أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد القسم الاخير















المزيد.....



ذهب ولم يعد القسم الاخير


شعوب محمود علي

الحوار المتمدن-العدد: 4609 - 2014 / 10 / 20 - 22:33
المحور: الادب والفن
    


ذهب ولم يعد القسم الاخير
وقوّضت مقوّماتها وحوّلت المدن المنكوبة الى فعل ماضي وقتلت رجالها,
وسبت نساءها , وحرمت اطفالها من حنان اُسرها.
كان على رأس ذلك الدمار هتلر وزمرته من اقطاب الكبوش النازيّة.
كذلك قدّم الخطيب الإعتذار الى وفود الشعوب والقوميّات التي وقعت ضحيّة اجتياحهم حيث وجّه كيلاً من الشتائم واللعنات لتنظير
ذلك المعتوه للشعوب والقوميّات والاعراق .
التي وقعت ضحيّة اجتياحه .
وبعد ان انهى الخطيب كلمته . اخذت الوفود دورها ثمّ جاء دور الوفد العراقي . قام احمد فحيّىا المؤ تمرين , وراح يتحدّث عن ظروف الحرب الباردة . والدور الامبريالي القبيح والذي تحمل لواءه الولايات المتّحدة وكيف انّها غيّرت المساحيق , ولبست قفّازاًحريريّاً تضيق به ملاين الدولارات تحت عنوان المساعدات للشعوب الضعيفة وفتحت ابواب
الترغيب للانظمام الى الحلف الاطلسي ومحطّات واسعة تحمل صفة الصداقة كالنقطة الرابعة , ودخلت في منافسات قويّة مع الامبراطوريّة العجوز حيث اخذت تسطو على مدّ خرات صاحبتها قبل الدخول في الشتاء النووي .
ثم استعرض وضع العراق البائس وما عانى ويعاني بمدنه واريافه , بجنوبه وشماله وكيفيّة ارتباط النظام الملكي شبه الاقطاعي المتخلّف والمرتبط بعربة العم سام , وكيف انّ هذا النظام يتطيّر من الاشتراكيّة وهو يخوض حرباً ضروساً مع طلائع الشعب المتقدّمة التي ترفض الدخول في الاحلاف
العسكريّة والارتباطات المريبة التي سبّبت وتسبّب نهب خيراته , وتكبيل حرّيّته ثمّ دعى احمد الى تعزيز الصداقة , وتنسيق الاهداف , وتقريب وجهات النظر ووضعها في الاطار الاممي العائم في المحيط الاشتراكي ,
والتفاعل اكثر فاكثر مع دول معسكر العالم الثالث وشعوبه المقهورة , والعمل على الحد من تصنيع اسلحة الدمار . وما ان انتهى احمد من خطابه حتى دوّت القاعة بالتصفيق .





000
في امسية من امسيات الشتاءالبارد جلس عبد القادر وعائشة ومنير حول الموقد للاصطىء , وليوففوا الهجوم الزمهريري الكاسح ليتجاوزوا السأم
الذي يرتسم على الوجوه وقد ضربوا طوقاً حول السنة اللهب.
قال عبد القادر لعائشة جلوسنا يندر ان يحدث سويّة الّا انّ البرد هو الذي فرض علينا هذه الجلسة حول فاكهة الشتاء. ضحكت عائشة وقالت صحيح , وما قلت إلّا الصدق . ابتسم منير وهو ينظر الى النار. انّ منير قد آلى على نفسه ان لا يقترب من احد من الناس , وقد فرض على نفسه العزلة
حتى مع اهله جرّاء الانتكاسات السياسيّة المتلاحقة.
واصل عبد القادر حديثه وهو يقصد منير ثم قال صحيح كلّ واحد منّا تشغله
هموم الحياة , ومتاعبها ولكن يجب ان لا تجعله الهموم يتباعد عن اهله , ومعارفه مثل الغرباءالذين يعيشون بمعزل عن الآخرين و. يجب ان يعطي كلّ واحد منّا حقّ صلة الدم , والوشائج التي تربطنا كعائلة نعيش تحت خيمة واجدة , ولسنا نعيش كالغرباء ولا تجمعنا إلّا غرفة المعيشة , واسرّة النوم ثمّ عقّب قائلاً . كان والدي على ما اتذكّر اجتماعيّاً ولا يميل الى العزلة , وكذلك كان مرحاً , وبشوشاً رغم فقره , قويّ الارادة : لا ينثني
للمقبلات من الايّام السوداء , ولا ينكسر او يترك نفسه مثل سفينة تدفع بها الامواج . كان يجري مثل ماء الساقية بهدوء وفي ضميره تكمن العاصفة.
هو ابن القرية التي ضجر منها وتقبّل ضجيج المدينة ونهاراتها الصعبة , ولياليها العسيرة . منير ابي هل تتذكّر متى نزح عن القرية؟
ابتسم عبد القادر وقال كانت اختي فاطمة ترعاني وترعى اخي الرضيع فاضل مقد كنت اكبره بعشر سنوات على اقل تقدير . كان والدي يعيش في قرية تقع على جانب النهر الذي كان ينحدر , ويرسم ممرّه بشكل هلالي.
عاش والدي عيشة بسيطة الّا انّها خالية من العقد .
