أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - مِن الدَّوحَةِ إلى سَانْتِياغُو مَا لا يَحتاجُ لِزَرْقَاءِ اليَمَامَةْ!















المزيد.....

مِن الدَّوحَةِ إلى سَانْتِياغُو مَا لا يَحتاجُ لِزَرْقَاءِ اليَمَامَةْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1099 - 2005 / 2 / 4 - 11:33
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


"أرعى وأراقب ماء الشاى على الابريق/ كيف تعكر ، أرغى ، فار/ عاد صفا/ ثم تحدَّر .. خنق النار"!
ـ ب. بريشت ـ
(1)
ـ "أخشى أن تجئ كبعض سابقاتها .. محض محفل عربى جديد للثرثرة وممارسة العلاقات العامَّة"!
همس لنا مفكر عربى قلِق ، وقد تصادف دخولنا معاً فى ذلك الصباح القطرىِّ المشرق ، يوم الرابع من يناير الجارى (2005م) ، إلى القاعة الأنيقة بفندق ماريوت الفخيم بالدوحة ، للمشاركة فى (ورشة استراتيجيات مساهمة المجتمع المدنى فى التحوُّل الديموقراطى فى البلدان العربيَّة) ، بدعوة مشتركة من المعهد العربى لحقوق الانسان بتونس واللجنة الوطنيَّة لحقوق الانسان بقطر ومنظمة فريدم هاوس ، بالتعاون مع شبكة المنظمات العربيَّة غير الحكوميَّة للتنمية وشبكة عائشة للمنظمات النسائيَّة العربيَّة ومركز المعلومات والتأهيل لحقوق الانسان باليمن.
ـ " يا شيخ .. فأل الله ولا فألك"! قال بعض المتفائلين.
ـ "إذا وقع ذلك فستجدنا نتسكع متثائبين بين اللوبى والكوفى شوب"! قال بعض المتشائمين.
بين التفاؤل والتشاؤم لاح فى الأعين ، بالفعل ، شبح خبرات الملل وخيبة الأمل فى مناسبات سابقة غلب عليها طابع (الحَنجُورى) ، بمصطلح الكاتب المصرىِّ الساخر محمود السعدنى ، فى معنى شغل المنتديات بالكلمات الكبيرة الطنانة بلا معنى ، واجترار الديباجات الماسخة الباعثة على التثاؤب والسأم!
كان الهدف الرئيس من (ورشة الدوحة) ، طوال يومى الرابع والخامس من يناير ، صياغة توصيات محدَّدة باسم الاطار الاقليمى المدنى العربى ، لتطرح أمام منتدى سانتياغو الدولى للمنظمات غير الحكوميَّة فى مارس القادم ، تمهيداً لتضمينها فى الوثيقة المدنيَّة الدوليَّة التى ستقدم فى مايو إلى المؤتمر الحكومى الدولى الثالث (لكميونة الديموقراطيات Community of Democracies) بالعاصمة التشيليَّة أيضاً ، وبمشاركة نحو من 80 دولة ، من بينها أكثر من 15 دولة عربيَّة.
هذه (الكميونة) أو (التشاركيَّة) أو (النادى) ، ترجمها كما شئت ، عبارة عن (تجمُّع) لأنظمة ديموقراطيَّة قديمة وجديدة لعب نيلسون مانديلا دوراً مقدَّراً فى الدفع باتجاه تكوينه (كان الشعب السودانى سبَّاقاً إلى صكِّ مصطلحى "الانتفاضة" فى الحالة الفلسطينيَّة ، و"التجمُّع" فى حالة الفعاليَّة الدوليَّة الراهنة ، وبذات الدلالة المتقاربة).
الشاهد أن هذا (التجمُّع) عقد أول اجتماعاته فى العاصمة البولنديَّة فى يونيو عام 2000م ، حيث خرج (بإعلان وارسو) لتأكيد التمسك بقيم الديموقراطيَّة فى كلا المستويين الفكرى والتطبيقى ، الأمر الذى تعزز فى الاجتماع الثانى بالعاصمة الكوريَّة الجنوبيَّة سيول عام 2002م ، واكتسب قيمة مضافة من اشتباك قدر كبير من المشاركة المستقلة والنشطة معه من جانب مؤسَّسات ومنظمات المجتمع المدنى الدولى ، فى ما أصبح يُعرف (بخليَّة الديموقراطيَّة Democracy Coccus).
