أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (1) المِحْوَرُ الاقتِصَادىُّ .. أو مُعْجِزَةُ الاِفْلاتِ مِن الوَرْطَةْ!















المزيد.....

مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (1) المِحْوَرُ الاقتِصَادىُّ .. أو مُعْجِزَةُ الاِفْلاتِ مِن الوَرْطَةْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1018 - 2004 / 11 / 15 - 08:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


إنعقدت بالقاهرة ، خلال الفترة من 21 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 2004م ، جولة التفاوض الثانية بين الحكومة السودانيَّة والتجمُّع الوطنى الديموقراطى المعارض ، على محاور أربعة: المحور الاقتصادى والمحور السياسى ومحور الدستور/القوانين ومحور المعالجات.
كان المحور الاقتصادى هو أكثر ما أثار قلقنا بين يدى هذه المفاوضات ، على نحو مخصوص ، مِمَّا حدا بنا للتنبيه إلى خطورته الاستثنائيَّة فى أكثر من مقال. فقد سبق أن أبرم نائب رئيس الجمهوريَّة ورئيس التجمُّع (بروتوكول جدَّة الاطارى) فى 4/12/2003م ، واتفقا ضمن البند (ب/خامساً) منه على ".. المضي قدماً فى سياسات الانفتاح ورفع يد الدولة ومؤسَّساتها عن الأنشطة الاقتصاديَّة والإنتاجيَّة والخدميَّة بما يصل بالاقتصاد الوطنى الى اقتصاد السوق الحر"! وعندما عقد الطرفان جولتهما التمهيديَّة الأولى فى إطار هذه المفاوضات ، من 24 إلى 30/8/2004م ، كان منطقياً تماماً أن يخلصا فى ختامها إلى اعتبار (بروتوكول جدَّة) هذا بالذات ركيزة أساسيَّة فى المرجعيَّة المعتمدة للتفاوض ، مِمَّا عددناه (ورطة) لا بُدَّ أن تنقبض النفس تشاؤماً من مآلاتها النهائيَّة ، حين يتصوَّر المرء أوبة المعارضة (الوطنيَّة الديموقراطيَّة) إلى جماهيرها فى الداخل ، وليس فى يديها ، بعد كلِّ تلك السنوات من الصراع المرير والمعاناة تحت سنابك الطفيليَّة المنفلتة باسم (الانفتاح) و(السوق الحر) ، سوى نفس هذا المشروع الطفيلى ، بل و(الوعـيد) القاطع بالاستمرار على نهجه لزوماً ، والمضىِّ فيه قدماً ، ومن كلِّ بُد!
غير أن ما وقع فى الجولة الثانية ، عياناً بياناً ، ليقشع ، والحمد لله ، غيوم (التشاؤم) عن أىِّ أفق محتمل للتسوية العادلة ، أخذاً فى الاعتبار باللغة الصريحة والصارمة التى صيغت بها تلك الفقرة الجافية من (بروتوكول جدَّة) ، بما لا يوفر هامشاً ، ولو فى غاية الضيق ، لأىِّ معنى آخر أو تفسير مختلف أو دلالة مغايرة لمُرادها ، هو ، فى حقيقته ، إلى (المعجزة) أقرب ، حتف أنف الاستقراء والتوقع المنطقىِّ القائم على مُعطيات واقعيَّة ، فى عصر يُمجِّد العِلم ، ويُعلى من شأن التحليل العقلىِّ ، ولا يُعَوِّلُ على (المعجزات) فى كثير أو قليل!
الشاهد أن (نصَّ القاهرة) الذى وقعه الطرفان بلا أدنى تحفظ ، ورغم الهنَّات والمنغِّصات الكثيرة المبثوثة بين ثنيَّاته هنا وهناك ، مِمَّا لا بُدَّ أن يقع لكلِّ طرف من زاوية نظره بالطبع ، قد استعاد للدولة ، بوجه عام ، دور الرعاية الذى كان قد أنكره عليها (نصُّ جدَّة) بتكريسه الصمدى لسياسات (السوق الحر) وما تستتبعه من تشوُّهات هيكليَّة مدمِّرة لاقتصاديَّات بلد عالمثالثىٍّ فقير كالسودان. لقد أضحى "المُكوِّن" الأساسى "للمحور الاقتصادى" ، فى اتفاق القاهرة ، هو " التنمية المتوازنة التى تهدف إلى تحقيق تطلعات أهل السودان وتلبية احتياجاتهم الأساسيَّة ، وخاصة الشرائح الفقيرة فى المجتمع" (الفقرة/1ـ2). كما كرَّس الاتفاق مفهوم "التنمية المتوازنة" بما يجعل منها عنصـراً رئيسـاً فى "القاعـدة الأساسيَّة للاستقرار السياسى والسلام الشامل والدائم" (2ـ1) ، مِمَّا يعنى الاقرار ، ضمناً ، بل وبصورة أقرب إلى تمام التصريح ، بعدم جدوى التعويل ، فى أيَّة معالجات ممكنة لتوترات الحالة الاثنيَّة فى البلاد ، على سياسات التحرير الاقتصادى الفالتة ، بعكس ما ينضح به (نصُّ جدَّة) منطوقاً وروحاً.
