كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1298 - 2005 / 8 / 26 - 13:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
(نأسف لتأخر هذه الحلقة الأخيرة فى النشر)
عرضنا ، فى ما تقدم ، لموقف الاسلام من (الاستبداد) وتبريراته فى سياق بحث (الدولة) الدائب عن الغطاء الأيديولوجى للطاعة ، ثمَّ انتهينا إلى الصورة المخصوصة التى وردت فى الخطاب القرآنى بشأن (التعذيب) كوسيلة خسيسة لانتزاع (الاعتراف). وفى ما يلى نعرض لهذه الممارسة فى إطار أداء الدولة السودانيَّة ، وما ينبغى أن يكون عليه الموقف منها.
لا تنتطح عنزان حول أن (التعذيب) ، بشتى صنوفه الجسديَّة والمعنويَّة ، ظلَّ شائعاً فى السجون وحراسات الشرطة السودانيَّة على مرِّ العهود السياسيَّة. لكن لا تنتطح عنزان ايضاً فى أنه تفاقم ، خلال العقدين الماضيين ، ليتخذ ، منذ انقلاب الثلاثين من يونيو عام 1989م ، شكل الممارسة المنهجيَّة ، بخاصة ضدَّ المعارضين ، وبالأخص فى ما عُرف (ببيوت الأشباح) السريَّة سيئة السمعة. والمؤسف بحق هو اقتران ذلك (بالتمكين) للشريعة ، فى مصطلح النخبة الاسلامويَّة الحاكمة ، بما يصادم كلَّ قيم الاسلام الراسخة مِمَّا سلفت إضاءته.
وليت الأمر اقتصر على الممارسة وحدها! فالمُشرِّع (الاسلاموى) ذهب إلى أبعد من ذلك بأن أجاز للقاضى ، مثلاً ، ضمن المادة/10 من قانون الاثبات السودانى لسنة 1993م ، الصادر على خلفيَّة الاعلان عن تطبيق الشريعة الاسلاميَّة ، أن يأخذ بالبينة المتحصَّل عليها بوسيلة غير مشروعة ، أى .. ولو عن طريق (التعذيب)!
هكذا ، وفى سبيل (الحفاظ) على (أمن الدولة) ، يعمد المُشرِّع إلى مفارقة خط الشريعة الاسلاميَّة بالكليَّة ، بل وحتى خط الشريعة العامَّة الانجليزيَّة Common Law ، بتطبيقاتها الهنديَّة التى شكلت مرجعيَّة بناء الخبرة السودانيَّة فى مجالى التشريع والقضاء ، ليقتفى أثراً شاذاً فى القانون الأمريكى على القاعدة التى كرَّستها سوابقه الشهيرة فى ما يتعلق بقبول البينة: "لا يهم من أين تحصل عليها ، حتى لو سرقتها فإنها تظلُّ مقبولة
“no matter from where you get it, even if you steal it, it is still acceptable!
الأمر الذى يستحيل بالطبع ، وبأىِّ معيار ، نسبة شئ منه إلى مجرَّد الفطرة السليمة ، دَعْ الاسلام!
فى التاسع من يناير 2005م أبرمت (اتفاقيَّة السلام الشامل CPA) بين النظام والحركة الشعبيَّة لتحرير السودان ، لتحقيق هدفين: السلام والتحوُّل الديموقراطى. وقد قضت (المادة/1/6/2/4) من (بروتوكول تقاسم السلطة) و(المادة/33) من (مسودة الدستور الانتقالى) بأنه "لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ، أو لمعاملة أو عقوبة قاسية أو لا إنسانيَّة أو مهينة". كما قضت (المادة/1ـ7) من (بروتوكول تقاسم السلطة) ، و(المادة/9) من (بروتوكول أبيى) ، علاوة على (المادة/21) من (مسودة الدستور الانتقالى) بأن "على الدولة ابتدار عمليَّة شاملة للمصالحة الوطنيَّة وتضميد الجراح من أجل تحقيق الوئام الوطنى ، والتعايش السلمى بين جميع السودانيين".
ورغم أن مفوَّضيَّة الدستور قد أسقطت ، وبموافقة الحركة الشعبيَّة ، كلمة (عقوبة) من نصِّ المادة/33 ، وأن السودان لم ينضم ، بعدُ ، (للاتفاقيَّة الدوليَّة للحماية من التعرُّض للتعذيب) ، الأمر الذى يستوجب حملة قويَّة للدفع باتجاهه ، إلا أن هذه النصوص ، على علاتها ، تفترض (المحاسبة Accountability) تحت عنوان (العدالة الانتقاليَّة Transitional Justice) فى ما يتعلق ، ضمن قضايا أخرى ، بظلامات (التعذيب) التى ارتكبت فى حق الكثير من المواطنين خلال السنوات الماضية ، مِمَّا لا يجوز إهداره بدعوى عدم الانضمام إلى (الاتفاقيَّة)، وما أثبتت خبرات الشعوب أنه من غير الممكن ، أصلاً ، أن تقوم (للتحوُّل الديموقراطى) قائمة بدونه.
