عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 19:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فلسفة ما بعد الفلسفة
تشهد الفلسفة اليوم إشكالية جديدة ومتجددة رافقت مسيرتها منذ الأزل وتتعلق أصلا بالمدار الذي تبحث فيه مشكلات وقضايا الإنسان باعتبارها العالم الذي تسعى له وبه وبمثالية تنظيريه تؤسس لما بعدها من حلول ورؤى وأفكار منها الذي يغوص في أعماق الواقع ومنها ما يبقى مجرد شعارات توحي لعصر فلسفي جديد, في فترات الانقلابات الفكرية تتضح معالم هذه الإشكالية وتبرز أهمية الوعي بضرورة تجاوز واقعها أو لربما أعادة أنتاج الواقع مسايرة للزمن ومسايرة لحاجة الفلسفة ذاتها بما تكمن من روح التجدد والرفض وعدم الخضوع لمنطق التسليم.
العالم الفكري اليوم أصبح خارج نطاق السيطرة الفكرية المتابعة والمتتبعة للحركة الجوهرية للفكر والمعرفة وتشهد ولادات سيل من النظريات والأفكار والدراسات بالتسارع الذي لا يمكن للفلسفة من تدارك أمرها واللحاق في توثيق ودراسة وفرز وتصنيف هذا الدفق الفكري الأخذ بالانفلات من ربقتها , لذا صار من المحتم أيضا أن نبني مفهوم أخر لنوع أخر من الفلسفة يفهم هذا التحول وخارج أطر المدرسة القديمة وتداعيات منطقها المعتمد على مقولات وأسس فكر وفن صاغت السلفية الفكرية أسسه وتبنت منهجه دون أن تضع في الأعتبار حركة الزمن هذا.
من سمات عالم الفكر الفلسفي اليوم هو غياب المفاهيم الكلية للمواضيع العامة وتنوع ثر في مصادر التفكير الفلسفي وامتداد جوهري لقضايا جديدة لم تألفها الفلسفة القديمة وإن كانت تعرفها لكن الواقع يشير إلى أن هذه المواضيع الملتصقة بالإنسان أكثر أهمية من دراسة المنهج القديم وأعمق في أثرها الوجودي في حياة وسيرورة الوجود , فلم تعد الفلسفة اليوم تهتم بالوجودية والعقلانية والسفسطة ومقولات أفلاطون ومثالية كذا ومادية كذا , الفلسفة اليوم الهم الأوحد لها مواجهة الانهيار العظيم في القيم الإنسانية الأساسية التي ولدت في أجواء عالم يترنح تحت ضربات الأنا الفتاكة المتشرعنة تحت عنوان الكونية المطلقة الساعية للسيطرة على عقل الإنسان قبل وجودة , صراع الإنسان مع التكنلوجيا فائقة التحسس.
السؤال هنا هل تدرك الفلسفة القديمة هذا الأزق وتنتقل من موقعها الأكاديمي نحو واقع بدأ يحاصر الإنسان ويشعره بالاستلاب الذي تمارسه التقنية الحديثة وتدخلها السافر جدا في أدق مراحل التفكير وإن كان في بعض هذه الجوانب امتيازات لم يكن يحلم بها الإنسان ككائن منتج للمعرفة ومستهلك لها ؟. السؤال الأخر ما هو المتوقع من دور الفلسفة في التعاط مع وظيفة مهمة من وظائفها وهو قيادة الفكر في مرحلة الأزمة؟.
الذي يدع أن الفلسفة قادرة على أن تنتج حلول متناسبة وجادة وقادرة على ملء الفراغ بين الواقع وبينها ,نقول له أن الانهيارات المتتالية لمفاهيمها ونظرياتها المتتالية تؤكد عجزها عن ذلك وبواقعية شديدة , ظهور العلمنة والحداثة وما بعد الحداثة وعالم النانوية المتفاقمة ليست نظريات فلسفية تشرح لنا الحلول بقدر ما هي صور لنزعات فلسفية تظهر لتجد في الساحة الفكرية نقيضها قد ولد ليوحي بنزعة مناقضة وقد تكون هذه أسبق من وعي الفلسفة الراهنة بها مما يشكل تخلف لها قد لا يشفع لها أن تكون جديرة بالتعاط والحلول في نحل المنظم والمنظر لجوانب النزعة وتحويلها إلى منهج فكري جاد.