ورغم أنه من غير المحتمل أن يفوت على العين المدققة التقاط ورود عبارة (السوق الحر) ، ولو مرَّة واحدة ، بصرف النظر عن كون ذلك للاشارة إلى ضرورة " اتخاذ الاجراءات اللازمة لتخفيف آثاره .. ولإعـادة توزيع الدخـل ورفـع الطـلب الفعلى للفقـراء" (الفقرة/5ـ1ـ4) ، إلا أن النصَّ يبقى ، مع ذلك ، أوسع انفتاحاً للتأويلات والتفسيرات البرامجيَّة ـ حتى بالنسبة لأكثر القوى راديكاليَّة فى سياق الصراع الديموقراطى السلمى ـ من (نصِّ جدَّة) الجامد rigid ، والمنحاز لمصالح التيارات المحافظة بأشرس مِمَّا تفعل الثاتشريَّة والريغانيَّة ومدرسة شيكاغو ، العاجزة أجمعها ، حتى الآن ، عن التنصُّل الطليق من التزامات (دولة الرفاه) فى البلدان الرأسماليَّة ، وما تحقق للطبقات العمَّاليَّة والوسطى من مكاسب وضمانات اجتماعيَّة فى ظل التحديات التى طرحتها خبرة الاشتراكيَّة العالميَّة والظرف التاريخى للحرب الباردة. وسوف يحتاج المرء ، يقيناً ، إلى قدر مهول من عمى البصيرة والطاقة على المكابرة لكى ينكر أن الدفاع عن تلك المكاسب والضمانات ، بالذات ، هو ما يشكل ، فى الوقت الراهن ، المضمون الأساسى للفكر الاجتماعى الأقوى تأثيراً على ظاهرة حركات (أعداء الرأسماليَّة) و(خصوم العولمة) التى تجتاح الغرب الصناعى الرأسمالى من اقصاه إلى أقصاه!
من جهة أخرى ، ولئن كانت (التنمية development) ، لا (النمو growth) ، على العكس مِمَّا تتوهَّم بعض التنطعات الغوغائيَّة ، هى التى تقـع فى بلدان العالم الثالث ، ومن بينها بلادنا ، على خط التضاد ، طرداً ، مع التكريس النهائى لاقتصاديات (السوق الحر) ، وغلِّ يد الدولة بالكليَّة عن النشاط الاقتصادى والخدمى لصالح أغلبيَّة المواطنين، فإن (الفقرة/5ـ1ـ4) نفسها واردة وسط جمهرة من الفقرات التى تشدِّد على دور الدولة فى "التخطيط الاقتصادى" لأغراض "إدارة التنمية" (1ـ7) ، و"التركيز على التنمية الريفيَّة .. لتحقيق التوازن التنموى الذى يشكل الترياق الاساسى للنزاعات والصراع" بين المركز والهامش (2ـ2) ، و" دفع التنمية بخطط .. التعويل على النهضة الذاتيَّة وتطوير قاعدة الموارد المحليَّة .. من خلال التوزيع العادل للثروة والمشاريع التنمويَّة" (2ـ3) ، وجعل " الأسبقيَّة .. لتأمين معاش المواطن .. وكفالة حاجاته" (2ـ4) ، و" تخفيض دائرة الفقر توجهاً لإزالتها .. من خلال الاعتراف بأبعاد .. الفقر ومسـبباته وإحـكام التدخـلات الاستراتيجيَّة لتطويقه" (2ـ5) ، و" تعبئة الفائض الاقتصادى .. من خلال إصلاح القطاع التقليدى ومراجعة التركيبة الضريبيَّة وإعادة النظر فى علاقات العمل فى مشاريع القطاع الحـديث" (2ـ6) ، وإجـراء " إصلاحات وتجـديدات كبيرة" فى "البنيات التحتيَّة من طرق وجسور وخطوط السككك الحديديَّة ومرافق النقل النهرى والموانئ البحـريَّة وتنظيم الرى ومحطات توليد الكهرباء .. لتواكب التطلعات التنمـويَّة" (2ـ8) ، و" بناء قاعـدة متينة لتنمية العنصر البشرى .. لمواكبة متطلبات التنمية" (2ـ10). كما اتفق على أن تخفيض الفقر واستئصاله " لن يتأتى .. إلا من خلال برنامج للتنمية الشاملة" (5ـ1) ، ووضعت مرتكزات أساسيَّة لهذا الغرض ، من بينها " تعريف الفقر والاعتراف به" (5ـ1ـ1) ، و" زيادة إنتاجيَّة صغار المنتجين" (5ـ1ـ3) ، و" الاهتمام باستراتيجيَّة الاحتياجات الأساسيَّة .. وتشمل الغذاء والمأوى والملبس والتعليم والصحَّة" (5ـ1ـ5).