كان اهتمام المجتمع الدولى منصباً ، فى سبعينات وثمانينات القرن المنصرم ، على (تسهيل التقاضى access to justice) و(عدم السماح بالافلات من العقاب impunity) ، مِمَّا شكل مضمون خطاب (اللجنة الدوليَّة الفرعيَّة لحقوق الانسان) ، قبل أن يستصحب ، فى التسعينات، المستوى (الاقتصادى) أيضاً. على أن جدل التطوُّر الطبيعى لتطلعات (المجتمعات المدنيَّة) نحو (التحوُّل الديموقراطى) ، وصراعاتها مع (الأنظمة السابقة) التى لم يعُد بمستطاعها مواصلة السير بالطريق القديم ، من المغرب إلى تشيلى ، ومن جنوب أفريقيا إلى الأرجنتين ، قد أنتج ، مع الزمن ، خبرة (العدالة الانتقاليَّة) كأحد أهمِّ (شروط) هذا (التحوُّل) ، إن لم تعتبر (آليَّته) الأساسيَّة. كما وأن أعمَّ (المعايير الدوليَّة) الآخذة فى التبلور الآن ، وبالأخص من خلال توصيات العديد من التجمُّعات الحكوميَّة وغير الحكوميَّة ، لعلَّ أبرزها (كميونة الديموقراطيات Community of Democracies) ، صارت تشدِّد على أن هذا (التحوُّل) لم يعُد ، كما فى السابق ، محض (خيار) يؤخذ به أو لا يؤخذ ، تحت ستار ممارسة (السيادة) ، بل هو بسبيله لأن يتخذ ، عمَّا قريب ، ذات الوضعيَّة الالزاميَّة المرموقة التى احتلها ، منذ زمن بعيد ، (الاعلان العالمى لحقوق الانسان)!
لقد أفضت تجربة المغرب ، مثلاً ، إلى إحداث (التحوُّل) داخل بنية النظام نفسه ، على حين قطعت تجربة جنوب أفريقيا مع النظام السابق تماماً. لكن التجربتين انطرحتا من خلال الاشتباك مع السؤال عن دور المجتمع المدنى فى عمليَّة التحوُّل ، أو تجاوز (سنوات الرصاص) كما فى المصطلح المغربى ، بإدانة العنف ، وتفادى الانتقام ، واعتماد الوسائل الديموقراطيَّة السلميَّة وحدها فى تقصِّى (الحقيقة) ، وأداء (واجب الذاكرة) ، و(جبر الأضرار) الماديَّة والمعنويَّة ، (برد الاعتبار) للضحايا فى المستويين الفردى والجماعى ، وابتداع (الاصلاحات الهيكليَّة) الكفيلة بقطع الطريق أمام أىِّ انتهاك لحقوق الانسان مستقبلاً ، كشروط يستحيل بدونها إنجاز (الوفاق) أو (الوئام) أو (التعايش) أو (المصالحة) أو (تضميد الجراح) فى أىِّ بلد.
وإذن فمن غير الممكن عزل هذه المصطلحات عن سياقاتها التاريخيَّة التى رتبت للتلازم بين قضيَّتى (العدالة الانتقاليَّة) و(التحوُّل الديموقراطى). وقد استقرَّ الاتجاه الحديث على اعتبار أن أضرَّ ما يضرُّ بهما هو التعاطى معهما كمحض ذرِّ للرَّماد فى العيون! فلكلٍّ منهما استحقاقاته التى لا بُدَّ من استيفائها قبل أن يصبح ممكناً القول بأن شيئاً منهما قد تحقق.
ولعلَّ أهمَّ دروس (العدالة الانتقاليَّة) فى تجارب مختلف البلدان هو أنها قد انطلقت جميعها من (نواة) فاعلة فى قلب المجتمع المدنى: (حركة الأمهات فى الأرجنتين ـ منتدى الضحايا من أجل الحقيقة والانصاف فى المغرب ـ خبرة الحقيقة والمصالحة القائمة فى جنوب أفريقيا على التطهر بفضيلة الاعتراف الكنسى الذى تكافئه فضيلة العفو عند المقدرة فى القيم الاسلاميَّة) .. الخ. بعبارة أخرى لا بُدَّ أن ينهض المجتمع المدنى ، على خلفيَّة ثقافته ومعتقده وتراثه الروحى ، باتجاه الخروج من وضعيَّة (المنتقِد) إلى وضعيَّة (المقترح) ، من حالة الاكتفاء (بالشكوى) إلى المبادرة بطرح (البديل). ولن تعدم هذه (الأنوية) ، مهما تواضعت ، حركات تضامن عالميَّة واسعة معها ، كالتى ارتقت الآن لتتخذ شكل (المركز الدولى للعدالة الانتقاليَّة) ، مِمَّا يدعم صمود هذه (الأنوية) حتى تصبح منارات (للتحوُّل الديموقراطى).
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