كانت القرية تسمّى ب((( جديدة الشط))) والقرية التي اشر تاليها تختلف عن قرى الجنوب . فقرية جديدة الشط لم يستفحل فيها الاقطاع , ولم يأخذ دوره القسري ليجرّع الفلّاحين العذاب , والمهانة , والمصادرة لكرامتهم,
وسحق , ومسخ إنسانيّتهم . كان اغلب الرجال في تلك القرية يعملون في البساتين , وكان والدي يعيش بين اهل قريته مرتاحاً وراضياً يقسمته .
والدته توفّيت وكان جدّي قد تزوّج امرأة اخرى .
في تلك الفترة الصعبة على شاب يافع يعيش بلا والدة , ولا زوجة .
وقد حرم من حنان الوالدة, وحنان الزوجة .
كان يعمل بلا كلل دون ان يحس به ممن كانوا حوله . وبشكل خاص زوجة ابيه التي بالضرورة كان عليها ان تكون له بمثابت الام الحنون . تحوّلت الايّام بعد فقدان والدته من جنّة الى جحيم لا يطاق .
كانت المرأة مشحونة بالكراهيّة التي لا يسندها مبرّر لوالدي بالذات .
كان جدّي يقلّب الامور وجهاً على قفى : لم يخرج بما يبرّرتلك الكراهيّة
التي تسلّقت قلب المرأة الحقود مثلما يتسلّق نبات الّلبلاب .
والدي كان يجري مسحاً لاجندة تلك المرأة الظالمة التي حوّت نهاراته الى ليال مظلمة.
كان يحاول ان يجد قاسماً مشتركاً بينه وبينها , ولكن دون جدوى.
لم يصل الى حل مع تلك التي حلّت مكان جدّتي . ظلّ يعاني سنوات المرارة
وفي يوم من ايّام الصيف الحارق بناره التي تشعل كل شيء.
الى جانب المرارة التي كان يرتشف منها قدحاً بعد قدح.
جاء والدي ضحىً وفيده قطعة لحم .
نادراً ما يحل الفرد في تلك القرية على قطعة لحم .
ووالدي واحد من ذلك الرعيل الذي يعيش الحرمان بكلّ مراراته .
قال للمرأةاالحقود اعمليها لي ولكم غداءاً .
تناولتها من يده وهي متجهّمة , ولم تنطق بكلمة واحدة .
خرج الى عمله , وعند الظهر عاد ابي من عمله في البستان
وهو مرهق ويكاد يسبح في عرقه الذي نزفه من جسده وكان
الغبار قميصاً , وقناعاً لوجهه وجسده وهو يلتقط انفاسه التقاط من
يحتضر وقال لامرأة ابيه بصوت المتوسّل هل حضرت لنا الغداء
. ردّت عليهبصوت يقرب من الصراخ : لقد القيتهاالى القطط.
ضاقت الدنيا بعينيه , وفقد توازنه , ودارت الارض به . وفي سورة جنونيّة
رفع يده اليمنى وانزل ضربة على صدرها فسقطت مغشيّاً عليها كما ظنّ
والدي , ولكن بعد ان حرّكها لم تتحرّك واذا بها جثّة هامد وقد اسامت الروح . قامت القيامة من قبل اهل المرأة رغم علمهم بكيفيّة تعامله الوالدي,
ومع معرفتهم بسيرتها ومواقفه العدوانيّة والمتوحّشة من والدي وبغضها
له من خلال تذمّر وشكاوى والدي لذويها الّا انّ العرف والتقليد العشائري
وسطوته اصرّوا اهلها في انزال العقوبة بمن يرتكب جريمة قتل شنيعة
كجريمة والدي , فهجّر الى مدينة الحلّة لمدّة ثلاث سنوات عقوبة لفعلته
المنكرة . في تلك الفترة مات جدّي دون علم والدي بوفاته .
قضى والدي تلك السنوات على مضض في مدينة الحلّة وهو المعاقب
ولا اقول الغريب لانّ مدينة الحلّة تسكنها نفس عشيرته (((المعامرة)))
فهو يحسّ بالغربة عن الاهل لا عن العشيرة .
عمل نفس عمله في الحلاقة وترك عمله الاضافي في (البستنة) قضى تلك السنوات العجاف محروماً من حنان الاهل , وزيارة الاقرباء.
قسوة الحياة قد اذقته كأس العزلة والضياع يجهلها , وقد عاش على الهامش
من ايّامها . وما ان انقضت تلك الحقبة السوداء وقد اكلت حد التخمة من ربيع عمره الغض , وشبابه الضائع .
عاد الى قريته كحطام سفينة القت بها الريح على ضفة قرية جديدة الش
ط من جديد .
عاد ليكوّن نفسه , وليقف على قدميه بعد رحيل والده .
استأنف حياته من جديد , ورمّم وضعه .
تجوّج ليضعنا على قارعة الطريق.
قضى بعد عودته السنوات بحلوها ومرّهاوهو يعمل مقسّماً وقته بين الحلاقة والبستان , وفي ساعات الكدح المضني حصلت لوالدي مشادة كان يمكن تجاوزها بصبر, ودراية ترافقها الحكمة : الّا انه ركبته الحماقة في ساعة
غضب , وضيق في الصدر جرّاء هفوة بسيطة من قبل احد ابناء عشيرته
السذّج , والودعاء.
خرج والدي عن طوره , وهاجر الو العاصمة مختاراً منطقة الاعظميّة
تاركاً بيته الطيني الكبير و(((بستان امّ الدم))) القريب من النهر, والملاصق
للسدّة . منير ابي اسمه امّ الدم , نعم يا ولدي اسمه ام الدم ولحد هذه
الساعة لم يغير اسمه .