وقد تلاقت إرادة الطرفين على اعتبار أن هدف "السياسات الاقتصاديَّة الكليَّة" هو التشغيل الأمثل للموارد بما "يحقق عدالة توزيعها .. وتوفير الحاجات الأساسيَّة وسبل العيش الكـريم لكل المواطـنين" (3ـ1) ، واعتبار " الأولوية" فى " موازنة الدولة" لتحقيق "عدالة التوزيع بين المناطق والقطاعات والمواطنين" ، و" ضبط الانفاق العام وترشيده وعدالة توزيعه وحسن إدارته ، والتأكيد على ولاية وزارة الماليَّة على المال العام وعدم الصرف والتصرف خارج الموازنة والنأى عن الجبايات غير القانونيَّة أو تجنيب الايرادات" (3ـ2) ، وتوظيف موارد النفـط " لخـدمة التنمـية" (3ـ5) ، و" الاهتمام بتطوير الأصول الانتاجيَّة فى القطاع العام والخاص" (3ـ7) ، و" تأكيد دور الدولة فى التخطيط والتوجيه والرقابة وإيجاد التوازن المدروس بين آلية السوق ودور الدولة فى المشروعات القوميَّة الكبرى بهدف إعادة التوازن التنموى" (3ـ8) ، و" وضع سياسة استراتيجيَّة للاستثمار .. تحقق التنمية المتوازنة" (3ـ10) ، و" توزيع العـبء الضريبى بعدالة وتخفيضه على الشرائح الضعيفة" (3ـ9) ، و" توجيه السياسات النقديَّة .. والسعى لتطوير البنوك التنمويَّة المتخصِّصة فى الزراعة والصناعة وتمويل صغار المنتجين" (3ـ11) ، و" رعاية وتشجيع الحركة التعاونيَّة" (3ـ 12) ، وضمان "مشاركة" المواطنين فى " السياسات الاقتصاديَّة وبرامج التنمية" (3ـ18) ، والتأكيد على دور " الحكم الاتحادى .. فى التنمية والاستثمار المحـلى بما لا يترتب عليه أىُّ أعباء إضـافيَّة على المواطـنين من ضـرائب وجـبايات" (3ـ19) ، و" اعتماد مبدأ الشفافيَّة والافصاح والمسئوليَّة والرقابة الاداريَّة والماليَّة والمحاسبة" (3ـ21).
واتفق أيضاً على "وضع استراتيجيَّة للتكامل الزراعى الحيوانى حتى يصبح قطاعاً مشتركاً فى ظرف عشر سنوات" (4ـ1ـ4) ، و" إعطاء الأولويَّة لتحديث قطاع الزراعة المطـريَّة" (4ـ1ـ5) ، و" حماية المنتج الصغير" (4ـ1ـ6) ، و" تطوير .. خطة واضحة لكهربة الريف والمدن .. ورسـم برنامج لتجميع المياه وصولاً إلى التكامـل الزراعـى الحـيوانى" (4ـ1ـ14) ، وضمان " مشاركة المجتمعات الرعويَّة التقليديَّة فى وضع السياسات والاهتمام بالمنتج" (4ـ2ـ5) ، والسعى " لتغيير المفاهيم" الثقافيَّة السائدة عن " الثروة الحيوانيَّة فى القطاع التقليدى" ، والتى تجعل من " حجم الماشية لدى الفرد رصيداً للمركز الاجتماعى ومصدراً للاعاشة ومستودعاً للقيمة" ، مِمَّا يعوق إدماج هذا القطاع فى مشروعات التنمية (4ـ2ـ12ـ5).
