أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - نحو علمنة الدين..! (الكتاب كاملا)















المزيد.....



نحو علمنة الدين..! (الكتاب كاملا)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 4342 - 2014 / 1 / 22 - 19:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



2012
لندن


- هل الدين علم؟..
- الدين والعقل..
- علم الأديان المقارن.. والدراسات الدينية..
- الناس.. بين الاله وموظفيه..
- الدين والسياسة..
- الدين.. والحرية..
- الدين.. واللاجدوى
- الدين.. وعبادة الموتى..
- التفسير المادي لسرعة الزمن..
- يسألونك عن الروح..
- الدين.. والطبيعة..
- الدين.. والسيطرة..
- الدين والتبعية..
- الدين.. والتجارة!..
- الدين.. والاختلاف..
- الدين.. والاختيار..
- الدين.. والاختبار..
- الدين.. والمحبة..
- الدين.. والبيئة..
- الدين.. والدراسة..
- الدين.. والسيرة..

- هل الدين علم؟!..

منذ البدء.. في نقطة موغلة في القدم، اعتمد المرء اتجاهين أو أكثر في تصريف أمور حياته، منها..
- اتجاه تجريبي يعتمد التجربة والاختبار الشخصي لاستكشاف الشيء وتداوله.
- اتجاه تسليمي (سلبي) يأخذ بالشيء دون تمحيص أو مراجعة.
واضح.. ان الفارق بين الأثنين هو العقل، أو مستوى استخدام العقل ونوعيته.
الاتجاه التجريبي هو الذي قاد مسيرة الاستكشافات الحضارية عبر مسيرة التاريخ ورسم ملامح ما ندعوه اليوم بالحضارة والمدنية والنظام والقانون والادارة والاقتصاد وما يدخل في باب العلوم ومؤسساتها التعليمية والبحثية. وكلّ هذا مما اكتشفه المرء بالبحث والتجربة والمران والدربة، فهو معطى بشري، صنعه المرء بفكره ويده.
الاتجاه التسليمي هو الآخر قديم، ولا يقل قدما عن الاتجاه التجريبي، ولكنه اتجه لاتخاذ ظواهر الطبيعة مسلّمات يقينية لها دور فاعل في قيادة وتوجيه حياة البشر، ربما جراء ملاحظة تعاقب الليل والنهار والمدّ والجزر وما إلى ذلك. ولكنه ينسب ارثه الديني إلى الغيب المطلق ويغلّفها بقشرة مقدسة.
الانسان التسليمي هو الذي قامت حياته على الالتقاط والصيد واقتناص هبات الطبيعة أو ما تضعه في طريقه ويده. بينما الانسان العامل المزارع اعتاد الاعتماد على نفسه في استخراج الأشياء وتعلّمها وزراعتها أو تصنيعها.*
ويمكن ملاحظة البشر حتى اليوم من خلال طريقة حياتهم، واسلوب معيشتهم، فمنهم من يمارس حياة تكرارية (طفيلية) متوارثة، ويصدر عن قناعات وعقيدة تسليمية دون أي هاجس للتغيير أو التمحيص أو دور للعقل الفردي في التوجيه. بينما يسعى آخرون للبحث والتجديد واكتساب علوم ومهارات جديدة لتطوير حياتهم.
ان الانسان الذي يعيش حياة سمتها عقيدة التسليم والتكرار هو امتداد للانسان الذي بدأ بالالتقاط والاستسهال والجهوزية في معيشته، معتبرا أنّ كلّ ما يرد في طريقه أو يصل إلى يديه هو هبة من الربّ، بغض النظر عن الطريقة والتفاصيل. ويمكن اعتبار طريقة ارتزاق رجال الدين ومن على سجيتهم في هذا السياق.
لقد رسم العرّاف/ رجل الدين السومري القديم نظاما مناسبا للكهنوت ومراسيم العبادة التي تضمنت التبرع المالي والمادي (خراف وثيران). وتدخل هذه في صندوق المعبد الذي يشرف عليه الكاهن، ومنه يحصل على تخصيصاته المالية والمعيشية. وفي الغرار.. تقضي كلّ من اليهودية والمسيحية بتقديم عشور مداخيلهم وممتلكاتهم للمعبد، كجزء من واجبات العبادة الطقسية، وتعادلها نسبة الخمس في الاسلام. وتدخل تحت بند (العطاء*، الزكوة).
وتظهر هذه الفكرة بجلاء لدى العبرانيين. وبين أبناء يعقوب (المدعوّ اسرائيل) الأثني عشر، ابن اسمه (لاوي) وهو يمثل (سبط كهنة) – أي أن سلك الكهانة وخدمة المعبد محصورة فيه لا تتعدّاه- بحسب الشريعة. وعند توزيع –أرض الموعد- على الأسباط ، لم يحصل سبط لاوي على نصيب في الأرض، لأن كلّ الأسباط البقية يدفعون له عشور أرضهم وممتلكاتهم.
ان العمل الأساس الوحيد الذي يقوم به الكاهن هو خدمة المعبد وقيادة مراسيم العبادة. ويطلق عليه البعض اليوم (القيادة الروحية) في مسعى للمبالغة في أهمية هذه الفئة الطفيلية في المجتمع.
*
ان السؤال المعلق في العنوان.. بعد هذا الاستعراض السريع لمرجعية (الدين) ورجاله.. هو ما علاقة الدين بالعلم، في ضوء تقاطعه الجوهري مع العقل، وتأكيده على (الايمان) الذي يوعزه كثيرون إلى (القلب) أو (النفس). ويمثل الدين جملة معتقدات منظومة ثابتة ومتوارثة عبر الأجيال، مما يدعى بالشريعة لدى العبرانيين والمسلمين، ولاهوت المسيح لدى أتباعه. وتتمتع هذه بالقداسة التي لا يشوبها (شكّ) ناهيك عن دعوى مصدرها الالهي المطلق، فوق البشري.
حرفة (تقليد) الكهانة كانت تسري داخل العائلة أو بين خدّام المعبد من خلال التقليد. وليس في هذا التقليد/ التعليم مكان للاضافة أو التطوير جوهريا.
ولكن التطور العلماني الكبير الذي شمل مجالات الحياة مع بواكير عصر النهضة وانتشار دور العلم والجامعات، استتبع ظهور جامعات دينية – هي في الأساس مدارس أو كليات خاصة بالتعليم الديني. ولا مثلبة في اعتماد المدارس أو الكليات وحتى الجامعات لتوجيه التعليم الديني، ولكن تقليد المدارس الدينية للمدارس العلمانية في منح الشهادات وبنفس التسمية والدرجة.. هو ما يقتضي المراجعة والتدقيق. فالعالم يعجّ اليوم بحملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ودرجة الاستاذية في مجالات اللاهوت والدين. (ومنهم (دكاترة) يفتون بإرضاع الكببر، أو العلاج ببول البعير).
كون الدّرجات العلمية علميّة، أنها مشتقة من طبيعة العلم العقلي التجريبي الخاضع للبحث والمناقشة والشك والتحقيق والتغير والتطور. وهذا يتعارض مع طبيعة الفكر/ المعتقد الديني المتوارث الذي يفسّر الماء بعد الجهد بالماء. ولا يرى بدّا عن تصنيف الناس إلى مؤمنين وكفرة (وثنيين) مع اعتبار نفسه ومعتقده وأتباعه ممثلين للدين الحقّ (الصحيح) أو الحقّ (الله).
بابا الفاتيكان لديه أكثر من درجة دكتوراه. ورئيس جامعة الأزهر دكتور أو أستاذ دكتور. وكانت الأزهر تمنح درجة (عالم) –عارف بأمور دينه- للمتخرجين فيها. هذا الوضع أفسد ناصية العلم، وأفرغ الدرجة/ اللقب العلمي من محتواه ومعناه. ففرويد دكتور والبابا دكتور والشيخ الداعية دكتور.
ولدى حاملي هذا اللقب، فالغالب أنه يطغى حتى على أسمائهم أو أية صفة أخرى عند التخاطب –وهذه عادة اجتماعية سيّئة -، مما يجعل الأمور خبط عشواء، سيما ونحن نعيش في زمن لا تنقصه الفوضى والتزوير وصداع المدّعين.
أعتقد أن هذه الفكرة جديرة بالاهتمام والمراجعة، -سيما للجّهات المعنيّة-، بنفس القدر الذي تشيع فيه اليوم الشهادات والألقاب المزوّة – عن طريق الشراء-، ولا بدّ لدائرة الأمم المتحدة الخاصة بالتربية والعلوم ووزارات التربية والتعلم العالي في البلدان من اهتمام بالموضوع ، لفرز الحقائق العلمية من العقائد اليقينية، والتوصية باعتماد ألقاب دينية واضحة لا تختلط بالفكر العلمي العلماني، الذي يمثل أهل الدين أكبر مناوئيه، ويضعونه على نفس المستوى مع الوثنية والالحاد!..
بل أن أصحاب المدارس الدينية وخريجيها هم أولى بالتنصل من القاب أهل الكفر والالحاد.. أم ماذا؟..
22 ابريل 2012
وديع العبيدي
لندن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• ثمة اشكالية فكرية في علاقة الزراعة بالفكر الديني وكون المجتمع الزراعي أكثر تبعية للخرافة والإفكار الغيبية، وهو موضوع يحتاج قراءة مفصّلة. مع إشارة إلى أن رجل الدين لا يزرع ولكنه يمثل دور الاقطاعي الذي يشارك الفلاح في محصوله ومدخوله الصافي، ناهيك عن ظاهرة الوجاهة الاجتماعية والقيادة والصّدارة في كلّ شيء.
• يقول الجامعة سليمان ابن داود: مع كثرة الفهم تأتي كثرة الاحباط. وكلما زاد علم الانسان، زاد حزنه أيضا!. (سفر الجامعة 1: 18).
• يقول بولس الرسول في غلاطية (1: 11): أريدكم أن تعرفوا أنّ البشارة التي بشّرتكم بها ليست من مصدر بشري. فأنا لم أخذها من انسان. وفي (تيموثاوس الثانية 3: 16) يقول: كلّ الكتاب موحى به من الله وهو مفيد للتعليم والتوبيخ والتصحيح والارشاد. ويقول بطرس في رسالته الثانية (1: 21): لأنه لم تعطَ نبوّة قطّ بمشيئة انسان، بل انقاد رجال الله بالرّوح القدس فنطقوا بكلام الله.
• يقول بولس في كورنثوس الأولى (1: 27): انّ الله اختار ما هو أحمق في العالم، لكي يخزي الحكماء، واختار ما هو ضعيف، لكي يخزي ما هو قويّ.




الدين والعقل

"لتكن لك الشجاعة، لاستخدام عقلك!"- كانت
"الإله مات، ودفنوه في المعبد!"*- نيتشه

من خلال مراقبة سلسلة التدرّج الحيواني، و تتبع نمو الطفل، يلحظ أن الحواس هي أوّل وسيلة تربط بين الكائن ومحيطه.
وتمثل غريزة استشعار الخوف، فيصل بقاء الكائن على قيد الحياة. وهذه الغريزة أولى وأجدر من فكرة الصراع والبقاء للأقوى أو الأصلح التي ظهرت في وقت متأخر.
الحيوان يهرب عند رؤية كائن غريب أو رهيب، والكلب يبدأ بالعواء عند رؤية الغريب، والطفل يبكي حين تبعد عنه أمّه، أو حين يرى شيئا يتهدده. وقد قسم علم النفس الحديث فترة الطفولة الأولى إلى ثلاث مراحل داخلية [هي: الفموية، الشرجية، اليدوية]، استنادا إلى نمو وتطور وعيه الغريزي بوجوده ومحيطه.
أما دورة حياة الانسان فتنقسم إلى ثلاث مراحل [طفولة، مراهقة، بلوغ]، وهناك من يقسمها إلى أربع مراحل، إذ يضيف إليها مرحلة [الشيخوخة والهرم].
لكن درجة تطوّر حواس الفرد الغريزية ليست واحدة لدى الجميع، حيث تدخل في التأثير فيه عوامل خارجية بيولوجية وعوامل بيئية اجتماعية، تفرز ظاهرة التفاوت بين الأفراد، وتميز شخصية الفرد عن سواه حتى داخل الأسرة.
أما علم السلوك، وهو علم ظاهراتي، فيدرس شخصية الفرد بحسب سلوكه الجسدي، وذلك بمراقبة اهتمامه الرئيس أو وضع يده، في الأحوال العادية، أو عند انفعاله. وعادة يوصف الشخص الذي يستخدم منطقة الفم [الفم، الشفاه، الأسنان، اللسان، الصوت] بأنه شخص عاطفي أو مزاجي. فكثرة الكلام أو الأكل أو التدخين، وحركات الفم من مطّ وعض أو تصويت تشي عن خصائص نفسية الشخص ومفاتيح شخصيته. بعض المدخنين يضطرون لاستخدام العلكة حين لا يتاح لهم التدخين، وذلك للاستمرار في استخدام فمه متعذرا بـ (العادة/ التعويد).
واقع الأمر أن طبيعة وطريقة علاقته بالفم، هي طريقته المعتادة الوحيدة التي تمنحه الشعور بالأمان [الوجودي] والاجتماعي، وتمتصّ اضطرابه الداخلي النفسي. والمرأة تلجأ غالبا للعلكة لتخفي اضطرابها، أو عندما تكون بانتظار مقابلة مهمة أو حدث غامض. فيما يلجأ الرجل للتدخين، وقليلون يقضون وقتهم في تناول الأطعمة والحلويات للتخلص من القلق.
كلّ هذه الممارسات تتعلق بالفم باعتباره الأداة والبوابة الرئيسة في العلاقة مع الخارج/ المحيط.
عادة استخدام [الفم] هي استمرار غير طبيعي لمرحلة [الفموية] الأولية في حياة الطفل، الممثلة بالرضاعة واكتساب المعرفة من خلال الفم أو الشفاه أو الاسنان أو اللسان.
هناك من الناس من لا يستطيع التوقف عن استخدام يده أو طقطقة أصابعه، أو تحريكها في مناطق مختلفة من جسمه، أو تجسس/ تحسس الأثاث المحيط به بواسطة الأصابع. ويدخل في هذا المجال استخدام السبحة أو السيجارة أو القلم، وسواه. ان استخدام اليد (قد تستبدل بالرجل عند البعض) قد يعتبره البعض مرحلة أكثر نضجا وتطورا في اكتساب المعرفة، باعتبار يد الانسان هي صاحبة المنجز التكنولوجي عبر التاريخ، لكن منظور علم النفس يهتمّ بكونه مرحلة طفولية منصرمة، واستمرارها لما بعد الطفولة والمراهقة والبلوغ دالة تشوّه تربوي اجتماعي.
من الناحية الاجتماعية، جماعة [الفموية] هم ناس عاطفيون يحتاجون على الدوام إلى عطف ورعاية، وهم ضعاف الشخصية وينهارون بسرعة عند المواقف غير العادية. بينما جماعة [اليدوية] هم حرفيون ماهرون وصنائعيون مبدعون ويحبّون العمل بلا ملل، بل يوجدون لأنفسهم عملا ينشغلون به ويفيدون به المجتمع. ويصعب على أتباع هذا النوع الجلوس الطويل ولا يحبّون وقت الفراغ. وإذا ذهب أحدهم في زيارة أو ضيافة، تجده يسأل عن كلّ شيء، أو يراقب أجهزة المنزل وزواياه، ويهبّ فجأة لتصليح الستارة أو حنفية الماء أو جزء من أثاث معطوب أو غير مركب جيدا. وأحيانا يقدم اقتراحات ونصائح مجانية حول اصلاح العطل أو تعديل استخدام الحاجة.
*
ان استخدام الحواس مرحلة أولية لا غنى عن العقل من أجل تطويرها وتجاوزها إلى مرحلة أكثر رقيا وتطورا. وقد استغرقت بعض المجتمعات البدائية –مثل الأفراد- مراحل زمنية طويلة قبل الانتقال للتطور العلمي. وما تزال ثمة مجتمعات قديمة تعتاش على التكرار والتقليد والتبعية.
ان اهتمام الأديان عموما بمنظومة الغرائز، يرجع إلى ارتباط جذور الأديان بعهد المرحلة الغرائزية، مرحلة اكتشاف الطبيعة وظواهرها من خلال الحواس (الخارجية). المعطى الآخر لهذه المرحلة هو ظهور [الخوف] كقيمة استثنائية في المعتقدات الدينية، وهي ما زالت حتى اليوم، مبرر التبعية القطيعية للدين، والحاجة للحماية وطرد الخوف من خلال التمائم والرموز والصلوات والطقوس الدينية.
الدين نبع من أرضية الغريزة، والتعامل السطحي/ الظاهراتي مع الحياة والطبيعة، فكان بناء المحتوى العقائدي حافلا باهتمامات الطعام والشراب والثياب والجنس والحياة الجماعية (الشركة) والاجتماعات الدينية الدورية، أو الصلوات الجماعية، العادية أو في ظروف الأزمات والتحديات. وفي العام الماضي* اجتمع أتباع الطوائف المسيحية المختلفة في مكان واحد [دير سمعان الخراز في القاهرة/مصر] للصلاة والترنيم، في أعقاب اضطراب الوضع الأمني وتزايد التهديدات ضدّهم في غياب القانون. بل أن ظاهرة الاجتماعات والتجمّعات المليونية التي شهدتها مصر منذ بدء 2011، ليست بعيدة عن حالة الاستنفار الغريزي الذي يكتنف القطيع في لحظة الخطر أو مواجهة المجهول. وتكرار الظاهرة في بلاد أخرى مجاورة، حيث تسود أنظمة سياسية مهزوزة متشابهة، غير بعيد عن حالة استشعار القلق والخوف من المستقبل.
في تلك الحالة النفسية المضطربة التي تتعرض فيها المنظومة القيمية والفكرية إلى حالة من التشويش والاضطراب، تجعل البعض أكثر ميلا للاحتمالات السيئة والخطرة، كالسجن والموت، جراء استمرار الشدّ النفسي المتواصل بدون الاطمئنان إلى أمل. وفي عرفنا الاجتماعي/ السياسي القديم، ثمة مقولة فحواها (السجن مصنع رجال!)، ذلك أن معاناة حالة السجن، حيث يجد السجين نفسه بلا حول ولا قوة ولا قانون يحميه، في مواجهة سلطة شمولية لا قيمة للمرء في نظرها ولا تخاف أو تستحي كما يقال. هذه الحالة من الحيف والغبن، تقنع الشخص بالعجز عن المواجهة أولا، وهي حالة اليأس التام، عندها يفقد كلّ شيء أهميته لديه، ويعتبر نفسه (لا شيء)، وقد قال يسوع المسيح عندما كان معلّقا على الصليب، (أنا دودة، لا إنسان!). جراء الألم والاحتقار الذي كان يعانيه. واعتبر بولس الرسول نفسه (نفاية) في مواجهة الآلام والمضايقات التي كان يتلقاها من الناس ومن السلطات الرومانية. وقد يصل البعض إلى حافة الانتحار في هذه المرحلة، والانتحار -هنا- ليس قرارا بطوليا سياسيا بقدر ما هو تعبير عن الرفض وامتلاء الحسّ بمشاعر الاشمئزاز والاحتقار.
وهذا هو الجانب الآخر والأخطر في منظومة الدين الغريزي، أي جاهزية الموت. ويستخدم الفكر الديني مسميات ومبررات ملطفة ومشجعة لتمرير فكرة الموت/ قتل الذات في إذهان القطيع الديني، مثل [شهادة، شهيد، استشهاد، جنّة، ملائكة، حوريات].
لقد تساءل كثيرون خلال العقد المنصرم وهم يراقبون بانشداه، كيف ينتحر بعض الشباب بتفخيخ أجسادهم أو استخدام أدوات قاتلة لايقاع ضرر فردي أو جماعي نتيجة مبرر ديني.
الطيار الأمريكي الذي أسقط القنبلة الذرية على هيروشيما لم يسقط نفسه مع طائرته لتنفيذ الجريمة، لكن منفذي تدمير الأبراج، قتلوا أنفسهم مع الضحايا، وهو ما يجري في عمليات [التفخيخ] في تجمعات الأسواق والاحتفالات والمدارس، حيث تختلط جثة القاتل مع ضحاياه.
قتل الذات، بل أي عملية عنف هي قرار غريزي يائس، يستفيد من غياب العقل (المؤقت) لتنفيذ الجرم. ويتحمل المعتقد الديني والمشرفون مسؤولية الدم والضرر القانوني لذلك. ان جملة هذه الأسباب هي التي تجعل رجال الدين محدودي الدراسة أو الفهم، يهتمون بالغريزة والحواس الخارجية، ولا يشكل العقل والتعليم والفكر والثقافة والفلسفة قيمة لديهم. وقد يكونون غير ذلك، ولكن قناعاتهم الاجتماعية تبرر لهم الارتزاق بالدين. وقد يحمل رجل الدين درجة عليا من مدارس دينية خاصة، ولكن بمقدار تلك الدرجة، هو يستنكر دور العقل والعلم والثقافة. لأنه في اللحظة التي يستخدم فيها الخرافة لتفسير ظاهرة كونية أو طبيعية، يتحول إلى مجرد مشعوذ جاهل خارج عن دائرة العقل والحضارة.
*
المطالبة بمجتمع ديني متطور، أو منسجم في المجموعة الانسانية، تقتضي تجاوز المعتقدات الغريزية القائمة على الخوف والاستعداء والرفض. ومراقبة الواقع البشري ومآله في العقود القليلة السالفة، يقتضي خطوة جريئة باتجاه عقلنة الدين وتهذيب المعتقد وتشذيبه من الخرافة والدجل والارتزاق.
لقد استغرقت الميثولوجيا والاسطورة آلاف السنين من عمر البشرية، قبل ظهور الديانات السائدة اليوم تحت مصطلح الكتابية. واليوم بعد انقضاء آلاف السنين من سيادة الأديان الكتابية المستعدية على الانسان والعقل بالخرافة وادعاء الحق المطلق، وإزاء ما تحقق من تطور علمي وعقلي في مجالات الحياة الطبيعية المختلفة وأبحاث الفضاء والزمن الخارجي، زاد من فضائحية الفكر الديني ومعتقداته الغريزية، مما يستدعي انتقال البشرية إلى مرحلة العقل، وتهذيب الغرائز ورقي النظرة إليها وطرق استخدامها.
وقد سبق أن حاولت بعض الأديان تلقيح نصوصها بفتات من المنجز العقلي والعلمي دون أن يؤثر على جوهرها سيما في جانب المنطق، وقد حان الوقت لاتخاذ الخطوة الأكثر حسما وراديكالية. أما استمرار الحال على نفس المنوال، فهو جناية على التاريخ والمستقبل وأبناء الغد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• فكرة (تابوت العهد) الذي وضع موسى فيه (لوحي الوصايا الأثني عشر) اللذين تسلّمها من الإله على جبل حوريب. ووضع (تابوت العهد) في مكان يدعى (قدس الأقداس) في خيمة العبادة/ تحولت لاحقا إلى الهيكل على يد سليمان، ولا يدخله غير الكاهن الأعظم، هو تفسير مناسب لفكرة الفيلسوف نيتشه. ويستخدم الهولندي إرازمس (1466- 1536) تعبيرا مشابها" أنا لا أدينكم لتوقير رماد بولس الرسول، ولكن إذا أهملتم صورته الحيّة التي تتكلم في رسائله، فأن تكريمكم لا يتفق مع العقل، فأنتم تهتمون اهتماما عظيما ببقايا من جسده موضوعة في صندوق، موضوع في ضريح.!" وهناك تأويلات أخرى.
• في الشيخوخة تتراجع قدرات الشخص الفيزيائية والنفسية وتضعف ذاكرته ويكون عاجزا عن ادارة حياته وفي حاجة إلى رعاية نفسية على غرار الطفل.
• كان اجتماع الصلاة الكبير في 11/11/2011.





علم الأديان المقارَن.. والدراسة الدينية

"عامل الناس كما تحبّ أن يعاملوك!."
وجود درس تحت عنوان (أديان مقارَنة) في كليات اللاهوت أو الكليات الدينية على العموم هو خطوة جيدة في باب الانفتاح الديني وانفتاح العقلية الدينية على الآخر- المختلف. ورغم كون مجال هذا الدرس محصورا في مجال الصراع السياسي أو "أهل الذمة" في البلاد العربية، فأن عنوان (ديانات) لا ينبغي حصره بديانة أو اثنتين، كالاسلام واليهودية والمسيحية. وعند عدم وجود استاذ مؤهل في المادة يتم استعارة شيخ عالم أو استاذ فقيه من ملة الدين -الآخر- لملء الحصّة. وكانت بعض كليات اللاهوت –في مصر مثلا- تستقدم عالم دين اسلامي لتعريف الطلبة بحيثيات الاسلام، وعالم دين يهودي لنفس الغرض. ولست متأكدا من قيام الأزهر أو سواه بهذا المجال للتعريف والانفتاح بين طلبة الأديان المختلفة.
لا شكّ في وجود أرضية مشتركة بين قواعد الأديان الثلاثة المتداخلة قليلا أو كثيرا، بالتناظر والاقتباس والتوارد والتناقض. فالايمان الغيبي وفكرة التوحيد مشتركة مبدئيا، لكن تعريف الايمان أو اسم الأله وطبيعة الذات الالهية (صفات الله وأسماؤه) تختلف. بمعنى أن الاختلاف في التفاصيل. الاختلاف ليس على مستوى العامة وانما بين الدارسين المتخصصين في الدين.
كما أن نظام العبادة الممثل في الصلاة والصوم والزكاة والصدقة والحج ومساعدة الفقراء واليتامى والمساكين وأهل السبيل مشتركة بين الأديان مع اختلاف التطبيق والممارسة ودرجة الأهمية من دين لآخر.
وباجتماع الجانب الخلقي في الفكر الديني فأن الالتزامات الخلقية وقيم المساعدة والتعاون والتسامح والعفو والحماية والوحدة في الملمّات والتكافل هي من العوامل المشتركة في أخلاقيات الأديان المتعددة. لكن تعبير المشترك لا ينبغي أن يفهم، ولا ينبغي له أن يكون متطابقا، بقدر كونه قاسما مشتركا مع حرية التعريف والتحديد والممارسة. ان أهمية التعددية تكمن في قيمة الحرية في الأديان، ومجال المرونة في الممارسة والتطبيق والتأويل.
فالاتفاق بين الأديان يكمن في المبادئ والأصول، ولكنه يختلف في التفاصيل والفروع. لكن الدراسة الدينية تختلف في الطبيعة والتوجه، عن توجهات التعليم والوعظ الديني للعامة. فالتوجيه الديني للعامة هو نسخة مشوّهة (سياسية) عن حقيقة الدراسة الدينية. وفي حين يستطيع رجال الدين الكبار (الدارسون) الالتقاء والتحاور، فأن الفئات الشعبية العامة من قاع المجتمع الديني يتحول الحوار بينهم إلى استخفاف وتناحر واتهامات وتكفير. والواقع ان تكفير أي جماعة دينية، يعني في المضمون والنتيجة تكفير الفكر الديني عامة، وباختلاف دياناته ومذاهبه، وذلك بموجب وحدة الأرضية واتفاق القواعد الدياناتية قاطبة.
*
الواقع.. رغم ذلك.. هو عكس التصوّرات المحتمَلة..
ان دراسات أحمد ديدات الانجيلية، تم توظيفها لاعلان الحرب على الآخر ومهاجمة حصونه الداخلية.. والتشهير به والاساءة إليه..
ودراسات زكريا بطرس الاسلامية تم توظيفها لاعلان الحرب على الآخر ومهاجمة حصونه ونصوصه الداخلية والتشهير به والاساءة إلى إليه..
ومثل هذا يقال في متناظرات أخرى دينية أو مذهبية.. كالسجال العقيم بين بعض الغلاة من الشيعة والسلفيّة، وهم انما.. أحدهم يصبّ الزيت على نفسه ويدعو الآخر ليولع فيه. وبتسفيه أحدهما للآخر، يتم القضاء على أساس الفكر الديني عموما، الذي يتناظران ويتقابلان فيه. فليس المذهب غير جزء من كلّ، ونقض المذهب يثلم جزء غير يسير من قاعدة الدين وأصله.
ان السبب الرئيس لظاهرة التناهش والاصطراع الغبي بين الأديان أو داخل بعضها البعض هو غياب العقل، الذي منه التعقل والتواضع والعودة إلى الذات والانقطاع إلى تأمل الوجود وابتغاء وجهه تعالى.
*
هل يمكن الحكم بالفشل على درس الأديان المقارَنة في كليّات اللاهوت والجامعات الاسلامية؟..
النقد / أو الانتقادات الموجهة لهذا الفرع تتلخص في جملة نقاط..
- حقيقة الغرض من وراء درس الأديان المقارنة..
- الغطاء/ الستار السياسي من وراء ذلك لخدمة سياسة الدعوة والتبشير والتحزّب ضد الآخر.
- تحديد الأديان المقارَنة بالمسيحية والاسلام مع مجاملة اليهودية يشكل تغييبا وتجاهلا لديانات أخرى متعارفة في مجتمعاتنا كالمندائية والدرزية والأزدية والمجوسية والبهائية مما يتعمد تشويه الدرس المقارَن، وغاية تدعيم ثقافة الدارس أو الواعظ الديني وتلقيحها بالمناسب والمناظر في مجال الاختصاص وبشكل يخدم انفتاح الوعي الاجتماعي الشعبي ودور التوجيه الديني في صيانة الوحدة الوطنية وقاعدة الانتماء الانساني العام.
- الدراسات المقارَنة في الدين يفترض أن تقلل من غلواء المباهاة والافتخار الأجوف بالانتماء الديني أو الشخصي وتقود إلى مزيد من التواضع والتسامح والانفتاح الانساني أو الروحي. يقول النبي أرميا في هذا الصدد (9: 24)- "إذا أراد أحد أن يفتخر، فليفتخر بالربّ."!.
- الأديان عموما تتهرب من الانفتاح الداخلي مذهبيا على الاتجاهات والمذاهب الأخر داخل نفسها، كالأرثوذكسية والكثلكة والانجيلية والخمسينية والسبتية وشهود يهوه داخل المسيحية، أو السنة والشيعة والاسماعيلية والزيدية والامامية والوهابية والأحمدية وسواها داخل الاسلام. فالأديان تهرب للأمام عبر الغاء الآخر الطائفي في خطوة لالغاء الآخر الديني، وصولا إلى دولة الحزب (الديني) الشمولي الواحد، والذي يقف غير بلد عربي على عتباته (أو يخوض فيه كالعراق).
ان غياب أرضية البحث العلمي وقاعدة النوايا الحسنة المتقابلة، يقلل من أهمية درس الديانات المقارَنة وجدواه، وبالتالي يعدم أرضية قيامه.
*
علم الأديان المقارَن..
هو علم علماني يعنى بالبحث في الأديان المختلفة.. أصولها التاريخية وطبيعتها وتطورها الفكري والديني، مع ملخص مقارن في نقاط التقائها وافتراقها عن بعضها.
فالخلفية/ العقلية العلمانية لدارس هذا الاختصاص تساعده في البقاء على الحياد الموضوعي، دون ميل أو انجراف فكري أو عاطفي لجانب ضدّ آخر.
وفي العقود المنصرمة زاد عدد الدارسين في اختصاصات غير بريئة. ففي ظل الصراع مع اسرائيل اتجه البعض للتخصص في اللغة والأدب العبري ومنه الديانة اليهودية، وهو من تخصصات معهد الأمن القومي التابع لدائرة المخابرات. أحد حاملي هذا التخصص بدرجة دكتور أنتج عدة كتب ومساهمات اعلامية في اختصاصه، لم يغير موقفه المناوئ والمشوّه لكلّ ما هو يهودي، وبما يرشح لمزيد من الكراهية، وقد اتجه بعد سقوط دولة العسكر، للعب على الوتر الديني المناوئ.
كما شهدت سنوات العقد الآخير مزيدا من الاهتمام في صفوف المسلمين والمسيحيين لدراسة واكتشاف تفاصيل الدين الآخر. وتوجد اليوم أسماء متخصصة في نقد الآخر وتشريحه، بعيدا عن الموضوعية وروح البحث العلمي، طالما تعمدت الإساة وتقديم قراءة مشوهة لنصوص الآخر، أو تضخيم بعض الصور وتغييب سواها بما يخدم عامل الهدم.
أن أخطر مظاهر النقد الديني، تخلي بعض العلمانيين عن خصائص الحياد والموضوعية، وتحولهم إلى حزب ديني أو دين مناوئ يضاف إلى حلبة الأديان المتصارعة. ان احتقار العلماني أو اللاديني للديانات، يضعه في مصافها تماما من خلا ل ادعائه/ (ادعائها) امتلاكه الحقّ المطلق دون سواه.
ان نتيجة غياب الانفتاح والتواضع والتسامح والموضوعية والحياد، ناهيك عن الروح العلمية والوطنية والانسانية، هي إذكاء مزيد من الاصطراع المحلي لأسباب دينية وطائفية، مع ما لذلك من نتائج تدميرية، لا يمكن العودة عنها أو اصلاحها، بعد دخولها موضع التنفيذ.
ويبقى السؤال الثقافي والوطني هو..
ما هو الدرس الذي استخلصه العرب –من المحيط إلى الخليج-، بل -- من باكستان إلى الرباط-، من دروس الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة؟.. لاشيء!
فقد انتشرت الطائفية الدينية وفكرة اللبننة السياسية خارج لبنان وكأنها حكمة ذهبية..
ما هو الدرس الذي استخلصه العراقيون والعرب من حربهم الطويلة في الثمانينيات؟.. لا شئ!
ما هو الدرس الذي.....
التدين والمذهبية والقبلية من مظاهر مجتمعات الشرق الأوسط منذ آلاف السنين.. وهي من نقاط السخونة والحساسية سريعة الانفجار، فكيف كان موقف المفكر والمثقف ورجل الدين ازاء ذلك..
مادة للاستهلاك أو الارتزاق.. تاركين الوطن يذهب إلى الجحيم.. وأبناءه يتوزعون على المنافي وبلاد الاغتراب!..
وفي هذه النقطة، انخرط أفراد من كافة الجماعات الدينية والعلمانية واللادينية على حدّ سواء.

23 ابريل 2012
لندن


الناس بين الإله وموظفيه!

من خدمة المعبد إلى سرقة (الإله)..
لقد قتلوا ربّهم وتقاسموا إرثه!