هكذا تتسِم هذه الخليَّة بطابع ثنائى: أولهما (اتفاقى) مع بعض الحكومات حول أهم مطلوبات (التغيير الديموقراطى) ، وثانيهما (نقدى) تجاه أىِّ مظهر (للتنصُّل) عن استحقاقات هذا (التغيير) من جانب أىِّ حكومة.
ومن أهمِّ ما اتفق عليه ، حتى الآن ، أن الدولة التى تخرق (إعلان وارسو) ، فى أىِّ وقت ، سوف تفقد عضويَّتها فيه مؤقتاً ، ريثما تعيد (الاصلاح) المطلوب لما ارتكبت من خرق. ويُنتظر ، فى الاتجاه نفسه ، أن تشكل الوثيقة التى سوف تصدر عن مؤتمر سانتياغو القادم مرجعيَّة عالميَّة ربما تضارع فى أهميَّتها وخطورتها (الاعلان العالمى لحقوق الانسان لسنة 1948م). ومعلوم ، بالطبع ، أن (الالتزام) بنصوص ذلك الاعلان قد وقع لاحقاً حتى فى حق الدول التى تلكأت فى التوقيع عليه أو اعتماده ، بما اكتسب ، تدريجياً ، ومع تطور الفكر السياسى ومفاهيم حقوق الانسان والشعوب ، من نفوذ عاصف فى مستوى العلاقات الدوليَّة المعاصرة وقواعد القانون الدولى العام.
مخطئ ، إذن ، بل غارق فى وهمه ، من يتصوَّر أن (الاصلاح الديموقراطى) هو محض (خيار) متروك لهذه الدولة أو تلك ، تأخذ به أو لا تأخذ ، أو مجرَّد (نصوص) تجمِّل بها كثير من الدول العالمثالثيَّة ، خصوصاً ، أجياد دساتيرها ، بينما ممارساتها التطبيقيَّة سادرة فى غِىِّ الاتجاهات المعاكسة المرذولة كما كان الأمر فى السابق!
ومن ثمَّ فإن الحدَّ الأدنى من حُسن التدبير يقتضى ، منذ الآن ، رؤية ما سيكتسى هذا المفهوم أيضاً ، فى المستقبل المنظور ، من إلزاميَّة مضمونة برقابة دوليَّة ، ومحروسة بشراكة لا مناص منها بين (الدولة) و(المجتمع المدنى) ، وذلك بأقل قدر من إعمال البصيرة فى واقع الوتائر المتسارعة لجهة تطورُّه فى مستوى الفكر الانسانى ، والسياسى بخاصة ، وفى جبهة الحراكات الشعبيَّة ، والعلاقات الدوليَّة ، والقانون الدولى ، مِمَّا لا يحتاج ، يقيناً ، إلى (زرقاء يمامة) جديدة لتأكيده!
ولأن ذلك كذلك ، فقد كان مبرَّراً أن تطفو مشاعر القلق تلك بين يدى افتتاح (ورشة الدوحة) ، بإزاء جسامة المهمَّة الملقاة على عاتقها ، وفى خلفيَّة بعض التجارب المحبطة السابقة. لكن ، ولحسن الحظ ، ما أن بدأت أعمالها فعلياً حتى بات واضحاً للجميع أنها شئ مختلف تماماً هذه المرَّة .. شئ يتسم بالطرح الطازج ، والمعالجات العمليَّة ، والافكار المفكر فيها جيداً ، رغم حداثة مسار (الاصلاح) أو (التحوُّل) أو (التغيير) الديموقراطى نفسه فى المنطقة العربيَّة ، ورغم الشكوى من ضعف الحضور العربى الفاعل فى العديد من منتدياته الدوليَّة.
إلتقت تقديرات معظم المشاركين حول أن من أهم عوامل نجاح الورشة جودة التنظيم ، من جهة ، والذى تضافرت فيه جهود مؤسَّسات مقتدرة ، فى مقدِّمتها (اللجنة الوطنيَّة لحقوق الانسان فى قطر) ، وسلاسة الاشراف الفكرى ، من الجهة الأخرى ، والذى تولاه بمستوى معرفى ومعلوماتى رفيع (المعهد العربى لحقوق الانسان بتونس) ، وبرز ، بخاصة ، من خلال الطرح التمهيدى الشامل والدقيق لخبيرين فى قامتى د. عبد الباسط بن حسن ، مدير المعهد ، ود. صلاح الدين الجورشى ، الكاتب والناشط الاسلامى المستنير.