كما اتفق على "اتخاذ السياسات الماليَّة والتنمويَّة التى تركز على تشجيع إنشاء الصناعات فى أنحاء السودان .. لتساهم فى إعادة التوازن التنموى" (4ـ3ـ1) ، و" تحريك وتطوير وتجديد القدرات الصناعيَّة المعطلة .. وتقديم الدعم والتسهيلات لاستنهاضها" (4ـ3ـ2) ، و" تشجيع الصناعات الخفيفة والورش الحديثة صغيرة الحجم والصناعات الزراعيَّة .. بقروض وسلفيات صغيرة .. وميسَّرة" (4ـ3ـ3) ، و" ضرورة تلافى نواحى القصور التى تسبَّبت فى تدنى الانتاج الصناعى .. مِمَّا انعكس سلباً على تكلفة الانتاج .. وأسعار السلع الاستهلاكيَّة والقدرة على منافسة السلع المستوردة وتكلفة إبدال الماكينات .. وإمكانيَّة استيعاب .. النازحين و .. الترابطات الخلفيَّة والأماميَّة لهذا القطاع مع القطاعات الأخرى .. كقطاع الزراعة" (4ـ3ـ5).
وإلى ذلك فقد اتفق على "مجانيَّة وإجباريَّة" تعليم الأساس لكل أطفال السودان "6 إلى 13 سنة" مع "خدمات الداخليات والغذاء وتعميم الكتاب" ، ورفع كفاءة المعلم وحفزه للعمل فى مدارس الريف والرُّحَّل (4ـ4ـ1ـ1) ، بالاضافة إلى "مجانيَّة التعليم وتوفير السكن الداخلى فى الريف فى قطاع التعليم الثانوى" (4ـ4ـ1ـ2) ، و" زيادة الانفـاق على التعـليم العام" (4ـ4ـ1ـ4) ، و" التوازن بين التعليم الثانوى الأكاديمى و .. الفنى والمهنى ليصل التعليم المهنى إلى نسبة 60% " (4ـ4ـ1ـ5). وفى ما يتصل بالتعليم العالى جرى الاعتراف بالخلل الذى نتج عن " زيادة عدد المستوعبين فيه بطريقة أخلت بالتدرج الهرمى الذى يركز على اتساع قاعدة التعليم الأولى والثانوى لتصل فى قمَّة الهرم إلى التعليم العالى" ، وضرورة معالجة هذا الخلل (4ـ4ـ1ـ3).
أما فى قطاع الصحة فقد اتفق على اعتبار " الهدف الاستراتيجى .. تعميم الخدمات الصحيَّة الأوليَّة بنسب عادلة لجميع أنحاء السودان ، على أن تكون الخـدمات مجَّانيَّة بما فى ذلك الدواء" ، مع " إنشاء المستشفيات الريفيَّة" ، وحفز " الأطباء والكوادر الصحيَّة للعمل فى مناطق الريف والرُّحَّل" (4ـ4ـ2) ، و" توطين العلاج بالداخل ، وتوفير المعدَّات والأدوية ، والتوسُّع فى مراكز القلب وغسيل الكلى" (4ـ4ـ2ـ1). كما اتفق أيضاً على " زيادة المياه الصالحة لشرب الانسان والحيوان .. فى الريف على وجه الخصوص" (4ـ4ـ3ـ2).