القداسة فكرة تجسّد المسافة بين السماء والأرض. مسافة قطعية تفصل بين (الخالق) و (المخلوق).
فالانسان.. مهما تمكن وتبرّر وتسامى، لن يطاول مستوى الإله.
ولمّا كانت فكرة الإله (السّماوي)، متأخرة عن فكرة الدين، فأن فكرة (القداسة) أكثر حداثة عن دخول فكرة (الاله) في جوهر الفكر الديني.. (الديانة).
الالهة القديمة، في أيام سومر وبابل ومصرايم والاغريق والرومان لم تكن مقدّسة، ولم تكن تتميز في أفكارها وسلوكها وطبائعها عن أكثر البشر انحطاطا وطمعا. لكنها تميزت عن البشر بقواها الخارقة.
مسكن تلك الآلهة كان على الأرض، بين الناس أو قريبا منهم على المرتفعات، حيث معابدها الزاهية والفخمة.
وما زالت فخامة البناء والعمران وطرز القصور الرفيعة والمرتفعة تميز بعض الناس ممن يعتبرون أنفسهم نبلاء أو أغنياء أو لهم ايما امتياز على سواهم من البشر.
دار الغني يدعى قصرا، فيما دار الفقير (عامل/ مزارع، صنائعي) يدعى كوخا. فالتاريخ الاجتماعي للغة كان وما يزال تاريخا طبقيا قائما على التمايز وتأكيد التفاوت والدّرجات.
بل ان الآلهة تتمايز فيما بينها بتفاوت فخامة ومساحة وارتفاع مساكنها (دور عبادتها وتمجيدها). وهذا يعكس التطور المادي والاجتماعي، الذي يفرز حالة من المنافسة والسباق بين الآلهة/ الملوك/ علية القوم، في الاهتمام بتطوير طرز البناء والعمران والتنابز العمراني -إذا صحّ التعبير- فيما بينها. ان عظمة الآلهة (الإله) مرتبطة بارتفاع مستوى بناء معابدها وفخامتها وبهائها.
الغالب في المعابد هو بناؤها على المرتفعات، مثل جبال الأولمب المشهورة، وجبال صهيون والزيتون المحيطة بالقدس (أوروشاليم). كذلك مكة المحاطة بالجبال.
وحيث لا تتميز التضاريس المرتفعة كما في جنوب العراق، لجأ السومريون إلى اختراع فكرة [الزقورات] (Zaquora) التي تقام عليها معابد الآلهة. ويبدو أن الفكرة التي ولدتها الحاجة تحولت لاحقا إلى تقليد (موضة) وجزء أساس من النظام القائم على الابهة والتفاخر. فعند الهندوس كلما زاد عدد الدرجات التي تصل بين سطح الأرض وعتبة المعبد، يعتبر معيارا لقوة الإله ومستواه.
علاقة الإله بالارتفاع لها منبع قديم في الفكر البابلي، ممثلة في اسطورة (برج بابل) المذكورة في قصة التكوين التوراتية (تك: 11: 4-9): ثم قالوا: "لنبنِ لنا مدينة، وبرجا، تصل قمته إلى [عنان] السماء. وهكذا نكتسب شهرة، وإلا، فإننا سنتشتت على وجه الأرض." ونزل الإله ليرى المدينة والبرج اللذين بناهما الناس. وقال: "ها أنهم شعب واحد يتكلمون لغة واحدة، وما هذه إلا البداية. لا بصعب عليهم شي ينوون عمله. فهيا ننزل ونبلبل لغتهم، فلا يعود بعضهم يفهم لغة بعض". فشتّتهم من هناك على سطح الأرض كلها، فوقف بناء المدينة. ولهذا سميت المدينة [بابل]* لأنّ الإله بلبل هناك لغة الأرض كلّها.
والجدير بالذكر أن فكرة (تعالي الإله) البابلية كانت جديدة على الفكر الديني العراقي القديم، إذ اتخذت آلهة سومر أعماق المياه سكنا لها. وربما كان [الارتفاع ومرموزه الديني] هذا دافع الناس شمالا نحو نينوى، حيث يتحول (مردوخ) الاله البابلي الأكبر إلى (أشور) العظيم.
فكرة الارتفاع وجدت لها جملة من التشخيصات الاجتماعية في التعامل مع المقدس. ان عتبة بيوت العبادة ينبغي أن ترتفع درجات عن مستوى البيوت المجاورة أو مستوى الشارع. وفي داخل المعبد يتميز المحراب بارتفاعه عن ارضية المعبد، والقاء كلمة الإله (الوعظ الديني) يفترض أن تأتي من علوّ، فيكون الواعظ واقفا أو جالسا على علوّ، وتتجه أنظار الناس للأعلى لاستقبال الكلمة كما لو نازلة من فوق. والكتاب المقدس لا يوضع على الأرض المجردة وانما يوضع له مسند خاص به أو رفّ خاص به عند الاستعمال أو الحفظ. ومسند الكتاب هذا انتقل من المعبد إلى البيوت عند بعض الغلاة ممن يشيعون تقاليد الدين في بيوتهم وحياتهم اليومية.
*
التطور الآخر الذي أفرزه الدين البابلي هو قطع الصلة بين الانسان والإله، وعدم امكانية تحول البشر إلى آلهة، كما في أيام سومر. فقد تحول رجل الطوفان (أوتونبستي) وزوجته إلى مصاف الآلهة في معبد (دلمّون)، وهو ما شكّل بغية (جلجامش) للحصول على الخلود. بالمقابل رفعت بابل مرتبة الكاهن وجعلت منه وسيطا بين الإله (شماش) وبين الملك، كما يتضح ذلك في أعلى مسلّة (شريعة) حمورابي. وكان الكاهن البابلي هو الذي يمسح الملك في بدء دخوله الخدمة، وكان له أن يصفع الملك أثناء ذلك إذا وجد فيه خطيئة. وهي كذلك عند الفراعنة. ومنهم انتقلت إلى التقليد العبراني حيث قام صموئيل الكاهن بمسح شاول أول ملك على بني اسرائيل، ثم مسح داود من بعده، واستمرّ هذا التقليد، ودخل في الطقس الديني العبراني والمسيحي المستمرّ حتى اليوم في مسح رجال الدين في أول دخولهم سلك خدمة الكهانة. وهذا قريب من مبدأ فكرة ولاية الفقيه الشيعية. ولكن الاسلام لم يأخذ بهذا التقليد، لا في رسم الملوك ولا ترسيم الكهنة. وبقي تعيين شيوخ الدين وأئمة المساجد طقسا علمانيا، من خلال شهادة شيخ أقدم أو سلطة الحكومة.
*
رفع (الاله) إلى السماء، كان بمثابة (نفيه) من الأرض وقطع تدخله المباشر في حياة الناس، والذي صار رجل الدين/ الكاهن/ خادم المعبد، ينوب عنه في تطبيق مشيئته وإرادته، ويشاركه في كلّ ما يدخل المعبد من هبات وتقدمات وقرابين وامتيازات؛ إضافة لسلطته المطلقة في حياة الناس.
لقد صار [رجل الدين]* شريكا للإله ونائبا عنه وممثلا له بين الناس. وهو أداته ووسيلته ووكيل سلطانه على الأرض. فرجل الدين يبارك ويلعن ويتقبل الأعمال أو يغضب، يجمع بين الناس ويفصل بينهم، بيده سلطة الحلال والحرام، وبيده* قرار الموت والحياة. فكلّ ما كان للإله من سلطان في خلقه، صار حقا مطلقا لرجل الدين، يتسلّط به على رقاب الناس وحياتهم*. وهي حقيقة ما تزال سائدة لدى مختلف الأديان، سواء في الكنائس الطقسية تحديدا، أو شيوخ الاسلام.
وتروّج وسائل الاعلام اليوم برامج (توعية!) دينية تحمل عناوين (دين وشريعة) أو (دين وحياة)، تتم فيها الإجابة والتعليق على أسئلة المتهافتين حول جواز وعدم جواز أو وجوب واستنكار. فعبر الأثير يمكن لرجل الدين الحكم بفسخ زواج أو خطوبة، أو تحليل أو تحريم، كما أصدرت فتاوى بتطبيق الحدود أو حكم الردة* أو القتل ضدّ فلان وعلان، فرادى وجماعات.
ومن ذلك جواز قتل (ذبح) المتعاون مع العدو [الأمريكي] في العراق، رغم حساسية الأمر لدول الخليج والسعودية تحديدا في علاقتها التبعية للولايات المتحدة –نفطيا وعسكريا- منذ أول نشأتها. ولم يخطر للعقل الاسلامي الكهنوتي لماذا يجوز (لهم ما لا يجوز لغيرهم!)- لأهل الخليج وحكوماتهم استقبال الجيش الأمريكي وساسته في بلادهم وعلى أرضهم (المقدسة) والتهليل بهم من قبل دعاة الدين، بينما لا يجوز ذلك لأهل العراق وهم يعانون الأمرّين من دسائس جيرانهم.
بيد أن الغاية الخفية وغير المباشرة لتلك اللعنات هي تجييش الصراع الطائفي بين السلفية والرافضة. ولما كانت بلاد الخليج و(درع الجزيرة) تخشى التحرش بايران، فأنها تستخدم العراق طعما لمحاربتها، وهو عين ما فعلته في حرب الثمانينيات بواسطة نظام صدام.
عندما طالب المجمع اليهودي بيلاطس الوالي بصلب يسوع، ورفض الوالي طلبهم لأنه لم يجد ما يستوجب الصلب، دفع زعماء المجمع الكهنوتي الغوغاء للصراخ: اصلبه! اصلبه!، دمه علينا وعلى أبنائنا!(متى 27: 25) .. فهل يستذكر شيوخ الدين اليوم كمية الدم والدمار الذي تسببته فتاواهم ومواعظهم وقراراتهم ليتحملوا المسؤولية ويقولوا كما قال كهنة اليهود: دمهم علينا وعلى أبنائنا!.. أم حسب الشيخ أن يأمر بالقتل ويقبض الثمن وتبقى يداه طاهرتين من دماء الناس* وخطاياهم.
السلطة الدينية شأنها شأن أي نظام سلطة وتسلّط يدفع بصاحبه إلى الطغيان والغواية وفقدان خيط الصواب تحت نشوة السلطة، وكما يبرّر الحاكم لنفسه الخروج على الدستور المدني، فأن الطغيان ونشوة التسلط تبرر لرجل الدين الخروج على الشريعة الدينية، وبدلا من صيانة مبادئها وحثّ الناس على ذلك، يكون هو أول من يخالفها ويعصاها. بكلمة أخرى، ان شيوخ المسلمين اليوم لم يعودوا أفضل من شيوخ اليهودية من قبل، والذين أسرف القرآن في التنديد بهم وبأفعالهم.
*
هل يمكن فصل الدين عن الكهانة؟.. هل فكر الناس ما ضرورة الكاهن للدين، إذا كان للدين ضرورة في حياتهم؟.. لماذا لا يعتمد الناس على أنفسهم وعقولهم في دراسة الدين وتنظيم علاقتهم بربّهم، باختيارهم ودون أن يجعلوا من أنفسهم قطيعا بيد هذا وذاك؟.. أليس بعض الناس أو أكثرهم أفضل من رجال الدين والكهنوت عقلا وخلقا، أم أن استمراء الذلّ والمازوشية سهّل لهم ابتذال النفس؟..
جذور الكهنوت تعود إلى دهور سحيقة حيث انعدام التعليم والحياة البدائية، فكيف تبرر وجود الكهانة ورجال الدين، حيث تيسّر التعليم والدراسة للجميع، ولم يعد رجل الدين الوحيد الذي يقرأ ويكتب، أو يستطيع فهم الكتاب دون سواه؟.. رسالة الدين والكهنوت هي مساعدة الناس وترابطهم مع بعض وحمايتهم من الشرّ، فما ردّ فعل الناس وهم يرون الدين وسيلة لنشر الموت والدمار وتبغيض الناس بعضهم ضد بعض واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم؟.. الدين ورجل الدين مرآة لفكر الإله فأي إله هذا يستحلل دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ويجعل الضعفاء والفقراء مضغة للأقوياء والأغنياء؟..
الدين جزء من حياة الجماعة البشرية، والجماعة البشرية منذ آلاف السنين ألفت إطار الدولة كنظام ينظم حياة الجماعة وعلاقاتها بينها وبين الآخرين، كما يوفر لهم الحماية والرفعة والازدهار، لكن دور الدين والمتنفذين فيه اتجه لتدمير الدولة وأنظمتها القانونية وتدمير العلاقات والروابط القانونية والاجتماعية داخل الدولة والمجتمع، بحيث صار أداة للفتنة والفساد والاضرار الاجتماعي، والدين وجماعته يفعلون هذا سواء كانوا خارج السلطة (في المعارضة)، أم على قمة السلطة كما هم اليوم في العراق ومصر وغيرهما..
لقد تم استخدام الاسلام السلفي وعصابات الارهاب –باسم الدين والقاعدة- في اهدار دماء عشرات آلاف الأنفس في بلاد الله من المشرق للمغرب، بدء من لبنان والجزائر والعراق وسوريا وتونس والمغرب واليمن والبحرين حتى بلاد الغرب.. فما هو الفرق بين الدين والجريمة حين تتشابه الوسيلة والنتيجة؟..
ان الفرد اليوم مسؤول عن نفسه وحده وبكامل مسؤوليته.. وهذا ما يؤكده النص الديني لكل الديانات.. فلن يتحمل أحد مسؤولية غيره ولن يدافع عنه أو يشفع له يوم القيامة، كما ذلك أمام القانون المدني.. فالانسان الكامل أو الواعي أو المحترم، والذي يعتقد أنه مشمول بميثاق حقوق الانسان والعناية الإلهية عليه أن يفكر ويفكر ويفكر في نفسه وما يجري له أو لغيره به أو بسواه، ويتحرر من عقلية القطيع والارادة المستلبة..
وليكن المبدأ.. لا كهانة بعد اليوم.. لا وسيط بيني وبين ربّي.. والله يستطيع أن يتعامل معي ويقودني مباشرة بدون وساطة.. تحرر الفلاح من الاقطاع وتحرر العامل من ابتزز رب العمل، والشعوب ثارت على حكامها، أما القطيع الديني فما يزال خاضعا وخانعا وذليلا امام ابتزاز وتسلط رجال الدين.. انه زمن الصحوة.. العقل والحرية!

ــــــــــــــــــــــــــ
• لغويا.. تشتق كلمة بابل من كلمتين هما (باب- ئيل) أي [باب الإله]، أي باب السماء الذي يربط بين الأرض والسماء، وخلاله تدرج الملائكة والمقرّبون من الربّ. وقد انتقلت هذه الصفة إلى مراكز أخرى مثل اوروشاليم حيث (جبل الربّ) حيث كان (يسوع المسيح يذهب للصلاة والمبيت)، وطريق قصة (المعراج) الاسلامية أي عروج محمد إلى السماء. وفي وقت لاحق الحقت تلك الصفة بمدينة (مكة). أي انتقال فكرة التقليد البابلي للديانات الابراهيمية بالتدرج.
• يقول الاستاذ أحمد صبحي منصور في كتابه (حدّ الردّة)/ص50- "أما الكهنوت فيرفع نفسه فوق الأنبياء حين يدعي علم السرائر والغيوب، ويضع نفسه في مقام ربّ العزة حين يحاكم باسم الله تعالى –زورا وبهتانا- من يخالفه في العقائد."
• من أقوال يسوع المسيح "كلّ ما يملكه الأب هو لي!"/ (يو 16: 15)، "أيّها للأب.. أعطيت الأبن سلطانا على كلّ البشر.."/ (يو 17: 2).
• يقول الاستاذ أحمد صبحي منصور:"الله تعالى لم يعطِ أحدا من البشر الحكم على الآخرين الأحياء بالكفر (..) مع تأجيل الحكم إلى الله تعالى يوم القيامة. (..) وذلك هو ما يخصّ الله تعالى ، فهو صاحب الدين، وهو صاحب ومالك يوم الدين، وهو الذي يردّ على البشر إن أحسنوا في العقيدة أو أساءوا فيها."/ كتابه [حدّ الردّة]- ص31- منشورات دار الانتشار العربي- بيروت/ 2008
• "كلّ ما خلقه الله صالح، ولا ينبغي أن يرفض منه شيء، بل أن يقبل مع الشكر. لأنه يقدّس بكلمة الله وبالصلاة!"/ (رسالة تيموثاوس الأولى 4: 4).
• من الأغاني التي ظهرت في الثمانينيات في تمجيد (القائد!) ثمة أغنية يرد في كلماتها: [كل شيء يدك مسّته.. عيون أهلنا باسته]، وهي تحيل إلى فكرة البركة الممثلة برجل الدين المقدس، والذي جرى التقليد على تقبيل (بوس) يده للتبرّك!.





الدين والسياسة

"كلّ نعمة وقعت في يدِ هذي الأمة.. صارت نقمة!"
"المطلق في الديني، والشمولية في السياسي، أخطر أبواب الجحيم في حياة الشعوب!"

الدين والكاهن والمعبد، ثلاثة أركان المملكة الدينية أو الروحية التي نشأت على هامش الاجتماع البشري في غفلة من العقل والارادة.
هذه المملكة أو الولاية أو الامارة أو السلطنة أو القبيلة أو الطائفة أو الشلّة أو المآفيا أو الحزب أو المنظمة أو الجماعة –أو أي مسمى آخر ديماغوجي وغوغائي- أرادت لنفسها الامتداد والهيمنة، لتشمل صورة الحياة على الأرض. ومن أجل ذلك، كان لا بدّ لها من مبرر غيبي ورمز تشتق منه سلطتها وسلطانها، فكان [الإله]. ومع وصف الإله بـ"المطلق"، أصبح لها طابع السلطة الشمولية
(كلّ سلطان على الأرض)* .
والأرجح أن اجتماع السلطتين الدينية والدنيوية هو أقدم صور النظام السياسي على الأرض، على الأقل في النموذج السومري، الذي مرّ بعمليات متعددة لفكّ الارتباط بين الديني والسياسي. وأعتقد أن النقطة الأولية الفاصلة في ذلك كانت في عهد سرجون الأول، والذي كانت ابنته هي كاهنة المعبد، حيث وظائف الكهنوت محصورة بطبقة النبلاء وحاشية الحكم، دون العامة والفقراء. وفي العادة كانت الكهانة مرتبطة بالوراثة، لأسباب كثيرة، لعلّ أولها الأسرار الخاصة بالخدمة/ الصنعة.
ومن أسباب فصل السلطتين، هي قيادة الحرب. فالقائد أو الملك ملزم بقيادة الجيش في تلك العهود السحيقة، ولم يكن رجل الدين/ الكاهن على استعداد تام لمعاناة التعب والجوع والعطش والمجازفة بحياته وصحته، حيث يتساوى في ميدان القتال، القائد والجندي، وتختفي الرتب والامتيازات في عين العدو؛ ففضّل رجل الدين أو الكاهن، التنازل لجزء من السلطة لقائد عسكري، أو ملك يتولى عنه قيادة المعارك والأزمات، فيما يتمتع الكاهن بكل السلطات المجوّفة والمعنوية وصافي الأرباح وريع الكهانة وحصرها في ذريته.
امتدّ تاريخ سومر قرابة قرنين وهو في مرحلة [حكومات مدن] متعددة دون أن تتطور إلى صورة مملكة موحّدة كبرى، لذا يرى توينبي* أن السومريين لم يفكروا بالتوسع العسكري أو السياسي خارج حدودهم المدينية. أن سبب عدم قدرتهم تجاوز المرحلة المدينية يعود إلى عدم استعدادهم التنازل عن صورة السلطة و(عقدة) الوجاهة السياسية والاجتماعية. وعندما اراد أحدهم التوسع ضد الآخر، فيما يشبه صراع مدينتين، ظهرت قوة عسكرية غير كهنوتية بقيادة سرجون لتأسيس أول مملكة موحدة في تاريخ سومر، وهو الذي أنجز فصل الكهانة عن السياسة.
لكن تطور الفكر السياسي عبر التاريخ، لم يكتفِ بالفصل وانما جعل المؤسسة الدينية تابعة للدولة.
*
يشكل تاريخ العبرانيين أفضل تصوير لتطور تاريخ الجماعة البشرية من جماعة دينية صغيرة ذات ادارة دينية (نبي/ كاهن) إلى صورة قبيلة/ قبائل يحكمها قضاة (دين) [مركز (قاضي القضاة) في المثال الاسلامي] ، وكان القاضي هو الكاهن. أعقب ذلك مرحلة المملكة، وفي هذه المرحلة جمع الحاكم بين وظيفتي الملك والكاهن (أو النبي)، فكلّ من شاول ابن قيس وداود بن يسّي وسليمان بن داود كانوا ملوكا وأنبياء في عين الوقت. ولم تستطع دولة العبرانيين فصل السلطات إلا في حالة ضعف الملك، فيستعيد النبي أو الكاهن سلطته المضاهية أو المنافسة للملك، كما حصل مع عزريا الملك إذ تمادى في نفوذه، وتجرأ على انتهاك حق الكاهن الأعظم /(2 أي 26: 16)، فأصيب بالبرص، وهو (نجاسة) في شرعة العبرانيين، فتم عزله من الملك بسبب ذلك. كذلك كان لأيليا النبي سلطان يفوق سلطان أخآب الملك، وقد منع المطر عن البلاد لمدة ثلاث سنوات ونصف، عقوبة على فساده.
وعندما فقد العبرانيون دولتهم، عاد الكهنة لحكم الشعب حسب طريقة مرحلة القضاة. لكن الفارق، أن عزرا الكاتب/ النبي/ الكاهن بعد العودة من السبي، أنشأ مجلسا يهوديا أعلى (سنهدريم) من كبار الكهنة، بمثابة سلطة دينية دنيوية تتولى ادارة أمور شعب العبرانيين، وكانت الدولة النافذة من أغريق أو رومان يعترفون بسلطة المجلس، وبذلك تمتع العبرانيون بنوع من استقلال ذاتي في ظل الامبراطورية، ولكن لم يكن لهم صورة حكم سياسي. واستمر ذلك حتى بدء تمرد العبرانيين ضد الاغريق - ما يدعى بثورة المكابيين (167 ق. م.)- حيث نشأت دولة جديدة جمع فيها الحاكم بين وظيفتي الملك والكاهن، استمرت حتى مجيء هيرودس الأدومي ملكا على فلسطين.
فكرة جمع السلطات الشمولية انعكست أيضا في شخصية يسوع المسيح [إلها وملكا ورئيس كهنة على رتبة (ملكي صادوق)!]. ورغم أن الكهانة المسيحية فصلت نفسها عن السلطة السياسية، باعتبار أن سلطان المسيح لم يكن ماديا بل روحيا، وتعنى الكنيسة بالرعاية الروحية لأتباعها، فأن الصراع بين السلطتين سرعان ما احتدم في العصور الوسطي، حيث أخضع الملوك والقياصرة لسلطة بابا الفاتيكان، وهي الفترة التي كبّدت المسيحية ركاما من الكوارث والفضائح من اضطهاد وحرق وتحريم وحروب صليبية وفساد وسوء تصرف، انتهى بانتصار النقد الديني وحركات التجديد الكنسي والعلماني المعروف بالبروتستانت، وعودة الكنيسة لإدانة تلك المرحلة والاعتراف بخطئها.
وإلى الجنوب من فلسطين، في أدوم/ الحجاز، كانت نهضة عربية منذ القرن السابع الميلادي، شهدت امتزاج الديني بالسياسي، والدولة بالدين. وقد عانت دراسات مرحلة هذه الدولة كثيرا من الخلط واللغط وعدم الوضوح والموضوعية. فرغم الاسم الديني (اسلامي) لتلك الدولة كانت سياسة الحكومة تحتكم للطابع المدني في أسسها وبعض تفاصيلها، كما يذهب لذلك الاستاذ أحمد القبانجي*. والمبدأ فيه أن كثيرا من تشاريع الاسلام وان وردت في مصادر دينية، فقد استندت لفكر علماني أكثر منه فكر ديني. بمعنى آخر، فالنزعة المادّية تحتل مساحة كبرى في الفكر الاسلامي، تنافس سلطان الروح في المسيحية. فالمسيحية الروحية النابذة لشهوة الجسد* وجدت مقابلها الاسلام المادي الغرائزي والذي وصف نفسه بدين الفطرة.
ومع تصاعد المدّ السلفي (اسلامي متشدد مغالي بمطامحه السياسية) تزداد الحاجة والدعوة للاسلام المعتدل تحت عناوين متعددة، مثل تجديد الفكر الاسلامي أو علمنته، أو اسلام مدني واسلام عصري.
*
الكهانة وظيفة حدودها وممارستها مرتبطة بمساحة المعبد، ووقت العبادة. وأي مغالاة في تقدير وظيفة الكاهن، تخرج بها عن إطارها الحرفي. بمعنى آخر، أن أي خروج للكاهن أو وظيفته خارج حدود دائرة عمله هو تدخل في السياسة*. هل يستطيع استاذ الجامعة أو موظف الحكومة ممارسة وظيفته خارج مبنى الجامعة أو بناية الدائرة الرسمية، لماذا يجوز لرجل الدين ما لا يجوز لغيره؟.. هذا هو أحد مظاهر التخلف والفوضى في حياة المجتمعات الغارقة في الدين.
هل يحق لرجل البوليس أو العسكري ممارسة وظيفته خارج دائرته ووقت عمله وثيابه الرسمية؟.. قد يجري هذا في بلادنا المتخلفة وضعف الدولة والقانون ووعي الأفراد، ولكن من الصعب تقبل هذا السلوك في دولة غربية. حتى كهنة الغرب لا يحق لهم التمادي خارج الكنيسة.
التخلف مصطلح معقد. وتعقيده كائن في طريقة قياسه. فنحن مجتمع متخلف وبجدارة. ولكن ليس كلّ أبناء المجتمع متخلفين. إذن، نحن بحاجة إلى آلية لقياس التخلف، وإطار لتعريف المصطلح وتحديده.
مبدئيا، يقع الفرد في المركز، كما في كلّ شيء. فهو أداة التخلف، منتجا ومستهلكا. ولا بدّ أن أحدهما هو متخلف، لتحقيق ظاهرة التخلف.
وفي المجتمع الديني، حيث يشيع التخلف ويتم الترويج (الدعاية) له، أين يقع التخلف، هل في رجل الدين.,, أم في المجمتع الديني/ القاعدة الدينية؟.. وماذا لو التقى الطرفان (متلقي ومستهلك)!.
أي رجل دين، حتى لو حمل درجة الأستاذية وحاضر في أرقى جامعات الغرب –بحسب الوصف العربي-، فهو يبقى متخلفا، لأنه يحمل بذور تخلف، أو سمات متخلفة، [كالغيب والخرافة والخوارق].
في الستينيات والسبعينيات العراقية ظهر انحسار ملحوظ في ظاهرة التدين في صفوف الشباب والمتعلمين، وربما يذكر البعض أن زميلا لهم من كادر التعليم أو الموظفين كان يتسلل خفية ليصلي دون انتباه زملائه. أو مراوغة زملائه للذهاب إلى الجامع. فمع انتشار التعليم وموجة التحديث، زاد شعور المجتمع بمظاهر التخلف والتي في صدارتها الدين والأعراف والتقاليد الموروثة.
في تلك الأيام انتبه بعض من رجال الدين لضرورة التجديد وفتح الفكر الديني وعلمنته، وتشذيبه من الدرن والخرافة والشعوذة. ظهر هؤلاء في العراق وفي بلاد أخرى. ولكن أواخر السبعينيات، شهدت الهجوم المعاكس، الاسلام السياسي بطبعة مغالاة وتطرف.
الدين، عموما، لا ينفصل عن السلطة الشمولية في أقصى أبعادها وتصوراتها. ومهما تظاهر أو ادعى باعتزال السياسة والدولة، فما يفتأ يجد نفسه في وسطها ومعمعتها. وحين يقيض للبعض المشاركة السياسية مع (حزب/ جماعة) دينية، فسرعان ما يجد نفسه محصورا في زاوية ميتة. ان الدين، فكرا أو شخصا لا يرضى بنصف الكعكة ولا بثلثيها، ولا بد أن يمسك الكعكة بكاملها بيده*. بغير ذلك يكون الشعار الديماغوجي الموبوء (عليّ وعلى أعدائي!). أما أن أحتل المركب أو أجعله يغرق!.. وهذا هو نفس المبدأ المعتمد من قبل الأحزاب الأيديولوجية الشمولية. وهذا ينقلنا إلى مرحلة أخرى. إذن..
لا بدّ من إعادة الخراف إلى الحظيرة، لا بدّ من إعادة الدين إلى المعبد. لا بدّ من فصل الدين عن السياسة، وانهاء حالة الفوضى السائدة في الدولة والمجتع.
المعبد هو مكان العبادة المقدس. وليس الشارع. فالذين اعتادوا الصلاة في الشوارع وعلى مرأى من الملأ، هم الذين خرجوا في مسيرات تحمل شعارات دينية أيديولوجية!..
وصارت الجمعة.. منطلق الثورة (الشعبية).. منطلق الحكم والسلطة والمستقبل العربي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
• الناس بين الله وموظفيه- الحوار المتمدن- 29 ابريل2012. مقال سابق للمؤلف
• ارنولد توينبي- تاريخ البشرية-
• أحمد القبانجي: الاسلام المدني- دار الانتشار العربي- بيروت.
• يقول الاستاذ أحمد صبحي منصور بهذا الصدد: "ان المسلمين حين جرفتهم السياسة، باعدت بينهم وبين القرآن، وبدلا من الاحتكام إلى القرآن والرجوع إليه، فعلوا العكس. وهو صناعة تشريع بشري يقوم على عمودين، الأول هو الغاء الأحكام القرآنية التي لا تتفق مع أهوائهم، والثاني، هو اختراع أحاديث تسوغ لهم ما يشاؤون من تشريعات.."/ كتابه (حدّ الردّة)- ص22- (م. س.)
• لاحظ انشقاق قيادة ثورة يوليو 1952 في مصر مع زعامة الأخوان المسلمين بعد استلام الحكم واضطرار الحكومة إلى مطاردة الأخوان وايداعهم في السجون. واستمرار مظاهر الخلاف لاحقا وآثاره في اغتياال السادات واستشراء العنف في عهد مبارك الذي عقد معهم صفقة سياسية انتهت بانقلابهم عليه ووصولهم للسلطة. ويبدو ذلك قريبا من الحالة العراقية في العلاقة الموتورة بين زعماء الشيعة والحكومة منذ انقلاب قاسم 1968. وفي الحالة العراقية لم يكشف النقاب عن سرّ الخلاف ما بين محسن الحكيم والزعيم عبد الكريم قاسم، في أواخر الخمسينيات؛ والخلاف ما بين محمد باقر الصدر وصدام حسين في أواسط السبعينيات. والمحتمل كونه حول (وجود الحركة الشيوعية) في الحالتين؛ حول عبد الكريم قاسم وصدور فتوى (شيعية) بتصفية الشيوعية في انقلاب 1963؛ وتكرار الأمر عند اشتراك الشيوعيين في الجبهة الوطنية والحكومة والتي انتهت بحظر العمل الشيوعي وتخيير الشيوعيين بين قبول الأسلمة أو قبول القومية العربية (صف وطني)، أو التصفية. وكان البعث العراقي- تاحايف السابق لقيادات الشيعة في الموقف من الحركة الشيوعية منذ الستينيات، كما كان القوميون العراقيون في خندق واحد مع الاسلام السياسي في أواخر الخمسينيات، حيث ظهور تنظيمي الأخوان المسلمين وحزب الدعوة الاسلامية للعمل في مكافحة الشيوعية في العراق. وهو ما أكده زعيم حزب الدعوة رئيس الوزراء في خطابه الأخير. ومعروفة مواقف الأحزاب الشيعية من الحزب الشيوعي في عرقلة اجتماعات المؤتمر الوطني العراقي إبان التسعينيات، مما يقتضي الحيطة مما تخبئه الأيام.
• (لكي نشترك في الطبيعة الالهية، ونهرب من الانحلال الموجود في العالم بسبب الشهوات.)/ (2 بط1: 4- 7)



الدين.. والحرية

"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا."
"We born free"

