المحاصرة بين الخليج والمحيط، فإن الإجابة بالتأكيد هي نعم، وأي قول خلاف ذلك، وأي دعوات انعزالية، تصور إمكانية النجاة من المأزق الحضاري الراهن، بصورة فردية لأي أمة من تلك الأمم، بغض النظر عما يحدث إلى جوارها وعلى حدودها، مثل تلك الدعوات يقال عنها نفس ما قلناه عن دعوة العروبة، وهي أنها تهدر التاريخ، كما تتجاهل حقائق الواقع.
في عصر صار العالم كله قرية صغيرة، كيف نتفق ومقولات المتبرمين بالعروبة وما جرت عليهم من ويلات، بوجوب تجاهل الدول العربية تجاهلاً تاماً، والنأي عنها قدر المستطاع، رغم أننا لا يمكن أن نتخلص من الإرهاب مثلاً إلا إذا تم اقتلاع جذوره من السعودية واليمن والأردن وكل الدول المحيطة، ناهيك عن سائر إمكانات التعاون المفتوحة، بين سائر دول المنطقة، وفيما بينها وبين العالم، فقط إذا ما ودعنا إلى الأبد الروح العدائية للآخر، والتي رسختها عقود من دعوة العروبية والقومجية.
الواقع أن هنالك خلطاً في ذهن الكثيرين من المصريين، ممن ضاقوا بخطاب العروبة ومعاركها الفاشلة أبداً، خلط بين العرب والعروبة، رغم أن العرب، سواء بالمفهوم العرقي الضيق، أو بمفهوم ثقافي موسع يشمل العديد من الشعوب التي قد ينطبق عليها الاسم بدرجة أو بأخرى، هذه الشعوب موجودة منذ آلاف السنين، قبل ظهور دعوة العروبة على يد القوميين العرب، ثم البعثيين والناصريين، ولو دقق هؤلاء النظر، ومدوا بصرهم واضطلعوا على الخطاب الحديث لعشرات المفكرين المعتبرين عرباً، لوجدوا أن هؤلاء يضيقون بخطاب القومجية العروبية مثلما نضيق تماماً، ونعني هنا بالتحديد تيار الليبراليين العرب الجدد، والذي يستشعر أفراده أخوة يمكن أن نسميها أخوة عربية من نوع جديد، حتى لو كان من بينهم من يرفض أن يعتبر عربياً بأي مقياس، ومن هؤلاء كاتب هذه السطور!!
البعض يتصرف كبندول الساعة، يهرب من أقصى اليمين، ليندفع إلى غياهب اليسار، يفر من العروبة إلى أحضان الفرعونية التي يكاد لا يبقى منها غير الأطلال الحجرية والمومياوات المحنطة، وبعض العادات والأسماء والكلمات القديمة، لا تقيم حياة ولا حضارة، البعض يتصرف كطفل يتيم، يهرب من أب غير شرعي ومزيف ومجرم تطارده العدالة، فيلوذ بقبر أبيه الذي مات وشبع موتاً، ولا يدرك أن مصيره برفقة هذا لا يختلف كثيراً عن مصيره في أسر ذاك، لا يدرك هذا الطفل أن الحياة أمامه ممتدة تفتح له أحضانها إذا ما واجهها بثقة وقلب وعقل مفتوح، وأنه ليس بحاجة إلى قحطان ولا إلى توت عنخ آمون!!
من نحن بالتحديد، هل نحن عرب أم فراعنة؟
قد نكون هذا، وقد نكون ذاك، وقد نكون بين بين، وقد لا نكون أي شيء من هذا على الإطلاق، لكن ما هو الفارق، وفي ماذا تفيدنا الإجابة، ولماذا لا نكون نحن هم نحن، هم هؤلاء الناس الموجودون هنا والآن؟ كل من ولد وعاش على هذه الأرض، ولا يعرف له وطناً آخر هو مصري، ما قيمة الانتساب لآباء وأجداد طواهم الزمن، ولا يملكون من أمرهم أو أمرنا شيئاً، أم هو ميراث نعرة التباهي بشرف النسب والمحتد العربية، والتي دأبت على الفخر بأجداد، حتى ولو لم ترق معارفهم وأخلاقهم كثيراً عن الدواب والضواري؟!
أليس من الأفضل أن نستبدل ذاك السؤال السخيف بسؤال آخر: ماذا نريد، وما هو شكل الغد الذي نريده لأبنائنا؟!
لو فعلنا ذلك ربما سنكتشف عندها أن جيراننا العرب، رغم أنهم ليسوا إخواننا من نفس الأب والأم، لكنهم أناس يمكن أن نتاجر معهم، وأن نتبادل المنافع، وأن علينا لكي يتم هذا على خير وجه، أن نساعدهم على التطور والتحديث، وأن نكون نافذتهم على العالم الحر والمتحضر، نمد له أيدينا بغصن الزيتون، وليس بالخنجر والحزام الناسف!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