تتبقى مع ذلك ، وبرغم كلِّ هذه الحسنات ، بعض المآخذ هنا وهناك على الاتفاق بوجه عام. فإعادة تأهيل القطاع المصرفى ، على سبيل المثال ، لم تحـظ بما تستحق من التدقيق والوضوح ، حتى ليبدو ، للوهلة الأولى ، كما لو ان الطرفين آثرا غض الطرف عن حقيقة وجود 80% من الكتلة النقديَّة خارج النظام المصرفى ، ودخول الدولة كمنافس للبنوك فى عمليات التمويل ، مجال نشاطها الأساسى ، عن طريق إصدار شهادات (شهامة) بأرباحها التى تصل إلى 30% ، مقابل الـ 12% التى تمنحها البنوك ، مِمّا قعد بقدراتها التمويليَّة ، علاوة على التغافل عن مهدّدات الوحدة الوطنيَّة فى ظلِّ وجود عُملتين ، ونظامين مصرفيَّين ، واختلاف كبير فى السياسات النقديَّة والتمويليَّة ، مِمَّا رتبته (بروتوكولات نيفاشا). ضف إلى ذلك أن الاتفاق جاء خلواً من أىِّ بيانات أو إحصاءات أو أرقام ، كما تراوحت لغته بين مصطلحات البنك الدولى (محاربة الفقر) وبين مصطلحات المشروع الوطنى الديموقراطى (التنمية المتوازنة). ولم يسْعَ ، إلا بأعمِّ العبارات وأكثرها إبهاماً ، لمعالجة قضية فى غاية الخطورة كقضيَّة (الخصخصة) التى طالت وما تزال تتهدَّد مؤسَّسات تمثل ، فى حقيقتها ، مدَّخرات الشعب عبر أجيال بأكملها ، كالخطوط الجويَّة والخطوط البحرية والسكة حديد ومشروع الجزيرة وغيرها ، فتفادى ، مثلاً ، النصَّ صراحة على (ضرورة مراجعة سياسات الخصخصة) الجارية بعواقبها الوبيلة ، مكتفياً باستخدام عبارة (ترشيد الخصخصة) الغامضة والملتوية ، غموض والتواء مصطلح (الحكم الراشد Good Governance) الذى غالباً ما تنأى به مؤسَّسات العولمة عن الاستخدام المستقيم لمصطلح (الديموقراطيَّة) ، حيثما كان ذلك غير رائق لاستراتيجياتها فى بعض بلدان العالم الثالث. ولم يتطرَّق الاتفاق كذلك إلى محو الأميَّة ، أو التعليم قبل المدرسى ، وحتى فى جانب مجَّانيَّة التعليم فقد اقتصر على مرحلتى الأساس والثانوى. أما فى ما يتصل بمجَّانيَّة العلاج فقد حصرها فى حدود (العلاج الأولى). ولم يبرز برنامجاً لمعالجة مشكلة العطالة ، أو التمييز الايجابى للنساء ، كضامنات للأمن الغذائى ، فى إطار التمويل الميسور والمطلوب لدعم صغار المنتجين ، وما إلى ذلك من المآخذ.
على أنه ليست لدينا أىُّ أوهام فى ما يتصل بتقديرات هذا الاتفاق. فخصيصته الأبرز تكمن ، من ناحية ، فى كونه نتاجاً للرغبة فى إبرام (تسوية تاريخيَّة compromise) على صعيد (الحلِّ المتفاوض عليه) ، لا إنفاذ (الارادة السياسيَّة المنفردة) ، وقد جسَّر الاتفاق ، فى إطار هذا الفهم ، الهوَّة الفاغرة بين السياسة والاقتصاد فى (بروتوكولات نيفاشا). أما من الناحية الأخرى فإن الخصيصة الأبرز للاتفاق تكمن ، أيضاً ، فى كونه يوفر ، وربما لأول مرَّة ، حداً أدنى من التوافق المرغوب فيه بإلحاح بين مفردات (التجمُّع) نفسها على الجبهة الاقتصاديَّة ، حيث ظلت السطوة معقودة للقضايا السياسيَّة والدستوريَّة المحضة فى علائق هذه المفردات بينها وبين بعضها البعض ، كما وبينها مجتمعة وبين النظام. فإذا استصحبنا المغزى العميق لكلمة ونستون شيرشل السديدة: "إنك لا تستطيع أن تبلغ على مائدة التفاوض أبعد مِمَّا تستطيع مدافعك أن تبلغ فى ميدان القتال" ، فإنه يلزمنا ، إذن ، النظـر الواقعى إلى قيمة هذا الاتفاق ، لا بمعايير التفكير الرغائبى wishful thinking أو التشهيَّات الذاتيَّة المحضة ، وإنما من زاوية (الحدِّ البرامجىِّ الأدنى) الذى يجعل منه تواثقاً منفتحاً على شتى الانتماءات الفكريَّة والسياسيَّة ، وقابلاً للتطوير فى مختلف الاتجاهات النظريَّة والعمليَّة ، وتلك هى ، بالتحديد ، العلامة الفارقة الرئيسة بينه وبين (نصِّ جدَّة) المغلق! ويقينى أنه لو تيسَّر رفده فى الجولة أو الجولات القادمة (إن كانت ثمَّة جولة أو جولات قادمة أصلاً!) باتفاقات مماثلة فى محاور (السياسة) و(الدستور/القوانين) و(المعالجات) ، ثم جرى عرضها أجمعها ، بالاضافة إلى ما تمَّ وما قد يتمُّ التوصُّل إليه فى المسارات الأخرى ، على مؤتمر دستورى بمشاركة كل القوى السياسيَّة ، تفادياً لمعايب (نيفاشا) التى كلت الأقلام وبحت الحناجر من تصنيفها ونقدها، فإن الفرص المتاحة ، إذن ، لأن تسود روح هذه الاتفاقات أداء الفترة الانتقاليَّة ، وربما ما بعد الفترة الانتقاليَّة ، بشكل إيجابى ، ستكون كبيرة بكلِّ المقاييس.
