أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - مديح الصادق - الحلقة العاشرة ( المشرح ) دماً ما زلتُ أنزفُ، يا عراق، مشاهد من رحلتي















المزيد.....

الحلقة العاشرة ( المشرح ) دماً ما زلتُ أنزفُ، يا عراق، مشاهد من رحلتي


مديح الصادق

الحوار المتمدن-العدد: 4563 - 2014 / 9 / 3 - 09:17
المحور: المجتمع المدني
    


لستُ أدري إن كانت رحلتي للعراق ستكتمل إن لم تكن ( الحلفاية ) آخر محطاتها مثل طفل يستجير بحضن أمه خوفا من شبح يطارده مجهول، وهي التي لي فيها على كل شبر، في كل زاوية موطِئ لقدم، تلك المدينة السكرى الغافية على شاطئَي نهرها العاشق الذي تزفه بساتين النخيل والسدر والصفصاف على الجانبين، بروجاتِه تغنَّى المُغنُّون فأبدعوا ( مثل روجات المشرح - ترِف - ضحكاتك وأحلى ) وكان صادقاً من قالها كل الصدق، فهي التي أنجبت نُخَباً تركت بصماتها على خارطة العراق، مُربِّين، كتاباً، أدباء ومثقفين، علماء دين، كوادر علمية وفنية، سياسيين؛ حتى السياسيون فيها عن غيرهم مختلفون، تتصارع أحزابهم حدَّ الاقتتال لكنهم مع بعضهم متحاورون، ولعل من أولى طلائع المناضلين الوطنيين كانت من المشرح، يساريين علمانيين كانوا، أم متدينين، زارها الأوباش فما أفسدوا نفوسها؛ وهل يُفسِد الأوباشُ غيرَ الرخاص؟

لي فيها ألف حكاية ويزيد، فعلى ترابها فُتحَت للدنيا عيناي، وأخوتي، بين جدران بيت طيني تحفُّهُ المياه من الجانبين، المشرح شمالا والجادل شرقا، تظلله بساتين النخيل الذي لم يرعاه غيري من فترة التلقيح حتى جني الثمار والاستئثار بأول رطبة تنضج في تموز، محلة الصابئة على الجانب الأيسر الجنوبي تغريك أشجارها، الزوارق النهرية الراسية أمام بيوتها، أهلها المسالمون الذين تعايشوا مع أهل لهم وإن اختلفوا في الدين؛ لكن المحبة كانت وما تزال هي الرابط الأقوى والمتين، أذكر أنهم كانوا يمارسون طقوسهم الدينية بكل حرية واحترام، محلة الصابئة التي كانت تعادل نصف سكان الناحية قبل هجرتهم طلبا للعيش الكريم والتعليم، أو هربا من بطش الطغاة، اليوم لم يبق منهم غير بيوت ثلاثة فحسب! هنا كانت بيوت لصناع زوارق، وصاغة، ومعلمين، وموظفين، هنا كان منزل الشيخ جثير، وهنا كان يُجري التعميد، ويمد الصدقات للمحتاجين، هناك في الضفة الأخرى محلة ( العبيَّات ) أخوة المندائيين، محلة السراي حيث السوق المسقوف، محلة الحكومة ودور الموظفين، بستان ( بيت مهبَّش ) بستان ( بيت غيلان ) حيث كانت توزع المنشورات السرية وتعقد الاجتماعات، هنا عرفتُ ( عتيوي ) مُذ صغري ومنه تعلمت الأبجديات، ماكنة الطحن للمرحوم سلمان الرميح، مدرستي من الابتدائية حتى المتوسطة ( هذا مديح الأولى، يستاهل الهلهولة ) تلك كانت أنشودة عند إعلان النتائج كل عام يزفني فيها زملائي الطلاب، لا يثنيهم اختلاف دين أو عرق، لوالدي - رحمه الله - كانت علاقات وطيدة مع كل أبناء العشائر، لدى شيوخها وعامتها له مكانة مميزة إذ كان يصطحبني منذ طفولتي في زياراته للأرياف، ومن دواوينها تعلمتُ خيرة الدروس، وحين كبرت ومارست مهنتي في التدريس وجدت نفسي وسط هذا الحشد من المُحبين الذين كان لزاما علي أن أرد لهم كل الاحترام والحب