أسهمت هذه العوامل مجتمعة فى إحكام صياغة السؤال الأساسى للورشة عن الامكانات المتوفرة لدى المجتمع المدنى العربى بما يؤهله للدفع باتجاه التحوُّل الديموقراطى ، والعوائق التى تحول دون ممارسته لهذا الدور ، بالتركيز على الجوهرى والمشترك فى ما يتصل:
(1) بمكامن الضعف فى هذا المجتمع ، أولاً من جهة هشاشته الداخليَّة التى تسمح مثلاً باستشراء الارهاب والغلو باسم الدين أو غيره ، ووضعيَّة قيم السوق فى مجابهة قيم التضامن بين الأفراد ، وثانياً من جهة الاستبداد التاريخى للدولة العربيَّة التى عملت على تكريس هذه البنية الاجتماعيَّة الهشة بقمع الحريات وإهدار الديموقراطيَّة ، الأمر الذى أفضى إلى ظاهرة عودة الاستعمار إلى المنطقة ، كما وإلى ظاهرة إبداء هذه الدولة استعدادها لقبول مناقشة (التحوُّل الديموقراطى) ، لا كسياق للتطوُّر الداخلى الطبيعى ، بل من باب الاستجابة للضغوط الخارجيَّة.
(2) ومكامن القوة التى يمكن ، بالاعتماد عليها ، تجاوز كلِّ هذه العوائق وغيرها باتجاه تحويل المجتمع المدنى ، برغمها ، إلى طرف أصيل وفاعل ومقنع وضاغط وقادر على الامساك بزمام المبادرة ، ومواجهة تحديات (التحوُّل الديموقراطى) الحقيقيَّة ، تفادياً لشكلانيَّة هذا (التحوُّل) التى تجعل منه ، فى نهاية المطاف ، عملاً بلا أمل ، ولا طائل من ورائه.
إنعكس هذا الاحكام فى صياغة السؤال الأساسى ، حسب المقترح الذى طرحته ورقة د. عبد الباسط ، فى التقسيم الموفق للورشة إلى أربع حلقات فرعيَّة تناولت بالتفاعل والنقاش المُركز علاقة المجتمع المدنى بالحكومات ، وقضيَّة التداول السلمى للسلطة بالوسائل الديموقراطيَّة ، وإشكاليَّة ثقافة الديموقراطيَّة على مستويى الدولة والمجتمع المدنى ، علاوة على المسألة المتعلقة بالتعصُّب والارهاب.
كما اقترحت ورقة د. الجورشى أربعة محاور باتجاه البحث فى أفضل الخيارات: إسقاط (العنف) بتأسيس العلاقة مع السلطة على النضال (السلمى) لتداولها ، وإدارة الحوار مع السلطة ومع المبادرات الدوليَّة بعيداً عن التعاطى (العاطفى) على طريقة (مع أو ضد) المعتمدة بشكل واسع حتى الآن ، والسعى لتجذير (ثقافة الديموقراطيَّة) فى بنية الثقافة الشعبيَّة ، مِمَّا يقتضى إعادة تأسيس التراث لحل مشكلة التناقض بين مطلوبات الديموقراطيَّة ، وبين الكثير من عناصره المعادية لها ، بالاضافة إلى محاربة (التمييز) ضد المرأة ، وضد الأقليات ، الأمر الذى لا يمكن أن يتم إلا فى إطار الالتزام بقيم (العدالة الاجتماعيَّة).

(2)
كان منطقياً أن تفرد الورشة حلقة فرعيَّة خاصة لبحث قضيَّة (العدالة الانتقاليَّة) كأداة (للانتقال السلمى للسلطة) بآليات ديموقراطيَّة ، باعتبارها إحدى أهمِّ قضايا (التحوُّل الديموقراطى) المطلوب. ولعله قد أصبح واضحاً الآن ، أكثر من أى وقت مضى ، أن أضرَّ ما يضرُّ بقضيَّة (الانتقال) إلى الديموقراطيَّة هو التعاطى معها بصورة جزافيَّة ، وأنه لا مناص ، بالتالى ، من استيفاء استحقاقات هذا الانتقال كاملة ، ومن كلِّ النواحى الماديَّة والمعنويَّة ، قبل أن يصبح من الممكن الاقرار بأن (التحوُّل الديموقراطى) فى أىِّ بلد قد (بدأ) حقيقة وفعلاً.
