عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 4416 - 2014 / 4 / 6 - 14:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الحديث الجاد عن المعمار الجامع للثقافة العربية الإسلامية وأعمدته الفكرية الأساسية لا يستقيم قبل العودة إلى الجذور أولاً، ليس إلى ما قبل نحو ألف وخمسمائة سنة مضت فقط حين بدأت تظهر على السطح المعالم الأولى لهذا المعمار، لكن إلى ما هو أعمق من ذلك؛ نريد الوصول إلى الفترة التي بدأت تتشكل فيها ’هوية عربية‘ أولية، قبل أن تقود هذه الأخيرة إلى ظهور الإسلام وبدايات وضع القواعد الصلبة للهوية- والثقافة- العربية الإسلامية فيما بعد والباقية حتى اليوم.
في ذلك الزمان البعيد الذي قد يسبق عصر النبوة المحمدية بمئات وربما آلاف السنين، كانت شعوب شبه الجزيرة العربية تعيش في بيئة صحراوية شديدة الفقر والشح في كل شيء، من مـأكل ومشرب وملبس وتجارة وصناعة وعمارة وتنظيم وحكم وفن وفكر وكتابة وحضر ودين...الخ. مثل هذه البيئة القاحلة لا تتحمل إعاشة تجمعات سكانية كبيرة ومستقرة، التي تعد شرطاً ضرورياً مسبقاً لنشوء وتطور أي مما سبق. هي بيئة لا تستطيع أن توفر حد الكفاف المعيشي لأكثر من قبائل صغيرة العدد ومبعثرة عبر مساحات شاسعة من الصحاري القاسية، معوزة في كل شيء عدا غريزة البقاء بأي ثمن. على تخوم هذا البؤس الجغرافي والحضاري، كانت تقع إلى الشرق الحضارتان الفارسية والصينية، وإلى الشمال والغرب الحضارة الرومانية، والجنوب الحضارة الهندية. هذه الحضارات الأربع كانت الأغنى والأقوى والأعظم على الإطلاق حول العالم في ذلك الزمان، أثناء تشكل هوية العرب وحتى ظهور الثقافة العربية الإسلامية.
وسط صروح معمارية هندية وصينية وفارسية ورومانية لا تحصى تطوقها من جميع الجهات وتقف شاهداً مادياً على حضارات كبرى كانت لا تزال تنبض بالحياة آنذاك، وصروح أخرى لا تقل عظمة وروعة شاهدة أيضاً على حضارات قد طواها الزمن قبل ذلك بآلاف السنين مثل الأهرامات المصرية والآثار البابلية والفينيقية واليمنية، قد بقيت آلاف الأميال وسط شبه جزيرة العرب- مهد الثقافة العربية الإسلامية- لا تتسع سوى لبيت وحيد من الحجر لا تتجاوز مساحته الكلية عدة عشرات الأمتار: الكعبة، أو ’بيت الله الحرام‘. فإذا كان المعمار يعد أحد المقاييس، والشواهد، ذات المصداقية للإنجاز الحضاري الإنساني، هذا المعمار البدائي والوحيد-الكعبة- هو ذاته خير شاهد على مدى البؤس المعماري والحضاري العربي آنذاك.
مثل هؤلاء الناس في مثل هذه البيئات القاحلة التي لا ذنب لهم في نشأتها ولا في نشأتهم أنفسهم تحت شروطها القاسية كان لابد أن يجدوا حلاً للتكيف معها بشكل أو بآخر ويسمح لهم بمواصلة البقاء وحفظ النسل. في الحقيقة، لا شيء يعلو فوق غريزة البقاء. كان الحل المثالي، والمتوقع والمعهود أيضاً في حالات أخرى كثيرة مشابهة، في مثل هذه الأوضاع الحرجة هو الإغارة على تخوم المدن الحضرية الغنية المجاورة والعودة بأقصى ما يستطيعون حمله من غنائم لنجدة أهاليهم الذين ليس أمامهم حلاً آخر سوى الموت جوعاً. بالطبع كانت المجازفة مرتفعة والمخاطر جمة، ليس أقلها الوقوع ضحية للمرض بسبب عناء السفر الطويل، أو في أسر عدو لا يرحم، أو طريدة سهلة في أحابيل أسلحة وحصون وجيوش ومخططات عسكرية أكثر تقدماً وأشد فتكاً. رغم ذلك ظل بريق الغنيمة لا يقاوم، وشبح الفناء لا يطاق.