الغالب أننا نعيش حالة تناقض فكري واجتماعي في موقفنا من الحرية. بكلّ ما لهذا المفهوم من جدّة واغترابية. فوعينا الباطن/ العرفي يدلنا على أننا جمعا –أو فرادى- عبيد بالمعنى الديني / الميتافيزيقي. . مسكونون بالخوف والرهبة والتوجس من شيء لا نراه ولا نسمعه ولا نلمسه، ولكنه قادر أن يرانا ويسمعنا ويلمسنا، بل وأكثر من كلّ هذا، يقدر أن يرى ويفحص قلوبنا ودخائلنا العصيّة على أنفسنا. ويساهم القرآن والتعليم الاسلامي بحثّ هذا النوع من الأفكار بشحنات كهرومغنتسية حول القدرات الخارقة للإله وقواتها المـتوفزة على أهبة الاستعداد لمهاجمتنا وتدميرنا في أي لحظة.
فالخوف.. ميكانزما الخوف الميتافيزيقي، تجعل الواحد منا في حالة من التوجّس والتطيّر الذي يقتضي مزيدا من التعالق الديني للحصول على تعويذة النجاة.
ولا شكّ أنّ كثيرا من الأطفال.. أي عندما كنا أطفالا حصلنا على نصائح ذهبية لترديد [البسملة] عندما نمشي في العتمة، أو في مكان موحش أو موقف رهيب أو امتحان مهم. فالبسملة تطرد الشرّ وكل روح شريرة.. التشفع بذكر اسم إله أو وليّ صالح، أو حمل رقية أو تعويذة أو قطعة خيط أخضر، أو وشم أو طلسم أو نص ديني كلها كفيلة بتأمين الحفظ والسلامة والنجاح.
ان أكبر طعنة يتمّ توجيهها إلى لاوعي الطفولة هي تلك الشوكة المغموسة بالعسل عندما يتكرّم بها أحدهم باسم العطف والرعاية: (لا تخفْ!)، مفتاح رئيس لنبش منظومة الخوف في دواخلنا، والتحوّل إلى مفتاح مسموم، يستمرّ في منظومة العقل الباطن لأبناء الشرق (لا تخاف!.. صير سبع!)، فيقضي عمره وهو في حالة هروب*.
الخوف.. وتعليم الخوف وشريعة الخوف، ليست مصادفة عابرة أو فكرة عفوية ناتجة من عاطفة ساذجة في شخصية الوالدين أو مسحة العطف المرائية. انها ملخص الحكمة الذهبية للاهوت الدين، لاهوت الخوف اللانهائي.
لاهوت الخوف الذي يتلقنه الطفل بلاوعيه البرئ، هو أكبر طعنة لقتل [الإله] الحقيقي، واستبداله بصورة مشوّهة لإله سادي شديد القسوة ولا يتفاهم، [إما أو].
إذا كذبت.. يقطع .. لسانك
إذا سرقت.. يقطع يدك..
إذا عصيت.. يلقيك في النار
إذا لم تصحُ باكرا وتصلي.. يسلط عليك شياطين الأنس والجن ويدمر عيشتك..
و..
فالشؤم والنكد واللعنة ولعبة الحظ .. كلها مفردات جاهزة ومقسومة من إله يرسل ملاكه في اليوم الأربعين لميلاد الطفل ليخطّ في جبينه ما له من حظ وعمر وقدر!..
الخوف هو أول عدوّ يغزو كيان الطفل ولاوعيه وهو عاجز عن حماية نفسه، أو تمييز الخير والشرّ أو ادراك شجرة المعرفة..
وهي الخطوة الأولى التي ينقاد المرء فيها في حال من عمى ليسجل نفسه في سفر العبودية!..
وحين يفقد حريته الفطرية تلك في سن مبكرة، لن يكون بوسعه استعادتها ثانية.. [شيء مثل العذرية!]..
(عبد).. لغة.. مشتقة من [عبودية/ استعباد]، وليس من [عبدَ يعبدُ عبادة!].
فالقول في (عبدالله/ عبد الرحمن/ عبد المولى) يتم جمعُها على [عبيد الله/ عبيد الرحمن/ عبيد المولى] وليس [عباد الله/ عباد الرحمن/ عباد المولى].. فهل [الله] [الإله] بحاجة إلى (عبيد).. هل هو [إله عبيد] أم [إله أحرار].. أن [إله عبيد] لهو أدنى مستوى من [إله أحرار].. طالما أنه في النظام الأرضي ينماز الحرّ والسيد عن العبد والخادم، كذلك يتميز إله عن إله. لكن المعنى الحقيقي للعبودية الدينية هو العبودية لرجل الدين والكاهن الذين يلعبون دور وكلاء السماء على الناس. فالدين، كنظام أرضي طبقي اقطاعي، هو الأسوأ في تاريخ الكرة الأرضية في تسويغ ونشر العبودية ونظام القنانة. وحيث توجد آثار العبودية والعبيد والسخرة*، فلا بدّ أن يكون سلطان رجال الدين هناك!. ونظم السخرة والمشاعية وأنواع الاستغلال والابتزاز والنهب والسرقة والاغتصاب الشرعية هي من توابعه على مدى التاريخ.
وأنقل هنا هذه الحواريّة بين يسوع المسيح واليهود:
"إن ثبتم في كلامي، فبالحقيقة تكونون تلاميذي. وتعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم!
- نحن أولادُ ابراهيم، ولم نكن عبيدا لأحد قطّ! ، فكيف تقول أنت أننا نصير ُ أحرارا؟.
- الحقّ الحقّ أقول لكم، كلّ من يستمرّ في عمل الخطيّة، هو عبد للخطيّة. والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد. أما الابن فيبقى للأبد. فإن حرّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا."/ (يوحنا 8: 31- 36).
فمفردات المسيح والابن والحرية والتحرير والحق والحقيقة، في هذا المثال تناظر [تنقض] مفردات ابراهيم والعبد والناموس والعبودية والذل والضلال. وفي رسائله يذهب بولس الرسول إلى اعتبار [الناموس] نظيرا للعبوديّة، ولذا دعا يسوع للتحرر منها، أي التحرر من التقليد أو التعليم الطقوسي/ الأرضي والذي يتمثل في (الدين). فالفرد في الشريعة هو عبدٌ، وأمّا في المسيح فهو حرّ. ولذا وصف البعض لاهوت المسيح بلاهوت الحريّة، لاهوت الخلاص!.
*
تلعب التربية –كنظام تربوي- دور الفيصل في صياغة كينونة الفرد – لاوعي وقناعة وسلوكا- ، واستخدام تعبير [الكينونة] تعبير عن حجم الدمار الداخلي الذي يشكل قاعدة توجه كلّ عمليات نمو وصيرورة الفرد التي تنمو مثل منارة الحدباء، مهما استطالت بان ازورارها.
هل لطبيعة الفرد العربي علاقة بطبيعة الأرض الرملية أو الطينية المتموجة؟. أذكر من أيام رحلاتي من بغداد إلى البصرة ليلا، أنه عندما تتباطأ سرعة القطار كثيرا.. ويبدأ في الترنح يمنة وشمالا، أشعر بلزوجة طين المستنقع وهشاشته بحيث تغوص أحذيتنا عميقا دون أن نستطيع تخليص أرجلنا منها من غير ترك أحذيتنا المطاطية في الطين، لنحاول الهرب حفاة.. ماذا لو انقلبت عربة من عربات القطار الطويل أو فقدت توازنها في لحظة!.. بعض العيون تحاول دراسة توازن الثقل بين جانبي العربة..
من تلك الأرض الطينية.. اللزجة.. غير الصلبة وغير المتماسكة.. تم صناعة الأصل السومري والبابلي.. الذي استمر حتى اليوم فينا من خلال التواصل مع مائه وزرعه وهوائه..
"دلّلول.. عدوّك عليل وساكن الجول"!..
تلك التنويمة التي لا يكاد يسمعها عراقي ولا يذوب شوقا وحنينا، هي النشيد الوطني الذي شكل باكورة الخوف في ذواتنا..
"عدوّك عليل".. ما علاقة طفل رضيع بمفردة على وزن [عدوّ/ عداوة]؟. هذا هو مستوى الأم العراقية وهي ترضع الخوف والعداوة والكره طفلها مع الحليب. والمعروف أن صوت الأم له مفعول سحري وقدرة خارقة في تربية لا وعي الطفل حتى وهو في قاع الرحم -(إذ يسمع الجنين ويحسّ وينفعل بكل ما يصدر من أمّه ويجري فيها)- . فالحنان المتضمَّن في صوت الأم الغنائي، والانسجام التكاملي والتكافلي الطبيعي بين جسد الأم وجسد طفلها وبين نفسها ونفسه، يجعلها يتقبّل (دمار) ذاته على مذبح العاطفة. لكن الخطورة لا تتوقف عند مجرد غنائية صوت الأم، انما في توظيف تلك الغنائية منفذا للخرافة والاسطورة وكل خزعبلات الغيب والجهالة التي تتعشّق في تكوين المرء النفسي، ويبقى ينظر إليها بعين القداسة، دون تحسس غرزات أشواكها اللذيذة (نزعة المازوشية وجدليتها السادية في تركيبة الشخصية الاجتماعية "العراقية" كما تتضح في السلوك العام ولغة التواصل والاتصال!).
الشخصية العراقية هي دالة تراكمية كمّية تعود إلى آلاف السنين من التخلف والجهالة والخرافة التي لم يزدها تداول الدهور والدول والأنظمة والديانات والأفكار إلا تخلفا وتناقضا وفوضى، وبشكل أفرز جملة المتناقضات النفسية والفكرية المضطربة في الذات العراقية، والتي لم يؤشر الدكتور علي الوردي إلا جانبا واحدا منها هو [الازدواجية] دون مضي عميق في جذور هذه الازدواجية.
وهنا يقتضي القول أن [الاسلام] –على علاته- ليس مصدر التخلف والاشكالية الوحيد في مجتمعنا؛ بقدر ما تمتدّ أصول التخلف والخرافة والاضطراب بعيدا وعميقا لما قبله من عصور، وبالشكل الذي تكشف في صورة [عجز وراثي] وسَمَ كلّ مراحل الفكر الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي التي سجلت حضورها على جسد هذا التراب!.
فالحديث عن الدين لا يستثني مرحلة تاريخية من – ما قبل- العهد السومري حتى اليوم وغد. ولنتساءل أو نبحث.. مليا بموضوعيّة واعتبار، ماذا أفدنا اليوم مما يدعى منجزا [سومريا- بابليا- اشوريا- كلدانيا- مندائيا- مجوسيا- عبرانيا- مسيحيا- اسلاميا- شيعيا- علمانيا] غير دوّامة عاجزة عن الفعل والتوقف*.
لقد قرضت كلّ من تلك الديانات استحقاقها الزمني التاريخي، فلم تترك لنا غير أسس الخرافة ومظاهرها العشوائية والسلبية [في حالات النواح تكشف المرأة عن شعرها وتمزق ثيابها وتنوح "ياهههههو"، وتتمرغ في التراب وتضرب بكفيها على رأسها بعنف، وهو ما يتكرر حتى اليوم في الندب الشيعي وتقريع الذات –ليس بسبب الحسبن- ولكن بسبب اليأس من الحياة وعدم فهم العالم!]. وحين الدعوة لتحرير الدين من القداسة ورموزه من المعصومية؛ تكون الأولويّة لتحرير التراث من القداسة والجمود، والبدء بمناقشتها في الواقع اليومي بمنظار العقل، دون خوف أو تملق أو تهاون. وما ينطبق على (الدين) ينطبق على كلّ مسميات [تاريخ مجيد] وامبراطورياته العسكرية وحكامه المستبدّين، الذي تمثل دولنا وحكامنا اليوم ثماره المنطقية العادية السيئة. فالعيب الحقيقي في ماضينا وإرثه، وعجزنا اليوم عن تجاوز الماضي، ممثلا في عبوديتنا المقدسة لكلّ ما هو سلفي/ تقليدي/ جامد، بلا تمييز!.
فالنظام التربوي بكلّ إرثه وتقاليده وموسيقاه بحاجة إلى مراجعة راديكالية ونبذ حاسم، للبدء في تحرير ذات المرء، بدء من مرحلته الجنينية، بتأسيسه على أسس صحيحة ونظيفة وراسخة. وأجد أهميّة استثنائية في الحقل التربوي التأسيسي هنا : "قبلما صوّرتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدّستك. جعلتك نبيا للشعوب!" / (ارميا1: 5)
*
من الموضوعات الاشكالية في طابعها الديني والوجودي هي مسألة: هل الانسان مخيّر أم مسيّر؟!..
وكثيرة هي الدراسات التي تناولت الموضوع، كل بحسب منظورها الخاص، بل أن لكلّ شخص رأيه ودلوه الخاص في الأمر. وبوصفه إشكالية جدلية، لا يمكن اثباتها علميا، تبقى وتستمرّ في إطار الجدل. ورغم أن ظهورها احتدم في ظل الفكر الديني، فلم تكن غائبة عن مناقشات أرسطو وأفلاطون.
الجبرية والقدرية.. كانت واحدة من نقاط الخلاف العويصة بين المعتزلة والأشاعرة، والتي استمرت على مدى الزمن حتى ظهور المتوكل وتضييق أفق الفكر والحرية الدينية، واضعا نهاية للفكر المعتزلي وطروحاتهم الثورية التي شكلت أكبر استفزاز للمسلمين الأوائل.
محدودية أفق الخلاف أو الجدل، لا تعفي طابع المباشرة التي وسمت تلك المرحلة. فالأشاعرة لم يستطيعوا تعميق الوعي الاسلامي وتخليصه من الطابع السطحي لعقلية البداوة، أما جهد المعتزلة فقد كان سابقا لتلك المرحلة، ومحاولة لتلقيح شجرة ببراعم غريبة.
خلاف الأشاعرة والمعتزلة يجد له تناظرا سابقا في الفكر العبراني، بين جماعتي [الفرّيسيين والصّدوقيين]. فالفرّيسيّون بمنهجهم الحرفي الجامد كانوا أكثر اعتزازا قبليا (قوميا)، نسبة للصدوقيين الأكثر انفتاحا، في محاولتهم تلقيح الفكر العبراني بشذرات المنطق والفلسفة الاغريقية.
تمثل فكرة الكارما الهندية منظورا آخر لاشكالية المسيّر والمخيّر، باعتبارها المعالجة الأكثر عمقا ومساحة لفكرة الوجود وتداول (تعاقب) حياة الانسان.
ترى الكارما أن حياة الانسان محكومة بمشيئته الحياتية وما يعمله من خير أو شرّ، لنفسه أو للآخرين*. وهذه تحدد مصيره في الولادة التالية، [نحو الأحسن (أو) نحو الأسوأ]، بحسب ميزان أعماله. وتؤمن الكارما بأن الانسان يولد ويموت بالتعاقب حتى يصل إلى حالة التبرير [التطهير] الكامل، وبالتالي تعود روحه إلى مملكة الروح السماوية. وهذا يعني، عدم تدخل قوة (غيبية) في توجيه حياة الانسان، كما ذهبت لذلك الديانة العبرانية والاسلامية والتي يلخصها القول: "ان الله هو مصدر الخير والشرّ"، وترد في خطاب أيوب لزوجته : "أ ألخير نقبل من عند الله، والشرّ لا نقبل!"/ (أيوب 2: 10).
أما المسيحية فقدمت منظورا مختلفا لوجود الشرّ في العالم، معتبرة أن [العالم وضع في (يد) الشرّير]. وصورة الشيطان الانجيلية لا تختلف عن الحوارية المذكورة في القرآن بين [الشيطان وربّه]، حيث يحظى بمهلة حتى آخر الزمان. اساس الرؤية المسيحية للانسان انه حرّ، وله مطلق الحرية في اتخاذ قراراته. والدليل أن آدم كان يتمتع بحرية ذاتية في العصيان، وكذلك ابليس. ولو كانت المخلوقات محكوما عليها سلفا لكان شأنها شأن الاجرام والجمادات التي تدور في مدارات مرسومة لا تحيد عنها.
وعلى العموم، وبغض النظر عن التعليم الديني أو دور المجتمع والجماعة، يبقى الانسان حرّا في فكره وقراره ورغبته وسلوكه إذا شاء أ يستقل بذاته. وله الحرية في تسجيل نفسه عبدا تابعا لجماعة أو منظمة أو دين معين، وبالتالي ليس له أيّ عذر، أو ذريعة.
*
الحرية والعقل..
الحرية مسؤولية ووعي وابداع، أما العبودية فهي اتباع الغريزة وتبعية الجماعة وتواكلية هي أدنى للمشاعية والقبلية البدائية. الانسان الحرّ هو الذي يفكر، والذي يعتاد التفكير لا يستغني عن الحرية، والانسان الحرّ يحبّ أن تكون له إرادة مستقلة. وهكذا يجتمع العقل مع حرية التفكير مع حرية الارادة. وغير الحرّ يتبع من يتولى القيادة، ويأنس لكل موجة، ويسير في كل موكب. يقول المثل العراقي (بكلّ عزا لطام!). فالمهم هو العزاء واللطم، وليس الهوية والسبب. أما الغاية فهي اشباع الغريزة، والغاية تبرر الوسيلة. ومن الظواهر المشينة التي ميّزت عهد الغزو في العراق امتلاء البلاد بالمرتزقة والمقاتلين الأجراء من كلّ صوب. فحيث يشيع الجوع، يرخص سعر الانسان.
ثالوث العقل والإرادة والحرية، يقابل ثالوثا يمينيا يتمثل في الدين والاتباع والعبودية.
فالموقف السلبي للفكر الديني من العقل، ومن لبرالية التفكير، تنطوي على إدراكها مدى خطورة العقل والحرية التي سوف تنزع الجماهير من عقلية القطيع إلى المجتمع الحرّ والارادة المستقلة. فالمجتمع/ الدولة الدينية لا تشجع العلم والتعليم والثقافة، خارج منظورها الأيديولوجي الضيّق. ففي المجتمع السعودي يزدحم جدول الدروس بأكثر من حصة دينية، ناهيك عن أسلمة بقية الدروس عموما. وفي العام الماضي أقرت ايران درس الدين الاسلامي لكل الطلبة دون استثناء الأقليات الدينية غير الاسلامية، ودون اعتبار لمبدأ حرية المعتقد والعبادة المنصوص عليها في ميثاق حقوق الانسان ومعظم الدساتير المدنية. أما في العراق، حيث تمخر الفوضى شتى مجالات الحياة، فقد بلغ التسيّب من التعليم حدّا خطيرا، حيث لا تتجاوز نسبة أطفال المدارس فئة [6- 8] نسبة 7% من مجموع الأطفال والذين كانوا مشمولين بنظام التعليم الالزامي من قبل. أما مراحل الدراسة الأخرى حيث يستشري الفساد والتزوير والرشاوى، ناهيك عن النسب المتصاعدة لأصحاب الشهادات المزوّرة.
الدولة الدينية والأيديولوجيا الدينية حيث أمسكت بسلطة، لا تتورع عن استخدام وتسويغ وتطويع كلّ الوسائل التي تخدم بقاءها وهيمنتها على خناق البلاد. وإذا كان اسبينوزا قد اعتبر أن الحرية هي هدف الدولة؛ معتبرا ان الدولة بالنسبة للفرد بحسبه "هي كالعقل بالنسبة للعاطفة لدى الانسان"*.
ان الثورة الحقيقية للمجتمع الأوربي المعاصر تمثلت في مبدأ (الشعب مصدر السلطات!) واعتباره صاحب السلطة والمصلحة الحقيقية في انتخاب صورة الحكم وشكل الحكومة، فيما تستمر رؤية اسبينوزا في تنصيص ولاية الدولة/ الحكومة على المجتمع، وهو ما يلتقي مع رؤية الحكم العربي في اعتبار الشعب [قاصرا/ دون سنّ الرشد] ووظيفة الحاكم الراشد، الخليفة، أمير المؤمنين تقرير ما ينفع الناس وما لا ينفعهم. وجماعات (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لا تعود للشخص وحريته في ذلك، وانما هي التي تتدخل في حياته وتحكم عليه فيما هو (معروف) أو (منكر).
الدولة هي منبع الاستبداد والطغيان وامتهان الانسان، في تاريخ الشرق. وشخصية الحاكم فوق الدولة والدستور والدين والمجتمع. والبناء اللغوي لتعبيره [الدولة رأس الفرد]، رغم جذرها الأرسطي الأغريقي، تذكر أيضا بمقولة انجيلية [المسيح رأس الرجل، والرجل رأس المرأة!].
أما الحرية التي أفهمها فهي حرية الفرد، وحرية الحقل وحرية الارادة، والدولة التي أتطلع إليها هي التي تكون مرآة لأفراد أحرار ووسيلة لخدمتهم وتطوير امكانياتهم المشتركة نحو الأفضل والأصلح.
الواقع أن أهمية فكرة اسبينوزا تكمن في اعتباره غاية الدولة تتمثل في تحرير الناس "من الخوف ليعملوا بأمن واطمئنان حتى تتحرر طاقاتهم(..) بحيث تتيح فرصة للنماء والتطور."*
ظاهرة العبودية والعبيد تنمي إلى المسيرة المنحرفة لتاريخ البشرية وانحراف الذات البشرية والذين اقترفوها عليهم الاعتذار عنها قبل أن تبدأ خطوة الانسان نحو الحرية.. العقل.. المسؤولية!.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• بالمقارنة مع حالة قايين وهو يستعطف الربّ: ".. من وجهك أختفي، وأكون تائها وهاربا في الأرض!"/ (تك 4: 14).
• تسوغ قوانين بريطانيا نظام السخرة في إجازة محلات التشارتي [Charty] المنتشرة في البلاد ويعمل فيها أشخاص بدون أجور، ما عدا أجور المواصلات وساندوتش في أحسن الأحوال، وكثير من أصحاب المحلات يحتال دونها. وللمحلات هذه دعم من الدولة، وأحيانا من مجلس الكنائس.
• "لقد ورث الانسان العربي (مسلما كان أم مسيحيا) الدين كميراثه لأملاك العائلة وشرفها، لأنّ آباءه كانوا على هذا الدين أو ذاك، ولقّنوه هذه المبادئ أو تلك. وبما أن الحنين للنشأة الأولى له تأثير نفسي عميق، يتصوّر كلّ فرد، أن ما نشأ عليه هو الأسمى والأكمل، فيزداد تشبثا بايمانه." / رويدة سالم- القطيع العربي وثور الدالية / مجلة الحوار المتمدن- ع3057- 8 يوليو 2010.
• "من عمل مدار ذرة خيراً يره، ومن عمل مقدار ذرة شراً يره."/ في القرآن.
• اسبنوزا- بقلم جوزف أيوب- مجلة الحوار المتمدن- ع 3668- 15 مارس 2012
• م. ن.





الدين.. واللا جدوى

بدء كلّ شيء في ولادته فكرة، وبدء كلّ فكرة هو الغرض منها. فالغرض يمثل خاصة الاستعمال. والقيمة الاجتماعية أو الاقتصادية لأي شيء في الوجود هي قيمتها الاستعمالية. أما ما لا يمكن استعماله أو تداوله والافادة منه فأيّ قيمة له؟..
وأفترض هنا أن ظهور [الدين] بدأ كفكرة، ومبرر الفكرة أو مهمازها هو الغرض المنشود منها.
في هذا الافتراض قد يفضل البعض القول، ان بدء أي فكرة أو ظاهرة هو العلّة / السبب. وقد توصف العلّة بالحاجة. ولكن الحاجة والقيمة وجهان لعملة واحدة، كما أن السبب والغاية كذلك. ونعرف من بواكير الفلسفة القديمة عن نشأة الكون، ان الغاية تتحول إلى سبب، والسبب يتحول إلى غاية/ [محرك/ متحرك] في صيرورة وجودية، كما هي لدى ألاغارقة وشروح ابن سينا لأرسطو.
يختلف الدين عن الظواهر المادية بكونه ظاهرة فكرية ثقافية، مجالها العقل أو الذهن البشري. والذهن البشري يتعامل ويتفاعل [يتأثر ويؤثر] في محيطه البيئي [الكوني والاجتماعي]. وأن تاريخا من الصمت انصرم قبل ظهور فكرة الدين. إذ لم تكن ثمة حاجة حقيقية لهذه الفكرة الطارئة.
منبع هذا الافتراض مشتق من دراسة قصة الخليقة التوراتية، والتي يمرحلها بعض المؤرخين إلى عصر (الآباء) وعصر (الأنبياء). والمقصود بالآباء هم رموز الفترة من خليقة أدم حتى ظهور ابرام بن تارح، المدعو ابراهيم ابو الأنبياء. يطلق المؤرخون على عصر الآباء بفترة الصمت النبوي- أي عدم وجود أنبياء- كوسطاء بين السماء والأرض.* ويرى بعض لاهوتيي العهد القديم أن عدم وجود أنبياء لا يعني القطيعة بين السماء والأرض. وانما الاتصال كان قائما ولكنه كان عاما مع الجميع ولم يتخصص بأشخاص محددين لنقل الرسائل كأنبياء كما عرفوا لاحقا.
الظاهرة الدينية ارتبطت بالانبياء، كوسطاء بين الأرض والسماء. أما قبل ظهور الأنبياء، فلم يكن وجود لمنظومة الدين، وقيادتها الثيوقراطية المنظمة وأدائها الطقوسي الروتيني. وبالتالي.. فأنه لا بدّ من التمعن في دراسة مرحلة الانتقال إلى عصر الأنبياء، للوقوف على حقيقة الظاهرة الدينية [منظومة الدين]. وبحسب معطيات التاريخ الكتابي، حيث يشكل [طوفان نوح] حدّا فاصلا بين عصرين.
*
الطوفان..
في سياق ملحمة جلجامش يأتي ذكر (الطوفان) في صيغة الماضي، ممثلا بشخصية [اوتو نبستي] الذي حصل على مرتبة الخلود ودخل مصاف الآلهة. ولا توجد إشارة زمنية للمسافة بين عصر جلجامش وعصر [الرجل الخالد]. أما التوراة فتتناول القصة بلغة المضارع الراهن، ولذا يمكن تلمس كثير من التفاصيل المتدرجة، التي تسجل وتؤرخ الانتقال بين مرحلتين.
من أكثر مسائل الجدل إشكالية في الفكر الكتابي، هو الاختلاف في فهم أو تفسير المقصود بعبارة [أبناء الربّ، وبنات الناس]، وقد تفنن المفسّرون فنونا شتى لتعريف المقصود، بما فيها التأويلات الميثولوجية أو الاحتمالات الخارقة. فاعتبر البعض انه إذا كان أبناء الربّ يوصفون [بالملائكة]، فأن المقصود ببنات الناس هم [الجنّ]. وتخدم هذه الملاحظة أمرين:
- ربط الشرّ بالجنّ/ ذرية الشيطان.
- ربط المرأة بالشرّ/ شريكة الشيطان.
*
جدول التغيرات الفاصلة بين عصرين..
1- الاشارة التوراتية المهمة في هذه الفاصلة الزمنية التاريخية هي القرار السماويّ: [لا يدوم روحي في الانسان إلى الأبد] بعد الآن! وهذا يعني أنه ابتداء من تلك اللحظة، حصل تغيير في العلاقة بين الخالق والمخلوق. وهذا القول يتضمن من القسوة والتقريع الضمني، ما يصل درجة الانقلاب في العلاقة أو الوصول حدّا يصعب تجاوزه. فتجريد الانسان من [روح الله]، يعني الموت، ويحيل إلى قصة خليقة آدم. والانفصال عن الروح كناية عن الموت. ولذا اعتبر الفكر الانسان ميتاً [بالخطيئة]، وأنه بحاجة للدين ليعود للحياة.
في قصة الخليقة التوراتية.. تتأكد القرابة الشديدة بين الخالق والمخلوق والتي تتلخص في ثلاث نقاط: [خلق الربّ الاله الانسانَ على صورته]/ تك 1: 27، [نفخ في أنفه نسمة حيوة، فصار آدم نفسا حيّة]/ تك 2: 7 ، [أخذ الربّ الاله آدمَ ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها]/ تك 2: 15. الملاحظة الأخرى، أن [الروح] كمصطلح لاهوتي مسيحي، هي الوسيط (مادة الصلة) بين الخالق والمخلوق. وبواسطتها يتمكن [النبي] من استلام رسالة إلهية وتسليمها للبشر. وإليها كانت إشارة يسوع المسيح في [يو 14: 26] أي الروح القدس التي فاضت على التلاميذ في اليوم الخمسين [أع 2: 5]. وهي تجسيد لفكرة استعادة العلاقة الأصلية بين الخالق والمخلوق/ المصالحة من خلال التحرير والتبرير. ولكن تعبيراً لبولس الرسول* يميز بين صنفين من العلاقة البينية، الأولى وهي الشائعة [أننا ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الربّ]، والثانية المرتجاة [نثق ونسرّ بالأولى أن نتغرّب عن الجسد، ونستوطن عند الربّ]، بكلّ ما يوحي به من تداعيات غنوسية. اغتراب الروح هذا هو جوهر الاغتراب الذي يراه بول تيلش في الحياة الحديثة. فاستغراق الفرد في فائض النزعة الاستهلاكية وخصائص حياة السوق الرأسمالية، يقيم حاجزا ماديا قاتلا يفصل بينه وبين ذاته، وبين ذاته وبين [أناه العليا] بحسب كيركغارد، وهو ما يتكشف بشيوع مشاعر الضياع والاحباط واليأس من الحياة والمستقبل، المتزايدة جيلا بعد جيل.
2- تحديد معدل عمر الانسان بمائة وعشرين سنة. وكان المعدل السابق يبلغ تسعمائة سنة. وهو الطابع العام لسكان عصر الآباء. وبرغم عدم وجود اتفاق عام أو معطيات أكيدة عن طول السنة أو طريقة قياسها يومئذ. لكن مجرد الاشارة الزمنية (ممثلة بالسنة)، تعطي الانطباع بوحدة المعيارية، وتقليص الاعمار بحسب ذلك، والذي يندرج هنا في باب الاجراءات الجديدة أو العقوبات المترتبة على زيغان البشر. المعنى المباشر لذلك هو عدم جدارة البشر لنيل الحياة، والتي يعتبرها الفكر الديني [هبة سماوية] لم يتعلم الانسان احترامها. وقد عاش ابراهيم مائة وسبعين عاما وسارة أقل من ذلك. واستمر تناقص معدل عمر الانسان عبر التاريخ إلى نصف ذلك المعدل أو ربعه، [ستين سنة، ثلاثين سنة]، قبل أن يعود ويرتفع تدريجيا منذ القرن الماضي، بفعل تطور التكنولوجيا الحياتية والبيئية، وليس بفعل قرار سماوي. بيد أن ارتفاع معدلات الاعمار، غير مقطوعة عن ارتفاع معدلات الاغتراب واليأس البشري.، ناهيك عن ارتفاع معدلات الشرّ والبغضاء.
3- الاشارة الجديرة والدقيقة التالية تتمثل بمرموزية [تضخم أجساد] الناس، بحسب النص "كان في الأرض طغاة في تلك الأيام. .. ولد لهم أولاد. هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذوو إسم"./ (تك 6: 4). وهنا ثلاثة مؤشرات: سقوط الخير في الشر- اسراف في الجسديات- امعان في الشر والظلم. اشكالية العلاقة بين الخالق والمخلوق، كأي علاقة جدلية بينية، تتركز حول مسألة المركزية والقيادة والسيادة. فالمركز تكون له جدارة القيادة والسيادة. وفي التعليم الديني يتم التركيز حول نقطة المركز عند الانسان. فالانسان عموما، -ربما بالفطرة-، يجعل من نفسه مركز الأشياء، وهو ما يؤشره توينبي في قراءته للتاريخ البشري. وباتخاذ ذاته مركزا، فهو يحتلّ المركز الأول، نقطة الأصل [أو- الصفر الرياضي]، فتأتي كلّ الأشياء الأخرى حواليه بالدرجة الثانية وما دون. فالمركز هو المتبوع وكل ما سواه تابع له. لكن الانسان ما يزال حتى الآن، كائنا ناقصا ومشوّها، ويؤكد على الدوام عدم جدارته لمركز السيادة. وعدم نجاحه في اعتبار مبادئ المساواة والتعاون والتفكير والقيادة والحياة المشتركة، مما زاد من معدل الخراب والظلم والطغيان. وقد حاولت الدولة اعتبار نفسها مركز حياة الانسان وتوليها أمر تنظيم حاجاته وعلاقاته (جون لوك). وحاولت المنظومات الدينية التوسّط بين الانسان ونفسه، والتسلّط عليه بجعله عبدا تابعا لهيمنتها. وفي سياق هذا الموضوع، يتمثل الصراع بين المخلوق وخالقه. حيث الثاني يقترح على الأول أن يتنازل له عن المركز، ليتولى الربّ قيادته والسيادة على حياته، فيضمن له كل خير، ويبعده عن الشرّ. فيما يراوع المرء ويتمرد. وهذا هو محور الجدل السجال في الاتجاه والنسبة.
بيد ان اقرار الاجراءات يدل على زيغان البشر، أي رفض الفكرة الالهية، واعتماد المرء على ذاته وقدراته في تسيير دفة حياته وادارة بيئته وعالمه. ويستخدم توينبي مصطلح [تكنولوجيا] تعبيرا عن استخدام الانسان ليده وعقله لإدارة شؤون الحياة والطييعة. ويمكن القول أن عصر ما بعد الطوفان – بحسب التوصيف التوراتي-، هو عصر التكنولوجيا، أي تعويل الانسان على نفسه. اهتمام المرء بنفسه هو اهتمام بالجسد والماديات عامة. اهتمام بالطعام والثياب والسلاح والمتعة والمبالغة في حبّ الذات والظهور والتسلّط. وتشترك حياة اليوم المادية في كثير من خصائص مرحلة الانتقال القديمة تلك، في شيوع النزعات المادية والاستهلاكية والتعويل على التكنولوجيا لأغراض الراحة والتسلية والمتعة، وارتفاع معدلات الحياة ومتوسط عمر الانسان والاهتمام بالجسد، جماله وضخامته، وعبادته [المثلية]، جنبا إلى جنب الجفاء الاجتماعي والجفاف الانساني وشيوع الأنانية وحبّ الذات ومظاهر الاستغلال وانحطاط القيم وما إلى ذلك.
4- الشرّ محور الحياة والحضارة، و(الغاية تبرر الوسيلة). [شرّ الانسان قد كثر في الأرض. وكلّ تصوّر أفكار قلبه هو شرير كلّ يوم.]/ (تك 6: 5). هنا يتم التشخيص والتمييز بين التفكير والممارسة/ العقل والذراع، وهما ميزتان للانسان عن الحيوان، بحسب أكثر علماء الأنثروبولجيا . قد لا تكون المعطيات التاريخية لما قبل الطوفان وافية في السرد التاريخي السريع في الفصول العشرة الأولى من قصة الخليقة التوراتية، لكن هذا الجانب اليوم أكثر وضوحا بفضل الاستكشافات الأثرية، والتي لا تتضمن هدنة أو راحة بل صراع متواصل ومستميت، يجعل من البشر جنودا وعبيدا أو قتلة ومقتولين، سلبة ومسلوبين. وكلما تحقق بعض العمران والازدهار، تكالبت عليه عوامل الدمار والكوارث. بل أن الغرابة، انه كلما نشط عقل الانسان وجهده في مكان، ازداد معدل الصراع والتكالب المدمر حوله. كيف يوفق المؤرخ المعاصر بين الجوانب الحضارية والمنجزات الابداعية لسومر وبابل واشور ومصر والاغريق وروما من جهة، وبين الجوانب العسكرية والدموية والوحشية لعنف الصراع السياسي بينها. تلك الصورة التي ما زالت تصح حتى اليوم، في التناقض بين منجزات النهضة الأوربية وحركة الاستعمار والقرصنة الدولية. وهو ما يصح اليوم على الولايات المتحدة التي تجمع بين صدارة التقدم والتكنولوجيا والتقنيات الالكترونية وهندسة الفضاء، وبين جيوشها التي تجوب البحار والمحيطات البعيدة، تنشر الحروب والدمار في هذا البلد وذاك، باعذار واهية لتأمين سيادتها المطلقة وأمنها الاستراتيجي العالمي. أما السطر المعمى بين السطرين السابقين، فأنه سواء في أوربا عصر النهضة، أم الولايات المتحدة اليوم، تمثل النهضة المسيحية الخط الوسط أو الخلفي ما بين الحضارة وسياسات الاحتلال، ما بين التنوير والهيمنة. فيصبح تصدير الدين جزء من التجارة الاقتصادية وصادرات السوق الغربية.
5- [فحزن الربّ أنه عمل الانسان في الأرض. وتأسّف في قلبه.]/ (تك 6: 6). تشكل هذه العبارة واحدة من المفاتيح الرئيسة في فهم علم الانسان الوجودي الكتابي. ومن النادر الوقوع على معطى بهذا الشكل أو الاتجاه والمستوى في كتاب آخر – سيما الكتب الدينية-. وتنبع أهميته من كونه صنو التجربة الانسانية الحسيّة في الوجود. كلّ شخص يعتزّ بما يعمله أو ينتجه، لكن هذا الاعتزاز ليس مجردا وجامدا بقدر ما هو رهن صيرورة وجودية متواصلة، تؤثر وتتأثر بحكم تفاعلها في الوجود. فالشخص الذي يحبّ الطفل وهو نظيف وجميل وذكي ومؤدب، سرعان ما يضيق به عندما يتشاجر أو يتمرد أو تتغير أطباعه. ومثله، الشخص الذي يحبّ الناس، عندما يجد فيهم الأشياء التي يحبها، ويضيق بهم وينفر حين يرى فيهم عادات أو صفات تثير نفوره. وكلّ هذه صور واستحالات متعددة للأنانية التي تفصل المجتمع عن بعضه، وتؤكد انعدام خاصة الاحتمال. وتشكل العبودية بمختلف صورها [قنانة، أماء، جارية، خادم، غلام] تجسيدا قمعيا لذات أنانية تريد من الآخرين التخلي عن ذواتهم، وتقمص مظهر وسلوك بما يتفق مع صورة يحبّها السيد المالك. وما يقال هنا ينطبق على شخصية الدكتاتور الذي يعمل على مسخ البلد والمجتمع حسب معاييره الخاصة.
لذلك استبعد الكتاب الصورة النمطية الجامدة، أو المعطيات القطعية المجردة. وهو أمر قد يتقاطع مع الصورة/ الفكرة النمطية المختزنة في اللاوعي عن الإله. وهي ذات الفكرة النمطية الجامدة التي يحفل بها العقل الشرقي للأب أو الحاكم أو الأم والصديق حتى آخر ما يمكن من علاقات شخصية، وهو ما يتعارف عليه بالفكر المثالي. فأي صورة/ فكرة، كاملة/ نموذجية، عن أي شيء في الوجود انما هي صورة غير حقيقية ومشوّهة. يتساوى في ذلك الاله والانسان والبشر جميعا. وهذا يؤكد فكرة النسبية في المبنى الكتابي، إلى جانب فكرة النمو والتدرج. الخيبة أو الصدمة التي تتضمنها عبارة التكوين، سرعان ما تتعرض للتجاوز مع التقدم الزمني. بعبارة أخرى، أن هذا الشعور بالأسف والندم على سوء مآل البشر، سرعان ما يعقبه أسف وألم لاحق عقب الطوفان. حيث يصدر تعبير لا يقل عمقا وألما عن ذلك: [وقال الربّ في قلبه، لا أعود ألعن الأرض أيضا، من أجل الانسان،.. ولا أعود أيضا أميت كلّ حيّ كما فعلت. مدّة كلّ أيام الأرض، زرع وحصاد، وبرد وحرّ، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال]/ (تك 8: 21، 22). تقول الشاعرة المبدعة نازك الملائكة..
قطّبْ سئمتك ضاحكا أنّ الرّبى، بـرد وقيـظ، لا ربـيـع خـالـدُ
العبقريّةُ.. يا فتايَ.. كـئيـبةٌ.. والضاحكونَ رواسبٌ وزوائدُ
السبب الأكثر شيوعا للأزمات الاجتماعية، هو عدم توقع وتقبّل التغيّرات النسبية في مضمار العلاقات الاجتماعية. فكلّ شخص له منظور معين ينتظر من الآخر التكيّف معه، وبالشكل الذي يجعل من الصديق/ الشريك/ الآخر روبوتا جامدا أو جهازا مبرمجا، مجردا من أية حرية أو إرادة أو انفعال. أي أن صورة الانسان الكتابية كخليقة، ليست صورة نمطية جامدة، وانما صورة تتضمن مساحة كافية من الحرية الفردية والإرادة الساعية للكمال والخير.
6- [أمحو عن وجه الأرض الانسان الذي عملته. الانسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم.] (تك 6: 7). وهنا تصل الخيبة والاحباط ذروتها، وتشرف على وضع نهاية لكلّ أسباب الألم ومظاهره.
*
ارهاصات ظهور الدين..
بعد أن وضع نوح وأبناؤه الأطر الهيكلية لبناء المجتمعات، يأتي دور ابراهيم وأولاده لترسيم الجوهر الاجتماعي لحباة وصيرورة مجتمعات العالم القديم.
كان زمن الطوفان – بحسب البعض- في نقطة بين أواخر الحضارة العبيدية وما قبل ظهور السومريين في جنوب العراق. وثمة قرون أربعة تفصل بينه وبين ظهور جلجامش/ خامس ملوك الوركاء*. أما شخصية ابرام وهجرتها من أور، فمن الأرجح أنها كانت بين أواخر الأسرة الثالثة وبدايات هيمنة الأموريين على بابل [2300- 1900 ق. م.]. حيث أسفرت الهيمنة الأجنبية وهزيمة الحكومات المحلية عن كوارث ودمار طالت البلاد والعباد، ودفعت موجات من الأهلين للهجرة والهروب نحو البلاد المجاورة،. وقد اتخذ ابرام وعائلته خطا مع مجرى الفرات صعودا، وصولا إلى حاران* حيث يموت (تارح) والد ابراهيم في وادي حاران وتغادر بقية العائلة جنوبا نحو أرض كنعان. ويبدو أن موجات سومرية استمرت مع مجرى نهر الفرات شمالا نحو أسيا الصغرى وتوزعت هناك، فيما استمر بعضها نحو أرض اليونان، حيث تم العثور على كثير من ملامح الحياة واللغة السومرية ومنجزاتها الحضارية هنا. ومن المحتمل أنها انتشروا في أطراف الأرض جميعا، حيث وجد العلماء كثيرا من الشبه بين عثريات تاريخية في أوربا وأميركا اللاتينية وبين نظائرها السومرية. وأعتقد - شخصيا- ان الهجرات والانزياحات والايفادات السكانية خاصة اقترنت بسقوط وقيام الدول والحضارات الرافدينية منذ القدم وحتى اليوم.
وهكذا بدأ ابراهيم بسياحة واسعة في أرجاء الجغرافيا والتاريخ وعبر حشد من التجارب والخبرات والاختبارات غير اليسيرة، لجمع شذرات وأكسسوارات الفكر الديني الذي سوف يتمظهر لاحقا على يد موسى النبي.
ومن مفردات النظام الديني التي حصلت على يد ابرام/ ابراهيم يمكن تأشير: بناء المذبح/ المعبد، التقدمة والقربان، العشر، الختان. والتي شكلت خصائص ومستلزمات ذات طابع قدسي ملزم لأتباع الديانات الابراهيمية حتى اليوم.
*
القراءة المعاكسة للمألوف أو التراث..
التاريخ الديني أو التراث الاجتماعي ليس تاريخا بالمفهوم العلمي أو المتعارف عليه، بقدر ما يشكل تاريخا للتاريخ موضوعا حسب منظور ديني، قومي أو أخلاقي محدد. ولكي يمكن استعادة التاريخ الحقيقي من خلل القش الديني، يلزم الفرز والفصل بين المعايير والمساطر الدينية والاخلاقية وبين التاريخ، ثم إعادة صياغة معطيات التاريخ بما يعيده إلى منطق التطور الطبيعي خارج مفاهيم القداسة وخرافات الفكر الغيبي.
ولما كان التاريخ الكتابي أو التراثي عموما، مكتوبا، (أو مرويا)، بحسب مركزية دينية، تضع المحرك الأساس للأحداث الأرضية في نقطة خارج الأرض، [حسب فلسفة افلاطون]، فأن إعادة الصياغة تستلزم اعتبار الانسان سيد التاريخ وحركة أحداثه. فالتاريخ البشري، هو خلاصة النشاط البشري اليومي من جهة، وخلاصة الصراع البشري بين الأفراد والجماعات والحضارات والدول العسكرية والدينية على طول الخط، وبما يحقق السلطة والسيادة والتواصل عبر سيرورة الزمن. وفي مجرى هذه السيرورة شمل الانقراض والدمار الكثير، كما استطاع الكثير الاستمرار والنجاة حتى اليوم .
بمكن القول، أن عبارة الحزن والأسف التي تكتنف قلب السماء، تقابل تعبيرا أو رداً على شعور الانسان بالاحباط والخيبة، واليأس من الحياة والوجود التي تبدو باهتتة المعنى، عبثية الجريان، محكومة بتكرار غبي لا طائل منه للانسان. ويمكن التمعن والتأمل مليا في أعمق وأطول حوارية جدلية بين أيوب والإله حول مسائل الحياة والخلق والوجود. فيما يقدم سفر الجامعة لسليمان صورة أخرى لليأس واللاجدوى الوجودي لحياة الانسان على الأرض. فالفصل بين الأرض والسماء، وبين فكر الإله وعقل الانسان، وبين الوجود ومعناه يساوي بين الانسان والبهيمة، والجماد. كما يسفّه هبة العقل التي مهما اتسعت وعمقت، تبقى بعيدة عن أفكار الربّ ومقاصده.
والتعويض/ البديل الذي يقدمه الفكر الديني للانسان هو التسليم بالايمان (العاطفي) وترك العقل ومنطقه على "جنب" أي تعطيل وجود العقل وتجريده من قيمته*. فالمشكلة التي تغيب عن الفكر الديني، أن تغييب/ تعطيل أيّ جزء في الخليقة انما يشكل اتهاما وانتقاصا لحكمة الاله. فالايمان المحسوب عبادة وامتياز في ملكوت السماء، تتم حيازته بلا عقل، فيفوق الجهّال العلماء.
وبمراجعة جملة الاجراءات الجديدة لما بعد الطوفان، من منظور انساني وجودي، إذ يشعر المرء بالخيبة واليأس من الحياة، لا يعود لطول الأيام وتعداد السنين من معنى، فيتمنى المرء الموت للتخلص من لا جدوى الحياة.. يقول المعري..
فيا موتُ زرْ أنّ الحياةَ ذميمةٌ ويا نفسُ جدّي أنّ دهرَكِ هازلُ