أما الاتجاه الأخر الذي لا يرى في الفلسفة إلا المحل الأمثل لدراسة الظاهرة الفكرية أو ما نسميها النزعات وإيجاد الحلول النظرية كمقدمة يطرحا للحوار والجدل الفكري ليستشف منها الحلول ,فيرى أن هناك أمل ووقت كاف لدراستها ومن ثم تقديم الحلول المناسبة ,وقد فات على هذا الفريق أن التسارع الرهيب لم يعد معه ممكنا السير في هذا الواقع وهذه الرؤية اللا واقعية التي يشهد لها هذا الفيض من الدفق الغير منضبط تحت قانون أو شكل موحد والمتراكم والمتتالي المفزع بأشكاله وصوره التي صارت سمه من سمات عصر الفضاء المفتوح والمتحرر من قواعد الشكل ولأطار الكلاسيكي للمعرفة وتوالد الأفكار .
العصور الفلسفية التقليدية إلى ما قبل العصر الراهن كان للفلسفة دور في الصياغات التمهيدية وطرح الرؤى الاستباقية والتبشير بالعصر القادم وما يتمخض عنه من ولادات فكرية تجد أسسها في صيغة الفكر والفلسفة السائدة ,فهي كانت لا تتعدى النقيض ونقيض النقيض وأحيانا تتلمس أفق متعال قليل عن روح الفلسفة المضطردة في المجتمع .
كثيرا من الفلاسفة والمفكرين كانوا قد تنبؤا بالقادم الفلسفي وما يتمخض عنه ومنه من خلال قراءة الواقع وليس تنبؤ يعتمد الحدس والخيال الفكري المنقطع عن جذور المرحلة واعتمادا على قياسات فكرية نمطية جادة ,أما المشكلة الفلسفية اليوم هي عدم قدرة الفلسفة أن تمارس نفس هذا الدور القيادي والمستكشف إلا من خلال العموميات دون أن تطرح رؤية تساور وتساو بين الواقع المتقلب المتسارع وبين قواعدها الصارمة.
المشكلة أذن في الفلسفة وليس بالواقع ,هنا نشهد تخلف فلسفي أو لنقل عجز الفلسفة أن تتحرك بنفس الإطار الذي يتحرك به الفكر الإنساني مما ولد شعورا فكريا لدى غالبية طبقة المفكرين والمهتمين بالشأن الفلسفي أن هناك أزمة وأزمة حادة تتمحور حول النقاط التالية :.
• هناك ميل حقيقي لتشبث الفلسفة كدراسة وكفن بالقواعد السلفية والمقولات التي تحاول من خلالها أن تعيد القراءة للواقع ,وهذا ما يشكل نوع من التناقض بين حداثة المنتج الفكرية بمعنى كون الفكر عصراني والمنهج يتمسك بالماضوية أو بالرؤية والقراءة الماضوية معتمدا على التمسك بالمقولات القديمة ,وعجزها عن أستنباط قواعد ومقولات أكثر تطورية والأكثر قدرة على فهم إشكالية الزمن الحديث والذي لم يعد هو ذاك الوصف الذي درسه الفلاسفة التقليديون ,الزمن مفردة فلسفية واحدة من مفردات تتعرى اليوم لتطالب بفهم أخر فهم يتوافق مع تقاليد ومستجدات العصر هذا.
• لم تعد الفلسفة حكرا على نمطية منهجية واحدة تتساوق مع مفردة التخصص في الدراسة والبحث, بل نرى اليوم أن فكرة أن العلوم كلما تعمقت بالتخصص أفرزت علوم أخرى وبالتالي فالتخصص يعتمد أصلا على فكرة التجزئة ,وهذا الحال منطبق على الفلسفة كتخصص ,هذه النظرة لم تعد ممكنة ولا مقبولة في ظل أعادة التجميع والتركيب وإن كانت لا بد أن تحتفظ بمنهجها المميز لكن أن نصنع حدود وفواصل ما بين الفكر عموما والفلسفة خصوصا لا بجدي نفعا ولا ينتج لنا رؤية فلسفية تكاملية .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