لكل شيء فيك - يا حبيبتي - هزني الشوق، لهور السناف وأسماكه الحرَّة، لجسر غزيلة الذي شوهت جماله قوافل العساكر التي تحمل الموت والدمار، وماتت تحته الكائنات، على خشباته مرت توابيت الشهداء على سواتر الشيب والفكة والطيب والبزركان، تلك التي كنا نؤمها أيام الربيع الجميل في سفراتنا المدرسية والمناسبات، إلى ( كوت الصبة ) في ( طيب ماثة ) حيث كانت عاصمة لمملكة ميسان الآرامية، إلى تل عزيزة النائم على أسراره، لكل قرية، للجادل، الونسة، المتعافية، البكعة، شط الأعمى، الخويط، الخر، الشويطي، الشيب، بيت حميدان، الجِديِّد، الخرابة، بيت ثامر، العمود، الملفود، أم الديري، بيت مانع وغيرها، لرائحة الرز العنبر والغريبة، لطيور الخضيري التي تزورنا في الشتاء ولا تحظى بحسن الضيافة عندنا، للبُنِّي والشبوط والكطان والحمري والشلك والخشني، التي يعلن المزايدة عليها صباحا جبار كحيط، للبطيخ والرقي ( من الجَحَلة )، لخبز أمي الساخن لنا وللضيف القادم قاصدا خبز الطابك والسياح والسمك المشوي، للتمن المفرقع بالزبدة و ( الروبة ) من يدها الكريمة، لقدح الماء الذي كانت ترميه خلفنا حين نغادر البيت، لحِكَم ثمينة من جدتي المرحومة جميلة، أم زامل، التي كانت تسهر معي وأنا أساعد زميلاتي بنات محلتي في الدراسة، تناولني التمر بالخبز اليابس، ثم تهمس في أذني : ( جدَّه أنا أخاف عليك من مكر النسوان )، لمقام السيِّد في الجادل، وبستان بيت شبل، للقهوة اشتقتُ، أم الهيل، مضائف السادة الكرام، مضيف السيد هاشم حيث أقاسم الغداء زميلي السيد كريم على مرآى وتعجب من الضيوف، في المشرح مضائف السواعد، البو محمد، السراي، بني لام، كنانة، وكعب، والزبيدات،، بعضها يزرع الرز على حافات الهور، والآخر يزرع الشعير والحنطة في الجزيرة، إضافة لتربية المواشي، أما صيد الأسماك فتلك هواية ومهنة عنها لا يستغني من عاش هناك