منير الّا انّ هذا الاسم يبعث الشؤم : نعم كذلك انا عندما سمعت من
والدي وهو يتحدّث عن البستان وحين تفوّه بكلمة ام الدم . اخذتني القشعريرة , وتملّكني الرعب .
سألت والدي لماذا سمّي بهذا الاسم ردّ عليّ الاسم على مسمّاه كما
يقولون . وقد سمّي بهذا الاسم لانّ رجلاً غدر به ولم يعثر على القاتل.
والدي نزح من جديدة الشط الى العاصمة بغداد عبر النهر, وحمل
ما يملك من بسط ووسائد واغطية , وقدور وآنية وغير ذلك مع اصطحاب
العائلة المؤلّفة من الزوجة زهرة الرحيّم وانا , واختي فاطمة , واخي الصغير فاضل وانحدرنا في (قفّة) من جديدة الشط الى منطقة الاعظميّة .
لازلت اتذكّر ذلك الرحيل كحلم في تلك القفّة . اجل في تلك اللحظات الحاسمة . اتخذ والدي الموقف الشديد وانعزل عن العشيرة .
لم يعد لجديدة الشط حتّى عانقه الموت.
منير هكذا كان طلاقه لها ؟ عبد القادر بل قل فطامه منها.
منير لقد القيت بحجرك على سطح البحيرة الساكنة فاثارت فيّ ما اثارت
وهاهي الدائرة تتفتّق عننها الدوائر الواحدة تلو الاخرى , وتتسع . انّ سرة جدّي فريدة وحازمة ولكنّها لا يجب ان ترقى الى هذا الانقطاع, وانسلاخ
الجلد عن العظم . لقد الغى كلّ شيء , ومزّق نسيج الارومة , ونأى بجذور العائلة , ونزع الفرع عن الاصل , وابتعد عن حيمة العشيرة , واستظلّ بقرصبالشمس , وسحب الششتاء, اقول لك ربّما لم يكن جدّي من ذلك الصنف لأنّ جميع من نرتبط بهم بصلة الدم , والوشائج العشائريّة هم من الاخوال ولا قرابة لنا بينهم من الاعمام . عبد القادر, ربّما كان والدي يتكتّم
علينا ولم يقل لنا شيئا . وفي يوم من الايّام كان عمّك في احدى سياحاته الحالمة اطلق بالوناً بتّجاه الحمدانيّين , وليس باتّجاه المعامرة كما هو معروف عندنا . وربّما كان ضغث من اضغاث احلامه الباطلة . منير ابي
لنطوي صفحات كتاب العشيرة , ولأحدّثك عن ايّام الحجر القسري الهمجي
, وعن القبو المظلم , والافضل قليلاً من القبر, وصمت الموتى حيث نجهل
مصائرنا وما يترتّب علينا من مقبلات الليالي الحبالى , ومن غير المتوقّع,
وعلى غفلة منّا عاد المتوحّشون بأحد المعتقلين وهم يدفعنه الينا دفعاً كاد
يسقط فوقنا لولا انّه استند على كتف احد الجالسين . واخيراً انسحبوا مثل جن المقابر وهم يضربون الارض بأقدامهم كالبغال .
نعم كانوا قد اخذوه من بيننا ثمّ اعادوه لنا بأسوء حالات الضيق وانقباض
الصدر. في خارج القبو , وفي فسحة الحياة , وصندوق الحرّية كما يسمّونها هم كانوا يطاردوننا مثل كلّ حمامة تخرج من فرشاة الرسّام المبدع
بابلو بيكاسو حتّى ولو كانت مقصوصة الاجنحة.
انّهم يميّزون اللون الاحمر مثلما يميّز الثور داخل حلبة الصراع ذلك اللون
القاني . ربّما كانوا يقبضون على من ينحت اعمالاً في الجليد , او يقيم معرضاً ثلجيّاً لو كان عندنا طقساً كطقس اوربّا , وربّما يلاحقون من يكتب
قصائده على رمال الشاطئ الذي سيمحوه المد الموجي للبحر الصاخب :
لو كان وطننا يقع على ساحل المحيط الاطلسي او الابيض المتوسّط .
ابني منير كلّما حاولت ابعادك عن مشاغلك , ووسوساتك , ومنطلقاتك التي لا تجلب لنا سوى المصائب اراك تدير دواليب العجلة من جو العشيرة
الاثير على نفسي الى جو المعتقلات والرعب , والعذاب , والمنافي ,
والسجون . ابي اقاصيصك عن مسيرة جدّي , والعشيرة مليحة وشيّقة , ومدهشة , ولا تقل روعة عن الاحداث التي نعيشها بحلوها ومرّها والتي تنبع من واقعنا . ثق يا والدي انت تتحدّث عن جدّي , وعن الارض , وبستان امّ الدم , وجديدة الشط وعن ابن خالتك عبد الله المحسن وحميد الغربي وغيرهم من اهلنا فهم موضع اعتزازي وانا انصت وارى واحلم
قضيّة ولكن قريني معي يغمر وجداني باهدافي البعيدة والقريبة والقضيّة .