ويقول أيوب: " إذا اضطجعت أقول متى أقوم. الليل يطول وأشبع قلقا حتى الصبح. .. أيامي أسرع من الوشيعة، وتنتهي بغير رجاء. إذكر أنّ حياتي انما هي ريح." / (أي 7: 4، 6). كما يتساءل: "ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه، واليوم الذي قال قد حبل برجل.لم لم أمت من الرحم. عندما خرجت من البطن، لم لم أسلم الروح."/ (أي 3: 3، 11).
في هذه المفصلية العميقة للفكر البشري، يظهر الفكر الديني كمؤسسة/ منظومة لايقاف التداعي الفكري الوجودي وإعادته نحو جادة الصواب (الديني) واختزال دور العقل البشري لصالح عقلية التسليم والعبودية والطاعة والتعويل على الغيب والخوارق، وتفضيل المجهول على المنظور.. إلخ.
ان عظمة الخالق تتمثل في تأكيد عظمته الابداعية والجمالية أمام خليقته وليس الإحالة على وعود الحياة الثانية/ الآخرة- حياة ما بعد الموت، والتي تشكل دليلا على عجز الفكر الديني وعمق الفراغ الذي يدفع للتعويل على المجهول- الذي لا يمكن التحقق منه أو اعتباره بالعقل والملموس الذي هو خليقة.
فهروب الدين من المواجهات العقلية للأمام، يبقى تأكيدا على جوفائية الفكرة التي استيقظت ذات تاريخ، لاستعباد البشر في دوامة التكرار الدوري في ولادة وموت وميلاد، وفي تزاوج وانفصال، وفي تعاقب ليل ونهار وجوع وشبع، وما إلى ذلك، باستخدام مختلف وسائل التخدير والتهديد والقمع الفكري والتصفية الجسدية للمشاغبين والمفكرين والزنادقة والملحدين، لضمان استمرار دوران الحياة القطيعية بلا فكر أو تامل.
وهنا يتجلى المعنى الآخر/ المختلف لفكرة الطوفان والتعبير الوارد بعدها. انه قوة الخوف من قرار البشر للاحتكام إلى طوفان شامل، أو أي صورة له لتحقيق انتحار جماعي، ووقف مهزلة الوجود البشري والمرض والطغيان.. وقد تساءلت ذات مرة، احدى كاتبات الحوار المتمدن: ماذا لو اتقت النساء جميعا على قرار بوقف الانجاب؟..
صبح يعقبه ليل يعقبه صبح منذ ملايين السنين.. ميلاد وموت.. جهاد من أجل المعيشة، ومذلة من اجل مجاراة الزمن، واضطهاد بسبب الفكر والاختلاف.. قرارات جمعية بقبول حياة القطيع وعدم الاختلاف والتمرد لضمان سلامة حياة لا معنى لها.. الموت هو تربص كل حياة مهما طالت أو سمت.. وما زال تكاليف الحياة في تقدم واضطراب، والفائدة والراحة والقناعة وضمانات المستقبل الى انعدام مستمر..
" كلّ شيء زائل وفارغ. كلّ شيء زائل وفارغ. الكلّ زائل!. يتعب الانسان كثيرا في هذه الدنيا.فماذا يكسب من وراء تعبه كلّه؟. أناس يموتون وأناس يولدون. والأرض تبقى بعدهم. تستيقظ الشمس في الصباح، وتنام في المساء، ثم تعجل بالاستيقاظ من جديد. تهبّ الريح جنوبا، ثم تهبّ شمالا، تدور وتدور، ثم تنعطف لتعود إلى مكانها الذي انطلقت منه. تجري الأنهار إلى البحر، لكن ماء البحر لا يزيد. تعجز الكلمات عن الوصف، لكنّ يظل الناس يتحدثون. فالكلام كثير، لكن الآذان لا تمتلئ. ونرى الكثير، لكن العيون لا تكتفي.. لا أحد يذكر الذين كانوا قديما ورحلوا.. والذين سيأتون، سينساهم الآتون بعدهم!.."/ (سفر الجامعة 1- بتصرف)!.
"الانسان مولود المرأة، قليل الأيام وشبعان تعبا. يخرج كالزهرة ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف. إن كانت أيامه محدودة وعدد أشهره عندك، وقد عينت أجله فلا يتجاوزه، فأقصر عنه ليسترح، إلى أن يسّر كالأجير بانتهاء يومه. لأن للشجرة رجاء،.. أما الرجل فيموت ويبلى. الانسان يسلم الروح فأين هو... ان الجبل الساقط ينتثر، والصخرُ يُزحْزَح من مكانه. الحجارة تبليها المياه وتجرف سيولُها تراب الأرض. وكذلك أنت تبيد رجاء الانسان. تتجبّر عليه أبداً فيذهب. تغيّر وجهه وتطرده. .. انما على ذاته يتوجّع لحمه. وعلى ذاتها تنوح نفسه." (أيوب14: 1-2، 5-7، 10، 19- 20، 22)!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• هناك تقسيم آخر للتاريخ العبراني ابتداء من ابراهيم إلى مرحلتين أيضا وبنفس التسمية؛ عصر الآباء [ابراهيم إلى أولاد يعقوب] وتنتهي بدخول مصر. وعصر الأنبياء [موسى إلى ملاخي] وتنتهي بفترة الصمت النبوي في القرن الأربعة الأخيرة قبل المسيح.
• رسالة كورنثوس الثانية 5: 6، 8
• هناك تفسير لكلمة جلجامش يقسمها إلى قسمين: "قيل" بمعنى (ملك)، و"قميش" بمعنى (خمسة/ خامس)، ويكون اللفظ الأقرب هو (قيلقميش) كما ظهرت في ترجمة عبد الحق فاضل. وربما كانت القاف (خاء) وهو الأرجح بحسب اللغة الآرامية.
• كان لتارح ثلاثة أبناء هم [ابرام وناحور وهاران]، وكان لهاران ثلاثة أبناء [لوط وملكة وبسكة]. وقد تزوج ابرام من ساراي، وتزوج ناحور من ملكة بنت أخيه هاران. وأن هاران توفي في أرض ميلاده في أور قبل تارح أبيه/ (تك 11: 27- 29). ولكن الملاحظ أنّ اسم وادي "حاران" شديد الصلة اللغوية باسم شقيق ابرام (هاران) والد لوط، وهو أمر جدير بالتمعن، ولا يعرف أيهما الأقدم تاريخيا، فإما أن الوادي أطلق عليه اسم والد لوط بحسب الشاهد التراثي، مما يعني أن لوط ابن هاران كان أكثر نفوذا وشهرة من ابرام ووالده تارح، الذي حظي بأهمية في الرواية القرآنية، باعتباره صانع تماثيل (نحات)!.
• "لا معنى لأن يكبّل الله عقل الانسان في حركة الحياة الاجتماعية والسياسية ويضع له قوانين وشرائع في قوالب جاهزة ويأمره بإطاعتها من دون أن يترك له فرصة التجربة وممارسة عملية التقنين بعيدا عن الصيغ الجاهزة لاكتشاف الحق والصواب بنفسه."/ أحمد القبانجي- الاسلام المدني- ص45- دار الانتشار العربي- بيروت 2009.


الدين .. وعبادة الموتى

"الاله قد مات، وقبره في المعبد". عبارة فردريك نيتشه تعرضت لسوء فهم واستخدام، إسوة بأي فكرة فلسفية تقع في أفواه العوام. مثلها مثل عبارة ماركس "الدين أفيون الشعوب"، أو انتقادات اسبينوزا للفكر الديني. كثيرون يعترفون بالممارسات السيئة والكوارث التي تسببت بها مؤسسات دينية كالحروب الصليبية وصكوك الغفران، وحملات الاستعداء الديني والعرقي خلال القرون الوسطى، ولكن قليلين يربطون بين تلك الممارسات، وما عاصرها أو أعقبها من أفكار ومواقف وفلسفات. وكأنهم بذلك يدعمون سلطة المقدس وعصمته عن أي تدخل بشري.
كان نيتشه [1844- 1900] شاعرا وفيلسوفا ذا رؤية متقدمة عن عصره، فكان ارتباطه واحساسه بالانسان أكثر قوة من ارتباطه بالنظريات المجردة. وحين أمسك بذلك الخيط، أدرك أن بناء الفرد الكامل أو المستقل الارادة لابدّ أن يبدأ بتحريره من عبودية مؤسسة الدين والمفاهيم السائدة. فالدين كمؤسسة اقطاعية قائمة على اتطفل والاستغلال؛ انما تقوم على حجرين:-
- مصادرة فائض القيمة الناتج من العمل الاقتصادي الفردي والتجاري.
- مصادرة الحرية عبر الاستحواذ على عقول الناس وتلقينهم – أنماطا من طرز الحياة والفكر- بما يجعلهم عبيدا للغيب ومخاوف الحياة الأخرى.
بعض جذور الدين هي من مخلّفات بدائية لطقوس عبادة الموتى، بما يتخللها من اضفاء التعظيم والتمجيد والمهابة والتزلف إليهم لاتقاء ضرباتهم الغاضبة. وتشكل [الاحلام] وسيلة الاتصال بين الموتى والاحياء. ولا بدّ أن البعض يستذكر اهتمام ذويه بإقامة وليمة وتوزيعها على الجيران والغرباء، تحت عنوان (خيرات للميت)*، سواء كانت في مناسبات عقب الموت أو أثر حضور الميت في حلم ما يفهم منه حاجته لأعمال خيرية لصالحه. فآثار عبادة الموتى أو تعظيمهم مستمرة في مجتمعات الشرق الأوسط، كتعبير عن الخوف من الموت وعالمه، رغم انتشار الديانات التوحيدية وفي إطارها دون تعارض يذكر.
عندما نزل موسى بن عمرام من جبل سيناي وهو يحمل لوحي الوصايا (العشر)، لم يخطر لطبقة الشيوخ يومئذ، إقامة نصب أو صرح توضع (أو تكتب) عليه تلك الوصايا. وكانت شعوب سابقة لهم تنحت وصاياها الاخلاقية ولوائحها القانونية على نصب واضحة وشاهقة يكون بميسور كل فرد الاطلاع عليها مثل مسلة حمورابي [أليس جديرا أن تصاغ دساتير اليوم على نصب فنية توضع في الساحات الرئيسة للبلدان، فيطلع عليها الناس من جهة، ولا يجرؤ الحكام والمحكومين على تجاوزها!].
لكن الفكرة التي خطرت لهم يومها هي فكرة (التابوت) الذي وضعت فيه الوصايا، ومكانه القسم المسمى "قدس الأقداس" داخل خيمة العبادة [هيكل سليمان- لاحقا].
لقد كان من ثمار الاصلاح البروتستانتي في الكنيسة الغربية، فتح باب الاجتهاد والنقد والدراسة في مجال الديانات باعتبارها جزء من تاريخ الفكر والمجتمع الانساني. وكان لتلك الدراسات أثر في تطور الفكر الديني ودراسات اللاهوت لاحقا. وكان لحركة الاصلاح الديني في الغرب تحرير الانسان من طغيان الدين وإقطاع المؤسسة من جهة، ومن جهة ثانية تحرير الدين من كثير من الخرافات والخزعبلات الغيبية والطقسية التي تخذت طابع القداسة في لاوعي الفرد عبر الزمن. فتميزت الكنيسة الاصلاحية أو المصلَحة بخلوها من زخارف ونقوش الكنائس والكاتدرائيات التقليدية من جهة، كما تفتقد القسم الخاص بالمذبح أو قدس الاقداس الذي لا يدخله غير الكاهن الأعلى، كما تمنع أية تماثيل أو أيقونات بما فيها الصليب الخشبي أو صور المسيح. تكتفي الكنائس الجديدة برمز الصليب الخشبي [من غير جثة]، والبعض يضع عليه شالا أبيض حسب الطريقة المندائية، أو يوضع اكليل ورد على صورة الصليب. والبعض يمايز نفسه حتى في طراز البناء الداخلي والخارجي عن أشكال الكنائس، شأنها شأن بناية عادية، وفي داخل قاعة الاجتماع لا يسمح بأي صورة أو رمز خشبي أو حجري [صليب أو أيقونة]. مرت حركة الاصلاح الديني في الغرب بعدة مراحل، ولم تتم مرة واحدة، ولذا فهي ما زالت مستمرة، تواصل التشذيب والتنفية الروحية من أية مراسم أو طقوسية ورموز تخترق العبادة الروحية.
فيما تستمر الكنائس التقليدية [ارثوذكس- كاثوليك] في التعلق بالرموز والطقوس وأشخاص القديسين (Saints) . لقد طلب بعض القساوسة أو الرهبان أن يدفنوا داخل كنائسهم أو أديرتهم، وذلك في تقليد سيء ومشين. وقد دفن جثمان يوحنا المعمدان في داخل الكنيسة التي تحمل أسمه في دمشق، والتي تحولت إلى الجامع الأموي لاحقا. وهي من الممارسات التي يقدم عليها العوام تحت تأثير العاطفة الدينية والانفعال الجارف. هذه الظاهرة الطقوسية المتوارثة عبر الزمن، وجدت طريقها للموروث الاسلامي الذي استبدل فكرة [تابوت العهد] التي تضم حجري الوصايا بـ[حجر أسود] يعتقد العرب بقداسته من قبل ظهور الاسلام. ولا يحمل الحجر أي نقوش أو كتابة، ويرى جواد علي أن الحجر كان أبيضا ثم اسودّ من كثرة لمسه بالأيدي والقبلات.
وعلى غرار الكعبة تم بناء الأضرحة الشيعية لعلي وأهل بيته. حيث تحتوي الباحة الداخلية على هيكل مذهب يضم داخله رفاة صاحب المكان، ويدور الناس حوالي "القفص/ الهيكل" في طقوس الزيارة أو العبادة، وهم يرددون كلمات وطلبات وتشفعات لهم ولذويهم. ويعود الاهتمام بهذه الأضرحة وصيانتها والترويج لها إلى أيام اسماعيل الصفوي أول من اعتمد التشيع ديانة رسمية في فارس في القرن السادس عشر، لمناوأة آل عثمان الذين اعتمدوا التسنن ديانة رسمية لدولتهم.
وقد هاجم الوهابيون (اتباع مذهب محمد عبد الوهاب) كلا من كربلاء والنجف للتخلص من الأضرحة الشخصية بدعوى تعارضها مع الفكر الاسلامي. ويذكر أن ظهور شخصية محمد عبد الوهاب [1115- 1206هـ/ 1703- 1791م] يجعله معاصرا لشخصية جون وسلي المصلح الانجليزي [1703- 1791م] رائد مذهب الاسلوبية والذي دعا للتأكيد على جوهر الدين، ونبذ القشور. وتتبعه اليوم جميع الكنائس التي تسمي نفسها بالاسلوبية [Methodist Churches].
*
فالدين، كظاهرة اجتماعية، ومؤسسة اقطاعية سلطوية، تقوم على ثلاثة أركان، هي [الكتاب المقدس/ المعبد/ الكهنوت] وجميعها تحت رحمة رجل الدين. وقد استخدم نيتشه مصطلحي [الوعي والضمير] للتعبير عن جوهر الحرية. ويأتي هذا الاستخدام للضمير كما عند الفلاسفة الوجوديين والنفسانيين بمثابة [الأنا الأعلى] المقابل لصورة [الاله] بالمفهوم الديني.
فالدين، ممثلا في مؤسسة الكهانة، يعود إلى مرحلة ما بعد موت الاله [الضمير الأعلى]، وسيطرة الكهنة على صلاحياته لخدمة رغباتهم وأمزجتهم. فلا يكون الكاهن ممثلا وناطقا رسميا باسم الاله، وانما هو بديله بعد القضاء عليه. ويمكن ملاحظة أحقاب من التاريخ لم يكن الدين قد ظهر فيها بحسب تقسيمات التاريخ الديني [التوراتي] إلى قسمين أو ثلاثة..
- القسم الأول المدعو بعهد الآباء، وكان الاتصال مباشرا بين الاله والناس عامة، وهو سابق لظهور الانبياء..
- القسم الثاني يتمثل بظهور الأنبياء بدء بابراهيم ومن جاء بعده.. اقتصر فيه الاتصال الالهي بأشخاص مصطفين دون سواهم.
- القسم الثالث يتمثل بظهور الكهنوت كزعماء دينيين وقضاة، عقب تقلص ظاهرة الانبياء، والاستعاضة عنهم بالكهنة والقضاة، ثم استمر موازيا لظهور الدولة وانتهى بنقض الهيكل وحرقه عام سبعين للميلاد.
ومع بداية التأسيس المسيحي، حاولت الكنيسة التقليدية تعويض غياب الكهنوت العبراني، بتقمص الظاهرة وادخالها التقليد الكنسي (الأرثوذكسي، الكاثوليكي)، وبالتالي استمرار وجود تلك الطبقة التي تفصل بين الفرد وإلهه. وقد حاولت كنائس الاصلاح استبدال تسمية الكاهن (التقليدية) بصفة راعي الكنيسة، وهي تسمية خارجية* لم تغير كثيرا في المضمون القديم. ويتميز عنهم جماعة الأخوة (Brethern) في نبذ الألقاب الدينية والاكتفاء بصفة (الأخ)، والأخ الكبير هو الذي يتقدم ويكسر الخبز أو يقدم الكلمة.
واليوم.. كثير من الكتب الانجيلية الحديثة تحاول التأكيد على وجود الاله الحقيقي الحي، والمؤمن الحقيقي هو الذي يختبر العلاقة مع الربّ، والسير اليومي معه. وفي ذلك تستخدم تعابير: الربّ ما زال يتكلم، ويستطيع أن يجيبك عن اسئلتك وطلباتك. أما المؤمن الطقسي فهو يتعامل مع دائرة كهنوت أرضي، يصادر الاله وينوب عنه، أو ينيب أشخاصا للتشفع أو العبادة.
يبقى جوهر السؤال الأساسي: هل الآله هو الذي مات، أم الانسان؟!!..





ـــــــــــــــــــــــــــــ
• إذا زار الميت أحد أقاربه في (حلم) وطلب ماء أو خبزا أو سأل عن أحد، يكون المعنى أن "روح" الميت تطالب باكرامها واعداد وليمة عامة باسمها، أو أنها تطلب زيارة (الموتى) السنوية أو الدورية، وفي تراثنا الاجتماعي إرث زاخر في اكرام الموتى واستمرار الصلة بهم سواء من خلال المناسبات الدينية والصلوات أو مراسيم زيارات القبور والأضرحة الدينية الدورية، والتي تختلط فيها ارواح الموتى الشخصيين مع أرواح رموز الدين.
• [له صورة الحياة وداخله ميت]، تعبير استخدمه المصلح الانجليزي أندرو ميلر [1810- 1883] في وصف حركة البروتستانت. أنظر: موجز تاريخ الكنيسة- ص16- ط5/ 2008- منشورات الأخوة- مصر.



المفهوم المادي لسرعة الزمن..
"الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك"، "لا تؤجل عمل اليوم إلى غد"، "من سهر الليالي نال المعالي"،.. هذه الأقوال المأثورة ومثلها غير قليل، كانت بمثابة الوقود الحضاري الذي استحث همم أجيال عديدة من القرن الماضي نحو مزيد من المثابرة والجهد المميز. وفي الجهة المقابلة منها كانت عناوين ومانشيتات براقة وجذابة تسوقها ثقافة الاستيراد في حياتنا المحلية، سواء في الآلات والأجهزة الحديثة أو العناوين الأدبية والصحفية السريعة، بدء من الأزمنة والعصور الحديثة والأدب الجديد والثقافة المعاصرة إلى المذاهب الفلسفية والعلوم النفسية. ولم يكن ذلك غير جزء يسير من برامج التنوير أو الاستشراق أو الاستعمار الثقافي باختلاف اتجاهات التعريف، التي خرجت من غرب أوربا إلى كل سكان القارات الأخرى منذ القرن الثامن عشر.
ظهور البرق اللاسلكي والمدفعية والبندقية والمحركات البخارية والسيارة والراديو والسينما والطائرة، زاد من وتيرة حركة الحياة في مجتمعات ألفت السكونية والحياة الهادئة واجترار التكرار. كان ظهور السيارة في القرية والمدينة الصغيرة نوعا من المعجزة الحية. وشكل دخول التلفون في بيوت الشيوخ أو المسؤولين مدعاة للفرجة والتندر والخيال الشعبي عن القوى الخارقة. وحتى ما قبل ربع القرن الأخير، كانت الارشادات الصحية والتثقيفية لتوجيه الناس نحو الطب الحديث والمستشفيات في حالات المرض أو الولادة تشكل همزة رئيسة لتطوير المجتمع ومكافحة التخلف الاجتماعي.
التخلف والتطور، الفساد والاصلاح، الجمود والتقدم، السكونية والسرعة،.. عناوين تميز بين زمنين ونوعين من الحياة والبشر والعقليات. ولا زال أثر كثير منها حاضرا في لاوعي المقارنة بين حالين على درجة من النقيض.
وقد مثل القرن العشرون – ذروة- برامج الاصلاح والتحديث التكنولوجي والحضاري للمجتمعات التي عرفت الاستفادة منها، وشكلت الذروة فيها، إشارة النهاية المفاجئة لعصر، انسحب سريعا، إزاء دخول عصر جديد أكثر سرعة وحداثة، ربما كان أفضل تعبير عنه هو – ما بعد الحداثة-.
-;- ما بعد الحداثة- لا يعني مرحلة حضارية، بقدر ما هو تصنيف حضاري لمرحلة من الزمن، لها سياساتها وبرامجها وأدواتها الخطابية التي تجاوزت برنامج التحديث والاصلاح باتجاه تأسيس أو إنشاء زمن جديد، حضارة جديدة ونوعية مختلفة عن نمطية التفكير. ويلحظ أن مجتمعاتنا، ما زالت تعيش في عقلية وخطاب مرحلة – ما قبل الحداثة-. إذ يستمر تداول عناوين الشرق والغرب والمنافسة التقليدية، فيما فشل المشرق العربي عن استيعاب فكرة التحديث الحضاري، مما دفعه لمزيد من الارتداد نحو الخلف، لتبرير هزيمته العقلية، بذرائع التراث والهوية، والتي لا قيمة عملية لها بدون العصرنة والمعاصرة.
*
إذا كان العصر الحديث [الألفية الثالثة] هو عصر الاتصال الالكتروني – الالكترون هو أحد مكونات الذرة الداخلية-، فأن العصر المنصرم (القرن العشرين) هو عصر الاتصال التكنولوجي (ميكانيك القوى الخارجية للذرة ). وبنفس الغرار، فأن الصراع اليوم ليس صراع أطر وثقافات، وانما صراع المكوّنات الثقافية والداخلية للعقليات السائدة في العالم.
الصراع اليوم ليس بين الراسمالية والشيوعية، أو المسيحية والاسلام، أو الأبيض والأسود، وانما بين عناصر القوة والجدارة لكلّ من هذه. وغرض ساموئيل هنتنغتون في هذا الصدد لا ينفصل عن تحديد فرانسيس فوكوياما لنهاية التاريخ.
لقد تم بناء النماذج الأوربية من خلاصة المنجز الحضاري والامبراطوري العالمي على مدى التاريخ، بحيث جعله مؤهلا وجديرا لسيادة العالم وقيادته خلال ثلاثة قرون. وكانت خلاصتها في ظهور النموذج الأميركي من عينات حضارة الغرب العلمية والعسكرية. ويمكن القول ان المرحلة الجديدة ما زالت في بدايتها. ولكن صدمة المفاجأة والذهول لا زالت تمنع البعض من استشراف ملامح الآتي.
*
برامج التحديث - الأوربية- السابقة، نجحت في احراز قطيعة العقل الثقافي مع مستويات معينة من الفكر الماضوي. وهو الذي يشكل جذور الفكر الديني أو الما-قبل- ديني. والمعروف أن الغرب، كما المشرق (العربي)، يتخذ من ديانة العبرانيين، تاريخا للفكر الديني في العموم. قد يبدو ذلك مقبولا/ معقولا للوهلة الأولى، باعتبار أن [ديانة العبرانيين] شكلت خلاصة حضارية –ثقافية دينية- لما سبقها في الشرق القديم، بنفس القدر أو الغرار الذي شكلت فيه [المسيحية] خلاصة حضارية لكلّ ما سبقها عالميا. بيد أن تزايد عجز الفكر الديني عن مضاهاة حاجات الانسان المعاصر، يدفع بشكل متزايد لتفكيك المنظومات الدينية والعقائدية (religious mentality) للنظر في النصوص المؤسسة أو استكشاف الأصول المختزلة/ المحذوفة/ المدفونة، -ما تحت السطور- لتجاوز الأزمة المعاصرة. فتدمير الأصول القديمة واخفاؤها، يشكل اليوم مع انفتاح العقل والتراكم المعارفي، نقطة مقتل الديانات المعاصرة، بنفس المستوى الذي كان لها عنصر قوة وديمومة في السابق. فالعقل الغيبي كان يسلّم بالأصل الميتافيزيقي للديانات مما يمنعه عن البحث عن جذور أرضية بشرية لها. أما العقل المعاصر، فيعتبر الدين جزء من الثقافة الموروثة بكل تشبثاتها القومية والحضارية الزمنية. وأن قراءة ناجزة - للدين- لا بدّ أن تأخذ بالأصول الزمنية لكي تنجح في المعاصرة.
اعتقد العبرانيون باحتمال ظهور (نبي) قائد كلّ خمسمائة سنة، واعتقد العرب باحتمال ذلك كلّ مائة سنة. وأساس هاته الفكرة مرده ما عرف – بالدورات الزمنية- كما يتكشف عنه كتاب [زرادشت] العظيم. وإليه يعود القول بأن (الزمن) يتألف من أثني عشرة [12- دورة زمنية]، وأن مدة الدورة [ألف سنة]*. ولهذا التقسيم الزمني جذور في الفكر الصيني القديم [التاوية]. وقد ترتب على هذا القول بحصول حدث غير عادي في آخر كل ألف عام. ويلحظ أن ظهور شخصية ابراهيم الخليل تنسب – توراتيا- إلى حدود الألف الثانية قبل الميلاد، وظهور مملكة اسرائيل في حدود الألف الأول ق.م. ويظهر رديف ذلك في زيارة (المجوس) بعد ميلاد الطفل يسوع كما في الأنجيل*.
لقد صادف ظهور موسى في القرن الخامس عشر ق. م. وظهر كلّ من بوذا وزرادشت وكونفشيوس وعزرا في القرن الخامس ق. م. وظهر محمد بن عبدالله في القرن السادس الميلادي، ومارتن لوثر وكالفن في القرن الخامس عشر الميلادي. وعلى نفس الغرار انتهى العالم القديم في القرن العشرين الميلادي ليبدأ العالم الجديد (العصر الالكتروني)- زمن ما بعد الحداثة. فإذا كان القرن العشرون ق. م. شهد ظهور بابل الأولى، ومفتتح تاريخ نبوات العهد القديم على يد ابراهيم (أبي الأمم)، فكيف يمكن توصيف ملامح العهد الجديد- بابل الجديدة وأنبياء العولمة!. عالم انشتاين وهاوكينغ، بيل غيتس ومايكل جاكسن، بيلي غراهام وأسامة بن لادن وبني هن.!.
*
شهد أجدادنا القريبون عصر الانتقال من الحكم العثماني القديم إلى مرحلة الدولة الحديثة، وشهد أباؤنا العهدين الملكي والجمهوري، ونحن عشنا الانتقال من عالم ازدواج القطبية إلى أحادية القطبية، ومن العصر التكنولوجي إلى العصر الالكتروني. وقد تعارفت اللغة العربية على اطلاق صفة "مخضرَم" لمن يعيش عهدين متمايزين أو يعمّر في السنين. ولكن المعيار الحقيقي لتلك "الخضرمة" هي طبيعة التغير التي تكتنف الاحساس النفسي بحركة الزمن. فالنبض المتسارع لحركة الأشياء، والذي يوصف غالبا بـ(اللهاث) وراء عربة الزمن، انما هو فائض التعب النفسي المترتب على معايشة/ ملاحقة نمط حياة جديد وغير مألوف.
فمستوى قابلية المرء على التكيف واستيعاب التغيرات الزمنية يكون في تراجع، مع تقدمه في العمر. وأول عقدين من العمر أو الثلاثة الأولى هي أفضل قدراته، مما يتعارف بمرحلة الشباب، لكن الاستعداد النفسي يأخذ بالتراجع أو الجمود عقب ذلك. ان كثيرين ممن هم فوق الأربعين أو الخمسين يواجهون صعوبة في التعامل مع الكمبيوتر أو الأنترنت، وتزداد الصعوبة مع التقدم في السنين. بينما يلحظ مدى مرونة الأطفال – قبل سن دخول المدرسة- في تداول الأجهزة الالكترونية.
ان عدد المنتجات الاستهلاكية لا يحصى اليوم قياسا بأي مرحلة من الماضي. كما أن مفهوم التعلم والمعرفة صار أكثر اتساعا مما يتمكن منه الفرد الواحد أو تتيحه سنوات حياته. والحاجة متزايدة في العصر الالكتروني لأشخاص ذوي جاهزية مفتوحة ومرونة حياتية وذهنية عالية، غير نمطية (mobile man). انسان العولمة ليس هو المهني أو الاداري الذي انتهى من دراسته وحصل على شهادة أكادمية تدعم فرصته في العمل. انما هو الشخص الذي يستمر في الدراسة وعمل الكورسات التحديثية إلى جانب استمراره في العمل، ليتواصل مع التغيرات المستمرة في مجال الحياة الحديثة والسوق الحرة الجديدة.
ويمكن تلخيص مفهوم سرعة الزمن بحسب المعطيات المادية بالقول..
- ازدياد عدد المفردات السلعية التي تتكون منها الحياة الحديثة، والقابلة للتزايد مع حركة الزمن.
- النمط المتسارع لحركة الأشياء/ السلع/ الأخبار/ الميديا/ الاتصالات والعلاقات/ الفردية والعامة ما يجعل المرء في حالة لهاث الملاحقة كما في البورصة أو السياسة او الفيس بوك والتويتر.
وفي عالم اللهاث والملاحقة، يصاب أي متخلف عن اللحاق أو اللهاث بالتخلف أو التأخر، ويصيب الاعياء أو الاحباط نسبة كبيرة من المتلاهثين، بينما تترتب معايير جديدة للنجاح والتفوق والجدارة، قد لا تتفق جيدا مع معايير اخلاقية سبق أن درجنا عليها!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• "لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر."/ (مزمور 90: 4"لموسى النبي"). كما ورد في رسالة بطرس الثانية (ع ج) ما يلي: "ان يوما واحداً عند الربّ كألف سنة."/ (2 بط 3: 8) مما يحيل على النص الزرادشتي الأقدم. وفي رسالة منسوبة لبرنابا من كتب الأبوكريفا يرد: "في ستة أيام أكمل الله العمل، هذا يدل على أن الربّ سيكمل كلّ شيء في ستة آلاف سنة، لأن اليوم عنده ألف سنة". وينقل القرآن (22: 47) هاته الاشارة "وأنّ يوما عند ربك كألف سنة مما تعدّون"/ سورة الحج، كذلك: سورة السجدة (32: 5). وفي سورة المعراج (70: 4): تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وهنا يختلف تعداد اليوم عن سابقيه!.
• "ولما ولد يسوع في بيت لحم اليهودية في أيّام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود، فأننا رأينا نجمه في المشرق.. حينئذ دعا هيرودس المجوس سرا وتحقق منهم زمان النجم الذي ظهر.. فلما سمعوا من الملك ذهبوا وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى جاء ووقف فوق حيث كان الصبي. فلما رأوا النجم فرحوا فرحا عظيما جدا."/ متى (2: 1-2، 7، 9-10).