هؤلاء الفرسان الشجعان الذين لم يجبنوا عن المجازفة بأرواحهم لتأمين سبل الحياة لأهاليهم وأبنائهم هم أنفسهم الذين سوف يتطورون مع الإسلام إلى ’المجاهدين‘ والفاتحين الذين ستقوم أيضاً فوق أكتافهم عروش الإمبراطورية والحضارة الإسلامية (وفي العصر الحديث إلى ’الإرهابيين‘ الذين سأفرد لهم حديثاً خاصاً في موضع لاحق). في الوقت نفسه، لم تكن عمليات الإغارة والغزو هذه، وما يترتب عليها من قتل لأناس أبرياء كل ذنبهم أن الطبيعة قد حبتهم بهبات صالحة للاستثمار ومراكمة الفائض، ونهب وسلب ممتلكاتهم وثرواتهم وسبي نسائهم وتيتيم أطفالهم لأجل العودة بالغنائم أمراً سهلاً على نفسية أي بشر أسوياء- ومنهم القبائل العربية بالطبع- لهم قوم وآباء وأمهات مسنين وزوجات وأبناء صغار تماماً مثل ضحاياهم الأبرياء بالمدن المستهدفة. كان طبيعياً من وقت لآخر أن يضعوا أنفسهم مكان ضحاياهم وأن يستشعروا وخزاً من عذاب الضمير، مهما كان خافتاً؛ ولابد أن ذلك كان يولد بداخلهم صراعاً نفسياً ووجدانياً بدرجة أو بأخرى: هل حقاً لا سبيل إلى إنقاذ حياة طفلك إلا بإزهاق حياة طفل رجل آخر؟! حل قاسي ومروع لا يمكن أن يتحمله قلب- ومنه قلب الرجل العربي حتماً- بسهولة من دون مبرر على ذات الدرجة المقابلة من القوة؛ لا بد من ’محلل‘. وهنا يظهر البشير البدائي لما سوف يصبح مع الإسلام ’الفقيه‘- ذلك الشخص القادر على تطويع أقسى المتناقضات دخل إطار تنظيري متماسك يبدو من الناحية الشكلية مقبولاً ومنطقياً ومستساغاً، وحتى أخلاقياً.
مع أن ’الفقيه‘ يشترك مع سائر البشر والحيوانات في امتلاك مخ قادر على التفكير، هو ليس على الإطلاق من نوعية ’المفكر‘ الناقض، المفكك، المحلل، المركب والمنتج للفكر سالف الذكر في المقال السابق. في هذا المجال هو أقرب إلى مهنة المداواة والتطبيب، التطبيب النفسي تحديداً؛ دوره الاجتماعي قد نشأ في الأصل نتيجة لصراع نفسي ووجداني طاحن ما بين فعلين متناقضين (قتل أطفال الآخرين لنهب الحياة لأطفالنا)، ومن ثم تمثلت وظيفته الاجتماعية الأساسية في إيجاد مخرج آمن قدر الإمكان من هذا الصراع المهلك عبر إكسابه ’شرعية‘ بطريقة أو بأخرى. إذا كان المغير والغازي القبلي المجازف والشجاع هو نتيجة طبيعية لبيئة قاحلة وأخرى عامرة لا تزال في المتناول رغم جسامة التضحيات، الفقيه هو أيضاً نتيجة طبيعية لهذا المغير والغازي القبلي (المجاهد ثم الإرهابي لاحقاً)، وهو المنوط به شرعنة ومأسسة هذا الواقع المتناقض. قد نقول: لولا ’المجاهد‘ ما كان ’الفقيه‘، ولولا الأخير ما استطاع الأول البقاء.
في المحصلة: بيت شاهد على مدى البؤس الحضاري والإنساني، استدعى وجود قاتل وحشي على استعداد للمجازفة بحياته لكي يعود لقومه ببعض الغنائم، الذي قد استدعى بدوره وجود فقيه لكي يشرعن ويمأسس البيت المتواضع ذاته في ’بيت الله الحرام‘، والقاتل المغتصب نفسه في ’المجاهد في سبيل الله‘.
بالطبع لا يعقل اختزال ثقافة منطقة شاسعة، وفيما بعد حضارة منتشرة عبر جميع قارات العالم، في هذا الثالوث: الكعبة، المجاهد، الفقيه. حتى مع بداية نشأة الثقافة العربية كان امتدادها الجغرافي يحوي أيضاً الكثير من أنشطة الزراعة والرعي والتجارة والصناعة، فضلاً عن العمارة والكتابة والشعر والغناء...الخ. جميع هذه الأنشطة المتنوعة قد أسهمت بروافد أيضاً في تشكيل هوية العرب، وفيما بعد الثقافة العربية الإسلامية. ثم بعد أن استقرت وتوطدت الخلافة الإسلامية في دمشق وبغداد واسطنبول، من بين حواضر أخرى، اتسعت وتزايدت مثل هذه الروافد أكثر فأكثر، واتسع وازداد معها احتكاك وتفاعل الثقافة العربية البكر بثقافات وحضارات أخرى محلية وأجنبية قديمة وعريقة من آلاف السنين، وما قد رافق ذلك بالضرورة من مقايضات وتكيفات وتأثيرات متبادلة. كل هذا صحيح وحقيقي. لكن، مع ذلك، يبقى ثالوث الكعبة-المجاهد-الفقيه بمثابة النواة الصلبة مهما تكن متناهية الصغر، شفرة وراثية، لهوية العربي القديم ثم لجسم الثقافة العربية والإسلامية لاحقاً وحتى اليوم.
إذا كان لكل جسم مهما بلغ من الضخامة ’شفرة وراثية‘ تحكم حركته وتطوره رغم كونها لا ترى بالعين المجردة، فإن هذا الثالوث هو بمثابة ’الشفرة الوراثية‘ المتناهية الصغر لعمارة بضخامة الثقافة والحضارة العربية والإسلامية لا تزال تحكم حركتها ووجهة تطورها حتى اليوم الحاضر.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