ابني ايّة قضيّة . قضيّة لشعب التي يشترك بها الجميع والحكومة والاسوار والقيود كما احسو رغم أنّي لأعيشمعذّباً بقربك, وسماع أقاصي,صك عن الماضي الذي يبعث فينا الشوق , ويزيل عنّا ركام الحزن, والغمامة السوداء. ولك ما نعيشه الآن يجذبنا أكثر فأكثر , ويضعنا امام واجبنا الوطني في المكان الأوسع والأخطر , وفي الدائرة العريضة من دائرة
العشيرة المحدودة الى دائرة الشعب المطلقة . هذه عقدتي التي سمّيتها
بالعقدة . ان واجبي والآخرين من رفاقي: هو اعادة الأشياء الى مكانها
وقد قال ابو نؤاس رحمه الله (وداوني بالتي كانت هي الداء)
وأنا اُريد الذهاب الى النيع : كما خلقنا الله عزّ وجل نجيءعراة ,ونذهب عراتاً ولا تغفل نحن (شركاء بالنار والهواء والكلأ)
والدي العزيز العزيز لقد قطعت عليك حديثك الشيّق, فأرجو العود الى تلك
الايّام النديّة , والنضرة , والتي لا يجود بمثلها الدهر . انا احب التطواف على رمل نهرها , ونخلها الذي يعسكر على الشواطيء الهلاليّة وهو يعانق
الضفاف عبر عمره الطويل .
بتسم عبد القادر وقال الإنسان لا يعلم ما كتب له او عليه .
جدّك كان صعب المراس مثل مخلوق من الثلج والنار.
نعم هو من الطراز الذي يخونه الصبر , وكذلك من المنقطعين الى الله.
كان جنديّاً في ظروف الحرب الكونيّة الاولى وقد سيق الى القسطنطينيّة
كفر من الجيش وقد اقترب من فوهة البندقيّة , والضغط على الزناد لو لا
ان تداركه الله بسقوط خيمة السلطنة وصعود كمال اتاترك .
لقعانا ما عانا جدّك ايّام خدمته العسكريّة , وقد عاش حلّاقاً مقابل اعطيات
من قبل الفلّاحين حبوباً وخضاراً وما يجنون نت الارض حسب الحاصلات
المواسميّة مقابل جهده خلال عام بكامله , وعلى مدار السنين كان يتواصل
معهم على اساس هذه المقايضة . هو يقوم بعمل الحلاقة لهم ولأولادهم ما
يلاحقت الفصول والايّم . وكم كنت اتمنّا لو انّ والدي لم يهجر القرية ,
ويقلع بنا مثل سفينة اتعبها الإبحار , وجذبتها الرياح من جدائلها لتلقي بها
الى شاطئ الاعظميّة , فالحياة في القريةكانت ومازالت اهدأ , واهلها ينظرون من خلف حدودها الى افق صافي لا تعكّره مداخن معامل الطابوق
, ولا ترى ظلّاً للشرطة , ورجال التحقيقات الجنائيّة , واسوار السجون والمحاجر التي تعج بنزلائها .
فالقروي يتناول التمر واللبن , ورغيف الشعير ولسانه ينطق بالشكر الى الله
, وينام بلا هواجس , ويستنشق الهواء الطلق والنقي ولا يعرف البطالة
والملاحقة لما استحقّ عليه ايجار سكنه وما يحصل في المدينة من متاعب
, ومشاكل مثل المظاهرات, والاضرابات عن العمل , والملاحقات وما
يترتّب عليها من حجر , وسجن , وخطف بالمجّان , وتحت العباءة .
لو كان احمد المسكين قد بقي في قريته لما حصل له ما حصل ابي ماحصل
لاحمد في المدينة قد يحصل له في القرية .
وعندما ينفض الفلّاحون عنهوم تراب الجهل , ويمسكون , ويمسكون بالحبل السرّي, وعندما يعلمون انّ الوطن وما فيه من خيرات هي ملك الشعب وليس للملك , وللوزراء , وللاقطاعيّين ولكلاب حراستهم .
وليس فقدان احمد , او موته بسبب وجوده في المدينة.
هناك عشرات الآلاف في المدينة يسرحون , ويمرحون, بل يباعون وهم
غافلون وليس لهم مشاكل مع نظام الحكم , وعندما يرفع الغطاء عن عيني
الحصان : ستهتز الارض من تحت حوافره, وسيخرج من الاصطبل
الى السجن. اجل هذه هي القضيّة , ولا يوجد فرق بين المدينة والقرية.
انّما الفرق باكتشاف الّلعبة على قاعدة الشطرنج السياسي طالما الطاحون
يدور في الفراغ فلا خوف من الفلّاح او العامل . فالفلّاح يطفئ ظمأه
من ماء الساقية المليئ بصغار الضفادع والحشرات , وحصّته من الحبوب
لا تفي بسد حاجته ورحى الطحن لا دور حسب حاجته , بل تدور بالتقسيط
. هو يجهل لغة البروتوكول, والصياغات التجاريّة والملكيّة , وتدفّق قيم البترول وما تحوي الارض من كنوز ومردودات الزراعة . خاصة مردودات عمّتنا النخلة سيّدة الموكب النباتي.