قطعتُ الطريق من العمارة إلى المشرح مُسمِّرا ناظريَّ صوب الجهة اليسرى حيث حافة النهر، ففي اليمنى لم يعد هناك هور ولا ماء، أكواخ القصب والبردي اختفت، بنايات حديثة، سيارات من أحدث الموديلات، مكيفات هواء ومبردات، خزانات للماء فوق السطوح، مدخل الناحية يغريك حيث المساحات الخضراء على الجانبين، أحياء سكنية جديدة، أسواق تنوعت خدماتها بما يناسب المستجدات، طرق مبلطة للقرى النائية وكهرباء، مدارس أخرى غير التي عهدتها، كل شيء قد تغير، شباب متحمسون يمسكون بدوائر الدولة، أغلبهم كانوا من طلبتي فما أن شاهدوني حتى هرعوا يلتفون حولي من كل جانب مُرحبين وهم يعرضون الضيافة التي عليها جُبلوا، يغمرهم زهو بأنهم أمام أستاذهم ماثلون، ما أن مررت بالسوق حتى سمعتُ بعضهم ينادي بعضا: أرأيت من القادم إلينا؟ إنه أستاذنا مديح الصادق، ساعتها لم أتمالك نفسي فلم أحبس دمعة ساخنة كانت شاهداً على أن الناس الطيبين لا تغير معادنهم مُغريات الدنيا، لا حرب الطوائف، ولاعوادي الزمان
منتصف النهار في الخامس عشر من حزيران لايغري على المواصلة، على جسر المشرح الكونكريتي العتيق، حيث الماء لم يعد هادرا كعهدنا به، طحالب خضراء تطفو على السطح، أطلت وقوفي مستذكرا مواقف لم تغادر ذاكرتي، ثورة 14 تموز 1958 وفرحة الفقراء بمنجزاتها، مؤامرة الثامن من شباط 1963 وأزلام الحرس القومي يقتادون الشرفاء والأبرياء للتعذيب والقتل، صرخات أم الشهيد عبد الواحد راشد عنبر منتصف الليل إذ أعدم مع رفاقه المشاركين في انتفاضة معسكر الرشيد بقيادة العريف المناضل حسن سريع، قوافل الشهداء أواخر الليالي إبان الحرب العراقية الإيرانية، والمعوقين، واليتامى، مداهمات العوائل التي لديها مُتَّهمون بالشيوعية أوحزب الدعوة، أو معدومون، مضايقات الأمن وفرقة حزب البعث لعائلتي وهم يسائلوننا إن كنا نعلم أين شقيقي ( سمير ) وهم الذين تلطخت أياديهم بدمه الطاهر، إذ هم الذين اغتالوه لأنه قال لا للظلم
قطعوا الماء والكهرباء عن دارنا، وأبلغوا الجيران بأن يُمنع عليهم تزويدنا بها، نادي موظفي المشرح الوارف الظلال باشجار جوز الهند، أحواض الزهور، والثيل، كم شهد من ليالي سمر، وجلسات نقاش في الثقافة والسياسة والفنون، وكم تنصت الأوغاد على ما يدور منها بالسر، هنا بنيتُ أول مسرح شعبي عرفته المشرح للشباب؛ ليرتقيه فتية يافعون من خلاله التمسوا طريقهم للفن والإبداع
اكتفيت بزيارة إلى مديرية الناحية، كان باستقبالي مدير الناحية الأستاذ الشاب اللطيف عمار سبتي، تحدثنا في أمور شتى لمست من خلالها بُعد النظر و الطموح للتغيير، اعتذرت عن دعوته للغداء، وعرجتُ على مجلس الناحية الذي كان رئيسه الأستاذ منير عبد الرزاق الرميح واحدا من طلبتي البارزين علما وأخلاقا، وبعض أعضائه من طلابي الأعزاء، كان بودي أن أقابل أحبَّة آخرين، أن أتجول في قرى وأرياف الحلفاية، معذرة منهم فإن الرياح لم تكن شمالية يومذاك، عدتُ للعمارة، إذ ماتزال ( أم مديح ) تتكئ على الباب والعكازة، تحجب بالفوطة وجهها وعينيها عن رمل تطاير من أزقة حرثها مقاولٌ شريفٌ، وغادر البلاد بما خف حمله كغيره من الشرفاء، قنينة ماء بارد، وباقة بربين، ومهفة، تبسطها أمي؛ فانا أهوى خبزها الساخن، والماء البارد من يدها، والبربين


يتبع الحلقة الحادية عشرة



#مديح_الصادق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق.. مشاهد من رحلتي الأخيرة.. الحلقة ...
- الحلقة الثامنة.. دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق... مشاهد من رحلت ...
- دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق... مشاهد من رحلتي الأخيرة.. الحلق ...
- دماً مازلتُ انزفُ، يا عراق.... مشاهد من رحلتي الأخيرة... الح ...
- الحلقتان الثالثة والرابعة، دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق..... م ...
- نداء إغاثة، إلى كل الشرفاء في العالم
- دماً مازلتُ أنزفُ، يا عراق... مشاهد من رحلتي الأخيرة.... الح ...
- بُشراكَ يا أكيتو، لمناسة عيد رأس السنة الآشورية البابلية
- ثمانونَ وأنتَ تزهُو، للحزب الشيوعي العراقي في عيده الثمانين
- بطاقة تهنئة للحزب الشيوعي العراقي بعيده الثمانين
- أمازالَ أسودَ هذا الشِباطُ؟
- أيُّها الغيارى، أحسِنوا الاختيار
- لولا ( أمُّ الحبوكرِ ) لكُنَّا بخيرٍ، منْ زماااااان...
- التجمع المدني الديمقراطي ضرورة حتمية
- عادتْ ليلى... شِعر
- ليلةُ حُبٍّ فيسبُكِّيَّة... قِصَّةٌ قصيرةٌ
- هل يعودُ السنونو؟ نص شعري
- في رحابِ الإمام عليٍّ، عليهِ السلامُ
- قَسَمٌ ... نص شعري
- قَسَمٌ


المزيد.....




- اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين ...
- يضم أميركا و17 دولة.. بيان مشترك يدعو للإفراج الفوري عن الأس ...
- إيران: أمريكا لا تملك صلاحية الدخول في مجال حقوق الإنسان
- التوتر سيد الموقف في جامعات أمريكية: فض اعتصامات واعتقالات
- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...
- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - مديح الصادق - الحلقة العاشرة ( المشرح ) دماً ما زلتُ أنزفُ، يا عراق، مشاهد من رحلتي