أما بافتراض أن جوانب كثيرة من هذه المحاور ، بما فيها هذا المحور الاقتصادى ، سوف تبقى شاخصة بإلحاح حتى بعد انتهاء الفترة الانتقاليَّة ـ ومن الغفلة ألا نتوقع ذلك ـ فإن هذه الجوانب بالذات هى التى يفترض أن تشكل (منصَّة الانطلاق) الديموقراطى للبرامج المتعدِّدة ، و(ساحة الصراع) السلمى بين المشاريع المتنوِّعة. والأصل أن غاية المأمول من (الحلِّ السياسىِّ الشامل) أن يهئ المناخ الديموقراطى السلمى لأجل هذا ، كيما يكون الفيصل بين شتى الانتماءات والاتجاهات والبرامج والمشاريع هو كلمة الشعب العليا .. وعبر صناديق الاقتراع.



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يا -لَلْخِتْيَارِ- فِى البَرْزَخِ بَيْنَ الحَيَاةِ وَالمَوْت ...
- القَاعِدَةُ .. والاِسْتِثْنَاءْ !
- مَرْجِعِيَّةُ الاتِّفَاقِ .. الوَرْطَةْ!
- مَطْلُوبٌ .. حَيَّاً!
- جَنْجَوِيدُ العُرُوبَةْ!
- الكَمَّاشَة!
- فِى مَأْزَقُ الهُجْنَةِ والاسْتِعْرابْ!
- فِى مَدْحِ -الجُّنونِ- بِمَا يُشْبِهُ ذَمَّهُ! مَنْ ترَاهُ ي ...
- فَلْيُسْعِد النُّطْقُ .. إِنْ لَمْ يُسْعِدِ الحَالُ!
- آلامُ المَسِيْحِ السُّودَانِي
- زُغْبُ الحَوَاصِلْ!
- لَقَد أَسْمَعْتَ لَوْ نَادَيْتَ حَيَّا!
- جُنَيْهُ -السُّودانِ الجَّدِيدْ-: الدَّوْلَةُ المُوَحَّدَةُ ...
- فِى طَوْرِ النَّقَاهَةْ!
- ولا يزالون مختلفين!
- ولو بعد دهر!
- شَريعَلْمَانيَّةُ الدَّوْلَةْ!
- -الشَّرَاكَةُ-: لَعْنَةُ مُفَاوَضَاتِ السَّلامِ السُّودانيَّ ...
- حَقْلُ الأَلغَامْ!
- القَوْسُ المُوَشَّى


المزيد.....




- إعلان مفاجئ لجمهور محمد عبده .. -حرصًا على سلامته-
- -علينا الانتقال من الكلام إلى الأفعال-.. وزير خارجية السعودي ...
- عباس: واشنطن وحدها القادرة على منع أكبر كارثة في تاريخ الشعب ...
- شاهد.. الفرنسيون يمزقون علم -الناتو- والاتحاد الأوروبي ويدعو ...
- غزة.. مقابر جماعية وسرقة أعضاء بشرية
- زاخاروفا تعلق على منشورات السفيرة الأمريكية حول الكاتب بولغا ...
- مسؤول إسرائيلي: الاستعدادات لعملية رفح مستمرة ولن نتنازل عن ...
- وزير سعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة ع ...
- استطلاع: ترامب يحظى بدعم الناخبين أكثر من بايدن
- نجل ملك البحرين يثير تفاعلا بحديثه عن دراسته في كلية -ساندهي ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - مُفَاوَضَاتُ القاهِرَةْ: مُلاحَظاتٌ أوَّلِيَّةْ (1) المِحْوَرُ الاقتِصَادىُّ .. أو مُعْجِزَةُ الاِفْلاتِ مِن الوَرْطَةْ!