ولأن البلد العربى الوحيد ، حتى الآن ، الذى لديه تجربة تستحق أن يؤبَّه لها على صعيد (التحوُّل الديموقراطى) و(العدالة الانتقاليَّة) هو المغرب (السودان مرشح حالياً لخوض التجربة القادمة) ، فقد كان لاختيار محمد أوجار ، وزير حقوق الانسان المغربى السابق ، كمُيسِّر لهذه الحلقة الفرعيَّة ، أكبر الأثر فى تسليس عملها ، حيث قاربت ، بمستوى عال من المعرفة النظريَّة والتطبيقيَّة ، أهمَّ جوانب (التداول على السلطة) و(لغة العدالة الانتقاليَّة) و(خبراتها) فى مختلف أنحاء العالم ، بالتركيز المخصوص ، بالطبع ، على تجربة المغرب تحت عنوان: (الحقيقة والانصاف) ، دون إغفال لتسع وعشرين غيرها من التجارب العالميَّة ، كتجربة (الحقيقة والمصالحة) فى جنوب أفريقيا ، وهذا على سبيل المثال.
لقد انصبَّ خطاب المجتمع الدولى ، فى سبعينات وثمانينات القرن المنصرم ، على ما كان يُعرف (بتسهيل التقاضى) و(عدم السماح بالافلات من العقاب) فى المستوى (السياسى) ، مِمَّا شكل ، ردحاً من الزمن ، مضمون مناقشات (اللجنة الدوليَّة الفرعيَّة لحقوق الانسان) ، قبل أن تستصحب المستوى (الاقتصادى) فى التسعينات. وقد أفضى جدل التطوُّر الطبيعى لعلاقات المجتمع المدنى مع النظام السابق فى تجربة المغرب إلى إحداث (التحوُّل) داخل بنية النظام نفسه. ولكنه أفضى فى تجربة جنوب أفريقيا إلى نموذج مغاير لهذا (التحوُّل) بإنجاز القطيعة التامَّة مع النظام السابق.
ومع ذلك فقد انطرحت التجربتان من خلال الاشتباك الوثيق مع السؤال حول دور المجتمع المدنى فى عمليَّة (التحوُّل) ، وتجاوز (سنوات الرصاص) ، بالمصطلح المغربى ، لفظاً للعـنف ، وتفادياً لنزعة الانتقام ، واعتماداً للوسائل الديموقراطيَّة السلميَّة وحدها فى تقصِّى (الحقيقة الكاملة) ، وأداءً (لواجب الذاكرة) ، كما فى علم النفس الاجتماعى ، و(جبراً للأضرار) الماديَّة والمعنويَّة بإعادة الاعتبار للضحايا فى المستويين الفردى والجماعى ، وابتداعاً (للاصلاحات الهيكليَّة) الكفيلة بقطع الطريق أمام أىِّ انتهاكات لحقوق الانسان فى المستقبل.
ومعلوم أن التجربة المغربيَّة بدأت بما عُرف (بالمناظرة الوطنيَّة لضحايا الانتهاكات الجسيمة) التى تكفلت برصد وتوثيق الانتهاكات ، والتقويم العلنى الجسور لأسلوب المعالجات التى اجترحتها (هيئة التحكيم) على أيام الملك الحسن ، والتى انصبَّت ، فحسب ، على (مساومة) الضحايا بالتعويض المالى مقابل تنازلهم عن الملاحقة القضائيَّة للجناة!
ومع تفهمها الانسانى لظروف أربعة آلاف مواطن اضطروا لقبول التعويضات الماليَّة ، إلا أن (المناظرة الوطنيَّة) مارست ضغطاً سلمياً قوياً ضد تلك (المساومة) حتى توقفت ، وتشكلت بدلاً عنها ، منذ أبريل 2004م ، (هيئة الانصاف والمصالحة) المنبثقة عن (المجلس الاستشارى لحقوق الانسان) ، بغرض التحقيق فى ما يفوق العشرين ألف ملف للشكاوى ضد الانتهاكات خلال الفترة 1956م ـ 1999م.
