أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - جدلية الوحي والتاريخ (6)















المزيد.....

جدلية الوحي والتاريخ (6)


عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4456 - 2014 / 5 / 17 - 16:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- الله الطبيعي والله الاعتباري

كأن السماء قد انتشقت عن بحر من المياه المنهمرة في أمطار بلا توقف، لتتحول الأرض إلى بركة بشعة من الطين الغريني اللزق حيث تشل تماماً حركة المركبات الميكانيكية بينما تتحول حركة الشخص الطبيعي والحيوانات إلى جحيم. ساعتها، انزلقت أرجل الحمار لينكفئ على وجهه في الوحل وينهار عليه فوراً حمل البرسيم والرجل المتربع فوقهما. وحالماً أدركت ورطة راعيها وعجزه المخزي على هذا النحو، انطلقت الحيوانات الأخرى بدورها باحثة بنفسها عن سبيل للنجاة من غضب الطبيعة. لحظتها، نهض أخينا بصعوبة وهو يرتجف وملطخ بالوحل، وبعد أن تأمل برهة مآل الحمار المسكين والبرسيم المتسخ والحيوانات الشاردة، استجمع قوته ونصب قامته في تحدي واضح ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء مستغيثاً في صرخة مدوية: "يعني عجبك كده يعني؟!" (هل هذا يرضيك؟!)

كنت أقف وراءه بعدة أمتار؛ وقد تساءل بداخلي عقل طفل فضولي عن من يكون ذلك الشخص في السماء الذي يخاطبه هذا الرجل المنكوب بهذه الثقة المطلقة في وجوده، حتى أنني نظرت مثله إلى حيث نظر في الأعلى ولم أرى سوى غيوم مرعدة وممطرة بغزارة. ربما لأنه يكبرني عمراً وقامة يستطيع أن يرى ما لا أراه، هكذا أقنعت نفسي ومضيت في حال سبيلي.

عبر التاريخ قد بقيت الأغلبية العظمى من البشر تتصور الإله في صورة ’شخص طبيعي‘ على نفس صورة الإنسان الإدراكية لكن يتفوق عليه في جميع ما ينقص الإنسان من صفات وقدرات أخرى. إذا كانت قدرة الإنسان محدودة، الله قدرته بلا حدود؛ وإذا كانت حياة الإنسان تنتهي بالموت، الله خالد؛ وإذا كان الإنسان عاجز في أغلب الأحيان عن الثأر لظلم طاله، الله هو العادل والمنتقم الجبار...الخ. هكذا يكون الله هو المطلق لكل ما يدرك الإنسان أنه ينقصه، أو يحتاج إليه سواء في كفاحه مع الناس الآخرين أو مع قوى الطبيعة الأخرى؛ أو هو الإنسان الكامل، الخارق، أو السوبرمان. وفق هذا التصور، يكون الإله رهينة عاملين رئيسيين هما المسؤولان عن نشأته وتطوره: (1) امتلاك الإنسان الإدراك والوعي الذاتي بكيانه ووجوده نفسه؛ (2) شعور هذا الإنسان الواعي بالنقص والهزيمة والضعف والعجز في مواجهاته الحياتية سواء مع البشر الآخرين أو قوى الطبيعة الأخرى.

هذا الإله يتصوره البشر وفق وعيهم بذواتهم ومن ثم يجعلون له ’وعي‘ مثل الشخص الطبيعي مثلهم، ويتصورون وجوده تحديداً لملء ما ينقصهم وتحقيق ما يعجزون عن تحقيقه بأنفسهم الناقصة ومن ثم يكون يجعلون له ’قدرة‘ مثل الشخص الطبيعي أيضاً مثلهم، لكن بحدود خارقة ومطلقة في الحالتين. هذا هو نفس الإله الذي اشتكاه صاحب الحمار أعلاه لينتشله من ورطته ويسترد له حيواناته الهاربة ويعوضه عن برسيمه الذي فسد، مثلما هو نفسه أيضاً الإله الذي يدعوه مضارب البورصة حتى ترتفع أسهم شركاته وتتعاظم أرباحه؛ وهو نفسه كذلك إله الوحي والأنبياء والكتب المقدسة والتشريعات السماوية...الخ، التي يراد منها جميعهاً أن تعوض ما ينقص الإنسان وتشبع له مآربه وتنظم له حياته. هذا الإله الشخص الطبيعي الخارق المطلق موجود بالفعل وبثقة كاملة في وعي وإدراك وتصور وعقل هؤلاء المؤمنون بوجوده، حتى لو لم يكن له وجود حقيقي في الواقع.

ثمة إله آخر نخبوي، وتحديداً فلسفي، بعيد ومختلف بالكلية عن الأول الطبيعي- الله الاعتباري. في حمى الدعاية الإعلامية، يكاد لا يخلو حديث لمرشح الانتخابات الرئاسية المصرية المشير عبد الفتاح السيسي من لفظة ’مصر‘: خلوا بالكم من مصر، ساعدوا مصر، شدوا مصر، مصر آد الدنيا، مصر دي غالية، حبوا مصر...الخ. من تكون ’مصر‘ هذه؟! هل هناك في مكان ما شخص (رجل أو امرأة أو أياً ما كان) محسوس ومستقل ومكتفي بذاته اسمه مصر يمكن لشخص طبيعي مثل السيسي أن يخاطبه مباشرة وينتشله من محنته؟ في الحقيقة لا يوجد مثل هذا الشيء المحسوس والمستقل والمكتفي بذاته؛ كل ما هناك هو امتداد أرضي وتضاريسي متصل بأراضي وتضاريس دول مجاورة بأسماء مختلفة وتشكل جزء لا يتجزأ منها، وفوقه امتداد آخر من البشر يطلق عليهم اسم المصريين هم الآخرين امتداد للبشر من حولهم تحت مسميات مختلفة ويشكلون جزء لا يتجزأ منهم، ومن البشرية كلها. أين هي إذن ’مصر‘ هذه محبوبة السيسي؟! هل هي مجرد ظاهرة اسمية؟!