فالنجاة هنا ان لاتعرف لتطال . وللمعرفة الحد الفاصل : شرط ان لا تنظر
الى اللوحة التي يشترك فيها الجنس البشريكلّه , وقد تمر بها مثلما تمر بالمتحف الذي يظم تراث البشريّة وانجازاتها في كلّ مضامير الحياة , وقد
تسلخ عمرك على تفسيرها, ول كان تستقرئ روزها والعمل على تزويقها,
وكذلك تجديد الوانها الباهة وترميمها بكلّ حرّيّة . كلّ ذلك ممكن : ولكن
الويل ل كان عزمت على تغيرها بشكل جوهري فستنقض عليك نمورها
المدجّنة , وغير المدجّنة, بل حيوانات الغابة كلّها . لقد حاول احمد ان يمسّ
قدس الاقداس حين عمل على التغيير مع من جدّف وصبأ منذ ثورة زنج
البصرة , وما قبلها , وما بعدها , لذلك افترسته الضواري ولم تترك له اثراً
على قارعة الطريق : انّها حكمة النظم الرأسماليّة منذ ماقبل آدم اسمث وحّتى آخر البرابرة الذين انحدروا الذين انحدروا من بيضة الحضارة, وعصرها الصناعي المرعب . كذلك نرى زبانية الامس , وفرسان اليوم,
وملاحقتهم لطلب الفلسفة جمال الهارب من القطار . كانت وما زالت في اوج حزمها وحرارتها .
ثمّ قال منير لوالده لقد اتعبتنا هذه الحكومة المسحوبة منخرطومها ,
والمعفّرة وجهها بتراب الانصياع لما يرسمه العم سام , ولشركاته بالانابة .
ثمّ ان انفرطت الجلسة , جلسة العائلة بعد ان اخذ التعب منهما مأخذه

000

التقى جمال بمنير بعد ان اصبح من المستحيل عليه التجوال نهاراً دون ان
يتنكّر, وقدارتدى مؤخّراً الملابس القرويّة وكان له اللقاء الاخير في مدينة الكاظميّة , والذهاب الى مقهى منزو, ومجاور الى النهر اتقاء عيون الذئاب
وشرح لمنير مما هو فيه من الملاحقات . قال منير التقيت بك لكي اودّعك وافضي لك بما يجول في صدري, لقد اضحت المدينة محرّمة عليّ بكلّ شوارعها واسواقها , وساحاتها : ولو لم اخرج بالزيّ القروي لما استطعت الوصول اليك وها انا اصبحت امام مفترق الطرق : امّا الرحيل , وامّا الجلوس في السجن الاختياري وهو البيت غير المعلّم بشخصي , او الاستسلام لانهاء رواية الخوف , ومسلسل الرعب, والتحسّب لمفاجئآت متوقّعة بفصولها المأساويّة . لقد مللت الحياة غير الراكدة , والمشحونة بالارتياب والهموم الثقيلة والكابوسيّة . اكره ان اكون ريشة في مهب الريح . وها انا صمّمت على شق طريقي وانا تحت الشمس في برّيّة الله الواسعة , والمترامية الاطراف خارج حصار الافاعي , والكواسج الخائبة.اريد ان انشد نشيدي وانا احلّق في الاعالي: وليس في الجب المظلم. نعم احسّ انّ عمليّة الغوص والتواري عن الانظار في المدينة هي اشبه بعمليّة الشطب التاريخي والغاء هويّتي , والمسح لآدميّتي كعنصر فاعل في المجتمع .
اريد ان اخرج الى النور, وقبل الخروج جئت لاودّعك ايّها الاخ الوفي , ورفيق العمر . ولو كانت امكانيّة التغيير والمجابهة متوفّرة مع مستلزماتها
التاريخيّة لما قرّرت الخروج والانسحاب عن مسرح المدينة المطعّم بالمصابيح الملوّنة . جمال اتتركها بهذه السهولة. ؟
نعم ساتركها بمارثونها لشياطينها , وسماسرتها الذين يعبثون بها بطباعهم
التي جاوزت طباع الذئاب , وغرائز القطط .
الى هذه الدرجة اضحيت تعاني من المدينة واختناقاتها بحيث ترغمك الظروف على وضع اقدامك خارج خارطتها.
نعم انا اعترف لك بالانسحاب القسري , وترك المدينة المدوّرة قبل ان اخرج بشكل افقي , وعلى تابوت يجهل الناس صاحبه . خطوتان الى الوراء تكسبني مديات ابعد وانا على الطريق الاكثر وضوحاً في نهار مشمس , وفي قلب الحراك سواء كنت خارج المدينة , او داخلها .
لا اريد ان احمل رقم ما يلي احمد : منير لن ادعهم يفوزون بايداعي جسداً
يضعونه في حفرة : وهم يركلون القبر باقدامهم.
منير حقّاً تعني ما تقول , نعم واقول ما اعني , ولو انّني لا استطيع ان الفظ
كلمة الهجرة , فهي بالنسبة لى مثل قطعة قماش من حرير يشتبك عليه
الشوك ولساني يتحرّك بحرّيّة مع الاعلان عن الخروج من مدار المدينة
والدخول لمدار اخر وقلبي يختلج , وينطوي على الحزن والاسى .
فانا بين النار والجليد تصطرع فيّ نزعتان : نزعة البقاء والتحدّي لخوض المغامرة, ونزعة العواطف الجيّاشة والنظر لما وراء الحاضر, والمصلحة العامة والتي تصب في رافد المغلوبين على امرهم .
اخي منير لاوّل مرة احس بانقسام الذات والوقوف على مفترق الطريق
بين سبيل المكابرة الطائشة , وسبيل الطريق المستقيم .