أخيراً دشنت الهيئة (جلسات الاستماع العمومى) ، على غرار تجربة جنوب أفريقيا ، فعقدت جلستين حتى الآن ، نظمت أولاهما فى أواخر ديسمبر 2004م ، وجرى نقلها بالراديو والتلفزيون مباشرة ، وتمَّ الاستماع خلالها لشكاوى الضحايا وأسرهم ، بمشاركة خمسمائة مواطن ومواطنة ، وفى حضور وزيرين وممثلين للنقابات والاتحادات. ولئن اشترطت لائحة الهيئة عدم ذكر الشهود لأسماء الجلادين ، مثلما اقتضت شروط العدالة فى تجربة جنوب أفريقيا عدم ذكر هذه الأسماء إلا بشرط الاتيان ، فى التو ، بثلاثة شهود ، فقد تكفلت الصحافة الحُرَّة بحصر ونشر أسماء أربعة وأربعين جلاداً من الأحياء الذين رُفعت ضدهم قضايا أمام المحاكم.
من الجهة الأخرى تقرَّر (جبر الضرر الجماعى) بالنسبة لمنطقتين تعرَّضتا بأكملهما للعزل والعقاب بالحرمان من التنمية لاتهامهما باحتضان حركات انقلابيَّة أو معارضة للنظام الملكى ، وهما منطقتا (الريف وتزمامرت).
وفى ما تشكلت لجنة غير حكوميَّة لمتابعة ومراقبة عمل الهيئة ، إنطلقت حركة بحثيَّة وإبداعيَّة دءوبة شملت حوالى الخمسين من الحقوقيين والسينمائيين وعلماء النفس والاجتماع والانثروبولوجيا ، لتشريح الواقع المزرى للسجون ، ولتقديم المقترحات الاصلاحيَّة الكفيلة بتفادى تكرار هذه الأوضاع والتجاوزات. وقد أنتجت هذه الحركة ، حتى الآن ، قرابة المئة وعشرة كتاباً وفيلماً توثيقياً. كما تقرَّر ، فى نفس السياق ، تعليم حقوق الانسان فى المدارس والجامعات ، وكذلك مراجعة القوانين كى تتسق مع المواثيق الدوليَّة لحقوق الانسان.
ويمكن القول ، إجمالاً ، إن أهمَّ ما أفرزت تجارب (التحوُّل الديموقراطى) و(العدالة الانتقاليَّة) من دروس هو أنها انطلقت جميعها ، على الفروقات الظاهرة بينها ، من (نواة) فاعلة فى قلب أنشطة المجتمع المدنى: (حركة الأمهات فى الأرجنتين ـ المنظمة التى أنشأها الضحايا فى المغرب باسم "المنتدى من أجل الحقيقة والانصاف" ـ خروج مانديلا من السجن كإحدى نقاط التحوُّل الكيفى الأكثر أهميَّة فى مسيرة نضال المؤتمر الوطنى الأفريقى .. الخ). كما وأن هذه التجارب طرحت ، وبقوَّة ، ضرورة استنهاض المجتمع المدنى لكلِّ حيويَّته وحركيَّته باتجاه الخروج من حالة الشكوى إلى اجتراح البدائل ، أى انتقاله من وضعيَّة (المُنتقد) إلى وضعيَّة (المُقترح).
ومِمَّا يجدر التشديد عليه هنا أن هذه الأنوية التى دشنت ، فى أول أمرها ، جهوداً بدت متواضعة باتجاه (التحوُّل الديموقراطى) ، والتأكيد الصارم على استحقاقاته ، لم تعدم حركات تضامن عالميَّة واسعة معها ، مِمَّا ساعد على صمودها ونموِّها حتى أضحت الآن منارات لهذا (التحوُّل) ، بل وارتقت حركات التضامن تلك نفسها لتتخذ شكل (المركز الدولى للعدالة الانتقاليَّة).
نهايته ، المغرب أم جنوب أفريقيا ، الارجنتين أم تشيلى .. المهم أنه لا مناص من إحداث (التحوُّل الديموقراطى) بما يتوائم مع ظروف هذا البلد أو ذاك. وأكثر من ذلك أنه لا مناص ، فى (كلِّ) الأحوال ، من تحقيق (العدالة الانتقاليَّة) على رأس أولويَّات (خارطة الطريق) باتجاه هذا (التحوُّل) المرغوب فيه ، سواء وقع ذلك فى سياق التطوُّر الطبيعى للنظام السابق نفسه ، كما فى التجربة المغربيَّة ، أم بإنجاز (القطيعة التامَّة) معه ، كما فى تسع وعشرين تجربة عالميَّة أخرى كالتجربة الجنوبافريقيَّة.