نعم. هي في الحقيقة كذلك. في زمن الوحدة مع سوريا، قد غير عبد الناصر اسم مصر إلى الجمهورية العربية المتحدة ولم يتغير أي شيء حقيقي في المقابل- بقيت الأرض هي نفس الأرض والناس هم نفس الناس. الشخص الاعتباري هو بناء اسمي، صوري، شكلي أو قانوني من عناصر حسية طبيعية تتمتع بوجود كافي ومستقل بذاته. عندما يشترك أحمد وخديجة وجورج وعلي في شركة هم يكونون باتحادهم هذا معاً شخصاً اعتبارياً خامساً قد يسمونه ’الشروق للاستثمار‘ ويحتفظون في الوقت نفسه بشخوصهم الطبيعية المستقلة. وفي مخاطبة الشخص الاعتباري ’الشروق للاستثمار‘ والتعامل معه، توجه المخاطبات والتعاملات إلى رئيس الشركة والموظفين المختصين. كذلك، يمكن محاسبة الشركة ومحاكمتها ومعاقبتها تماماً مثل الشخص الطبيعي.

هذه هي مصر، شخص اعتباري ناشئ عن تضامن جميع أو أغلب شخوصه الطبيعيين، تجمعهم عوامل مشتركة أخرى مثل الأرض والنهر والتاريخ والثقافة والدين واللغة والأخطار والآمال...الخ. لهذا السبب، غالباً ما يكون ’الشخص الاعتباري‘ رغم عدم وجوده في شكل مستقل ومكتفي بذاته، هو في الحقيقة أكبر وأعظم بكثير من ’الشخص الطبيعي‘ المكتفي بذاته والمستقل بنفسه. في المقابل، الشخص الطبيعي هو المنشئ الأساس للشخص الاعتباري، ويستطيع أن يعدله ويطوره، وأن يحله ويفضه حتى، وقتما شاء سواء بإرادته الحرة أو بسبب عجزه أمام قوى خارجية. إذا ما فض المصريون تضامنهم الاعتباري معاً ومضى كل منهم في حال سبيله أفراداً وجماعات، ساعتها لن يكون هناك شخص اعتباري اسمه ’مصر‘ يمثله رئيس وحكومة ونواب عن المواطنين المصريين، ويفرض إرادته (دستوره وقانونه) جيش وشرطة؛ عندئذ يتحول المصريون إلى مجرد جماعات من البشر فوق قطع من الأرض، منفصلين عن بعضهم وبمسميات مختلفة.

الله الاعتباري، مبحث الفلاسفة، هو ذلك الشخص الذي ليس له وجود فيزيائي ومستقل ومكتفي ومدرك بذاته مثل الإنسان الطبيعي. هذه تحديداً هي المصيدة التي قد وقع فيها المعتزلة في معركتهم الكلامية ضد الأشاعرة- لم يستطيعوا أن يميزوا بين ’الشخص الطبيعي‘ و’الشخص الاعتباري‘. بمجرد أن بدء المعتزلة كلامهم حول وجود الله وصفاته من منطلق الوحي والمعجزة والكتاب المقدس والشرائع السماوية، وجميعها منسوبة إلى الله، هم بذلك قد سلموا من البداية بصحة تصور الله في صورة الشخص الطبيعي الخارق والمطلق، ومن ثم جاءت هزيمتهم الساحقة عند نهاية الكلام.



#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الوحي والتاريخ (5)
- جدلية الوحي والتاريخ (4)
- جدلية الوحي والتاريخ (3)
- جدلية الوحي والتاريخ (2)
- جدلية الوحي والتاريخ (1)
- العقل الفقهي وتنصيص الواقع
- العقل الفقهي والسلطة
- ابن رشد ضالع في الإرهاب
- سحر الفقه
- ابن رشد: فيلسوف أصيل أم فقيه مستنير؟
- فيلسوف وفقيه وإرهابي (3)
- فيلسوف وفقيه وإرهابي (2)
- فيلسوف وفقيه وإرهابي (1)
- العدل الأعمى في اليوتوبيا الإسلامية
- الإسلام السياسي سكين مسموم في الجسم العربي
- إسرائيل العدو، الند، إلى الحليف
- المملكة والله والبترول
- إصلاح مراوغ تحت عباءة الدين
- تطور الدين مع الانسان
- المملكة المحافظة في واقع متغير


المزيد.....




- -هل تثق في بوتين؟-.. فيديو كيف رد ترامب يثير تفاعلا
- -تم تحذيركم-.. وزير دفاع أمريكا يشعل تفاعلا بتدوينة مباشرة و ...
- تركيا.. احتجاجات في مرسين ضد استخدام مينائها لنقل أسلحة إلى ...
- الخارجية الصينية: ندعو إلى نزع السلاح النووي على أساس الأمن ...
- -الدوما- الروسي: تهديدات كييف بتنفيذ هجمات إرهابية تزامنا مع ...
- -واينت-: النيران التهمت نحو 19600 دونم في جبال القدس (صور+في ...
- وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما
- بوليانسكي: ترامب يرغب فعلا بإحلال السلام في أوكرانيا
- الولايات المتحدة تدشن مرحلة جديدة لبناء الغواصات النووية وتط ...
- حرائق تنشب في غابات على تخوم القدس تدخل مرحلة -طوارئ وطنية- ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد إسماعيل الشهاوي - جدلية الوحي والتاريخ (6)