احس ان الايّام تقبل عليّ بكل اضطرابها مع اهتزاز الارض من تحت اقدامي . لكنّي ما زلت امسك بزمام جواد القرار , واستقر على ارض الواقع . لا مع من يذهب مع الريح . لا زلت اعيش الصفاء الذهني : ولن تختلط في مدياتي الالوان: فهذا ماء فرات وذاك ماء اجاج,
المكابرة , واندفاع وجموح الشباب هو الذي اخّر قرار الهجرة ,
منير اخترت ولم تتحرّك باتّجاه الهدف . كلّما تحرّكت خطواتك واعطيت ظهرك للمدينة ستكون السماء اصفى , والنظر الى البعيد هو رأس الحكمة,
والإنتقال هو الفوز فلا تخسر نفسك , وفرص العودة متوفّرة , وحياة الاضطراب لها مواسمها, وفصولها ولا يمكن اختلاق الحدث , اوافتعاله دون وجود عوامله النابعة من صميم المجتمع الذي هو منجم الحجر الكريم
, وبئر العواصف , والانجازات الثوريّة. نحن الان في دائرة الركود التي يختفي تحتها المارد الزلزالي , وقد نحس وكأنّنا في صمت المقبرة : ولكن لمن في القبورانبعاثاً ,
هذا ما يخشونه وهم الان متفرّغون لملاحقت الفراشات في الحقول فعش لغدك , ولا تفرّط بيومك فأنا احثّك على الخروج من المدينة
بقناعة نابعة من الوجدان
بعد ان سمعت ما سمعت منك وقلبي يذوب حزناً لفراقك ,
جمال عليّ ان انجزكلّما يتعلّق بي قبل ان اغادر المدينة التي اهيم فيها وهي الصاعقة التي احرقت احمد ذلك الانسان الرائع المخضرم الذي عاش
بين مرحلتين , بل بين مكانين مختلفين القرية والمدينة التي هي فردوس الاغنياء ومقابر الفقراء, ابتسم منير وقال ليست المدينة بل اهلها .
نعم نعم انا اقصد التعبير بهذا المعنى. والناس عندما يقولون او يلفضون كلمة وطن بالتأكيد . كانوا وما زالوا يقصدون البشر, وليس التراب والحجارة. منيراسمعني جيّداً: محنتي الكبرى هي والدتي افكّر كيف ساقنعها عندما افتح لها كتاب الرحيل , واقرأ الديباجة فقط . وقبل الخوض بمتن الكتاب : منير
انا واثق انّها ستقتنع برحيلك . من اين لك العلم بانّها ستوافق ؟ وستقتنع
خاصّة وهي ام . امّا الاخرون قد يتركون عواطفهم حبيسة , وقد يركنونها
جانباَ , او يعلّقونها على مشجب الصبر مجبرين على ذلك.
منير قبل حسم الموضوع اريد ان اسألك الى اين ستتجه؟
غرباً ام شرقاً , شمالاً اجنوباً .
وجهتي ستكون حيث المسطّحات المائيّة وعالم الطيور, والأسماك التي
تسرح , وتمرح . انّها يوتوبيا الأسماك وبانوراما الطيور حيث
ترى الأكواخ وكأنّها سفن سومريّة رست على سطح الهور بعيداَ عن حضارة الإنسان المدرّعة بالشوك والقتاد الفولاذي في ظل التقدّم العلمي حيث يمارس الأنسان نظريّة صيد الأرنب والغزال . فعالم الأهوار يقترب ولو من بعيد من علاقات المشاعيّة الاُولى مع انّ الإنسان هو الإنسان أينما
حلّ أو إرتحل . وقد يستطيع شيطان الإستغلال أن يغويه لممارسات
قارونيّة, وان يسري بدمه مثلما يسري لقاح طلع آدم اسمث في الشرايين والأوردة . إنّني أرثي للملائكة المخضرمين
الذين يعيشون بين شياطين العصرالحديث.
في بعض الأوقات وأنا أدور في الدوّامة : تأخذني العزّة بالنفس فاُقول
لنفسي كيف أنسحب لأسجل نقطة فوز لخصمي كوني انسحبت عن الخط
الساخن..
عزيزي جمال انّهم بمثاب ت ال(حادلة) وانت بوزن الريشة في مهب الريح
المجابهة . لاتقف امام المرآة المكبّرة وتتوهّم انّك عملاق من طراز
(شمشون )الجبّار : نعم أنت في طورالفتوّة : ولو كنّا أكبر لأزحناهم من
زمن بعيد :هم يملكون الجيش ومعدّاته للقتال الى جانب امتلاكهم أجهزة
الامن , وقوّة الشرطة الى جانب الحلفاء من التجّار , واصحاب المعامل,
ومالكو الاطيان والاقطاع وغيرهم من طفيليّات المجتمع الى جانب الثالوث
الرهيب, والدرع الواقي والمتمثّل بالمرض والجهل والامّيّة.
هذه الأعشاب الضارّة التي تعيش ضيفاً على حساب الشجرة الام.
فالفلّاحون , والعمّال هم اصحاب المصلحة الحقيقيّة في الاشتراكيّة وقد لا ازيد ان قلت انّهم
لا يفهمون ألف باء الاشتراكيّة إلّا ما ندرمنهم ممن اطلع على تلك الافكار
التي تصب في مصالحهم: فكيف تريد ان تملأ كفّة المعادلة لميزان الصراع
امام تلك التراكمات وخلفك التاريخ يسير على ارض السواد وهو يعرج
فوق قناطر هشّة , وكثيرة الفجوات . اما زلت
تعتقد بانّك القوي المعادل.. وانت تعتمد على جيشان العواطف في فترات الاضطراب والوثوب مع اندفاع الامواج البشريّة خلفك
وهي تتبنّى شعاراتك التي تعبر عن الخطوة الاولى بشكل جوهري ودقيق .

