أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - الصلاة البعيدة _ قصة قصيرة















المزيد.....

الصلاة البعيدة _ قصة قصيرة


عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)


الحوار المتمدن-العدد: 4606 - 2014 / 10 / 17 - 09:07
المحور: الادب والفن
    


الصلاة البعيدة

تجلس كالعادة تتوضأ لتمارس طريقة فريدة في الصلاة لم ينجح أحد أن يغير في شكلها منذ أن عرفت أن الصلاة واجب مكتوب ,ترى الجارة العجوز أن ما تفعله كان مجرد تقليد لوحي جاءها في يوم من الأيام ليعلمها سرا لا يهتك ومنهجا لا يقبله إلا من عرف درب الله كما تسميه "المبلط" ,سألها حفيدها وكان ممن تستمع له حبا بأمه التي لم تنجب غيرها , وما أدراك أن من جاء كان وحيا ربانيا ,بكل بداهة ردت كان وجهه يشبه صورة سيد جاسم ابو العلوك وهذا غاية الكفاية في إقتناعي.
عرفت سيد جاسم أبو علوك ككل الناس واحدا من الشواهد التي تنتشر في المنطقة دون أن يكون هناك رأي حاسم في أسماء أصحاب الشواهد ,تقول جارتنا أنها ولدت على ما تتذكر أواخر عهد الملك فيصل الأول وكان سيد جاسم موجودا كمزار يتبرك به أهل المنطقة وما جوارها من القرى وأنه يعود بالنسب للشجرة النوية لكنها تجهل حتى من يكون ,لا يمكنك أن تتساءل ومن يكون فقط ما تسمعه سيد جاسم أبو العلوك لكثرة ما عقلت القرويات ومن نساء لا يعرف الله غيره الكثير من أسرارهن عن هذه الخرق المقدسة ,الإيمان يمنحك قوة غيبية خاصة إذا ما منحت روحك شيئا من التفاؤل , قد تتحطم أحيانا كأساسيات وجودك لمجرد أنك أودعت مشكلتك على أسوار الغيب .
زكي حفيد الجارة شاب جميل ومتعلم وصاحب موهبة حقيقية في الرسم تستطيع أن تطلق عليه صفة فنان رقيق بدون أن تتحرج خاصة وأنه تعلم الرسم أيضا على يد فنان أكاديمي ,كان وجه الجدة وإنفعالاتها الموضوع المفضل لكل ثيمات لوحاته كما رسم الكثير من النساء في مرقد السيد جاسم دون أن يعرف لماذا كل هذا التوجه نحو الوجوه المتعبة المتحيرة وأحيانا المأزومة , لكنه يعرف أن تلك الوجوه تملك الكثير من الألم والأمل وأحيانا اليأس ... سيد جاسم كان أهم ما أستورثه من جدته من علاقة قد تختلف من ناحية التفسير لكنها حفرت عميقا في أخاديد ذاكرته منذ كان طفلا ينام ويأكل ويعيش قرب شباك السيد .
جارتنا العزيزة تؤمن بالقدر وليس غيره قادر أن يمنح الفرد الإنساني فرصة الوجود شرط أن يخلص للغيب وأن لا يناقش في كل أمر , الحياة هكذا مرسومة ملامحها وعلاماتها , نحن فقط كمن يسير ليلتقي بالحدث المرسوم لا غير كما حدث لها أن ماتت جارتها قبل ثلاثين عاما لتجد نفسها في حلم ممتد قبل أن تعرف معنى أكتمال نون النسوة عندها لما رأته في الحلم يقود بها في طريق لتمضي معه حيث لا تعلم لكنها كانت سعيدة أن سيد جاسم هو من كان معها في الحلم , لقد ذهب بها إلى هنا أن تكون القيمة على المقام , هل تريد أن تنكر أنني رأيت هذا في ليلة القدر .
زكي بما أنه يؤمن بأن الإنسان هو من يصنع الجمال أو القبح كان في خصام دائم مع الجدة التي لا تتوانى أبدا بضربه حتى عندما بلغ من العمر عشرون عاما لأنها ترى في رسوماته ميلا نحو النساء فقط ,كانت تتأمل أن يكون رجلا شديدا ذا هيبة حتى يكون كما تقول أمتدادا لروح سيد جاسم الذي عاش في ظله , تحكي لي أن سيد جاسم كان رجلا طويلا شديد المهابة لا تستطيع خيرة الرجال أن تقف بين يديه دون أن تهتز أركانهم من مهابته ,حتى في أيام الأقطاع والشيوخ كان لا يجرؤ أحد أن يمر من أمام قيره راكبا الفرس أو خيال ,كلها تنزل عن محاملها مجرد الاقتراب من القبر , حتى أنهم لا يحلفون به قسما أبدا , كان السيد لا يسامح من يحلف به صادقا أو كاذبا , العجيب أنها تروي جميع هذه الصفات عنه وهي لا تعرف إلا أنه السيد أبو العلوك الذي دفن منذ زمن لا يعرف بالتحديد يعد بالعشرات أو بالمئات من السنين .
برغم أنها لا تقرأ ولا تكتب ولم تعرف من التاريخ أكثر مما أختزنته من حكايات حدث في عالمها الصغير والمتواضع يرى الكثيرون ممن هم حولها أنها الحكيمة والعارفة تستمد كل ذلك من علاقتها الممتدة بالطول والعرض مع السيد وكأنه من يرسل لها الإلهام والوحي ,زكي يرى في جدته خامه فنية أو مثال للبراءة الفطرية التي تجسد حقيقة الإنسان , يقول أنها تملك وجها بتقاطيع تجمع بين التأريخي وبين المقدس كأنها أحدى الإلهات التي هربن من عرش عشتار بحثا عن الخلود في جنة الإنسان , قد يكون الحب الذي غمرته به طويلا جعل المعاني تتوالى في ألوانه ليحكي عبرها قصة الحاضر والغيب والجمال والفطرة والتاريخ المجهول , هنا عند قبر السيد جاسم أبو العلوك .