أما غض الطرف عن كلِّ هذه وتلك من التجارب والخبرات التى أصبحت ترسم الآن خط الانعطاف الجديد فى التاريخ الانسانى ونقطته النوعيَّة الفارقة ، والاستمرار فى الاعتقاد بإمكانيَّة مواصلة السير بطريق التشبُّث القديم بالسلطة ، أو التعويل على سماسرة السياسة ومقاوليها الفنيين فى (خداع) النفس والشعب والعالم (بفبركة) نماذج شكلانيَّة من (اللجان الوطنيَّة لحقوق الانسان) ، أو (بلهوجة) ترتيبات دعائيَّة (لإصلاح قضائى) صورى ، أو (باصطناع) ضجَّة إعلاميَّة لا ترد (حقاً) أو تجبر (ضرراً) ، فمحض وهم غارق فى اللاتاريخيَّة ، بل ومن شأنه ، بكلِّ المعايير ، أن يتسبب فى أقسى الآلام وأعرضها للنظام السياسى نفسه ، قبل البلاد أو مجتمعها المدنى ، مِمَّا يُعتبر ، وبكلِّ جدارة ، تدبيراً خليقاً بالحمقى وحدهم!
(إنتهى)



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القُوَّاتُ الأَدَبِيَّةُ المُسَلَّحَةْ!
- الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (2) إِتِّحَادُ الكُتَّا ...
- الحُكومَةُ والكُتَّابُ فى السُّودانْ (1) مَشْرُوعِيَّةُ الغَ ...
- حِسَابٌ أَمْ .. -كُوَارْ-؟!
- مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (3)
- (2) مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ لَعْنَةُ ...
- مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (1) المِحْوَ ...
- يا -لَلْخِتْيَارِ- فِى البَرْزَخِ بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْت ...
- القَاعِدَةُ .. والاِسْتِثْنَاءْ !
- مَرْجِعِيَّةُ الاتِّفَاقِ .. الوَرْطَةْ!
- مَطْلُوبٌ .. حَيَّاً!
- جَنْجَوِيدُ العُرُوبَةْ!
- الكَمَّاشَة!
- فِى مَأْزَقُ الهُجْنَةِ والاسْتِعْرابْ!
- فِى مَدْحِ -الجُّنونِ- بِمَا يُشْبِهُ ذَمَّهُ! مَنْ ترَاهُ ي ...
- فَلْيُسْعِد النُّطْقُ .. إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الحَالُ!
- آلامُ المَسِيْحِ السُّودَانِي
- زُغْبُ الحَوَاصِلْ!
- لَقَد أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيَّا!
- جُنَيْهُ -السُّودانِ الجَّدِيدْ-: الدَّوْلَةُ المُوَحَّدَةُ ...


المزيد.....




- غيتار بطول 8 أقدام في موقف للمركبات الآلية يلاقي شهرة.. لماذ ...
- ساعة ذهبية ارتداها أغنى راكب على متن -تيتانيك-.. تُباع في مز ...
- اغتيال -بلوغر- عراقية وسط بغداد.. ووزارة الداخلية تفتح تحقيق ...
- ثوران بركان إيبيكو في جزر الكوريل
- -إل نينو- و-لا نينا- تغيران الطقس في أنحاء العالم
- مكسيكي يقول إنه فاز بشراء أقراط بـ28 دولارا بدل 28 ألف دولار ...
- سيناتور روسي يقيم جدوى نشر أسلحة نووية أمريكية في بولندا
- هذا هو رد بوتين على المساعدات لأوكرانيا من وجهة نظر غربية (ص ...
- الولايات المتحدة تطور طائرة -يوم القيامة- الجديدة
- الجيش الروسي يستعرض غنائمه من المعدات العسكرية الغربية


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - مِن الدَّوحَةِ إلى سَانْتِياغُو مَا لا يَحتاجُ لِزَرْقَاءِ اليَمَامَةْ!