يسألونك عن الروح..
اللغة هي منتوج بشري، مصنوع غير مخلوق. وهي في نفس الوقت ظاهرة فيزياوية تعتمد الحركة وتشترط وجود مادة (هواء). والصوت البشري ينتج من حركة (ذبذبة) الأوتار الصوتية في الحنجرة عند ملامسة الهواء لها بفعل العملية التنفس. والتعبير التوراتي (تك 2: 7) "نفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية!"، يمكن أن يفهم منه الحركة، أي أن آدم صار يتحرك، أو أنه صار يتكلم. فعلامة ولادة الطفل هي البكاء (صوت)، وأحيانا يتم قرصه في جلده ليبكي، فالصوت للطفل علامة الحياة، كما أنه يفتح الأوعية التنفسية. وعند انقاذ غريق يتم النفخ في (فمه) ليستعيد قدرته على التنفس.
أعواد القصب المجوفة، عند مرور الهواء فيها تخرج صوتا، عرف الانسان ذلك.. صنع ثقوبا فيه وشذّب فتحاته لموسقة الصوت الخارج منه، وذلك من خلال التحكم في عملية النفخ. ويقال (الموسيقى غذاء الروح)، لأن الشعور الخارج من أعماق النفس، يداعب الأعماق ويهيجها.
الله روح.. والذي يعبد الله فبالروح يفعل.. "والروح هو الذي يشهد، لأنّ الروح هو الحق. فأن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد."/ (1يو5: 6-8). وهكذا تتكرر مفردات الروح في الانجيل. فالروح التي هي الثالثة بين الأب والكلمة، هي أداة الربط (joiner) هي مادة الربط. أي هي النسيج الرابط والجامع والموصل*. دعنا الآن نغير لفظة الروح ونضع محلها لفظة (ريح) أي -هواء- وهو العنصر الفيزياوي الذي يجتمع مع الحركة لصنع الصوت/ اللغة. فالكلمة من غير [روح/ ريح] لا وجود لها، أو هي كيان ميت. والانسان بغير [روح/ ريح] هو كيان ميت/ جامد- غير متحرك وبلا حرارة. يستطيع الانسان الاستغناء عن الطعام والماء لمدة متفاوتة، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن الهواء [دقيقة/ بضع دقائق]. فكل من الكلمة والكائن لا يوجد بغير [ريح/ روح]. والروح هي التي تنفعل وتتألم قبل الجسد.
ان مصدر لفظة (روح) في اللغتين الاغريقية والعربية، هو نفس مصدر لفظة (ريح). فالروح.. هذا التعبير الذي يكتنفه الغموض وهالة القداسة، ليست في حقيقتها غير أحد ظواهر المادة الفيزياوية، والممثلة بالريح- هواء. والهواء (قوة/ طاقة) محركة في الطبيعة، العظمى والصغرى. وكما أن الطاقة تتخذ صورا وآليات متعددة، فكذلك هي الريح- بالمفهوم الفزياوي، والروح بالمفهوم الديني.
في المقطع الثاني من كلام يوحنا، يجتمع [الروح والماء والدم]، وهذه ثلاثة أنسجة – مواد رابطة وموصلة ومحركة. الروح- هي الريح التي تشغل الفراغ/ الفضاء الأرضي الحيّ، والتي تشكل عنصر لا غنى عنه لانتقال الحركة والصوت، والحركة والصوت هي الحياة، ولا حياة بلا أحدهما أو كليهما. والروح هنا كناية عن الصلة بين السماء والأرض*. وعندما يموت الكائن يفقد صوته ثم يفقد حركته. والماء ليس غير صورة أخرى للهواء. حيث يتكون الماء من جزيئات ناتجة من اتحاد ذرتي هيدروجين بذرة أوكسجين. ويوجد الماء في الطبيعة كما أنه يشكل ثلاثة أرباع جسم الكائن الحي. وإذ يأخذ الهواء الحالة الغازية، يأخذ كلّ من الماء والدم حالة السيولة.
لعلّ الدم هو الأقرب في مركباته وأهميته للكائن الحي إلى الهواء، حيث يتألف كلّ منهما من مركبات كيمياوية مختلفة ، يحتويها الدم في نسيجه السائل المسمى باللمف. ويقوم الدم المنتشر في كلّ أنحاء الجسم عبر شبكة أنهار وقنوات تدعى بالشرايين والأوعية الدموية والشعرية الدقيقة، بتغذية أعضاء الجسم المختلفة بما فيها الانسجة والجلد، بالمواد الغذائية اللازمة لكلّ عضو حسب عمله وتقنيته. وعند نقص مادة من مركبات الدم، ينعكس ذلك في صورة عطب العضو مما يسبب حالة مرضية في الجسم. ويقوم الدم بامتصاص المواد الغذائية اللازمة كعناصر كيمياوية من الأطعمة والسوائل الداخلة إلى الجسم. وعند نقص الغذاء أو سوء التغذية تتأثر نسب العناصر الكيمياوية في الدم مما ينعكس على الجسم. وتوجد تلك العناصر في الدم/ الجسم بنسب شبه ثابتة مع شيء من مرونة، ولذلك تنطبق عليها قاعدة (الزيادة كالنقصان) التدميريةة.
يمثل (الدم) علامة فارقة خاصة بالكائن الحيواني، أما النباتات فتقتصر على تداول الماء الذي تحصل بواسطته على المواد الغذائية اللازمة لها. النبات كائن حي، يولد ويموت ضمن دورة الطبيعة، أسوة بالحيوان والانسان. ونحن نتعارف على أن للانسان والحيوان روح، ولكن هل للنبات روح؟..
النبات كائن حيّ، بالتأكيد. ولكن هل يمكن اعتبار الحياة في النبات والحيوان والانسان كشيء واحد، أم أن الحياة لكل منها مختلف، - بحسب الفكر الديني. هل اختلافها راجع لاختلاف (الحياة) فيها، أم لاختلاف درجتها التطورية؟.. الاختلاف الظاهري الأساس ان النبات مادة خشبية، والحيوان والانسان مادة من لحوم وعظام. إذن يمكن تقسيم المحيط الحيوي بحسب الأصول إلى..
- أصل مادة (هواء)..
- أصل مادة (ماء)..
- أصل مادة (تراب)..
- أصل مادة (خشب)..
- أصل مادة (لحم/ عظم)..
- أصل (روح)- الذي هو ليس (مادة)!..
- أصل مادة (فحم/رماد)!
*
الواقع أن تشارلز دارون كان شخصية متدينة جدّا، وذلك لم يمنعه من اعتماد نظرية التطور المادي وأصل الأنواع، وذلك باستخدام العقل الذي يسعى للحصول على أجوبة لكثير من الأسئلة التي تركها الفكر الديني رهن الغيب. ان الانسان بحاجة إلى قدر لا نهائي من الحرية ليتحول إلى عقل كوني شمولي يتقدم ويعمل بدون موانع ومحرمات وخطوط حمر. وقد أمسك دارون بلحظة من تلك الحرية الكونية ليضع أحد المفاتيح الرئيسة للوجود الأرضي. ونعرف اليوم على الأقل أن المادة (ذرة/ item) هي العامل المشترك بين مختلف أنواع الوجود. وأن كلّ الكائنات الحية بعد موتها تعود تتحلل إلى تراب وهواء، بحسب مكوناتها الأصلية من غازات خفيفة وثقيلة.
فالتراب والماء والهواء هو واحد، بحسب مكوناته. والنبات والحيوان والانسان، هو واحد بحسب مكوناته. فالطبيعة- الكائنات، تشكلت من مادة أو مركبات المواد نفسها، ولكن بنسب واتجاهات وأشكال متباينة. وظاهرة التجاذب والتنافر سواء بين الموجودات الطيعية، أو الموجودات الحية، انعكاس لوحدة العناصر الفاعلة فيها والمشكلة لها. هذا التجاذب والتنافر هي ما يأخذ صور الحب والكره، الحاجة والاكتفاء في عالم الحيوان.
إذن يمكن اصطلاح [النظرية الذرية] بدل نظرية التطور وأصل الأنواع، أو نظرية (وحدة الوجود). وهذا يقود بالنتيجة إلى فكرة مفادها أننا جميعا أخوة كما قال جبران، الشجر والطير والحيوان والبشر. وإذا كان كذلك، فما هو السيء في الأمر؟.. هذا سؤال جاد وحقيقي أما الكلّ!..
هل تمانع أن تكون أخا للبشر- بحسب الآصرة الانسانية..
هل تمانع أن تكون أخا لجميع الحيوانات والطيور- بحسب الاصرة الحياتية..
هل تمانع أن تكون أخا للأشجار والنباتات- بحسب الانتماء للطبيعة..
ولماذا.. مع كل إجابة!..
الاخوة- بمعنى وحدة المنشأ والاتنماء- تعني محبة
والمحبة تعني دعم ومساعدة
والمساعدة هي ترجمة للخير وتجسيد للجمال..
ولكن المحبة أيضا هي التواضع والاتضاع
والاتضاع يعني تجاوز الذات والغاء التمايز والتنابز..
والغاء الأنانية والحيازة والتسلّط..
وعند هذه النقطة سوف يبدأ التراجع.. وتعتقد أن لديك حججا معقولة ودامغة..
عند هذه النقطة يبدأ الفكر الديني..
فكرة التمايز والأنانية والحيازة والتسلّط!.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
• في معنى قريب من المفهوم الانجيلي للروح، يستخدم الشيخ جواد الآملي لفظة (الفطرة) للدلالة عليها بقوله: "أن (الفطرة) هي العنصر المشترك بين الناس، والتي عبّر عنها القرآن الكريم بالروح، وهي غير قابلة للتبدّل والتغير: [فطرة الله التي فطر الناس عليها]، واعتبرها القرآن منبعا أصيلا (!)، ولكن المنبع الأهم منها هو (الوحي)!"/ عبدالله جوادي الآملي- حقوق بشر/ نقلا عن: أحمد القبانجي- الاسلام المدني- ص75. وأودّ التوضيح للقارئ أني أورد هذا النص في سياق المقارنة والتقريب وأحتفظ بالتعليق.
• ان سرّ الأدلجة الدينية لفكرة (الروح) كظاهرة امتياز، خصّ بها الكائن العلويّ الانسان، يكمن في تأكيد فكرة مديونية المرء للربّ. فالروح -دينيا- هي هبة سماوية للكائن الأرضي. وقد استعارت المسيحية نفس المفهوم (الهباتي) تحت تسمية [روح القدُس]، وجعلت فارقا كبيرا بينهما. فكرة المديونية، إلى جانب فكرة الخطية والغفران، هي صور تأكيد الصلة بين الرض والسماء، بين الانسان، والأب السماوي!.




فيزياء الروح وروح الفيزياء
إذا كان التأويل اللغوي وهندسة ببليوغرافيا المعارف، قد حصل في عهد متأخر على أيدي الاغريق، فأن البدايات الحقيقية لمفهوم الروح تسبق ذلك بكثير. أي أنها تسبق ظهور الديانات المتعارفة بالكتابية أو المعاصرة. هذا من جانب، أما الجانب الآخر، فهو ان التعريف الببليوغرافي لمسألة الدين، واعتبار [التوراة]* أقدم الكتب الدينية، أو دالة أقدم الديانات، ينطوي على غبن تاريخي وأبستمولوجي كبير، لا يليق بالبحث العلمي وتوخي الحقيقة. فبقدر تركز الاستكشافات الغربية على منطقة الشرق الأدنى للمتوسط، بقدر ما كان الحيف والاهمال والتجاهل نصيب ثقافات الشرق الأقصى [جنوبي شرق آسيا والهند عودا إلى بلاد فارس]، والتي شكّلت المنابع الثقافية والجذور الفكرية والما ورائية لتأسيس الديانات الابراهيمية.
فالبحث في أصول مصطلح الروح، لا يقتصر على المكتبة الاغريقية التي توفرت على التراكم التاريخي لمعارف الشرق القديم، وانما.. المضي قدما، في محاولة التلمّس المباشر لثقافات الشرق عبر معطياتها التاريخية ممثلة في البوذية والهندوسية والتاوية وغيرها من الأفكار والعقائد القديمة.
لقد عاش "الدين" مرحلة متراكمة من التأسيس المعرفي الجادّ - طويل الأمد، وباهظ التكاليف؛ مما لا يتناسب مع الصورة المعاصرة للدين – القريبة من الابتذال الشعبي-. ذلك على الرغم، من أن الدين كـ"منظومة" لا يزال هو الأطول عمرا، و- غير المرشّح للاندثار-، في سلسلة الأفكار والمنظومات الفكرية التي ظهرت عبر التاريخ. وإذا كانت "الدولة" كمؤسسة تاريخية عريقة تتعرض اليوم، مع بدايات الألفية الثالثة، لضربات موجعة تكاد تودي بها، فأن "الدين" كمنظومة وإطار معرفي واجتماعي، يطرح نفسه كبديل دائم و – تحدّي مستمر-، إزاء كل الاحتمالات. وكما أن الغرب العلماني، صاحب المنجزات المادية الكبرى في تاريخ الانسان، لم يستطع التحرر والانفكاك تماما من ربقة الفكر الديني (subculture) ، فليس من السهل المتوقع، هزيمة الفكر الديني في الشرق، وهو الأكثر أصالة ومساحة. وبشكل يدفع إلى القول، أنه – إذا كان الفكر الديني يمثل طفولة العقل البشري، فليس من المحتمل، تنصّل المرء من طفولته-، وعلى قدر صوابية سيجموند فرويد [1856- 1939] في تحليلاته، يزداد تعلق المرء بطفولته (وماضيه)، كلّما تقدّم في العمر. ولا شكّ أن البشرية تقدمت كثيرا في عمرها على الأرض، إن لم تكن قد اقتربت فعلا من "الأيام الأخيرة" بحسب الفكر الانجيلي.
في هذا السياق، تقتضي الضرورة مستوى مناسبا من التمييز بين نمطين من "الدين"، أو "النزعة الدينية" بتعبير أبسط، وهي الديانات العقلية التأملية، والديانات الروحية القطعية. النوع الأول، هو الذي ترك المجال مفتوحا بين الظاهر والمخفي، بين الموجود والغائب. هذا النوع لم يجد ضرورة لوضع (سياج حديدي) قائم على ثوابت وقوالب قسرية ملزمة لكلّ من يقع في دائرته. وبالتالي، فهو لا يطالب بالغاء أو اختزال العقل أو الحواس ولا يفترض أدلجة مسبقة للفوز الديني. هنا يستطيع كلّ من يريد ويرغب، الوصول إلى غاية الوجود، بطريقته وقدراته الخاصة، وعلى مدى الزمن، بدون توقيت محدد صارم وقطعي. إذن، هنا لا توجد قوالب، لا يحكم أحد على أحد، لا يوجد حدّ للزمن!. ويتمثل هذا النمط بالديانات غير الابراهيمية، والتي اصطلح الفكر الديني الابراهيمي عليا بالوثنية.
وبديهي، عقب ذلك، أن النوع الثاني، هو النظير المعاكس للأول. أي الديانات السائدة والمتعارفة اليوم. وهي: في حين تعيش في حالة حمى المنافسة، لاستقطاب أكثر البشر في حظيرتها، فأنها تقسرهم على التخلي عن طرز حياتهم وأفكارهم وأحاسيسهم، والانصياع لتعليماتها ومعاييرها الصارمة للنجاح. ورغم مبدأية تعليم النوع الثاني على أن الاله السماوي خلق كلّ شيء وهو حسن، فأنه يطالب المرء بالتخلي عن ذاته وخصائص وجوده للدخول في نير "عبودية" التعليم الديني.
*
لقد استغرقت مفردة "الروح"، أحقابا زمنية، تدرجت خلالها من الأصل اللغوي/ الفيزياوي المجرد، لتستبدّ بطابع ديني صرف، مقصور عليها، وبشكل يمثل [جوهر، فعالية] كلّ ما في الوجود، بدء من العلّة العظمى، إلى آخر ظاهرة مادية أو معنوية طارئة. فالروح، ليست رمز أو أكسسوار جامد، في المكتبة الدينية، انما هي الأصل والموجه لكلّ شيء.
انها حجر الأساس، في انشاء/ اعلان وجود (روحي)/ غير مادي، يوازي ويضاهي ويفوق، الوجود المادي الفيزياوي للطبيعة. واليوم، مع ذكر أو سماع تلك الكلمة، يتجه الذهن بعيدا، عن المادة، إلى نقطة في قعر الغيب. ورغم عدم يقينية بؤرة المجهول تلك، فما تزال تحظى بجاذبية وخدر لذيذ، للهرب من صعوبات الواقع ومتاهات الوجود وخيبة الحياة.
فالروح- تعبير آخر عن الغيب، بل هو أكثر شمولا وعمقا باعتباره تعبير عن الآلية والجوهر، فيما الغيب [لغة: من غاب يغيب فهو غائب وغيب، كناية عن غير المنظور]، هو توصيف فيزياوي لخصائص الحواس البشرية. ولا يختلف "الروح" عن "الغيب" في احتلاله الحيز السماوي، الفوقاني، العلويّ، المتسلّط على كلّ ما دونه –بما فيه الأرض ومكوناتها المائية والحيوية-.
وبارتباط الروح بالمسكن السماوي (الواقع هو ما وراء السماوي/ ميتا- فيزيقي)، فأنّ كلّ ما يظهر من السماء، انما هو صور وعلامات ووسائل وسيطة بين السماء والأرض. وإذا كانت الريح (الهواء) هي أبرز الوسائط حضورا وفعالية، - كما سبق القول-، فأن الأنوار السماوية [شمس، قمر، نجوم، كواكب، شهب، ونيازك]*، تأتي بالدرجة الثانية من حيث الأهمية، في توثيق سلطة السماء على الأرض، وتبعية الأرض لسلطات السماء. يقول آرثر بينك [1889- 1952] أن "الشمس" تسود الأرض طيلة النهار، وفي الليل يتولى "القمر" النيابة عنها. فالنور أحد الخصائص الفيزياوية للروح، وذلك مصداق وصف التوراة.. "على وجه الغمر ظلمة، و"روح" الربّ يرفّ على وجه المياه. وقال الربّ ليكن نور!"/ (تك 1: 2). فالظلمة التي تكتنف المياه - الأرض-، كناية عن الخليقة البعيدة عن عناية السماء، وسيادة "الروح" الالهية يجعلها مشمولة بالرعاية والهداية، بحسب قول بولس.. " لأنّ الربّ الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الربّ في وجه يسوع المسيح"/ (2كو 4: 6). فالنور- الظاهرة الفيزياوية السماوية الخارجية، المنبعثة من "الروح"، تنير فضاء الأرض المحيط بالبشر، كما أنها تنير أعماق الانسان ومداركه المعرفية. ويذهب يوحنا اللاهوتي أبعد من هذا بالقول: " فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة."/ (يو1: 4-5).
وقد تكررت لفظة الروح كثيرا في الأسفار الدينية، وبمعاني واتجاهات مختلفة، سواء بنسبتها إلى أشياء وأشخاص، أو بنسبة أشياء وأشخاص إليها.
روح الله، روح الربّ، روح من قبل الله، طويل الروح، روح الحكمة، روٍح رديّة، روح المعرفة، روح حسد وغيرة..
ويمكن تمييز أربعة مراحل رئيسة في الفكر الديني، بحسب تطور استخدامات "الروح"، كالآتي..
- الروح كرمز للقوة السماوية غير المادية وغير المرئية، وهي تعمل باتجاهات مختلفة –الخير كما الشرّ-، ولها تمظهرات وخصائص فيزياوية متعددة. ومجالها التطبيقي : التوراة!.
- الكلمة- الكلمة المتجسد- ابن الربّ- يسوع المسيح.. ومجاله التطبيقي: الانجيل.
- الروح القدس: سلطان الكلمة- المعزي.. ومجاله التطبيقي: أعمال الرسل.
- الوحي- وسيط سماوي - حامل الكلمة الالهية.. ومجاله التطبيقي: القرآن.
وقد سبق التنويه إلى مرحلتين [الآباء، والانبياء] في التواصل بين السماء والأرض، ويلحظ هنا استمرار الاتجاه التراجعي من العام إلى الخاص، ومن الاتصال المباشر إلى غير المباشر- عبر وسيط. وسوف أعود لهذا الموضوع في مكانه.
وهكذا يستمرّ عمل الروح بفعالية تشحن الفكر الديني وتدفعه من مرحلة لأخرى، بفعل آلية تطورية، في محاولة لمضاهاة تطور الأسئلة العقلية والقدرات البشرية، دون أن يسمح لنفسه بالسقوط في هاوية التخلف أو الجمود.
لقد كان لاصطلاح "الروح" أهمية خاصة في وسم الفكر الديني بملامح (روحانية) تميزه عن الخصائص المادية للفكر والتداول البشري، وهي حجر الزاوية في مثلث [روح- نور- كلمة] والتي بها استكمل تأثيث المعمار الديني/ التسلّطي والقائد في حركة التاريخ البشري. وباعتباره تعريفا موجزا للاهوت (الله روح!)، فقد أمكن به توحيد أسماء الدلالة والاشارة المتعددة لغويا ودينيا عن (ذات الجلالة) في مسمى واحد، رغم أن ذلك لم يكن ضمن الأغراض الأولية لتأسيس المصطلح!.
ان صراع الدين والعلمانية في حقيقته، هو صراع حول القيادة والسيادة، [مَنْ يقود مَن، ومَنْ يسود مَنْ؟!!]. وطالما ناب رجل الدين عن سلطة السماء، والسياسي عن سلطة الأرض، يكون السؤال بصيغة أقرب: من الذي يقود البشرية/ رجل الدين أم السياسي؟.. وهذا هو جوهر الصراع الذي تعيشه مجتمعاتنا اليوم، بصورة واضحة أم مستترة؛ ومحور التنافس بين كلّ من الشيخ محمد مرسي والجنرال أحمد شفيق، لانتخاب رئيس لمصر عقب حسني مبارك!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• (Instance), David Norton- The KJB- A Short History From Tyndale To Today, Cambridge University Press, NY, 2011
• أسهب القرآن في الإشارة للأجرام السماوية المنيرة، كالشمس والقمر والنجم والبروج وسواها.
• آرثر بينك- الوحي الالهي للكتاب المقدس- دار النشر الأسقفية- القاهرة- 2008
ــــ
" لنفرض أن الاسلام قد ولد في هذا العصر،.. فسوف لا يكون موقفه من هذه الثقافة إلا كموقفه من الأجواء الثقافية والاجتماعية التي كانت في زمن صدر الاسلام، أي موقف الهامش بالنسبة إلى المتن، فلا معنى لأن يقوم بصياغة مفاهيم جديدة للحرية والعدالة والحقوق وما إلى ذلك، بل يسعى لربط هذه الحقوق بالله تعالى ويمنح الانسان رؤية ملكوتية إلى هذه الحقوق، تنسجم مع تطور الآفاق المعرفية والثقافية للانسان المعاصر.|/ أحمد القبانجي- الاسلام المدني- ص87.


الدين.. والطبيعة
هل يوجد (دين) بلا بشر.. هل يوجد (مال) بلا بشر.. هل توجد (لغة) أو (مصالح) بلا بشر؟..
كلّ هذه الأشياء وجدت بعد البشر. هذه الأشياء أوجدها البشر، ثم صارت جزء من حياته. ثم صارت كلّ حياته، صارت سيدته، وهو صار عبدا لها.
الدين والمال واللغة والمصالح، مثلها مثل البيت والشارع والصحن وموقد النار والسرير، أشياء صنعها الانسان بيده وعقله، لخدمته وتنظيم أموره وتسهيل حياته. الانسان صنع الماكنة والسكك الحديد والشارع المسفلت وبيوت اللبن والطابوق والبلوك والقوالب الكونكريتية وخطوط الكهرباء والتلفون واللاسلكي. والأشياء التي صنعها الانسان لخدمته ، سرعان ما صار عبدا لها.
لا أحد يستطيع أن يعيش اليوم من غير مال، من غير بيت، من غير صحون ومطابخ وغرف نوم وخدمات ماء وكهرباء وغاز وتلفون ومواصلات.. السيارة وطراز الثياب وكارتات البنوك والتلفون من معايير الحياة العادية اليوم [standard]. أي أنها معيار وسطي لتقييم البشر ومستواهم المدني، المادون، والمافوق. بعض الناس يعملون بجدّ لتأمين احتياجاتهم المادية الفوق عادية، وبعض الناس يستعجلون الزمن ويلجأون للنصب والاحتيال والسرقة والشطارة (الفهلوة) لكسب الأموال والمصالح خارج المعايير الأخلاقية التقليدية. وقد وصفتها بالتقليدية، لأن حياة عصر السوق تجاوزت [الأخلاق، الخجل، الكرامة والاحتشام] باعتبارها معوقات لحركة السوق والاقتصاد التجاري السريع!.
كثير من هذه الأشياء بدأت في ظرف معين، ثم استنفذت أغراضها واستهلكت نفسها وفسدت وأفسدت. فالسيارة اليوم ليست حاجة للتنقل وتسهيل العمل وانما وسيلة للتنابز والمباهاة والفساد. وكذلك التلفون بدأ كحاجة، وعندما زاد ابتذل وصار وسيلة للمباهاة والفساد والجريمة وانحطاط الذات. كذلك الثياب واللغة والشهادات الأكادمية والتكريمية، زادت وابتذلت وفقدت معناها، وكثيرون يتباهون بها دون استخدام للخدمة العامة. ما قيمة شهادة الدكتور الطبيب للذي لا يخدم في مستشفى ولا يساعد المرضى. كذلك هو الدكتور والاكادمي في أي مجال لا يخدم باختصاصه الناس. فالسياسي والديني واللص والتاجر لا يحتاج لقبا علميا لتبرير أو تزوير حقيقة سلوكه ومعيشته.
*
في البدء لم تكن. ثم راودت عقل الانسان. ثم أنجبها العقل رموزا وأنظمة على أرض الواقع.
كانت أدوات ووسائل بيد البشر ولخدمته، ثم تحولت إلى رموز وسلطات تستبد بحياة البشر وتسيّرهم في أطرها كالعبيد.. صادرت كلّ حقوقهم وحرياتهم.. جعلت لهم ثقبا ضيقا يتنفسون من خلاله ويعيشون من خلاله ويوجدون من خلاله، وبدونه. ومن دلائل الاستبداد أن تعدم وجود الحياة من دون منظورها الضيق والأحادي الجانب. فالدين، سواء كمنظمة أو فكر، كان أكبر عدوّ لحرية الانسان، ومنظومة السلطة الأكثر بطشا وعنجهية، في مصادرة حقوق الانسان، وتدمير وجوده.
ان كلّ كائن حيّ [انسان / حيوان] هو وجود حرّ.. [free-born].
ان كلّ كائن حيّ هو مسؤول عن نفسه، وأمين على هذه المسؤولية!..
والدين.. باختلاف مسمياته واتجاهاته وألوانه.. هو مؤامرة ضدّ الانسان.. وجودا وكيانا وخصائص وجود. والسؤال الحاضر هنا هو: كيف يكون للدين أن ينقض وجود الانسان أو الانقضاض على حريته وحقوقه، ويدّعي أنه من أجل الانسان؟. ان المبرر الوحيد للدين أو العلم أو السياسة أو الأخلاق هو دعم وجود الانسان وتدعيم أسس الحياة من أجل الأفضل. أما ما يتقاطع مع ذلك وينقضه، فهو ضدّ الانسان.
والمقولة العربية الأثيرة هنا: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!!..)، هي موجهة لكلّ فرد وكلّ جماعة، لامتحانها مع نفسه ومع بيئته.
ذلك الفرد.. السؤال الذي طرحه سرن كيركغارد [1813- 1855] ووضع تحت عنوانه أبرز مؤلفاته.. ليس اكتشافاً كيركغارديا محضا.. انما هو سمة من سمات الطبيعة.. التي جعلت كل (بذرة) تنبت لحالها.. وكل نبات أو ساق أو شجرة تنمو كفرد مستقل عن فرد آخر، أو مجموعة أفراد حواليه.. كذلك الحشرات والطيور والحيوانات.. تولد كأفراد مستقلين، كلّ منهم قائم بذاته، وحرّ بوجوده، يتحرك ويجوع ويمرض ويموت، بملء وجوده الحرّ والمستقل [individuel]. ألم يكن يمكن أن تكون النباتات في هيئة اخطبوط هائل متداخل ومتراكب على بعضه مثل جبل كبير، بدل توزعه في وحدات صغيرة..
ألم يكن من الممكن، بدل هذه الأعداد الفردية من الأنواع والأجناس التي لا تكاد تكون لها نهاية، أن تنوجد من البدء في هيئة كائنات هائلة واخطبوطات ضخمة من نبات وطير وحيوان وبشر، بدل الكائنات الدقيقة واللامتناهية في الحجم والعدد؟.. وما هو مبرر هذا الوجود أساسا؟!..
هل كان لهذه الموجودات أن توجد وتستمرّ لولا أنها حرّة ومستقلة؟..
العنصر الثالث في مركب الوجود هو الاختلاف.. (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة*!). والمعنى: لولا أن يشاء الله.. لكان جعلكم أمة واحدة!.. وفي هذا تأكيد أنه لم يشأ أن يجعل الموجودات/ الكائنات، نسخا منسوخة عن بعضها متشابهة في الشكل والطبيعة واللون والرائحة والحركة والوظائف. أنه لم يشأ أن يجعل كونا مشوّها، خاليا من روح أو نكهة أو جمال.
التشابه يقتل الحياة، لأنه يعدم الرغبة والطموح، كما يلغي مبرر الالتقاء والتكامل الذي نجده اليوم. فالأختلاف يدفع الأشياء للتقارب والتعاون والتنافس والتكامل والاتحاد والنمو نحو الأفضل..
وهذا يقود إلى سمة أخرى للوجود والحياة المتطورة.. (جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا!). ان حافز التعارف هو الاختلاف!.. هو التعدد.. فالأشياء المختلفة.. تسعى للتعارف والتبادل والاستفادة من خصائص الآخر، والتعاون والتطور نحو الأفضل!.
الآن.. لو أخدنا هذه النقاط المجردة.. [الفردية.. الحرية.. الاستقلال.. الاختلاف.. التعارف].. الثلاثة الأولى منها، خاصة بالفرد، والأخريان بالعلاقة بين الأفراد (الجماعة)، ونقارنها بمعطيات الفكر والممارسات الدينية، نجد أنها على طرفي نقيض!
فالدين.. يلغي خصوصية وجود الفرد، ويفرض عليه نمطا من حياة ووجود قطيعي يخضع ويتحرك بإشارة من زعيم ديني..
والغاء خصوصية الوجود الفردي يترتب عليه مصادرة حرية الفرد وحقوقه وسماته الشخصية ويدفعه للذوبان (مصطلح نفسي اجتماعي) في بحر قطاع اجتماعي يقوم ويقعد ويتحرك مثل تمرين سويدي أو مارش عسكري صيني.. لا تكاد تتميز منه خصوصية ما..
وبالنتيجة، فالغاء الخصوصية والاختلاف.. والذي يقابل نظام (القولبة) في الفكر الديني، و (الأدلجة) في الفكر السياسي الحزبي – هذا الفكر لا يختلف عن الدين في الأغراض والغايات واستعباد الفرد، ولكنه يختلف في الوسائل والتقنيات!-.
عودة أخرى للسؤال الأساس.. هل أراد الله فعلا خليقة نسخية متشابهة، تتشابه فيها الجبال والمياه والنبات والحيوان والبشر، بدون تمايز أو اختصاص أو وجودات فردية مستقلة وحرة..
الجواب قطعا لا.. وبحسب النص الديني القرآني كما سبق.
فالدين.. فكرا ونظاما، يتقاطع مع جوهر الطبيعة ونظام الأشياء، أي أنه يتقاطع مع الطبيعة الألهية والقصد الالهي. بل أن جوهر الدين القائم على المادة والتسلط والطمع، يتقاطع مع جوهر الإله الذي هو (روح) حسب الأنسكولوبيديا الدينية، ولا يليق بأي مؤسسة أو جماعة، استسذاج الناس واستغباؤهم، أو الضحك من ورائهم.
تصوّر معي.. عزيزي القارئ.. الناس في الشارع.. المدينة.. البلد.. المعمورة.. يشبهون بعضهم في كلّ شيء.. الدشاديش وألوانها وأطوالها.. اللحى وألوانها وطريقة تشذيبها.. طريقة الحركة واتجاه الطريق.. النساء وثيابهن.. ألوان الثياب وطرزهن..
أمواج بحار من بشر يتحركون ويتمايلون كأغصان الشجر.. يردّدون نفس الصلوات والترانيم.. نفس الكلمات والمعاني.. ينافسون جيوش الملائكة والسيرافيم..
يمكن مراجعة بعض الاصحاحات من سفر الرؤيا** آخر أسفار الانجيل، للاطلاع على صورة المشهد المسرحي المنقول عن الارث الاغريقي الروماني للاحتفاء بالامبراطور.. والظهور المنحنية أمام مروره المقدس.. حيث مظاهر السجود والانبطاح أرضا وتقبيل الأرض والأقدام والأيدي والأكتاف من التراث التقليدي للحفاوة بالبشر من ذوي المهابة أو السلطان.. وفي الاصحاح الثالث والثلاثين من سفر التكوين التوراتي/ ع3 "وأما هو فقد اجتاز قدّامهم، وسجد إلى الأرض.. سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه"!. يعقوب يسجد خوفا من أخيه عيسو، عند عودته من أرض لابان إلى جنوب كنعان. والكثير من نصوص المزامير وهي صلوات وترانيم كان العبرانيون يؤدونها لألههم في العبادة، بمرافقة آلات موسيقية هوائية ووترية، مأخوذة من تراث وممارسات شعوب وثقافات قديمة من ميسوبوتاميا وأرام ومصرايم والاغريق.
*
ان أحد مبررات تعدد الأديان والمعتقدات والمرموزات الدينية في العالم، تكمن في سعي الدين، إلى الغاء الخصوصيات والاختلافات، واستعباد البشر في طابع نمطي للحياة والفكر والثياب والمراسيم. فيتولد الضدّ من الحالّ، بحسب المنطق الماركسي، وبدل الوحدة والاتفاق، تصير الفرقة والتضادّ هي المتحقق الديني في الواقع.
ان أصل الدين هو واحد.. والأصل هو الدافع ايضا. والغايات واحدة، ولكن المصالح متعددة، والطبائع استبداد.
ــــــــــــــــــــــ
• المائدة- 48، كذلك النحل- 93
• الحجرات- 13
• في سبيل المثال: "بعد هذا نظرت، وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعدّه، من كلّ الأمم والقبائل والشعوب والألسنة، واقفين أمام العرش وأمام الخروف، متسربلين بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل؛ وهم يصرخون بصوت عظيم قائلين: الخلاص لألهنا الجالس على العرش وللخروف. وجميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش والشيوخ والحيوانات الأربعة، وخرّوا أمام العرش على وجوههم وسجدوا لله قائلين آمين. البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين. آمين."/ (رؤ 7: 9-12).
• "ولما أخذ السفر خرّت الأربعة حيوانات والأربعة والعشرون شيخا أمام الخروف، ولهم كلّ واحد قيثارات وجامات من ذهب، مملوءة بخورا، هي صلوات القديسين. وهم يترنمون ترنيمة جديدة قائلين مستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبِحتَ واشتريتنا للربّ بدمك، من كلّ قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا لإلهنا ملوكا وكهنة، فسنملك على الأرض. ونظرت وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش والحيوانات والشيوخ، وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف، قائلين بصوت عظيم، مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة. وكلّ خليقة مما في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، وما على البحر، كلّ ما فيها سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللخروف البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكانت الحيوانات الأربعة تقول آمين. والشيوخ الأربعة والعشرون خرّوا وسجدوا للحيّ إلى أبد الآبدين."/ (رؤ 5- 8- 14).