في أخر زيارة لها قبل أن تنتقل لعالم الأرواح الغائبة كنت في ضيافة السيد باحثا عن أي أشاره أو دليل تأريخي أو حتى رواية يمكنني أن أوثق بها معلما مهما من معالم مدينتي فقد سألت الحاجة سومه عن كل ما تعرفه عن هذا المكان ,الكامرة الفيديوية كانت تسجل تلك اللحظات المميزة التي تفتح أفاقا مهمة في عالم مسكون بالغرابة والعجائبية التي لا تنتهي عند حدود التاريخ والجغرافية , كانت جارتي حريصة جدا على أن لا تبوح بسرها المكتوم لولا أن زكي تدخل ليخبرني عن مفاجأة لا يحتملها عقل ,قال أن جدتي قد منحتها عمتها التي كانت تتولى المقام قبلها شاهدا مكتوبا وجد في قلب القبر يؤرخ لكنها تخاف أن يغضب السيد منها .
من يقنع التاريخ أن يكشف كل أوراقه للحاضر وبدون ثمن , كان لا بد من البحث أصلا عن تاريخ هذه المنطقة التي ما أنقطع فيها الحدث التاريخي يوما , هي جزء مهم من تاريخ العراق بل من أكثر الأجزاء تأثرا بكل مجريات الحدث الهام الذي صاغ وجه الكون والمعرفة معا , حاول زكي أن يشرح للجدة أن الأمانة التي في عنقها لا بد أن يحملها هو فليس من أحد قادر على أن يحافظ على مكانة السيد بعدها , خيرها أن تؤدي الأمانة أو يغلق المكان بعدها , كان الطلب حاسما , أعتدلت من نومتها وصلت صلاتها المعروفة من جلوس , لم تكن تحمل من معاني الصلاة إلا النية كما أفهم أنا , نظرت مليا في وجهي ثم نادت بصوت متقطع لزكي أن يفتح الصندوق الخشبي الذي تنام فوقه كأنه سرير كبير .
في هذه اللحظات مرت عشرات الأحتمالات والصور عن نسب السيد وسبب دفنه ولماذا لا يعرف عنه أكثر من أسم وكنية أصطنعها الموروث الشعبي دون أن تكون حقيقة بالواقع , قد يكون هذا السيد الذي فرض أحترامه وقدسيته وزرعت في الذاكرة الجمعية للناس صورة الرجل المهاب الكريم المعطاء قصص أخترعها أو تناقلها من أخترعها جيلا بعد جيل ,ما زال زكي يفرغ الكثير من الأشياء المخبأة بالصندوق حتى وصل إلى لفافة من قماش أخضر ملفوف ثم أبيض أخر وأحمر أخر وأخر الأخير كان مطرزا بطبعات كف موشومة بأثر الحناء والعطر يفوح مسك حقيقي يوحي أنك أمام قداسة فعلية .
سألت حالي هل حقا أن التاريخ عصي على أن يمنحنا ألفه معه ؟. أم أن مجرد تفكيرنا بخبايا عالمه يجعل الأمر أكثر تعقيدا ؟, كانت التساؤلات تدور مرة عن تأريخ هذه السيدة الملائكية النقية التي لم تخرج من تأريخها للحاضر أبدا ومرة عن هذا الكائن الذي لم يغادر حاضرنا أبدا برغم أنه ذكرى قد تكون مرت في مسيرة الزمن ,أومأت بيدها لزكي ليمنحها اللفافة لكنها سقطت سريعا عندما رأت أنه تسرع بفتحها دون أذنها , ترك الشاب ما بيده ورمى بها جنبا ليحتضن جدته التي فارقت سريعا بثواني وكأن نهاية البشر هي ذات نهاية تأريخ السر المرتبط بالوجود , كم هو مزعج الفراق الذي لا يمنحك فرصة للوداع .
لم أشأ أن أعود مرة أخرى لدار العجوز بعدما شعرت أنني سببت لهم بمأساة وخاصة لصديقي الشاب الذي أحرص أن أبتعد عن خط سيري المعتد كل يوم حتى لا أذكره بفعلة لن ولم أشك أنها قريبا ستترك ذاكرته وعلاقته الروحية المعمقة والفريدة مع مانحة الحب الأبدي له ,هواجسي تدور أيضا أن يتصرف أحد بالدليل الذي لم تسعفني اللحظات الحزينة أن أكتشف معالمه لأسجل لنفسي وللتاريخ تعريفا مهما برمز أرتبط وجود الكثير من الأحداث به في المدينة وما حوله , أشد ما يشعرني بالحزن أنني أتصور أن هذا الشاهد سيدخل زاوية النسيان أو عالم الأسرار المخيفة مرة أخرى , أو أن يعبث به أحدهم دون علم أو تقدير لما فيه .
الأيام تمر وتزداد دوافع الفضول عندي أن أعرف ماذا حل باللغز وماذا بحل بصديقي الشاب ,كثيرة هي الأشياء التي تغري الإنسان أن يبحث بالمجهول أو يغوص بعالم قد لا ينتمي له بالضرورة , قد لا تعنيني هذه المعلومات بشيء وقد لا تكون مفيدة بقدر ما هي مخفية عن فضول الناس وتدخلهم الفج في الطبيعة , لكنني لم أستطيع أن أقاوم رغبتي لإكمال مشروعي الذي ضاعت بسببه هذه التحفة الفريدة من سلالة السومريات ربات المعبد الإلهي بنقائها وصدقها وفطرة النفس الطبيعية ,عند صديقي الرسام الذي يتدرب زكي يوميا عنده وجدته منشغلا برسم لوحة بالفحم لوجهها , تبسم بوجهي وقال يا معلمي ستنعم بمرادك ولكن ,هذه الـــــــــــــ لكن قد رفعت من معدلات نبضات قلبي وأنا أستمع لباقي الحكاية
_ قل يا رجل ....
_ قال سيد جاسم !
_ ما به ؟.
_ سيد حقيقي ومن سلالة ملوك لكنه ليس من سلالة أنبياء .
كان وقع الكلام فيه نوع من السخرية المؤدبة وفيه سر أيضا , تمالكت نفسي وقلت له أخبرني جيدا , أكاد أسمع ألغاز منك , قال يا معلمي , القبر الذي تعبد الناس فيه تقربا لله ليس إلا موضع لمدفن ملوكي بابلي أو سومري والشاهد الذي تبحث عنه بحد ذاته كنز تأريخي إنه نقش مسماري فيه صورة لملك لم أعرف منه أكثر من كونه تحفة تأريخية مما دفعني لأحفر ليلا مكان القبر ,إنها عالم من عالم كله رموز وألواح وفخار , لم يكن هناك قبر حديث إنه عودة لصلاة بعيدة قد تكون لخمسة ألاف سنة مضت .