امّا ان يصعد النسغ من جذورك في الزمن الحالى فهي نكتة لا تتعدّى كونها مزنة صيف فوق نهر جاري في موسم خارج جدولة الفصول .
عزيزي جمال الذهاب الى الجنوب باسرع وقت ممكن لتعانق الاهوار ,
والعجين الذي لم يختمر بعد . ان نهض جمال وصافح منير ثمّ عانقه عناقاً طويلاً وفي هذه اللحظات مرّبه شريط من الذكريات مختزلاً كل الفترات التي عايشه فترات الدراسة والاعتقالات وهو يحس بالاندماج ووحّد ة
الهدف والدموع , ولهب العواطف التي عصفت به .
تحرّك جمال ومنير ينظر اليه وكأنّه قد غاب عن الوجود

000
كانت السيّارة تغصّبركابها , وبكاء الطفل في حضن تلك المرأة الملتحفة
بعباءتها. امامه جلس شاب لا يحيد بنظارته عن جمال .
كانت الاحاديث تدور عن صيد لاسماك , وشراك الطيور , وتقلّب
الطقس , وكرنفال المواسم , ومواكب الحصاد , ومجيء الفصول,
والاحاديث الرتيبة التي يتداولها الفلّاحون.
كان جمال حزيناً مثل قارب متوحّد يقف على ماء راكد ركود الدصا تحت
مجرى الماء الهادئ الذي لم تعكّر صفاءه الرياح . كانت السيّارة تئن
من ثقل حمولتها وهي تهرول على عتبة نهاية الشوط من عمرها تنتظر
الانفكاك واحالتها على التقاعد .
من كثرة الاهتزاز استسلم جمال لنوم عميق وقد رأى نفسه لى كتف الهور
في المنطقة الواقعة بين القرنة وبين العمارة حيث توجد شجرة آدم المباركة
قرب ضفة شط العرب المهيب. راى جمال نفسه يلقي بصنّارته ليحوي
ثمار الهور من السمك الذي لم يستسلم بسهولة للقادم الغريب.
جمال يسحب الخيط بشكل متسارع , والاسماك تتقافز خارج محيطها المائ
تحت اشعّة الشمس وبريقها يعكس الواناً زاهية , وممتعة . تكدّس لديه سمك
اكثر مما يريد , نسي محنته وهو غارق في التصوّر في مكان وزمان
لا يبعده عن تلك التصوّرات المدهشة . والسعيدة في البقعة التي تخلو
من جند الشيطان وقد امتلأت رئتاه بهواء الهور النقي , وهدوء الاعصاب.
كان يتمنّى لو يكون رسّاماً ليصوّر الماء والسماء, واكواخ قصب الردي
الطافية على الماء وهي تلوح لعينيه من بعيد , ولكنّه لا يملك خيال الرسّام
, والرؤى التي تستلهم الالوان , وتطوّع الفرشاة بالاصابع الملائكيّة
لتقيم عالماً زاهياً يغري المتذوّقين من خلال ما يبدعه الرسّام .
عزّز الومضات الابداعيّة العابرة قدر الانسان الفاصل بين اصابع الرسّام
المطبوعة بالبهاء الروحي والانسان العادي الذي لا يرقى لذلك العالم العلوي . كان جمال يرى اللوحة التي يبدعها الرسّام لا تقل عن روعة
القصيدة الشعريّة والاثنان تشكّلان عالمين متقاربين في اشواطهما :
ومن يمتلك واحدة منهنّ فليزدد شكراً على هذه النعمة للخالق العظيم
لهذين الرافدين المضيئين عتمة الحياة ,وظلام الصدور وما ان القى
جمال بصنّارته للمرّة الاخيرة وهويحدّق ليسبر عمق الماء واذا
بسمكة تعلق باسرع من لمح االبصر وقد التقمت طعمها في عالم الهور , ومملكة الماء مستسلمة بعد كفاح طويل ومضني في زمنيّة السحب ,
والانسياب داخل الماء : اخيراً سحب جمال الخيط بقوّة فضرب بكوعه القرويّة التي كانت تجلس بجانبه , فما كان الّا ان اعتذر من المرأة وممن
شاركوه مقاعد السيّارة ومن ذويها . اعتذر كونه كان يحلم وليس الحالم كاليقظان. بقي جمال مهموماً وغارقاً في كيفيّة حصول مثل هذا الانسراح والشطحة التي شكّلت له حرجاً ما بعده حرج
000
استيقظ منير صباحاً فنهض , وغسل وجهه , وتناول فطوره , وخرجهائماً
على لا يدري الى اين ستقوده قدماه,
راح يمشي والهواجس تحتل المساحة الاكبر من خارطة افكاره .
كان متمرّداً بطبعه على كلّ شيء , والآن يحاول ان يجد قاسماً مشتركاً
في وجدانه للتخفيف من حجم التناقضات, وحشرها في بودقة التوافق ,
والتمسّك في احاديّة المنطلق لتوصله الى ذروة الطموح . كما انّه وبشكل حذر صار يتجنّب المنزلقات , والعوم على الجليد مع جهل ما وراء التلال.
وما سيأتي به الغد . وهاهو يفقد رفيقين بين الغياب والمجهول .
اختفاء احمد وارغام جمال على الخروج , والانسحاب من على خشبة المسرح , والرحيل الذي نجهل عاقبته .
تذكّر منير ايّام الدراسة , ومتاعب والده , وقد حان دوره ليتقاعد : ولكن
اين له من حقوق للتقاعد في بلد تدير الدولة ظهرها للمتعبين , وقد اشتغل
في فتوّته حيث استهلك حيويّته وشبابه في محلّات , وورش صغيرة .