الدين.. والسيطرة*!
كلّ دين هو مشروع سياسي، وكل مشروع سياسي يهدف للسيطرة!.
في سنوات طفولتي.. كانت توجد أكياس طحين في بيتنا.. لأن والدتي كانت تصنع الخبز في البيت، مثل كثيرين في تلك الأيام، ولم يألف الناس شراء الخبز من السوق. بعض العزاب والغرباء هم الذين كانوا يرتادون الأسواق للتبضع، أما أهل البلد فكانوا يؤمنون حاجاتهم بأنفسهم، أو بالتكافل والتضامن فيما بينهم. وقد لاحظت، وأنا أنظر في كيس الطحين الأبيض، نقطة سوداء.. سرعان ما تصير نقاط سود. وكانت تلك النقاط تأخذ بالحركة على السطح، رغم عدم وضوح أية أرجل أو أعضاء لتلك النقطة، التي قد تحسبها لصغرها، مجرد نفاية.
لم أكن أعرف تشارلز دارون [1809- 1882]. ولكنني بعد جدل قصير مع والدتي، قالت أن هذا عادي. هذا دود. وهي تقوم بتنظيف الطحين أو الرز أو العدس أو حتى السكر المسحوق قبل استخدام. كان منظر (الصينية) الدائرية، والطحين أو العدس وغيره يتقلب ويدار من هذا الطرف لذاك أمرا مألوفا، ونوستالجيا هذه الأيام. عرفت أن الدود يتولد من التراب والأشياء البسيطة التي تبدو ميتة. البكتريا والدود تتولد أيضا من النفايات والمواد العضوية المتفسخة. لماذا تظهر الصراصر في المرافق الصحية وحيّة السلمان على جدران الحمام، والجراد والذباب حول الأطعمة؟.. من أين يأتي النمل في شقوق الأرض أو الجدران؟.. وبعض هذه الكائنات ترتبط بظروف مادية ومناخية معينة، ولا توجد في كل مكان وزمان. إذن..
من الأشياء الميتة تولد حياة..
من الجائف يعطي حلاوة/ نص انجيلي
ولكن العكس هو صحيح أيضا. فمن الحياة يخرج الموت، ومن الحلو والطيب تخرج (جيفة)!..
من سطح الحياة الاجتماعية السائدة ظهر (الدين).. ولكي يبرّر وجوده ويستمرّ، هو يعتاش على قشرة المجتمع، ويتطفل على هوامش الحضارة والمدنية.
ليس الدين ظاهرة في كل المجتمعات، ولكنه يشيع في الشرق الأوسط والمناطق الجنوبية.. والديانات العالمية والاشكالية اليوم مصدرها الشرق الأوسط.. لماذا؟!!..
*
للدين ارتباط وثيق من خلال شخصية ابراهيم وسارة (أور جنوبي العراق) بنقطة التحول في تاريخ سومر، من مرحلة الدول المدينية إلى الدولة المتحدة أو الامبراطورية. وما بين ظهور زعامة سرجون الكبير وقيام بابل، تظهر شخصية ابراهيم ورحلته صعودا على امتداد مجرى الفرات نحو ارام وكنعان في حوالي الألفين قبل الميلاد. وابراهيم هو أبو الانبياء أو الناقل الأول لفكرة الدين لمرحلة نوعية جديدة. وما تزال الديانات الابراهيمية حافلة بخيوط وملامح سومرية وبابلية وآشورية، تم تذويبها في التقليد العبراني والاسلامي. لماذا انتسبت كلّ الديانات الكتابية لابراهيم، ولماذا لم تظهر شخصية أخرى نظيرها؟.. معنى هذا أن الصراع بين الديانات ليس شرقيا وغربيا، انما هو صراع عائلي حول السيطرة والزعامة، مثل صراع اسحق واسماعيل، يعقوب وعيسو، سليمان وأبشالوم، رحبعام ويربعام، يهوه ويسوع!..
حركة النهضة الأوربية ولدت الحركة الاستعمارية، والاستعمار ولد حركة التبشير الديني.
[علم، عسكر، دولة، دين]
فالمنجزات العلمية والعقلية انتجت الثورة الصناعية والنهضة الاقتصادية، وهذه ولدت حاجة للأسواق ومصادر المواد الخام، فدخلت الدولة الامبراطورية ميدان التنافس الدولي للسيطرة على العالم.
ولتدعيم مناطق السيطرة الكولونيالية استخدمت دولة الاحتلال، نقل ثمارها الحضارية والثقافية فتجعل البلاد الخاضعة امتدادا ثقافيا واقتصاديا لها..
ولم يكن للغزو الثقافي أن يستكمل أغراضه بدون انتشار الدين. حيث شاركت الكنيسة الأوربية في حركة الأنوار، كهامش- على قشرة الغزوات العسكرية الامبراطورية.
في سنوات الحرب العالمية الثانية قامت قوات الحلفاء بتوزيع راديوات ترانسستور في أفريقيا، لتمكين سكان المستعمرات من متابعة أخبار انتصاراتها العسكرية، وكان الترانسستور جديدا يومذاك. انه رمز عظمة المستعمِر. كذلك هي خدمة الانترنت والفضائيات والموبايلات اليوم، رمز عظمة الغازي.
تحويل العالم إلى قرية كبيرة كهدف للنظام الاقتصادي العالمي الجديد، أمر وارد منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت الانتلجنسيا العربية تردّده من باب التغني برفاه دولة المستقبل. وقد تحقق هذا الحلم أخيراً.. ولكن ليس ببراءة الحلم، وليس من غير خسائر تاريخية كبرى، بالنسبة للعرب، والعراق تحديدا.
عندما انفردت الولايات المتحدة بقطبية السياسة الدولية، بدأت حملة غزوات عسكرية وسياسية مختلفة الاتجاهات، – يقارنها البعض بالامبراطورية الرومانية!- استتبعت نشر خدمات الانترنت وشركات الموبايل والبث التلفزي الفضائي في مستعمراتها الجديدة.
الغزو الأمريكي حيثما حصل، لم يكن في معزل عن حملات التبشير الديني الأمريكية*، كحلقة أساسية من حلقات الغزو أو النظام الأمريكي الجديد. وقد وصل بعض تلك الحملات، تحت مسميات مختلفة، منذ (1991) وأنشأ له مراكز في شمال العراق. وبعضها انطلق من الشمال إلى المناطق الأخرى في حملات مكوكية مؤقتة. بل أن بلدان شرق المتوسط تتمتع بتغطية مرموقة من قبل شبكات التبشير من المغرب حتى الباكستان، سواء على صعيد المنظمات الاجتماعية أو وكلائها ومندوبيها المحليين، إضافة لبرامج البث الفضائي الموجهة، وسيما القنوات المسيحية بمختلف اللغات المتوسطية، وخدمات النت الموجهة لهذا الغرض.
عربيا.. توجد عشرة قنوات فضائية مسيحية من داخل الولايات المتحدة الأمريكية. فيما توجد قناة واحدة تبث من السويد، وأخرى من قبرص أو مصر. وتساهم الكنائس والجاليات العربية في الغرب بدور أساس في دعم النشاط التبشيري وبوسائل وأساليب مختلفة وكثيرة.
*
لقد أفلحت حركة الاستعمار التقليدي قبل قرنين في نشر حركة الكنائس في عموم القارة الأفريقية، وبشكل جعل أحد الوعاظ يعتقد أن النهضة المسيحية المقبلة-ربما كانت الآن- سوف تنطلق من أفريقيا. واليوم تتزعم الولايات المتحدة الأميركية نشر المسيحية (الأمريكية) في الشرق الأدنى والأقصى من آسيا. ويفتخر كثير منهم أنه لم يبق مكان في العالم لا يُكرَز فيه (بكلمة الانجيل).. وهو من علامات الساعة عندهم!..
والسؤال.. ماذا بعدُ.. لقد انتشرت المسيحية في أفريقيا.. ولكن صورة أفريقيا لم تتغير كثيرا.. فالمجاعات والحروب الأهلية والكوارث لم تتراجع.. والأوضاع السياسية والثقافية لها لم تتحسن. وبالمقابل زاد معدل الهجرة الأفريقية نحو الشمال والغرب.
فما هو المفعول السحري الذي سيعقب انتشار حركة الكنائس في أسيا.. هل سيغير صورة الفوضى التي تتهدد مستقبل شعوبها، أم أن معدلات الهجرة سوف تتجاوز معدلات التنمية وانتاج النفط فيها؟..
*
العالم العربي والاسلامي، هو نتيجة للامتداد الامبراطوري الثقافي العربي منذ القرن السابع الميلادي. ان الغزو- حاضرا أو ماضيا- ليس أمر مجردا بذاته، وانما هو نظام مركب، سياسي/ عسكري، ثقافي ديني ملتف على بعضه، بحيث لا يمكن فصل أجزائه، أو قبول بعض منه ورفض سواه. فاللغة العربية وثقافة البداوة والدين السياسي هو محاور واقع الشرق الأوسط السائد، منذ أثني عشر قرنا. وحين يحاول غزو امبراطوري أميركي اختراق النظام الثقافي والسياسي للشرق الأوسط، ستجد المنطقة نفسها أمام برنامج مركب، ليس من اليسير فصله عن بعضه!. هذا البرنامج الذي بدأ من عقدين أو ربع قرن، تشكل التغيرات السياسية وفوضى (الربيع العربي) الخلاقة واحدة من مستوياته ومراحله.
وعلى مستوى الواقع.. اتسع مجال اللغة الانجليزية (الأمريكانية) كثيرا في مجتمعاتنا، وزاد التعامل مع منتجاته الثقافية والتقنية. وزاد الاهتمام بالموسيقى وأغاني البوب في صفوف الشباب ومنتديات التواصل الاجتماعي الالكتروني. وإلى جانب المؤسسات الاقتصادية والسياسية والأكادمية، فهناك انتقال مبرمج للقيم والثقافة الأمريكية، غير منفصلة عن الغزو العسكري والسياسي والاقتصادي للمنطقة.
بعض هذه المظاهر، أحدثت ضجة اجتماعية مثل ظاهرة (الايمو)، ربما بسبب توقيتها المتسرّع، أو الرغبة في هزّ قاعدة المجتمع، وربما أرادت الحكومة استخدامها لأغراض تكتيكية لمشاغلة الرأي العام العراقي. وبين حين وآخر تنتشر صور في اليوتيوب والموبايل حول ممارسات جنسية أو اخلاقية منسوبة لبعض السياسيين أو شيوخ الدين، أو حتى بعض الاعلاميات. ومن الجدير هنا استذكار ردود الفعل الكبيرة حول نشر صور معاملة سجناء ابي غريب في حينها، وما تردد مؤخرا – قبيل مباراة فريقي العراق والأردن- حول قوم لوط، هو لعب على نفس الوتر. لماذا يجري التأكيد على مجال القيم الخلقية منذ الاحتلال الامريكي؟.. في نفس الوقت، يظهر تساؤل حول مغزى تشجيع المظاهر الدينية وانتشارها في ظل الغزو، بينما تتزايد معاناة الناس من نقص الخدمات وانعدام الأمن وتزايد مظاهر الجريمة والفساد والشعوذة وانتشار الخرافات، مما يرفع معدل التناقض في المشهد الاجتماعي السياسي للعراق. زيادة التناقضات ودفعها إلى أقصاها، هي وسيلة بالمنظور الاجتماعي السياسي، لتدمير التوازنات الأساسية للشخصية الاجتماعية والفكرية، ليسهل اختراقها والسيطرة عليها.

ـــــــــــــــــــــــ
• يذكر العنوان بكتاب الدكتور أبي الحسن بني صدر (النفط والسيطرة)، والذي يتوافق مع مفهوم الهيمنة الدولية أو الاستعمار.
ادعى جورج دبليو بوش أن اتخاذه قرار غزو العراق كان بأمر من الروح القدس. ويرى دامون لنكر.. "أننا نعيش مرحلة نهضة دينية".. في ضوء قراءته للسياسة الأمريكية وذلك في كتابه: The Theocons: Secular America Under Siege (2006)- [A Theocon conspiracy has so successfully captured Washington that US has become a de facto theocracy- as one might say: the home of faith-based politics, faith-based science,.. faith-based foreign policy and faith-based attacks on civil liberties.], See: A. C. grayling, AGAINST ALL GODS, Pub. Oberton Books- 2007, London.


الدين.. والتبعية..
"الدين هو رأي من لا رأي له!".
"كلّ ما زاد عن حدّه، انقلب إلى ضدّه!".
"هل يوجد الدين بلا عبودية؟"..
بالنسبة للذين يرجع تكوينهم الثقافي لما قبل العصر الأمريكي، ترتبط صورة الدين بالتقوى والورع والنزاهة والصدق، وسواها من القيم الخلقية اللامادية. لكن مفهوم الدين اليوم يختلف تماما، بل يتناقض مع مفهوم الدين السابق. هذا المفهوم هو جزء من ثقافة العصر المادية الاستهلاكية غير المنتجة، واقتصاد السوق التجاري المفتوح في كافة الاتجاهات. وبالنتيجة.. انتهى الورع والصدق والتعفف الديني في ظل الانغماس الرائج في مستنقع الماديات والنزعة الاستهلاكيةوالتنافس في الثراء ومظاهر البهرجة وحب الظهور.
قبل التغير العصري، لم يكن الدين مهنة أو عنوانا وظيفيا، بقدر ما كان خدمة طوعية أو أدبية يقوم بها من له الرغبة والمقدرة. الأمر الذي حفظ للدين ورجل الدين درجة من التقدير الاجتماعي والمكانة الخاصة. يومها كان الناس يقصدون رجل الدين عند اقتضاء حاجات معينة، قد لا تكون دينية تحديدا. لكن التغيرات الكبيرة في أنماط المعيشة والمفاهيم، استتبع تغيرا جذريا في كثير من مجالات الحياة والقيم الثقافية، ومن ضمنها الدين. ولعلّ من أسوأ تلك التغيرات، هو وقوع الدين –فكرا ونظاما- في تبعية السياسة والاقتصاد [الهيمنة ونظام السوق].
يعتبر مؤرخو المسيحية أن ارتباط المسيحية بالدولة في أواخر حكم الامبراطور قسطنطين ( 323م)، أسوأ التحديات التي انعكست سلبا على المسيحية. وكان تدخل القيصر في أمور الدين سببا رئيسا في شق الكنيسة إلى شرقية وغربية (451م). ثم استمرار انشقاق كلّ منها على نفسها. ولعلّ من الدروس الأثيرة التي لا تحظى باهتمام أحد، الآثار السلبية على انتشار المسيحية (الاسمية) وتوسعها الجغرافي. وتشكل الحروب الصليبية ذروة الكوارث المترتبة على فكرة امبراطورية الدين ودين الدولة؛ والتي كانت عتبة رئيسة لأكبر انشقاق كنسي في القرن الخامس عشر على يد مارتن لوثر.
لكن عدم ادراك الآثار الحقيقية السلبية دفع الأمور باتجاه تكرار الظاهرة الرومانية، في صورة [الدولة الاسلامية] بمشروع امبراطوري توسعي تحدى نفوذ الامبراطورية الرومانية وسعى لاقتصاص أراضيها من الأطراف الشرقية الجنوبية. فلا غرو.. أن تقع الدولة الجديدة في نفس أخطاء الدولة الرومانية وتتجاوزها، إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الامبراطورية الرومانية لم تكن شوفونية عنصرية، ولم تتدخل في خصوصيات الشعوب الخاضعة أو المرتبطة بها، وفي حالات معينة، تركت لهم نوعا من الحكم الذاتي أو شبه الاستقلال.
ان من مساوئ الدين السياسي الرسمي، هو الاغراء الذي يجتذب البعض لتسلق عربة الدين في سبيل الارتزاق واستسهال نمطية المعيشة والوجاهة المجانية في المجتمع.
من الآثار السلبية لتاريخ الاسلام السياسي، هو جملة الاشكالات الكارثية الأقرب لاستحالة الحل، التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط وفي المقدمة منها التمذهب الطائفي، وآثاره الاجتماعية السيئة.
يصف المؤرخون حرب داحس والغبراء باعتبارها أطول حرب في (أيام العرب) وكانت مدتها خمسين عاما. ولكن الصراع الشيعي- السني في الاسلام، هو أطول صراع من نوعه في العالم. ان معظم مصائبنا ذات طابع ديني، وكلّ ذلك من آثار الدولة العربية الاسلامية، أو الاسلام السياسي بعبارة أخرى. لقد كان لهذه البلدان [شمال أفريقيا وشرق المتوسط] أن تواجه مصيرها بحسب ظروفها وخصوصياتها لولا أنها وقعت تحت طائلة حسابات غير مدروسة وغير قابلة للحلّ اليسير.
لقد يبدو أن هدف الاسلام – حركة سياسية اقتصادية - توحيد القبائل العربية في الجزيرة تحت زعامة قريش. ولكن هذا الاسلام السياسي، نفسه، سرعان ما شقّ قريش نفسها، كما شقّ الاسلام نفسه، إلى شقين، خندقين، اسلامين. وإذا كانت القبائل العربية، البدوية، قادرة على الاجتماع في أسواق التجارة مثل عكاظ، والاتحاد في أطر (أحلاف قبلية/ قبائلية)، فأن شقي قريش والاسلام، ما زالا عصيين على أي اجتماع أو تحالف، بقدر ترشح المستقبل عن صراعات أكبر، وأخطر.
ويلحظ أن معظم الدول والدويلات والامارات التي ظهرت منذ ظهور الاسلام حملت طابعا دينيا طائفيا أو مذهبيا. بل أن صراع المذاهب كان سببا رئيسا للاضطهاد السياسي الديني أو عدم الاستقرار الذي قلب الدول على نفسها، مثل الدول الدينية في شمال أفريقيا.
ومن أمثلة تدخل الدولة في الدين/ تدخل الدولة الدينية في حياة الناس، انشاء مدارس دينية كالأزهر من آثار حكم الفاطميين لمصر، وأثره في تسييس الدين في مصر. فغالبية رجال الدين وشيوخ مصر من خريجي تلك المدرسة الجامعة. ورغم الأثر الثقافي لتلك المدرسة، والمرتبطة بسياسات دولة محمد علي العصرية، فأن اتجاهات الجمود والانغلاق كانت ردّ فعل على الانفتاح العصري، مدفوعة بأسباب سياسية أكثر منها دينية أو ثقافية. ان مصير اصلاحات دولة محمد علي [1769- 1848 ] في مصر، لم يختلف عن مصير اصلاحات السلطان العثماني أحمد الثالث [1673- 1736]، في زيادة التزمت الديني انتهاء بسقوط الامبراطورية العثمانية. وقد سقطت دولة محمد علي فعلا على أيدي العسكر، وسقطت دولة العسكر وما زال التزمت والمبالغة في التدين ديدن مجتمعات الشرق الشرق، إلى جانب مزيد من التبعية والعجز والضياع.
فوجود الدين كمؤسسة دولة رسمية، أفرز عبر التاريخ طبقة عريضة من حاشية الارتزاق الديني، لا تقل خطورة عن حاشية الارتزاق السياسي والرسمي. واذا أخذنا بنظر الاعتبار عمر الدولة الدينية، وأفترضنا نسبة معينة للحاشية المرتزقة لكل سنة، سيظهر رقم مهول لملايين المرتزقة والتنابلة على مدى تاريخ العرب.
ثلاثة عقود من حكم مبارك في مصر أنتجت عند مناوئيه مصطلح [الفلول] لتصفية غير الموالين في العملية السياسية الجديدة، كما شاع في العراق تعبير [البعثيين أو أذناب النظام السابق]، ولكن الجماعات الدينية التي تستخدم الدوغما لتسويق لغتها التصفوية، لا تختلف عن الأنظمة السابقة لها، وقد نجحت في انتاج طبقات شعبية [ذيلية] ذات تنظيم تراتبي بحسب الأعطيات ونظام الغنائم الوظيفية، تعتاش على دماء الناس واستغلالهم.
*
في السبعينيات أنشأت الحكومة العراقية فروعا للدراسة الدينية تحت عنوان (الشريعة) ملحقة بكليات التربية المختصة بتخريج كادر تدريسي. وقد تم توظيف بعض خريجي الشريعة لادارة المساجد المرتبطة بالدولة. بتلك الطريقة، ساهمت الدولة (العلمانية) بتوفير كادر أكاديمي ديني، آخذ بالاتساع والزيادة الدورية السنوية، وبشكل تعجز فرص العمل المتاحة في التدريس والمساجد، عن استيعابهم. ومع اضطراب عوامل الاستقرار في البلاد منذ الثمانينيات، كان لأولئك الخريجين دور في دفع حركة المد الديني السياسي إلى أقصاه في البلاد.
فالتوسع الديني -أكادميا- إضافة لظروف الحروب والكارثة، انعكس سلبا على العامل الثقافي العلماني أو المنفتح في العراق، وبالشكل الذي انعكس على ملامح الهوية الوطنية العراقية، أو بورتريه الشخصية العراقية، فوسمها بملامح غير أصيلة، لم تكن كذلك قبل عقود قليلة. فقد كان للنظام السابق، اضافة للتغيرات الاقليمية والدولية، دور في خدمة حركة المدّ الديني التي تستغرق مجتمعاتنا. بل ان اصطباغه الديني – بعد الغزو- عزله عن مضمونه العلماني العصري، وجعله يلتصق بالعربة من الخلف، متناسيا تصريحاته القديمة في ربط الجماعات الدينية بالخارج، واليمين العالمي.
حركة المدّ الديني لم تقتصر على الجانب الاسلامي، انما تعدّتها للجماعات الدينية الأخرى، كالمسيحية التي تشكل الديانة الثانية في بلادنا. معاهد الدراسة المسيحية محدودة قياسا للمعاهد والكليات الأخرى. ورغم تطور ملحوظ في تلك الفترة، فأن تأثيراتها تبقى نسبية، لمحدودية نسبتهم لحجم السكان. وتعتبر مصر الدولة الأولى عربيا في عدد الكليات المسيحية ونسبة الخريجين، وذلك على تعدد الطوائف الدينية فيها. كما تساهم مصر بالحصة الرئيسة - على صعيد العالم- في تجهيز المؤسسات والبرامج الدينية بالكوادر البشرية، سواء من المسلمين أو المسيحيين. وتمثل مصر - مصدر- الموارد البشرية الرئيسة، ليس لسوق العمل العربية والعالمية، وانما، بدرجة أشد، في سوق العمل الديني وبرامج التبشير والدعوتية العالمية.
*
فالدين.. بدأ ممارسة فردية أخلاقية روحية، يجتهد فيها المرء حسب قدراته، سرعان ما تحول إلى مؤسسة اجتماعية ثقافية دوغمائية، تجاوزت دوافعها الأولية إلى غايات شمولية ذات أساليب تنافسية ووسائل ميكيافيللية لا تتورع عن انتهاك حقوق الأفراد وحرياتهم واضطهادهم، لتحويل المجتمع الانساني إلى مجتمع قطيعي، يسهل سوقه وابتزازه لخدمة حفنة اقطاعية تتربع على قمته، وتحصد ريع أتعاب الآخرين. بعد مقولة نيتشه، تظهر مقولة كريلنغ (لقد مات الدين)، وهو يتحدى ضمن واقعه المسيحي أن يطبق رجال الدين النصوص التي يعظون بها، لكنهم يعظون بها لمجرد التسويق والاستهلاك، لتثبيت مواقعهم.
موت الدين هو انفصاله عن مضامينه الخلقية الانسانية، ولهاثه الأعمى وراء المال والسلطة والسيطرة، ومن أجل ذلك، لا بدّ من استخدام الناس لدفع العربة!.



الدين.. والتجارة..
"كلّ شيء يبدأ حاجة، ثم ينقلب إلى متعة، تنقلب إلى استغلال ومصلحة!".
لماذا "لا يطبق رجل الدين على نفسه، النصوص التي يفرضها على سواه"؟.. (كريلنغ)
كيف يوفق رجل الدين بين دعوة الأتباع للزهد والكفاف، وبين انغماسه في الجشع والثروة والاكتناز*؟..
..
في أي جانب يمكن ترصيد العمل الديني، في جانب العمل، أم جانب الدين؟؟!!!..
ان عمال المصانع والمزارع والمخابز والتنظيفات لا يعانون من اشكالية ما في حياتهم، فهم يقومون بالعمل لتأمين احتياجاتهم المعيشية والحياتية، دون حاجة للشعور بتناقض مع أنفسهم. أما رجال الدين، فهم يقدمون أنفسهم للمجتمع كممثلين للدين، بكل ما يقتضي لذلك من علم وورع وتقوى، ولكنهم مع أنفسهم يمارسون عملا ينتظرون من ورائه الحصول على مقابل مادي!. ان كثيرين يعتبرون هذا أمرا مشروعا. وهو أمر لا بأس به، إذا كان في إطاره الاخلاقي، أي الالتزام الوظيفي. أما كونه من مستلزمات العيش فيترتب عليه أمران..
- التمثيل والنفاق الاجتماعي، أي التظاهر بالدين، ومراءاة المجتمع.
- عدم الاكتفاء بالمرتب المقرر له من هيئة المساجد أو الكنيسة، وانما السطو على مبالغ أخرى تحت يده من باب الاعانات والعشور والخمس والتبرعات، ناهيك عن مكافآت جانبية أثناء زياراته وعلاقاته الخارجية.
أن مجال العمل الديني، بما يمنحه من فرص استغلال وتداخل في حياة الناس وظروفهم، يتيح لرجل الدين ممارسة وسائل مختلفة للابتزاز والاستغلال. وفي هذه الحال يتساوى موظف الدين ومدعيه مع صورة الموظف الفاسد. قد يمكن فضح الموظف أو الدعوى عليه لدي المسؤولين أو الجهات القضائية، بينما يتمتع رجل الدين بحصانة دينية، كما أن وصية المسيح (لا تدينوا..) تجعل كثيرين يقلعون عن الشكوى. وعلى العموم، يمكن لكل شخص، ملاحظة المستوى المادي والمعيشي، لأكثر العاملين في سوق الدين الرائجة هذه الايام ويسأل كيف كان شأنه قبل توظفه. فللوعظ سعر، وللمحاضرة سعر، والخطبة أو البرنامج التلفزي سعر، وللمقابلة التلفزية مكافأة، كما أن الأسعار والأجور والمكافآت تختلف من واعظ لآخر حسب التصنيف والشهرة. وبشكل يقدم عامل اغراء وتشجيع، لكثيرين لاختراق مجال البزنس الديني، سواء في مجال الوعظ أو الموسيقى والترانيم، في المؤسسات الدينية، أو الاعلامية أو المنظمات التبشيرية، الغربية أم الشرقية.
هل هناك صحيفة أو مجلة ليس فيها اليوم صفحة دينية أو أكثر؟..
هل هناك قناة تلفزة ليس فيها أكثر من برنامج ديني، وعظي أو استشاري أو دعوتي أو تعليمي، ناهيك عن الدين السياسي الذي يحرث الأخبار والتعليقات والتجمعات الشعبية، بما فيها ثورات الربيع العربي التي انطلقت غالبيتها من جمع الجوامع؟..
هل هناك منظمة مجتمع مدني أو مؤسسة اجتماعية أو ثقافية جامعة ومعهد علمي أكادمي لا يستضيف شخصية في مناسبة دينية، أو يعقد ندوة أو مؤتمر عن جانب من جوانب الدين السياسي أو التعريف بالفكر الديني أو الاحتفال بمناسبة معينة؟..
كم هو عدد الجامعات الدينية في كل بلد، أو عدد الكليات والمعاهد الدينية؟..
هل هناك حارة أو شارع أو حي من غير مسجد أو كنيسة أو مركز ديني؟..
ماذا عن دور النشر والطبع الدينية في كل بلد؟..
كم هو عدد المراكز الدينية والمؤسسات ذات العلاقة التي تم انشاؤها منذ السبعينيات في بلدان ذات أنظمة علمانية منذ السبعينيات؟..
ما هو حجم الطاقم اللازم لكل واحدة من تلك المجالات، وكم هو حجم الدخل المتحقق لكل منها؟..
هذه النسبة المتزايدة من حجم الدخل الموجهة للنشاط الديني بمختلف أوجهه، منذ سنوات السبعين حتى اليوم، سوف تعطي بيانات واضحة عن دور الحكومات والبلدان والمنظمات والمؤسسات الثقافية والأفراد في لعبة الارتداد الفكري وصدمة الوعي الثقافي، وبالشكل الذي أوصل مناسيب الحياة في مجمعات الشرق الأوسط للضحالة الراهنة.
في القطاع الثقافي حدث التحول منذ السبعينيات أيضا. بعض مؤرخي القومية العربية كانوا يعولون على نكسة حزيران التي أيقظت الضمير القومي من خدر الشعر على صخرة الواقع.. أقول الان، لا..، أنها أموال التجارة السلفية التي طمست الضمائر للاستغراق في أرصدة المنفعة الشخصية على حساب التجارة القومية والوطنية. ثمة عقد سري سرى بين دور النشر العربية، جعلها تتخذ موقفا مناوئا من نشر الشعر والأدب عموما. ويومها اعتقد البعض – لحسن النية- أن المسألة تتعلق بموقف من الشعر الحديث والأدب الحديث. بالمقابل كان ثمة طلب متزايد من قبل دور النشر نفسها على الكتب التاريخية والتراثية ذات المضمون الديني. ويستطيع القارئ الجادّ والباحث استقراء عدد الكتاب والأكادميين الجدد الذين اتخذوا هذا الاتجاه في التأليف والكتابة، وتصفيط الكتب المزوقة.
في السبعينيات أصدر صدام حسين كتاب (البعث والتراث) وصدرت كتب ودراسات وأبحاث متواصلة في جوانب التراث العربي.. وزاد ظهور الرموز التراثية في الشعر الحديث منها مجموعة عبد الرزاق عبد الواحد عن الحرّ الرّياحي، ومسرحيات شعرية تتناول مأساة الحسين ومنها مسرحيات قاسم محمد ومحي الدين زنكنة وسواهم مما يحاكي التراث ويوظف رموزه أو نصوصه بعناوين معاصرة.
على الصعيد الثقافي بدا وكأن الروح القومية تنهض من جديد في رداء عصري متقدم. حتى المتنبي وأبو نؤاس وابن عربي وابن سبعين وابن الفارض تحولوا إلى موضوعات عصرية حاضرة. وعندما بدأت حرب الثمانينيات، لم يخطر لأحد، بأن كلّ ما سبق، كان مجرد تمهيد أو مدخل بسبط للمسرحية الحقيقية، التي حارب فيها العراق بالنيابة عن جاراته الجنوبية، مقابل أجر معلوم، وانها لم تكن حربا وطنية ولا قومية، ولكن طائفية مقيتة بكل معنى الكلمة. ربما لذلك طالت دمار الحرب مناطق الجنوب ومدنه، وفي صدارتها البصرة وميسان. وأن سبب الحرب الثانية هو الانتقام لفشل أغراض الحرب الأولى.
لمناسبة الحرب الثانية، يمكن التساؤل عن مصلحة الطرف الأميركي، في صراع اقليمي ديني طائفي، وهو نفس الطرف الذي أعلن على لسان مس أبريل عدم (تدخله) في خلافات عربية داخلية. خدم الأميركان مع السعودية في حرب 1991، وعادوا خدموا مع ايران في غزو العراق 2003. وفيها أعلنوا العراق – بعد الغاء الدولة والجيش والحدود- منطقة حرّة للصراع السلفي السّني الشيعي، وما يزال العراق كربلاء متصلة، يتفاهم فيها طرفا السلفية على حساب الدم العراقي والحياة المستقلة.
*
الكاتب المصري، الصحفي والروائي جمال الغيطاني هو صاحب القول" أن الوهابية أخطر من اسرائيل". والوهابية استهدفت مصر منذ وقت مبكر، واخترقتها في وقت مبكر. فمصر محمد علي هي أول دولة هزمت الوهابية واحتلت الدرعية ومسحتها قوات ابراهيم باشا عام 1820م. لكن الوهابية والسعودية لم تشعر بالامتنان لمصر، إذ سحبت قواتها ولم تحتفظ بشبه الجزيرة ضمن أملاكها يومذاك، بل عادت مدفوعة بشهوة الانتقام والسيطرة؛ ليس ضد مصر، وانما كلّ الدولة المحيطة بها. وبحسب دراسة المؤرخة السعودية نورة الشملان، ترافقت الفورة النفطية مع ظروف السبعينيات، لدفع المدّ السلفي نحو الخارج. بدء بعبيد الله المؤمنين، سادات مصر وصدام العراق، وليس انتهاء بسوريا وباكستان، والمغرب العربي.
خلال الأزمة السورية الماضية، صدرت تصريحات سعودية رسمية تطالب باسقاط النظام السوري، وقامت بتعبئة الموقف العربي الرسمي ضد سوريا في جامعة الدول العربية. ترى.. تحت أي عنوان جاءت التصريحات السعودية المنافية للقانون الدولي والمواثيق الدولية بضمنها ميثاق الجامعة العربية؟..
هل هو التعبير السعودي الخليجي عن التضامن مع الشعب السوري؟.. لماذا لم يتضامنوا مع الشعب البحريني إذن؟.. لما استخدمت جيشها ضد الشعب البحريني، وتقدم الدعم المالي والعسكري لمحاربة النظام السوري؟.. كلّ هذا منافٍ للقوانين الدولية والمنظمات الاقليمية، إذا كان للحقوقيين العرب جرأة في هذا المكان. فالموضوع هنا ليس ضد سوريا، وانما ضد علاقة سوريا الاستراتيجية بايران. وهذا يرشح سوريا ساحة ثانية للصراع السلفي الطائفي السعودي الايراني، بعيدا عن المواجهة المباشرة. وستكون لبنان الساحة الثالثة لتلك المواجهة التدميرية، دون أن تتجرأ السعودية على مواجهة ايران جيشا بجيش. لسبب واحد.. لأن الجيش الايراني سيحتل شبه الجزيرة العربية خلال اسبوع فقط. ولن تجد (عقل) الخليج مكانا تلجأ إليه، لا مصر، ولا تونس. فهل يحسب حكام الخليج أن يضحي الأميركان بجنودهم لحماية (عروش خاوية) الحليف الايراني يستعيد دور الشاه القديم؟!!.
هذا الصراع السياسي الساخن، بين اليمين والشمال، ترجمته مئات المليارات منذ السبعينيات لليوم، لشراء حكام وحكومات، أحزاب وجماعات، أفراد وأقلام ومؤسسات، تحت غطاء الدين. ولا شكّ أن كثيرين استفادوا من سيلان المال في جيوبهم، مقابل ادعاءات دينية أو التظاهر بثياب وممارسات معينة.
وكما في الشرق الوسط، كانت السفارات السعودية والايرانية في أوربا، تتنافس في شراء الذمم والمرتزقة، لترويج سياساتها وأفكارها، مقابل اغراءات مالية. فالعلاقة بين الدين والمال، هي الوجه الثاني للحاجة للمال عند المستهلك. المستهلك ليس له اهتمام بالسلعة، بل بقيمتها المالية. بالثمن الذي يقبضه من الاتجار بها. والنزعة التجارية هي خاصة من خصائص الشخصية البدوية أو العربية اليوم. فالعربي ليس حرفيا أو منتجا، انما هو تاجر على مدى التاريخ. تاجر أو عبد لتاجر.
وفي النصوص الدينية الكتابية تتردد كلمة (تجارة) في العلاقة مع الايمان.. كما يظهر في النصوص القرآنية التالية..
"يا أيها الذين أمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم"/ الصف 10
"وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها وتركوك قائما، قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين"/ الجمعة 11
كما هي في النصوص الانجيلية..
"قال لباعة الحمام ارفعوا هذه من ههنا.. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة"/ يو 2: 16
"أما التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة"/ 1 تيموثي 6:6
"ومنازعات أناس فاسدي الذهن وعادمي الحق يحسبون التقوى تجارة."/ 1 تيموثي
ويذكر أن عبارة يوحنا الآنفة وردت لدى كلّ من متى ومرقس ولوقا باستخدام كلمة أخرى هي (لصوص) بدلا من (تجارة) ويمكن الاستدلال عليها عبر جملة من نصوص..
"وقال لهم مكتوب.. بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"/ (متى 21: 13)
وهو مشتق من نص أرميا النبي "هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم"./ (أر 7: 11).
"وكما يكمن لصوص لانسان ، كذلك زمرة الكهنة في الطريق يقتلون نحو شكيم. انهم قد صنعوا فاحشة."/ (هوشع 6: 9).
"جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص، ولكن الخراف لم تسمع لهم." / (يوحنا 10: 8).
والعلاقة بين التجارة واللص تذكر بموقف الاقتصاد الماركسي من الوسيط - التجاري- باعتباره متطفلا على كلّ من المنتج والمستهلك، سارقا للجهد المادي للأول والجهد المالي للثاني. وقد ترجمت الدولة الاشتراكية موقفها هذا بالموقف من الدين وتحجيم فئة رجال الدين.
*
ما هو العمل الديني بالمنظور الاقتصادي واقتصاد العمل؟..
هل للعمل الديني علاقة بالايمان؟!..
هل الايمان الديني له علاقة بالعمل؟!..
هل المقصود بالعمل هو العمل المادي الريعي العام أو الايمان التطبيقي الشخصي!..
هل الله يسكن في خيمة أم في قصر؟؟.. هل الربّ يتجول بين القارات في مهمات مكوكية، وينتقل بين الفضائيات المأجورة، لاستعراض ثيابه وغروره الشخصي؟؟!!..
لو كان موسى أو زرادشت أو المسيح أو يوحنا المعمدان أو ماني أو محمد بهاء الله في هذا العصر، هل كانوا يستخدمون التلفاز وشبكة النت لتبليغ رسلئلهم، وهل كانوا سيستخدمون الخطوط الجوية للانتشار بين القارات؟؟!!..
يقول كريلنغ متحديا مصداقية رجال الدين، هل هم يستخدمون الطاقة الكهربائية لانارة بيوتهم أو يعتمدون على حرارة ايمانهم والروح القدس. وأنا أرى أن وجود الدين مرتبط برأس المال، وبالفصل بينهما، يسقط الدين، مثل أي مشروع سياسي.
فالدين اليوم هو البزنس، ومن لم يكن مستفيدا فهو مستهلك وضحية، يتوسل السماء لتعويضه في الحياة الثانية. ولاثبات حسن النية، يقتضي تأكيد فصل الدين عن (المال). فالمال، رأسمال الدين، وهو رأس الشرور.
ـــــــــــــــــــــــ
• ورد عن سلمان الفارسي قوله: "بعثت إلى النصارى فقلت لهم، إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم.. ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟.. قالوا: الأسقف في الكنيسة. فجئته. فقلت له: اني قد رغبت في هذا الدين، فأحببت أن أكون معك، وأخدمك في كنيستك، فأتعلّم منك، وأصلّي معك، قال: ادخل، فدخلت معه. قال: وكان رجل سوء. يأمرهم بالصدقة، ويرغبّهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها، اكتنزه لنفسه. ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. قال: فأبغضته بغضا لما رأيته يصنع.."/ ص185- 186- سيرة ابن هشام- ج1- دار الحديث – القاهرة- ط2/ 1998.