#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)       Abbas_Ali_Al_Ali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان أبن آدم والحيوان شبيه الإنسان
- مفهوم قضية الخلق في النص الديني
- قراءات في أساطير الخلق الأولى ح3
- المقومات المشتركة بين الأساطير
- قراءات في أساطير الخلق الأولى ح1
- قراءات في أساطير الخلق الأولى ح2
- لماذا يكذب الله علينا ؟.
- نكوص العقل الجمعي عن مدارات الضروريات
- الدكتور علي الوردي ومفهومه للثقافة
- المجتمع العراقي وقضية الحرية
- الدكتور علي الوردي ومقدمة في النشأة الأولى لنظريته الأجتماعي ...
- الجذور الفكرية لثقافة التطرف والأصولية التكفيرية 2
- الجذور الفكرية لثقافة التطرف والأصولية التكفيرية
- نظرية السلام ورؤية الحرب
- المفهوم التقليدي للشخصية في مجتمع إيماني
- الشخصية الإنسانية وتعريفها
- حدث ذات ليلة _ قصة قصيرة
- التأريخ بين العقلانية الكلية وبين المادية وقوانينها
- دور البواعث والمحفزات دراسة في علم النفس التجريبي ح1
- دور البواعث والمحفزات دراسة في علم النفس التجريبي ح2


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس علي العلي - الصلاة البعيدة _ قصة قصيرة