كان اصحابها مستعدّين لان يحشو التبغ بورق قوانين حقوق العمّال ويحوّلونها الى دخان يشكّل لوحات كاريكاتير ساخرة تهزأ بمن يطالبون بحقوق تقاعديّة, والحكومة تعمد الى غلق النقابات , وهدمها على رؤوس
العمّال خاصة في حالة اشتداد الصراع بين العمال وارباب المعامل
كالنسيج والسجاير وغيرها .
كما كانت صور احمد تراود خيال منير , وتذكّره كيف ركب الموجة , واشتبك مع الاخطبوط , واخيراً صار من نصيب الحوت الازرق , واصبح قصّة صغيرة من قصص الف ليلة وليلة . ركنت في زاوية من زوايا التاريخ . وكذلك الفهد الذي نصبوا له الفخاخ في كلّ شارع , وزقاق من ازقّة المدينة المسبيّة , واطلقوا خلفه الكلاب البوليسيّة نهاراً , والخفافيش مساءً , وقد اقترب من جب قبل اقتراب الاخوة..
وهاهي لعنة قابيل تترصّده.
امّا ثالثة الاثافي التي هي انا منير عبد القادر الواقع بين يهوذا الاسخريوطي, والكلب الخارج من جحر ثقيف كنابح ليس من يلتفت اليه. لا ادري من اين يلقي اليّ بالطعم , وينصب لي الفخاخ.؟
كانت امنياتي عندما كنت احلم في ان ابدل كلّ شيء في البيت .
وها انا الان ادرج في السراب ولا ماء , وادور حول الارض , وخطواتي
لا تغادر عتبة بيتنا , والاثاث والانية العتيقة , والتي ما تزال هي هي.والدي كبر , وتقوّس ظهره وهو قريب من عكّازة تعينه على المشي بين البيت والجامع وقد شاخ وشاخ كلّشيء في بيتنا : قدور الفافون المعوجّة بفعل الحرارة , واغطيتها تتراجع ومنها من منذهبت الى التقاعد من زمن بعيد.
وفي ضميري تغدو الافكار الاشتراكيّة فتيّة , ونضرة يوماً بعد يوم.
وهمّي يكبر , وحقلي يتّسع , وقوّتي تتضاءل .
انسلّ منير من هذه الدوّامة منهكاً وعاد الى صحوه, وخرج لا يدري الى اين سيذهب . فجأة صار امام شجرة السدر التي كان عبد القادر يصحطحبه للجلوس تحتها , والنظر الى جريان ماء النهر . كان قد مضت ثلاث سنوات عجاف ومن مساماتها انسلّ الجبل عن الجبل والحياة تعجّ بتناقضاته
وهي تمرّ بحلوها , ومرّها .
في تلك الليلة عاد الى البيت تعباً ومهموماً : لانّ الماضي انسحب بكل تراكماته وقد التفّ على رؤى منير مثل الثعبان الاسود فضاق صدره , وسالت الدموع على منذهب ولم يعد , وخيط العودة الواهن يمتد على افق تصوّراته المرهونة في نطاق الغيب .
اطلق زفيراً محموماً, وراح يترنّمبصوت خفيض :
(كأنّ القيود على معصميه مفاتيح مستقبل زاهر)
كان على فراشه ممدّداً والقبّة السماويّة تغطي وجهه بالنجوم الباهتة الضوء
مثل موجة باردة غمرها الضباب .
في صيف لاهب كان يغمر وجدانه بالحزن المسحوب على مدن ارض السواد . رغم غمامة اليأس وتجمّع سحب الخوف من الغد المجهول .
كان منير يتحسّب ليخرج من صندوق العالم بانفتاح كتاب السماء ليقرأ النجوم سطراً سطراً ويترصّد مواقعها , ويركّز نظراته عليها , ويحسب حبّاتها مثلما كان والده يحسب حبّات المسبحة باصابعه في ذروة صراعه الداخلي. دهمه النعاس ليسدل رموش عينيه فيغيب عن الوعي .
وقبل ان يستيقظ جاءت عائشة تهتف منير , منير انهض لتنصت الى المذياع . استيقظ وقال ولماذا انصت الى المذياع . قالت الساعة .
ردّعلها وما الساعة ؟
صرخت لقد دنت , وقامت القيامة على ما اعتقد .
هرول منير الى المذياع مسرعاً فسمع صوتاً جهوريّاً يهدر مثل قصف الرعد بتلاوة البيان الاوّل لثورة الرابع عشر من تمّوز.

شعوب محمود علي



#شعوب_محمود_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصقر واناث الطير
- اسماء الله الحسنى (السلام)
- فرار العصافير
- (الغابة والنجوم)
- طيرنا الاخضر الجنح
- (من كتاب الرمل)
- (من كتاب الصحراء)
- صفحة من كتاب الرمل
- القدوس
- السميع
- ذهب ولم يعد الجزء السادس
- (وحدك تليق بك الكلمات المذهّبة)
- (ذهب ولم يعد)
- (النبض وفعل الدورة)
- (النواقيس تقرع من جديد)
- (ايّها النجم المغترب)
- ذهب ولم يعد الجزء ما قبل الاخير
- يالمعان سيفك البتّار
- ذهب ولم يعد **
- (صفحة من كتاب الرمل)


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شعوب محمود علي - ذهب ولم يعد القسم الاخير