الدين.. والاختلاف
في البدء.. اكتشف المرء نفسه..
عرف الانسان نفسه في صورة الجوع.. الخوف.. الألم..
كان نائما.. مغشيا عليه.. وصحى...
كان شخص آخر ما يزال نائما.. فاندهش منه.
خافه.. راقبه.. عن بعد..
فكّر أن يرفع صخرة ويحدفه بها..
لم يكن له علم بقصة قابيل وهابيل.. ولكنه تردد
تردد وانتظر.. وقعت عيناه على أصابعه.. ساعديه.. ساقيه..
وبلا وعي كانت أصابعه تتقلص.. تتقوس..
وسقط رأسه نحو الأسفل..
نظراته وقعت على أصابعه..
أ.. ص.. ب.. ع.. ههههههههه!..
عاد وراقب الأصابع النائمة على الأرض..
أ.. ص.. ب.. ع.. ههههههههههههههههههه!..
وبقيت عيناه تتنقلان بين الأرض وبين جسده..
وجد أن ذلك هو.. هو.. نفسه.. تحركت ساقاه بلا وعي هاربة من المكان..
اصطدم باللاشيء.. أوقفه الفراغ.. استدار جسده وعاد القهقرى للوراء..
وقف أمام ظله.. دنا منه.. لمس طرف أصبعه طرف اصبعه..
فتح أصابعه وأطبقها على أصابع كفه النائمة..
تفتحت عيناه.. والتقت نظراتهما.. وفي جسديهما سرى خيط دافئ من كهرباء الكون..
صار يقارن كلّ شيء في جسده.. بكلّ شيء في جسده..
انتصب الجسد الساجي.. وقف الأول.. فنهض الثاني..
ومضيا مثل ظلين.. ظل يتبع ظله..
لم يعد المرء وحيدا.. وجد له نظيرا وقرينا..
تراجع منسوب الخوف.. والألم صار نسبيا..
واستمرت الغريزة قلق الوجود..
*
الانسان الأول لم يعرف نفسه.. عرف نظيره..
راقبه بالشكل.. وعرف شكله..
وعلى الطين صار يرسم شكل أصابعه..
على الصخور حفر صورته.. وصور حيوانات..
كلّ من يراها يشعر بالألفة.
مثل عنوان صديق يدعوه..
يتبعون الصورة.. فتتكون الجماعة..
وكلما زاد العدد.. ظهر الاختلاف..
وتكونت مجموعات صغيرة داخل الجماعة الكبيرة..
وانفرد اثنان على حدة، واعتزل منهم أحد..
اللقاء الأول كان بداية الافتراق..
ومع اكتشاف الشبه.. بدأ الاختلاف..
من الواحد صار اثنان.. ومن الأثنين ثلاثة..
الرغبة تحولت إلى مزاج والمزاج تطبع.. والتطبع عادة.. والعادة صارت تقليد..
والتقليد أخذ صورة الثبات والثبات قانون ملزم..
ومع تعدد العادات والقوانين واختلاف الرغبات والأمزجة..
تعددت الجماعات واختلفت.. ومضى كل في سبيله..
ومع الاختلاف والنأي.. تعسّر التقارب..
دافع كلّ عن تقليده.. فوجد نفسه يواجه الآخر..
والتقليد اتسم بالقداسة.. ومن القداسة ولد الدين!..
وكان الدين نقطة اللارجعة!!..
*
من الدين بدأ الماوراء..
وجرى تجميد الزمن في نقظة..
وبدأ الدوران على النقظة!.
*
نقطة داخل الذات أم خارج الذات..
داخل الوجود أم خارج الوجود..
نقطة للمعية.. أم نقطة للتضادّ!..
نقطة في العقل.. أم من الغريزة..
نقطة من الروح.. أم في الجسد!..
*
يعتقد وليد مهدي أن الدين ليس طريقا للوصول إلى "الله"، وانما طريقة تنظيمية للمجتمع. ويرى مالوري ني ان الدين معطى ثقافي قومي، أم أنه نسيج من خيوط الخرافات والاساطير بحسب كريلنغ!.. وفي كلّ ذلك.. يبقى الدين نقطة في الماضي، لا تنفصل عن الزمان والمكان، أي السيرورة والصيرورة المستمرة!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
• وليد مهدي- مع الله في ملكوته/5- االحوار المتمدن- ع 3767- 23 يونيو 2012
• Malory Nye, Religion- The Basics, Pub. Routeleldge, 2003, London
• A C Grayling, Against All Gods,Obereton Books, 2007, London


الدين.. والاختيار
الأصل في الحقّ هو الاختيار..
والأصل في الاختيار هو الحريّة..
والأصل في الحريّة هو الاقتدار..
والأصل في الاقتدار هو الخير..
والأصل في الخير هو المحبة!..
عملية خلق الكون كانت ملء رغبة حرّة.. قرار حرّ.. والقرار الحرّ هو الاختيار..
والكائنات ليست مجردة من الحرية.. لأن لها خاصة الحركة.. ولماذا تبدو بعض الخلائق كأنها جامدة لا تتحرك.. فالوجود /(الكون) ليس مجرد معمل كبير تعمل آلاته بشكل متناسق لغرض انتاج سلعة أو مواد محددة سلفا.. واندراج الأجرام في نظام (ذبذبي) لا يعني أنها خاضعة للعبودية.. لأن العبودية هي (قتل) للمعنى.. ولا بدّ من تنزيه (الخالق) من العبودية (واللامعنى) لاحقاق حقّ ذاته!.
ان مدينة الحرية أرقى من مدينة العبودية!. وما لا يليق بالبشر، لا يجدر بالخالق.
ما من شخص سليم يرغب أن تكون زوجته (عبدة) وأطفاله (عبيدا) بين يديه!.
كيف يمكن اتهام السيد الأكبر بالعبودية إذن؟..
الاقطاعي أو التاجر يحتاج العبيد لحمايته وخدمته، وهذا من علامات ضعفه وانحطاطه. فلو كان قادرا على حماية نفسه، لما احتاج إلى الحراس. ولو كان مكتفيا بذاته، لما احتاج أن يعمل له الآخرون ما يعجز عنه. ولو كان واثقا من نفسه، متمتعا باحترام ذاته، لعامل الناس كما يريد أن يعاملوه. فتاجر العبيد والاقطاعي شخص غير سليم/ يعاني من تشوّهات نفسية وعقلية، فيعمى عن ادراك معنى انتمائه الانساني، وادراك قيمة الآخرين بالنسبة له، لأنه عاجز عن الحياة والوجود بدونهم.
والكائن الحرّ.. لا يحتاج أن يؤذي أو يعتدي على سواه في الظروف الطبيعية. أما سبب الأذى والعدوان الحاصل فهو الطمع والجشع. والطمع.. ليس الحاجة الماسة، وانما ما يزيد عن الحاجة، بغاية التراكم أو التسلط.
علينا أن نفكر في الأرض.. ونتأمل في الحياة والوجود.. وما لا نعقله/ نقبله لأنفسنا، [بعقولنا المحدودة].. لا يجوز نسبته للخالق الأعظم!.

الانسان تاج الخليقة.. سيّد الموجودات.. صنعه الصانع على صورته.. كمثاله.. على شبهه!..(تك 1: 27).. جعله حرّا.. لأنه هو (السيد) حرّ.. جعله مفكرا.. لأنه هو (السيد) يفكر.. جعله مقتدرا.. لأنه هو (السيد) مقتدر..
ليس السيد تاجر عبيد.. ولا يليق/ يجدر/ يجوز للمرء أن يكون تاجر عبيد.. لأنه أفضل له أن يأكل من تراب قدميه.. من أن يأكل لقمة مغمسة بدم سواه وكرامته!..
الشخص الذي يكرم سواه.. يكرم ذاته .. ويعمل على السمو بها فوق مستوى العادة..
والشخص الذي يهين سواه.. يحتقر ذاته.. وينتقم من نفسه في صورة الآخر..
يروى عن الكاتب اليوناني كازانتزاكي أنه طيلة حياته الزوجية كان يخاطب زوجته بالسيدة (فلانة).. وكان يحافظ على الخصوصيات ولم يخطئ مرة.. هل كان كازانتزاكيس متكلفا في حياته الزوجية.. أم كان يحقق ذاته.. ومثاله الانساني.. أي يتطابق مع ضميره الأعلى في حياته اليومية.. دون رياء أو انحطاط.. هذا الأمر ليس بالسهولة.. أنه ينسجم مع الشخصية الراسخة.. المحكمة.. الأصيلة.. الممتلئة فكريا وعاطفيا ونفسيا.. ولا تضعف أمام المادة أو الغريزة، وانما تسمو فوقها وتتعامل معها بسمو.. الضدّ منه هو الشخصيات الهشّة.. الضعيفة.. المشوّهة.. غير الممتلئة.. هذه تستسهل طرق الحياة وتبتذل الغاية والوسيلة.. وليس في نظرها قيمة عليا.. لأنها لا تدرك جوهر الأشياء وانما تسبح على السطح وتتعلق بالقشور!..
الانسان السليم يرفض أن يكون عبدا..
ومن لا يكون عبدا لا يستعبد غيره.. فالانسان مرآة الآخر..
عندما ترى طفلا.. تتذكر طفولتك.. وعندما ترى شيخا.. فكر في شيخوختك..
عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك..
لماذا تجعل سواك عبدا.. سواء للخدمة أم للمتاجرة..
[أن ما يؤسفني حقا.. أني في كلّ التواريخ والمصنفات التي اطلعت عليها وتعرضت لتاريخ العبيد والعبودية والمتاجرة بالبشر عبر التاريخ، لم أجد الكاتب أو المترجم، يذكر كلمة استنكار او احتجاج على فكرة الاستعباد!، "فكل ما فعلتموه بأحد هؤلاء، فقد فعلتموه بي"، يقول يسوع المسيح!].. فالتواطؤ، ليس أقل من اقتراف الفعل، لأنه (التواطؤ) هو نوم الضمير [أو انحطاطه] وهو حال الشرّير- عدوّ الانسان.
*
تمتلئ نصوص التوراة بإشارات تدل على العنجهية ونقص الوعي الانساني.. والمبالغة في تأكيد التراتبية وعدم المساواة بين البشر..ولكي نبقى في الموضوع، أركز على فكرة العبودية الذميمة..
"فقال: ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لأخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام. وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام. وليكن كنعان عبداً لهم."/ (تك 9: 25- 27).
تكررت دالة العبودية أربعة مرات في سطرين!.. كيف يكون الأخ عبدا لأخيه.. وكيف يمكن تمييز الأخوة داخل العائلة إلى سادة وعبيد. وكيف ارتضى الأب (نوح) مثل هذا الأمر!.. مثل هذا التعليم ينسف الفكر التربوي والانساني، سيما ان الدول والمؤسسات وأغلبية البشر يزعمون الاعتراف بمواثيق حقوق الانسان.
لكن الأولى من هذا.. أن الخالق الأعظم لا يمكن أن يكون بمثل هذا الانفعال والفكر الهزيل.. فيسمح لمن جعله على صورته في (تك 1: 27) أن يتحول إلى عبد ملعون في (تك 9: 25).
وعندما يراد تكريم شخص اجتماعيا أو اسباغ مظاهر الجاه عليه يقال عنه.. "صار له غنم وبقر وحمير وعبيد واماء وأتن وجمال"!/ (تك 12: 16). هذا يتناسب مع بيئة زراعية رعوية (قبلية بدوية) تعتمد الحياة فيها على منتجات الماعز والبقر، ومواصلاتها تعتمد الحمير والجمال، ونزواتها تستغرق العبيد والاماء.
الرعي والبداوة مراحل بدائية في تاريخ تطور الحياة الاجتماعية، أو الفكر البشري. وقد توطن البدو في الغرب واحترفوا وتغيرت أنماط حياتهم وفكرهم، وصار لهم مجتمع حرفي ومدنية صناعية، كما تطورت الزراعة والمجتمع الزراعي، واستفاد من الثورة الصناعية والمجتمع المدني وثورة الكمبيوتر. صار الانسان أكثر قدرة على تنظيم أموره وحياته، ولم يعد يبلغ الليل بالنهار في دوامة الشغل والمشاغل. قسم يومه ساعات [ثمانٍ] متساوية بين النوم والعمل وقسما ثالثا للراحة والاجتماعيات وممارسة هواياته الخاصة.
وشمل نظام الضرائب كل مقتنيات الفرد، فلا يطمع في الملكية ولا يتباهى بالحيازة. كما أن قانون التأمين الاجتماعي والصحي يلزم الفرد الاهتمام بحياته وحياة الموجودين في مسؤوليته. وقد أصدرت المحاكم البريطانية حكما بوقف الاتجار بالعبيد عام 1808 ولكنها لم تمنع استخدام العبيد لأغراض غير المتاجرة.
لقد تعدّدت أغراض العبودية وأوجه استخدامها، بما فيها الأغراض الدينية ونشر الدين. وقد كانت بداية انتشار الاسلام بشراء العبيد وأسلمتهم، ولم يتم تحريرهم، لأنهم دخلوا في خدمة جديدة وعبودية جديدة [إضفاء غطاء ديني لا يلغي أصل الممارسة]. وكان ينبغي تنزيه الخالق من العبودية، وليس استمراء الخلط اللغوي بين [عبادة- عبودية]، لانتاج مجتمع من عبيد [الله]!. وقد استمر حكام مسلمون وتجار في دعم ظاهرة [ترقيق] البشر بغزوات عسكرية أو قرصنة أو تجارة والعمل على أسلمتهم والمتاجرة بهم*.
لكن عبودية الدين لا تقف عند الظاهرة التجارية والشوفونية، وانما تدخل في تسخير كلّ ما يمكن لأغراضها. ومنه تسخير العلاقات الاجتماعية والزوجية وتحويلها إلى معامل لدعم المؤسسة الدينية. ومنذ وقت مبكر مسخ الدين نظام العائلة والزواج لصالحه. وذلك عندما ألزم طرفي الزواج بوحدة الانتماء الديني، وعارض الزواج خارج الدين. وما يزال تسخير نظام الزواج ومبدأ الوراثة (الدينية) ضمن حالة قهرية لمصادرة حرية الفرد قبل أن يولد، حتى ما بعد الموت.
وبذلك جرى الاعتداء على أهم عنصر في سمات الوجود الانساني، إلا وهو الحرية. وكان من سخف الأنظمة المدنية أن تعتبر خانة (الدين) من العلامات الفارقة لتعريف الفرد وتمييزه. وعلى الرغم من تأكيد الميثاق الدولي للحقوق والحريات على اعتبار (الدين) أمرا شخصيا، فما تزال البيانات والوثائق الرسمية تتداول التمييز الديني وتستحثه، في عالم لا تنقصه الأزمات والاضطرابات الدينية.
اتركوا الاطفال يولدوا أحرارا..
"أطفالكم ليسوا لكم!.."*
اتركوا الناس يتعلموا معنى الاختيار والقرار الشخصي
لنعمل سوية من اجل استعادة الحرية.. من أجل الوجود* الحقيقي!.
*
ـــــــــــــــــــــــــــــ
• طريف سردست- دور العبيد في صعود وسقوط الأندلس- (ترجمة عن الكاتب الألماني فرانك ويستنفيلدر، مع أضافات من مصادر أخرى)- الحوار المتمدن ع 3766- 22 يونيو 2012.
• جبران خليل جبران
• (الشجاعة من أجل الوجود) عنوان كتاب لبول تيليش.


الدين.. والاختبار

الدين.. الديانة.. ليس خاصة جينية مطبوعة على أشرطة الكروموسوم كالصفات الفسلجية والخلايا المتخصصة وأمراضها العضوية المتوارثة. لكن الواقع هو الخطأ الشائع، باحتساب الديانة صفة وراثية جينية تنتقل مع خلايا الرحم للجنين. والمؤسف.. ان منظمات دولية تصدر احصاءات سكانية يتم فيها تصنيف المجتمعات وفق المعيار الديني، رغم أن (التمييز) الديني مخالف للمواثيق الدولية إسوة بالتمييز العرقي واللوني والجنسي. وما تزال دوائر الحكومات الأوربية المدنية* تشخص خانة الديانة وتصنفها حسب تصنيف البلد، فسكان البلاد العربية عموما يعتبرون مسلمين، دون مراعاة لحقوق الأقليات أو العلمانيين واللادينيين.
وبالتالي فثمة تواطؤ.. بين تقاليدنا الاجتماعية من جهة، وبين سياسات الاجانب في الدول الغربية. ويبقى السؤال الأهم.. عن أهمية الدين في حياة الفرد ودوره في التصنيف والتمييز الاجتماعي عن بقية البشر!.. فالفرد هو الذي يحدد قيم الأشياء المتعلقة به – ومنها الدين- ويتحكم بها، أو يجعلها تتحكم به.
ان كثيرا من البشر مؤشرين في البيانات الرسمية بحسسب ديانة الوالدين، أو الديانة الرسمية للبلد. لكن قليلين فقط من الناس من يعنى بالدين أو يلتزم بممارسة طقوسه. فليس كلّ مصنف على ديانة معينة ، فاهما وملمّا بها، وواعيا لممارستها والالتزام بها. وإذا عرف الخطوط الرئيسية العامة، فلن يلمّ بتشعباتها وانقساماتها التاريخية إلى مذاهب وطوائف، مع أبعادها السياسية. وإذا كان (الاله) ركنا أساسيا في كلّ دين، فكم من أدعياء الايمان والعبادة، يطبقون مبدأ (العبادة معرفة!). كيف يتعبد المرء لأله لا يعرفه ولا يفهمه. معرفة الاله هي ما يعرف باللاهوت أو -علم- الكلام، وهي من فروع الفلسفة. فكم من المتعبدين أو المتدينين درسوا الفلسفة والالهيات وتاريخ الأديان ونقدها وعلومها المقارنة، لكي يكونوا واعين وفاهمين ومسؤولين عن أنفسهم وقناعاتهم الدينية.
هذا افتراض صعب. ولكن لو كان واقع الحال كذلك، لما بلغ الدين هذه المستويات المزرية، ولما تحول أتباع الدين إلى عكس الصورة الافتراضية لادعاءات نصوصهم الدينية، ولما امتلأ العالم بالشرور وحبّ الشهوات وصراع الأنانيات، وانحطاط القيم وسيادة الرياء والمراءين على كل صعيد.
على المدافعين عن دياناتهم، إذا كانوا عقلانيين، أن ينتبهوا إلى نقاط النقد الموجهة للدين، للاستفادة منها في معالجة الأخطاء والانحرافات المتراكمة عبر التاريخ، كما افاد الفكر المسيحي الغربي من الانتقادات والدراسات العلمانية للدين. وسوف يشعر هؤلاء بالامتنان لنقادهم، لتنبيههم ومساعدتهم في تشخيص الأخطاء لتجاوزها، وليس للالتصاق بها والدفاع عنها واتهام النقاد والمخالفين والاساءة اليهم.
من هنا تظهر القيمة المركزية للاختبار الديني. هذا الاختبار ليس امتحانا مدرسيا أو تمرينا رياضيا، ولكنه الحياة الحقيقية لتفاصيل الدين- العقيدة- الايمان- الشريعة، تطبيقا حقيقيا شاملا، وليس انتقائيا مزاجيا ابتداعيا. وعلى مدى نجاح المؤمن في اختباره الايماني وما يحصده من نتائج، يمكن اعتباره مندائيا- يهوديا- مجوسيا- بوذيا- هندوسيا- مسيحيا- مانويا- مسلما- شيعيا- بهائيا- ماركسيا، أم (لا)!.
بدون معرفة التابع لدينه واختياره واختباره الشخصي، تبقى علاقته بدينه أو مذهبه محض ادعاء ورياء أو ارتزاق.. وهذا حال الأغلبية.. لذلك انقلبت المفاهيم والوقائع والبشر -اليوم- على رؤوسها. وبدل انتظار الخير والصلاح، صار المرء يتوجس من الشر والفساد، ليس بأيدي التجار والسياسيين والمجرمين، ولكن من جميع هؤلاء بضمنهم رجال الدين الدنيويين اللصوص وأتباعهم الذين وصفهم يسوع المسيح (بالمراءين والفريسيين) ووصفهم صدر الاسلام (بالمنافقين) و (يقولون ما لا يفعلون)، وفي وصايا المسيح (اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم)*، إدانة لتنابلة الدين لو كانوا يفقهون!.
*
تمثل فكرة الاختبار الشخصي واحدة من ثمار الاصلاح البروتستانتي الراديكالي الألماني في القرن السادس عشر على يد ثلاثة من أبرز قادتها: اندرياس بودينشتاين فون كارلشتات (1477- 1541)، توماس مونتزر (1490- 1525) و ملكيور هوفمان (1495- 1543) الذين عارضوا الكاثوليك واللوثرية في مسائل العشاء الرباني والرتب الكهنوتية ومعمودية الأطفال [Anabaptists].
رفض معمودية الأطفال وعدم الاقرار بها، استند إلى التقليد الجاري عند الكاثوليك والأرثوذكس حيث يقوم الوالدان بتعميد المولود وهو طفل، لا يفهم ولا يعي ما يجري له، مما يتناقض مع النص الكتابي "من آمن واعتمد!"/ (مرقس 16: 16، أع 18: 8). فالايمان مسألة ذاتية واعية، تقتضي أن يكون المرء في مستوى من الفهم والادراك لتقرير الاعتماد على نفسه. أنه نوع من اتفاق أو معاهدة أو عهد بين المرء وربّه. وعندما كان يوحنا المعمدان يعمد في نهر الأردن، كان الذين يقدمون إليه أشخاصا بالغين، وكذلك كان يسوع حين اعتمد منه وهو في قرابة الثلاثين من العمر، وهي سن النضوج الروحي عند العبرانيين.
وفي أثر هذه الحركة بدأ الناس يعتمدون وهم كبار، مقرين ببطلان معمودية الصغار، مما أثار سخط الكنيسة الكاثوليكية، "وكردّة فعل أصدرت سلطات مدينة زيورخ سنة (1525) قرارا يقضي بالتأكد من أن جميع الأطفال قد تعمّدوا"*. كما "أصدر مجلس مدينة زيورخ قرارا أصبح بموجبه تعميد الكبار جرما يعاقب عليه القانون، ولما استمر جماعة الأنابابتست في ممارستهم معمودية الكبار، ألقي القبض على الكثير منهم، وبينهم بعض القادة، ونفّذ فيهم حكم الاعدام غرقا".* وقد استمرت آثار حركة الانابابتست – تعني معمودية الكبار- وانتشرت في أوربا وانتقلت إلى جزر بريطانيا والولايات المتحدة، وهي اليوم جزء من العقيدة الانجيلية التي أخذت بأفكار حركة الاصلاح في كثير منها. ويذكر أن عملية المعمودية ليست مقصودة بذاتها، كمجرد عملية تغطيس في الماء، أو طقس لتأكيد الطهارة كما عند المندائيين، أو لاعلان التوبة عند العبرانيين، وانما لتأكيد الولادة الثانية/(يوحنا 3: 3-7)*. و(الولادة الثانية) بالاصطلاح اللاهوتي هي دالة تعهّد الشخص ببدء نهج حياة جديدة بحسب (كلمة المسيح) وعدم العودة لممارسات الحياة السابقة. وقد استخدم بولس الرسول اصطلاحي (الانسان العتيق) و(الانسان الجديد) للتمييز بين المرحلتين [الماقبل –و- المابعد]. ولارتباط العماد بالتغطيس في الماء جرى وصف التعميد المسيحي [بمعمودية الروح القدس]/ (لوقا 3: 16)*. فالحياة الجديدة بعد الولادة الثانية هي اختبار المرء لفعل الروح القدس في حياته اليومية. الاختبار صفة امتياز للانجيليين عن الكاثوليك والكنائس الطقسية. والمسيحي المختبر ليس مجرد مسيحي اسمي/ رسمي بحسب الوراثة والبيانات الرسمية. ولكن .. هل كلّ من يتعمد وهو بالغ، يختبر الولادة الثانية، أو يستطيع الاستمرار في المحافظة عليها؟..
*
لقد وضع الاصلاح الراديكالي والأنابابتست المسيحية على محكّ الاختبار، لتمييز المسيحية الحقيقية عن المسيحية الاسمية المزيفة. ولكن.. كثيرين ما زالوا يتهربون من هذا الاختبار، بذرائع وادعاءات متعددة، وهم في واقع الأمر متخوفون من وضع ادعائهم (/انتسابهم) الديني على محكّ الاختبار. وهذا يشمل كلّ الأديان وأتباعها، عندها فقط سوف يتميز الصفيح المجوف من الوعاء الملآن.
وعندها يتأكد دور الشخص في اختيار عقيدته واختبارها فعليا، وليس محض تقليد اجتماعي جامد!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
• في دوائر المملكة المتحدة، أي استمارة رسمية تتضمن جدول التصنيف العرقي والديني، وعند عدم ملئها يتم مراوغة الفرد عبر سؤاله عن البلد المولود فيه، وحين يكون الشخص مولودا في بلد أوربي يتم سؤاله عن مسقط رأس والديه ومنه يتم تأشير قوميته وديانته!..
• "افعلوا كلّ ما يقولونه لكم واعملوا به، ولكن لا تعملوا مثل أعمالهم، لأنهم يقولون ولا يفعلون. يحزمون أحمالا ثقيلة شاقة الحمل، ويقونها على أكتاف الناس، ولكنهم لا يحرّكون اصبعا يعينهم على حملها. وهم لا يعملون عملا إلا ليشاهدهم الناس: يجعلون عصائبهم عريضة على جباههم وسواعدهم، ويطوّلون أطراف ثيابهم، ويحبّون مقاعد الشرف في الولائم ومكان الصدارة في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: يا معلم. أما أنتم فلا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلم. لأنكم كلّكم إخوة، ولكم معلم واحد. ولا تدعو أحدا على الأرض يا أبانا، لأنّ لكم أبا واحدا هو الأب السماويّ. ولا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا سيد!، لأنّ لكم سيّدا واحدا هو الربّ. وليكن أكبركم خادما لكم. فمن يرفع نفسه ينخفض، ومن يخفض نفسه، يرتفع!"/ (متى 23: 3- 12).
• د. عيسى دياب- مدخل إلى تاريخ الكنائس الانجيلية ولاهوتها- دار منهل الحياة/ بيروت- 2009.
• ن. م. – ص 94
• "الحقّ أقول لك، ما من أحد يمكنه أن يرى ملكوت السموات إلا إذا ولد ثانية. فقال نيقوديموس: كيف يولد الانسان وهو كبير في السن، أيقدر أن يدخل بطن امه ثانية ثم يولد؟. أجابه يسوع: الحقّ أقول لك، ما من أحد يمكنه أن يدخل الملكوت إلا إذا ولد من الماء والروح، لأنّ مولود الجسد جسد هو، ومولود الروح هو روح. لا تتعجب من قولي لك: يجب أن تولدوا ثانية!". /(يوحنا 3: 3-7).
• "أنا أعمّدكم بالماء، ويجيء الآن من هو أقوى مني،.. فيعمّدكم بالروح القدس والنار."/ (لوقا 3: 16).
• د. سامي فوزي- المسيحية المزيفة- نشر خاص/ 2011.. [ان المسيحية المنتشرة في كنائسنا والمسيطرة عليها هي مسيحية مزيفة، وهي خليط من عمل الشيطان وفساد الانسان. ومعظم مرتادي الكنائس هم مسيحيون مزيفون ويورثون للاجيال القادمة نوع مسيحيتهم]/ ص7

الدين.. والمحبة..

"إن كنت أتكلّمُ بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبّة، فقد صرتُ نحاسا يطنُّ، أو صنجاً يرنُّ. وإن كانت لي نبوّة، وأعلم جميع الأسرار وكلّ علم، وإن كان لي كلّ الايمان حتى أنقل الجبالَ، ولكن ليس لي محبّة، فلستُ شيئاً. وإن أطعمتُ كلّ أموالي، وإن سلّمت كلّ جسدي حتى أحترق، ولكن ليبس محبّة، فلا أنتفع شيئا. المحبّة تتأنّى وترفق. المحبّة لا تحسد. المحبّة لا تتفاخر ولا تنتفخ، ولا تقبّح ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحسد، ولا تظنّ السوء، ولا تفرح بالاثم، بل تفرح بالحقّ، وتحتمل كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وترجو كلّ شيء، وتصبرُ على كلّ شيء. المحبّة لا تسقط أبداً. وأما النبوات فستبطل، والأسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل... أما الآن، فيثبت الايمان والرجاء والمحبّة، ولكن أعظمهنّ المحبّة."/ (1كو 13: 1- 8، 13)
المحبة في اللغة تعبير عن شعور ايجابي (جيد/ مريح) ينشأ في داخل المرء، تجاه شيء/ شخص آخر (object). ورغم أن الحبّ في أصله هو شعور معنوي –غير مادي- فأن جوهر الحبّ وانعكاسه هو (مادي) بالضرورة. فغاية الحبّ قد تكون وردة أو شجرة أو جبلا أو نهرا أو شخصا أو كلبا؛ قد تكون ثوبا أو طعاما أو عربة أو مركزا وظيفيا أو اجتماعيا. يعتقد البعض أن الحبّ غريزة، وقد يبالغ البعض بالقول أن الحبّ حاجة. ان الغريزة هي نداء الحاجة، أما الحبّ فهو صفة انسانية تطورية، أكثر رقيا في مستواها، وأكثر سموا ورفعة في معناها، من المفهوم الدوني للغريزة، أو المفهوم المبتذل (السوقي) للحاجة. ان الحياة ليست مستحيلة بغير الحبّ، ولكنها تبقى غير ذات معنى.
وتمثل المحبة جانب الخير في قاموس الفضائل والقيم إلى جانب النور والرحمة والعطاء المجاني والعمل البناء.
فالحبّ إذن..
- صفة انسانية..
- سمة تطورية ترتبط بالحياة المشتركة والمدينية..
وفي نقطة بين الأثنين، ظهر الدين. فهو حسب تعريفه التراكمي التاريخي المتدرج، حاول استيعاب كلّ ما يتعلق بالانسان وحاجاته وظروفه الآنية في محاولة لتقنينها وإعادة انتاجها، من مبدأ الوصاية والتوجيه والتأويل الديني. ويعتبر الانجيل أهم مرجع للحبّ الروحي المتصوف، فيما تعتبر الفيدا الهندية (كماسوترا) المرجع الأول في مجال الحبّ المادي البشري على مدى التاريخ.
لكن الضرورة تستدعي التأكيد على علمانية الحبّ، ولبرالية الحبّ، ودمقراطية الحبّ، وعقلانية الحبّ، ومركزية الدور الانساني فيه، لكي لا تتم مصادرة الحبّ والمحبّة من قبل أيّما جهة، في محاولة لتفريغ الوجود البشري من أيما أهمية وامتياز وبراءة. والواقع أن الدين ليس الجهة الوحيدة المتهمة بمصادرة الحبّ وتدجينه. فهناك العلوم البحثية المجردة، وهناك السياسة والاقتصاد والمجتمع، وكلّ منها سعى ويسعى لتسخير [الحبّ] لأغراضه وبرامجه. وحين يتزايد اغتراب الكائن البشري عن نفسه وطبيعته وشروطه الأصلية، فما زالت السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا تمعن في تغريب حياة الانسان واستغراقها في مستنقعات الاستهلاك. فالجسد العاري والعاطفة الزائفة من أرخص وسائل الاعلان والتسلية واللذة. وما تزال شركات الاعلان والأدب التجاري يتماديان في ابتذال شخص المرأة، ممال يعتبر تسليعا ماديا وانتهاكا لوجودها الانساني وحقوقها القانونية. وانتشار صور عري الأنثى في اعلانات الشوارع والتلفزة وشبكة النت، يشكل تدميرا تربويا لنظرة الطفل للأنثى منذ بداية تكوينه الثقافي.
الحبّ احساس/ شعور بشري يصطلح عليه بالعاطفة المنسوبة إلى القلب، قد ينخفض بصاحبه ومقصوده، وقد يرتفع بهما. والأصل فيه الارتفاع والسمو والتعفف والعطاء والتضحية والاخلاص والالتزام والثبات والنبل. والأصل فيه التفاهم والانسجام وعدم تغييب العقل والتفكير الايجابي والعمل البناء، وعدم المبالغة في الأنانية، لينعكس ثمره على البيئة الاجتماعية والمادية. فالحبّ، وإن كان مضمونه شخصيا بين فرد وآخر، بين نقطتين، فأن إطاره التطبيقي العملي أوسع من الانحسار في شخص أو شيء محدد.
فليس من المنطق أن شخصا يحبّ شخصا معينا، ويكره سواه. شخص يتظاهر بالحبّ، ولكنه يقطع الزهور ويتلف الأشجار ويعتدي على الطبيعة. وفي سيرة الوجودي الكبير سرن كيركجارد، يضطر لفسخ خطوبته من شخص المرأة التي أحبها، لاعتقاده أن العلاقة (الترجمة) الجسدية لشعوره سوف تفسد حبّه أو تلحق أذى بالمحبوب. وفي تراثنا العربي يتخذ الحبّ (العذريّ) مكانة سامية ونكهة خاصة لا يبرد ضوعها.
قيمة الحبّ، والتي أشاد بها كبار رجالات التاريخ وفلاسفة البشرية تكمن في كونه (الحبّ) امتياز البشر في إضفاء معنى جديد للحياة ومستوى أكثر راقيا – مدنيا/ متحضرا- في التعامل مع الجسد من جهة ومع المحيط الذي يوجد فيه. ولا بدّ.. أن كلّ شيء في حياة الانسان ومتعلقاته، بل في كل الطبيعة، يختلف في المعنى والمعاملة/ الغاية والاسلوب، بوجود الحبّ (المحبّة)، من عدمه (1 كو 13). وقد تفردت المسيحية برفع (المحبة) إلى أسمى مرتبة حين ربطتها بالذات الالهية [الله محبّة!].
1 يو 3: 1
انظروا اية محبة اعطانا الآب حتى ندعى اولاد الله.من اجل هذا لا يعرفنا العالم لانه لا يعرفه.
1 يو 3: 16
بهذا قد عرفنا المحبة ان ذاك وضع نفسه لاجلنا فنحن ينبغي لنا ان نضع نفوسنا لاجل الاخوة.
1 يو 3: 17
واما من كان له معيشة العالم ونظر اخاه محتاجا واغلق احشاءه عنه فكيف تثبت محبة الله فيه.
1 يو 4: 7
ايها الاحباء لنحب بعضنا بعضا لان المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله.
1 يو 4: 8
ومن لا يحب لم يعرف الله لان الله محبة.
1 يو 4: 9
بهذا أظهرت محبة الله فينا ان الله قد ارسل ابنه الوحيد الى العالم لكي نحيا به.
1 يو 4: 10
في هذه هي المحبة ليس اننا نحن احببنا الله بل انه هو احبنا وارسل ابنه كفارة لخطايانا
1 يو 4: 16
ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي للّه فينا.الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه.

لكن .. إضافة لكلّ ما سبق.. تبقى للحبّ.. ذلك الشعور الحميميّ شديد الذاتية.. خصوصيته وحراجته.. معصوميته وحصانته الدبلوماسية.. بل منطقته الحرام التي لا يسمح لأحد الاقتراب منها أو لمسها. ويتجلى ذلك في العزلة والفردية والانطوائية التي يميل إليها العاشق أو المفتون بالحبّ. يترتب عليه اضفاء السرّيّة على مشاعره، وعدم افشائها لغير الشخص المعني أو المناسب. ويمكن القول أن الأسرار والوشاية والخذلان والعهد والخيانة هي جزء من قاموس الحبّ.
الحبّ بطبيعته الشعورية الحميمة، هو جزء من الشخصية وتكوين الذات. هذه الصفة الذاتية تجعل صاحبها ذي حساسية غير عادية في نظرته وعلاقته بالوجود. وارتباط الحبّ بعالم الشعور والأحاسيس يستحث طاقات وقدرات ذاتية داخل الشخص، تنعكس في مجالات ابداعية فنية أو ثقافية أو اجتماعية. وبالتدريج.. ينشئ الحبّ لنفسه عالما خاصا، تسمه لمسات وبصمات ذاتية وشخصية هي طابعه العام.
*
في ضوء هذه المؤشرات، يشكل أي تدخل خارجي في خصوصيات حالة الحبّ/عالم الحبّ نوعا من انتهكاك الخصوصيات، وحركة في الاتجاه المعاكس.
الدين.. الذي هو إطار يمثل عادات وتقاليد اجتماعية قبلية عامة، يتصادم مع حالة ذات طابع فردي نفسي خصوصي، شديد الحميمية.
علاقة الدين بالحبّ، استندت إلى تجريد مفهوم الحبّ من بعده الشعوري الفردي- كإحساس ينبع من الذات، إلى عاطفة دينية اجتماعية، أو عاطفة اجتماعية بايعاز (طابع) ديني. فالسؤال الذي يرد هنا باستغراب.. هل يحتاج المرء إلى وصية دينية أو أمر سماوي ليتعلم الحبّ أو يطبقه؟..
"أحبّ قريبك كنفسك"/ (متى 19: 19)
"احبّوا أعداءكم.باركوا لاعنيكم.احسنوا الى مبغضيكم. وصلّوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم."/ (متى 5: 44)
"أحبّ لغيرك كما تحبّ لنفسك."/ حديث مسلم
" تعال أنا وأنت نود أن نبني
نود أن نبني بهتاف خفي ، نبني الثمرة العجيبة
حتى نغرس الأثمار حتى نهيئ المساعدين"/ كنزا ربا.



الدين.. والبيئة..

البيئة هي واحدة من أكثر المفاهيم غيابا وجهالة في حياة العرب، والتي –لم يلحظ أحدهم- أن غيابها الفكري والثقافي شكل فداحة بائسة، انعكست في وجوه التشوه النفسي والثقافي والاجتماعي التي التبست الفرد العربي وسكان غرب آسيا عموما. ومن داخل هذا الغياب البيئي الثقافي والانساني ظهر ما دعي بالديانات التوحيدية [نظام الرأي الواحد والسائد]، وقد تجللت بالاسلام الذي انقضّ على ما سبقه ولحقه بضربة واحدة وعقلية راسخة عصيّة على الحوار.
تقوم ثقافة البيئة على مبدأ التوازن ما بين الداخل والخارج. فالانسان هو خالق الثقافة ومؤسس الأفكار الاجتماعية التي تؤثث جوانب الحياة في تفاصيلها الدقيقة والعامة. وعند الاطلاع على أحوال الجماعات البشرية وأخبارها، فأوّل ما يلفت الانتباه هو ملامح البيئة الثقافية [المادية والاجتماعية] الخاصة بهم. نلحظ مكانة الطبيعة النباتية، ومظاهر التمدن، وأشكال العمران في السكن والأبنية، ودرجة الأذواق في الثياب والأطعمة.
بين عمران أوربا وحدائقها، وبين منازل الصينيين وألوان ثيابهم، وبين مزارع الأميركان وأشكال قبعاتهم وبين رقصات الأفركان وطرز ثيابهم في ظلال الغابات الكثيفة وبين.. ثياب العرب البيضاء [للرجال] والسوداء [للنساء] وامتداد صحاراهم القاحلة وإبلهم الكئيبة.
ففي امتدادات الأسود والأبيض لا مكان للتلون والاختلاف والحيوية. ولذا اجتهدت المخيلة الشعرية (الشفاهية) عن إعادة انتاج الطبيعة الميتة في خطابها الثقافي..
وليل كموج البحر أرخى سدوله..
وأنك كالليل الذي هو مدركي..
وجعلنا لكم الليل سباتا..
ولكم في اختلاف الليل والنهار..
وهكذا تستشري سلطة الأسود.. الليل.. في العقلية العربية فتتجسد في اللغة والخيال والثياب.. ويلحظ ارتباط اللون الأحمر بالعنف والقتل واللحم والطعام والفروسية.. ولكن لا محل للورد والحديقة بينها. وهو لون أحمر قانٍ لا يعكره شيء.. وفي الشعر العربي أمثلة كثيرة لذلك.. أما اللون الأخضر.. رمز البيئة الزراعية فهو لون المستنقع الداكن.. [خضراء الدّمن].
هذا الجدب اللوني أصاب مخيلة الشاعر العربي بالتصحر الذوقي والفكري كما في يتيمة المتنبي.. وهو يصف الطبيعة في بلاد فارس المعروفين بثقافتهم البيئية وبيئتهم المثقفة..
مغاني الشعب طيب في المغاني.. بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها.. غريب الوجه واليد واللسان..
فسرعان ما انصرف عن أنواع الزهور وألوانها وهندسة السواقي ونافورات المياه المتداعية بأشكال وسرع متفاوتة، إلى أنانية الفرد البدوي وغربته عن تلك البلاد والطبيعة.. وذلك في ترجمة عفوية لعدم قبوله بالمختلف والمتلون. يذكر في هذا المجال تصنيف النقد العربي للبحتري أنه شاعر الطبيعة.. تمييزا عن عامة الشعر الغارق في الأسود والأبيض وذاكرة السيف والقبيلة.
يعبر توينبي عن النشاط الانساني بمصطلح (تكنولوجيا).. ولا بدّ أن (تكنولوجيا) البيئة هي أرقى درجات التكنولوجيا وأهمها. فكان العرب – بحسب الاصطلاح الجاري اليوم- أفقر الناس وأجدبهم في التكنولوجيا حتى اليوم، بعدما صارت التكنولوجيا ترتبط بالصناعة والالكترون.
إذا كانت الثقافة هي التي تنتج صورة البيئة [feed in]، فالبيئة تقوم كذلك بانتاج صورة الثقافة [feed back]، وتشكل اللغة والمنطق دعامة الثقافة. في هذا المجال أورد الاشارة إلى (لفظ الجلالة) الذي هو تكرار وترخيم لحرف (اللام). الحرف الأكثر أهمية مركزية في اللغة العربية، مقابل مركزية حرف (شين) في العبرية، و(الخاء) في الألمانية.
لفظة (ليل).. تبدأ وتنتهي بنفس الحرف الذي هو (لام)..
لفظ الجلالة في جوهره هو حرف واحد مكرر (للاه)..
يقول البعض أن اسم نهر النيل في مصر هو حرف واحد، هو (ن)، وقد تم الحاق حرف النون بلفظ الجلالة (ل)، وأضيفت (ي) بينهما كحرف صوتي فكانت لفظة (نيل)، وذلك حسب نظام التسمية او الاعتقاد القديم بارتباط مصادر المياه/ الانهار/ الحياة بالسماء والألوهة. فنهر النيل، هو نهر السماء، تماما بنفس معنى نهر الأردن (يردنه) عند المندائيين، حيث اعتقدوا ان مياه نهر الفرات (الفسيح) تنبع من الأعالي (السماوية).
فتدرج ألفاظ الجلالة (ل- ليل- لاه- ايل- إله- لات- اللات- الله).. هي في جوهرها تكرار وترخيم وتنغيم لحرف واحد هو (ل).
[ل] هو أيضا حرف النفي والنقض والرفض في العربية، وهو حرف التعريف والابتداء والاستثناء والتعجب، ومنه حرف الشرط (لو/ لئن)، وأداة الوصل (الذي/ التي/ اللذين/ اللائي/ اللاتي/ اللواتي)..
وهو من حروف (الابتداء) في القرآن.. [أ، ل، م]، وهو أساس لفظ الشهادة في الاسلام*.
ويدخل حرف (ل) في البناء الأساس لأكثر المصطلحات وأسماء الأعلام والمفاهيم، مثل: (لغة، لون، لهو، لغو، لجة، لمزة، جهل، نزّل، تنزيل، أنزل، زال، زلزل، قال، مال، جال، سال، حال، دلّ، شلّ، هلال، جلال، كمال، خيال، وصال، جمال، سؤال، زوال، سلال، صلال، شمال).
ولما كان (اللام).. حرف الليل بمواصفاته اللونية وجموده ولانهائيته هو اسم (الجلالة الالهية) فقد تم تحميل (الاله) كلّ مواصفات وخصائص حرف اللام والليل وليلائه.
يتضمن صوت النبر (ل) قدرا مميزا من العنف والشدّة على صعيد النطق. ويلجأ العرب إلى تكرار اللام أو تضخيم صوته، مما يزيد درجة العنف. ويستخدم حرف اللام لهذا في الغناء والترنيم القائم على تكرار الحرف في حالة سكون أو جر أو اطلاق..
يا ليل.. ليل..
لالالا.. لالالالا.. لالالالا..
لالالالو..لوّه.. لو..لوّه.. لو..لوّه..
وأعتقد أن العنف في اللغة والشدّة في التلفظ والنطق والقسوة في التعبير، ترتبط بطبيعة البيئة ونسبة التنوع والنعومة في خصائصها ومكوناتها. ومنه أن التبغدد (من بغداد) بمعنى التنعم (من النعمة) وسهولة العيش. ويلحظ أن انتشار الاسلام خارج شبه جزيرة عرابيا، ساهم في نشر التصحر الجغرافي في بلاد شمال العرابيا وغربها الأفريقي، إضافة إلى انتشار الجفاف والقسوة في الطباع والتطبع والأخلاق الاجتماعية.
العقيدة اليهودية خرجت من صحراء سيناء، والاسلام من صحراء العرابيا، وهذا يستدعي السؤال.. لماذا ظهرت الديانات [التوحيدية/ التوسعية] من بيئة القحط والجفاف ولم تظهر في واقع زراعي أو مدنية متحضرة؟.. ولماذا كانت الخشونة والعنف طابع ديانات التصحر؟..
منطق الواقع يعتبر البيئة نسبية وليست جامدة أو مطلقة.. وعلى مدى قرون.. كان لابدّ أن بيئة التصحر خرجت عن طورها وأضافت لخصائصها ألوانا جديدة.. وبالتالي.. تنعكس الملامح البيئية الجديدة على واقع الديانات القديمة أو صورها المعاصرة. المنطق يفترض أن الأجيال الجديدة من اليهود أو المسلمين المولودين في بيئات أكثر تحضرا وتمدنا وتنعما يختلفون عن أجدادهم والأجيال التي لم تخرج من الصحراء..
لماذا لا يتولى الدين صناعة البيئة الملائمة لنمو حياة طبيعية خالية من الأمراض والانحرافات.. طالما أن الانسان مركز اهتمام الدين أم.. لا..

ـــــــــــــــــــــــ
• يلحظ أن منطوق الشهادة الذي يقوم على الابتداء بالنفي والاطلاق يوفر متوالية موسيقية ايقاعية يتواتر فيها حرفا (لا) و (الألف المدودة، الاطلاق).. لا.. إلاه.. إلا.. الللاه!.



الدين.. والدراسة..

هل يمكن دراسة الدين، أسوة بمجالات العلوم والمعارف الأخرى؟..
يلحظ هنا أنه ما من علم يقتضي من التلميذ ممارسة طقوس والتزامات معينة ذات مضمون تسليمي جامد.
الأمر الآخر هو التمييز بين مفهوم الدراسة ذات المغزى البحثي، وبين التعليم الذي ينتهي بالحصول على شهادة تتيح لصاحبها التعليم أو ممارسة عمل. فدراسة الرقص لا تعني تعليم الرقص أو تعلّمه.
ويمكن القول.. أن طبيعة الأدوات والغاية، تميز بين الدراسة والتعليم. ان غرض التعليم هو الصنعة والاتقان، فيما غرض الدراسة هو البحث والتجاوز.
وقد سبق الاشارة إلى انتشار التعليم ومؤسساته ومعاهده منذ أوائل القرن الماضي، ووجدت معاهد وكليات تمنح شهادات في مختلف مجالات الحياة والعمل. ولكن مجال الدراسة والبحث ما زال ضئيلا ومحددا، وغالبا ما يعتمد القدرات والظروف الذاتية.
لكن مكمن المشكلة هنا لا يتوقف على مفردتي التعليم والدراسة فحسب، وانما هي مشكلة المادة (materials, literiture) المحددة بالكتاب -المقدس- أو مصادر التفسير. ولا توجد ديانة من غير انقسامات واختلافات في الاتجاه والتفسير. وهذا الاختلاف يتدرج من .. الكتاب .. تفسيره.. تاريخه.
- اليهودية..
فالكتاب اليهودي يعاني من مشاكل عويصة، منها المبالغة في طقوس القداسة، والمبالغة في الاتجاه الحرفي في التفسير والتطبيق، ومنها الخلط بين النصوص التاريخية والنبوية مع كنب موسى، إضافة لكتب الأبوكريفا. ورغم أن تعلق اليهود بالتلمود –كتاب تفسيري- يفوق اعتمادهم المباشر على كتاب (التناخ)، فأن طابع السرد التاريخي يجعل التناخ في مواجهة مستفزة مع التاريخ الاركيولوجي والعلماني. وما يزال الجدل مستمرا حول أصوله الكتاب وهويات كتابه، وزمن أو أزمنة كتابه وتاريخ اكتماله.
- المسيحية..
أما البايبل- الكتاب المسيحي- فيتضمن مشكلتين رئيستين.. اختلاف في تحديد الكتب أو الأسفار المعتمدة –كتابيا-، والثانية مشكلة الترجمات غير الدقيقة.
ينقسم الكتاب -المقدس- (Bible) إلى عهدين.. القديم والمتعلق بأسفار العبرانيين، والجديد الخاص بالأناجيل. ويختلف الكاثوليك (المسيحية الغربية الرومانية) عن الأرثوذكس (المسيحية الشرقية القديمة) عن البروتستانت (المسيحية المُصلَحة)، في تحديد عدد وأسماء الأسفار العبرانية، وفي المقدمة منها كتاب الأبوكريفا. يطلق مصطلح الأسفار القانونية (canonical -script-) على أسفار الكتاب المقدس، ولكن بعد اكتشاف نصوص أخرى بعضها يستكمل الأسفار القديمة، وبعضها يتضمن كتب نبوية أو تاريخية تخص العهد القديم، حصل خلاف حولها، انتهى بتسميتها (أسفار قانونية ثانية). ولكن اسمها المتعارف والشائع هو (كتب الأبوكريفا) أي الكتب المزيّفة. وقد تم تضمين كتب الأبوكريفا في طبعات الكتاب المقدس عند الكاثوليك والأرثوذكس (الكنائس الطقسية/ التقليدية)، بينما استبعدتها طبعات الكتاب المقدس عند البروتستانت.
غير هذا، يعتمد الأرثوذكس كتابا يطلقون عليه اسم -الديداكي- أو (التقليد الرسولي)* وهو أساس تنظيم العبادات والقداديس والادارة. كما يعتمدون كتابا اسمه (الأجبية) يتضمن الصلوات اليومية السبعة لكل مؤمن يمارسها لوحده أو مع جماعة الكنيسة.
تزعم المسيحية على العموم أنها واحدة في العالم، لكلّ من يعتمد قانون الايمان المسيحي المقرّ في مؤتمر نيقية في القرن الرابع الميلادي. لكن التمعن في نظام عبادات ومفاهيم الايمان لكلّ منها، يلاحظ تركيز الكنائس التقليدية على مسألة الشفاعة بشخص مريم العذراء البتول والرسل والقديسين والآباء الخوارنة، بينما تختفي كلّ هذه في كنائس البروتستانت ويتم التركيز على الثالوث الأقدس والصلاة باسم يسوع والروح القدس فقط.
عند البروتستانت تكون العلاقة مباشرة بين الانسان وربه من غير أيّ وسيط. ولا تتعدى وظيفة القسيس رعاية الكنيسة وإدارة الخدمة. ولا يوجد (أب اعتراف) المعتمد لدى المسيحية التقليدية، حيث يكون الكاهن مسؤولا وسيطا بين العبد وربّه، ومن خلال الكاهن يحصل على البركة أو النعمة أو الحرم واللعنة، إذا خالف الأوامر أو قصّر في واجباته حسب رأي القسيس.
المشكلة الأخرى تتعلق بترجمات الكتاب المقدس. فالمسيحية لم تنبت أو تظهر في أرض قومية تعنى بالتزام تراث ولغة محددة كما في اليهودية والاسلام. ومع انتشارها بين الأمم، ظهرت حاجة لترجمتها للغة السائدة لدى كل جماعة. وتعتبر اللغة اليونانية القديمة هي اللغة الأساس للعهد الجديد في كلّ الترجمات. ولكن مشكلة اليونانية القديمة أنها تتضمن ألفاظا ومعانٍ لا يوجد لها بديل مقابل في اللغات الأخرى، مما اضطر إلى تقريب المعنى أحيانا، أو استخدام ألفاظ قاصرة لا تعكس المعنى الكامل أو الدقيق في الأصل. تختلف اليونانية القديمة عن اليونانية الحديثة، وتكاد تكون من اللغات الميتة، ورغم اعتمادها ضمن مواد منهج دراسة اللاهوت المسيحي، فأن تعليمها لا يتعدى الغرض الديني الكتابي ولا يكفي دراسة اللغة كثقافة وتراث متكامل.
دراسة المسيحية في أيّ بلد، لا يمكن فصلها عن دراسة الكتاب المقدس بلغته، وظروف ترجمته وأعداد الترجمات المتعاقبة خلال التاريخ. الثقل الرئيس من هذه المشكلة يظهر لدى البروتستانت، وتعددية المراكز والقيادات الكرازية، سيما في القرن الأخير. فعدم وجود هيئة مركزية للاشراف أو المتابعة، دفع كل جهة إلى وضع ترجمة/ ترجمات للكتاب وتفاسير بحسب اجتهاد أعضائها، ليست بالضرورة تتفق مع غيرها. ومن الصعب اليوم الالمام أو التمكن من متابعة منشورات الجهات والمراكز المتعددة، لمعرفة مدى دقة تمثيلها للايمان المسيحي والموقف المسيحي في الحياة والوجود.
لقد تحوّل بعض الوعاظ –في أميركا خاصة- إلى (مراجع)/ مراكز ومؤسسات دينية وتفسيرية، ولهم شبكة ميديا واسعة تشمل كل العالم، في مجال الراديو والتلفزة الفضائية والانترنت. ولكل منها طاقم تأليف وترجمة وطبع ونشر وتوزيع واستلام طلبات يومية مباشرة وتجهيز مباشر.
كم هي نسبة الاتفاق بين أولئك، وكم هو الاختلاف؟..
ان الاختلاف اليوم بين كنائس واتجاهات البروتستانت، أشد وأصعب وأكثر، من مجرد خلاف بين الكنيسة الشرقية (أرثوذكس) وكنيسة غربية (كاثوليك) حصل في القرن الرابع الميلادي.
- الاسلام..
القرآن هو الكتاب الرئيس المعتمد لدى المسلمين، ولكنه ليس المصدر الوحيد، وانما أحد ثلاثة إلى جانب الحديث والسنة بحسب اللغة الاسلامية. وصفت لغة القرآن بأنها لغة قريش. وقريش هم أهل مكة، ومكة حاضرة تجارية صغيرة في بحر شبه جزيرة عرابيا*. والواقع أن لغة القرآن جاءت مشتملة على مختلف لغات العرب (قبائلهم)، إضافة لموروث اللغات القديمة كالعبرية والآرامية ولغات الجوار كالفرعونية والفارسية والهندية. ولم يقتصر التلاقح على المجال اللغوي وانما تعداه إلى الثقافي، الاجتماعي والديني. وكما يوصف التناخ* بأنه حمل كثيرا من رموز وإشارات ثقافة الشرق القديم، كذلك جاء القرآن شاملا لآثار لغوية واجتماعية وثقافية وقصص دينية وسياسية من العالم المحيط بمكة والحجاز.
التعدد اللغوي والثقافي لكتاب القرآن يلزم دارسه بحيازة خلفية ثقافية ولغوية واسعة من ثقافات جنوبي غرب آسيا القديمة. وفيما يخصّ اللغة العربية يلزم الدارس الالمام بتاريخ نمو اللغة وصيرورتها، وتطور فن الخط العربي ومراحله. فالمشكلة الأساسية هنا، أن اللغة العربية تشكلت وترتبت وتثبتت قواعدها ونحوها وفقهها بعد القرآن، وكانت من قبله مجرد لغات شفاهية لا يجمعها شيء غير العموميات. وهذه العموميات تتصل بعائلة لغات سريانية/ آرامية/ عبرية. وقد أورد القرآن أنه (لسان عربي مبين)، وذلك يدخل في مجال التأسيس القومي العربي، أكثر منه التعبير عن حالة أو ثقافة قائمة.
ان لفظة عرب، ليست دالة قومية على العروبة، بقدر ما هي كناية عن حياة الترحّل والبداوة المعتمدة على قطع طرق القوافل والسلب والنهب الرخيص. وفي هذا المجال يرى المؤرخ فيليب حتي* أن العرب لم يؤثر عنهم احتراف القتل، ولكنهم اشتهروا بالقرصنة والسلب فحسب. فالمشكلة الرئيسة في حياة العرب وكثير من مجتمعات الشرق القديم هي القوت ومواد المعيشة. وكانت مجتمعات الخصوبة والوفرة ضحايا دائمة للجماعات البدائية. ويورد التاريخ ان مصر القديمة كانت عرضة مستمرة لغزوات الهكسوس من البحر والبدو من الشرق. وفي نصوص أشورية فرعونية وعبرانية ورد لفظ (عربي/اعرابي) بمعنى متربص/ متوحش/ أجنبي.
لقد كانت القبائل تعرف باسمها، أسد، تغلب، تميم، طيء، أكثر من وصفها بشيء آخر. وإذا كان لفظ (عرب) ينطوي على معنى البداوة، فليس لأهل المدن والحواضر من ذلك في شيء. وقد وردت عدّة مسميات لسكان الساحل الشرقي للبحر الأحمر، منها تيماء، أدوم، عسير، حجاز. وكلمة (حجاز) دالة فصل بين جماعتين أو بيئتين مختلفتين، كما في وصف نجد وحجاز، وهما بيئتان مختلفتان، ومتفاوتتان، في الجغرافيا والسكان والثقافة والحياة. فوصف لغة حاضرة مكة بالعربية، يتضمن عبنا ثقافيا وتاريخيا، يسحب التصحر على المدينة. فيما المؤمل حسب المعطى الواقعي، سحب نمط الحاضرة على التصحر.
ولكن.. هذه السياسة هي التي سادت لاحقا عندما تعرضت حضارات الشمال لهجوم البداوة، مما يخفي حقيقة ماورائيات ذلك، ويتناق البتة، مع نسبة الاسلام لمكة والمدينة. ويسند افتراض كون الاسلام حركة من داخل البدو اتجهت غربا لاحتلال عاصمة الحجاز مكة ومنها شمالا وغربا. لكن الجذور الأصلية للحركة تم تدميرها جيدا بحيث أتاحت/ أباحت للمتأخرين نسبة الحركة لمركز قريش لاشباع غرورها المتعارف، واستمر مثل غيره من الأخطاء.
ويبدو أن تعميم وصف (عرب) على غير أهل نجد (وسط شبه الجزيرة) جاء متأخرا، وفي إطار التقعيد القومي أو التحول من مفهوم القبيلة/ القبائل إلى وحدة قومية ثقافية.
وقد لعب القرآن دورا أيديولوجيا رئيسا في حركة الوعي القومي الأموي، وولادة أمة ودولة.
لكن فكرة (كتاب) في وسط - أمي- يعتمد الشفاهية ولا تتعارف في أوساطه الكتابة وطبقة الكتاب، تبقى غريبة وتحتاج مزيدا من تمحيص. واقع الجهالة والشفاهية يضعف الأصل الكتابي ويدعم نسبته إلى فترة متأخرة إلى مرحلة (أنتلجنسيا) حاضرة البصرة.
كثير من المؤرخين، مستشرقين وعربا، غير متفقين في فهم الخلفية التاريخية.. الحضارية والسياسية وراء ظهور حركة (الاسلام) أو كتاب (القرآن). ولا تزال الدراسات الاركيولوجية والتاريخية حديثة في هذا المجال. نفس الأمر ينطبق على مجال تاريخ الكتاب وتاريخ التدوين وعدد المدوّنين أو الكتاب المساهمين ودور كلّ منهم في الكتاب. وكلّ هذه حيثيات إشكالية تصطدم بشحة المصادر الاسلامية أو الخارجية.
هذه الإشكاليات عموما تنطبق وتواجه دراسات أخرى بخصوص الحديث، السنّة، السيرة النبوية، تفاسير الكتاب، تاريخ الرموز الاسلامية والعلاقة بين الدولة والدين.
فإذا ما أمكن التوصل لخلاصات بدائية في هذه الأصعدة، يجد الدارس نفسه في مواجهات الانقسامات الدينية والمذاهبية والسياسية منذ القرن الرابع الهجري.
فالحديث عن الاسلام دون تدقيق وتخصيص يبقى تهويما في الضباب. يزيد من صعوبته غلواء العصبية والتعنت الديني، ورفض أي مساس خارجي بكيانه ورموزه.
*
- دراسة الدين لا تكون وافية إن لم تسبقها مقدمة عامة في أصول الديانات ومفاهيمها وظروفها التاريخية والانثروبولوجية، هذا من جهة؛
- ومن جهة أخرى، لا تكتمل دراسة الدين بدون الالمام والتعرف على الديانات السابقة له.
والملحوظ، أنّ بعض الديانات، تسم ما سبقها زمنيا سمة نقضية، كالشرك عند اليهودية، والوثنية عند المسيحية، والجاهلية عند الاسلام.
يمكن أن يفهم ذلك في العموم باعتبار الدين الجديد ثورة تصحيحية لها ما يبرّرها؛ لكن القراءة الأخرى تكشف عن طريقة تقليدية لتعمية المصادر وتغشيش الباحث. فهذه الديانات ، على العموم، لم تنقض ما سبقها، وانما تولى نسخه نسخا مبرمجا وفنيا، ثم اضفاء اللمسات الفنية لغويا واعلاميا، للتمايز عن السابق والامتياز بتسمية جديدة.
يقول أحد الباحثين* ان الاسلام لا يعترف بالبهائية، رغم أن البهائية تعترف بالاسلام ورموزه. ويحتج بعض المسلمين لماذا لا تعترف المسيحية بهم، وهم يعترفون بالمسيح وكتبه. ويقول نفس الباحث، أن اليهود لم يعترفوا بالمسيح، رغم اعتراف المسيح بهم، والمسيحية لم تعترف بالاسلام، فكل دين لا يعترف بما يأتي بعده. وبالمقابل كلّ دين يعتاش ويبتني على تراث الديانات السابقة له.
*
إذا كانت اشكالية الدين الرئيسة مع العقل، فأن أشكاليته مع التاريخ لا تقل عن ذلك شأوا. الدين لا يعترف بالتاريخ، رغم أنه يعتمد حيثيات تاريخية لتسويق منظوره الخاص. والمنظور الديني أن (الله) هو الذي يصنع التاريخ، وأن التاريخ بدون الله ميت!. ولكن.. هل يصلح الدين أن يكون تاريخا، أو بديلا للتاريخ. يتساءل أحد الباحثين قي هذا المجال، إذا جردنا قصص الكتاب الديني من الخرافات والمعجزات.. هل نحصل على كتاب تاريخ؟.. هل يمكن الاستفادة من كتب الدين في كتابة تاريخ العالم القديم بروح عصرية؟.. على الدين أن يؤكد مصداقيته التاريخية.. ليمكن اعتباره من منظور علمي. لكن العلماء حتى الآن لم يتأكدوا من تاريخية شخوص ابراهيم ويوسف وموسى ويشوع وداود وعزرا ويسوع، إضافة إلى محمد وعلي والمهدي..
في ضوء كلّ ذلك، هل هناك دراسة دينية متكاملة؟..
هل هناك دراسة دينية لم تسقط في هوة الدين؟..
بدون تفكيك آليات الدين وقواعده..
بدون تفكيك آليات الخطاب الديني وسردياته ومبادئه وأغراضه..
بدون غوص في أعماق الميثولوجيا القديمة واستحالاتها الجغرافية ورصد خرائط حركتها الزلزالية المتموجة،
لا يمكن قراءة السطور المخفية في النص الديني..
الدين.. هو حلبة مواجهة فنون السحر والكهانة ولغتهم الرمزية مع فنون العقل والفلسفة السببية ولغة المنطق. وعندما نستمر في الألفية الثالثة، في محاولة فهم أو تفكيك رقم ديني كهنوتي مسحور، ندرك أننا ما زلنا في عصر طفولة العقل الأولى. ورغم اختراق العلم للفيزياء الفضائية وكيمياء البيولوجيا.. فما زال سرّ الانسان منغلقا على نفسه.. وما زال سفر الدين معقدا ومطلسما.. وما زال.. للحديث بقية!..
"ورأيتُ على يمينِ الجالسِ على العرشِ سفراً مكتوباً من داخل ومن وراء، مختوماً بسبعة ختوم. ورأيتُ ملاكاً قوياً ينادي بصوتٍ عظيمٍ: مَنْ هوَ مستحقٌ أن يفتحَ السفرَ ويفكّ ختومَهُ. فلم يستطعْ أحدٌ في السماءِ ولا في الأرضِ ولا تحتَ الأرضِ، أن يفتحَ السفرَ، ولا أن ينظرَ إليه. فصرتُ أنا أبكي كثيراً، لأنّه لم يوجدْ أحدٌ مستحقاً أن يفتحَ السفرَ ويقرأهُ، ولا أن ينظرَ إليه."/ (رؤيا يوحنا اللاهوتي 5: 1- 4).
ـــــــــــــــــــــــــــ
* الكنيسة القبطية في مصر..
* عرابيا- مصطلح استخدمه الراحل هادي العلوي للدلالة على شبه جزيرة العرب.
* تناخ- مصطلح يعتبر عن الكتاب المقدس الخاص باليهود والمتعارف خطأ باسم التوراة. وهي توراة موسى أي الكتب الخمسة الأولى من الكتاب. وهي الجزء الأول من أصل ثلاثة أجزاء (توراه، نيفييم، كتفيم)، جمعت حروفها الأولى لنحت مصطلح (تناخ).
* Philip K. Hittitti, History of Arab, Ed. 10, 2003
* رياض حسن محرم- حدبث عن البهائية والدستور- الحوار المتمدن- ع 3797- 23 يوليو 2012.
* Thomas L. Thompson, The Messiah Myth, Pub. Pimlico, 2007, London.


الدين.. والسيرة..

السيرة (biographical text) نص يتناول ظروف ميلاد ونشأة شخصية معينة ويركز على الناحية الاستثنائية والظروف غير العادية وتأثيرها المنعكس على الناس، وذلك بصورة معجزية. وقد تكون السيرة شفاهية أو تدوينية، وقد تكون الشخصية محور السيرة واقعية أو خيالية (اسطورية)، وفي كلّ الأحوال، تخرج السيرة بصاحبها من إطار الواقع والمعقول إلى فضاء الخرافة والاسطورة، بما يجعل منها مادة للتعليم أو التوجيه أو الوعظ والقص. وتجمع السيرة الدينية بين السيرة الشعبية وميثولوجيا الدين وربط مسببات الأحداث بقوة غيبية محددة بكونها الأله (المحلي/ القومي). ويمكن اعتبار السير الدينية اعلانات مباشرة للدعاية الالهية وتوسيع قاعدته الشعبية والقومية.
وفي ثراث كلّ أمة وجماعة من القصص الشعبي والخرافي الذي كان سائدا في أيام الجهل والتخلف، وتراجع مع التطور المدني والحضاري وانتشار حركة التعليم والعقل العلمي. ولم يختفِ من حياة تلك الشعوب المتقدمة تماما.. انما وجد مكانه الأرشيفي في بطون الكتب والمكتبات. وربما استخدم اهل القرى بعضها كقصص أطفال أو تسلية أو تنويم، ضمن تراثهم القومي. وفي بعض البلدان عرف كتاب ومؤلفون برعوا في صوغ قصص شعبية خرافية تتعامل في رموز الأساطير، موجهة في الغالب للأطفال، وتتضمن قيما اخلاقية.
وإذا كان القصص الشعبي قد تراجع من أدب الكبار إلى أدب الصغار، فقد شهد هذا الأخير قفزة أخرى خرجت من مجال الخرافة إلى مجال قصص الحيوان والقصص العلمي والتوجيهي.
وتحفل الذاكرة العربية وتراث مجتمعات غرب آسيا بقصص وسير كثيرة تدور حول شخصيات تحولت مع حركة الزمن إلى أساطير، وهي في الغالب قصص شفاهية، يزيد فيها والرواة وينقصون من مكان إلى آخر، وقد تتلبّس بصفات وخصائص في مكان ما لا تجدها في مكان آخر. وقد عني بعض الباحثين بجمع التراث الشعبي –بحسب مناطقهم- من قصص وسير وسواليف وأمثال وحكم وشعر زجل. ومن هؤلاء أنستاس ماري الكرملي وعبد الحميد العلوجي في العراق وروكس بن زائد العزيزي في الأردن، وحمد الجاسر في السعودية.
ومن الثصص الشعبية الشائعة قصص عنتره ومجنون ليلى والزير سالم، والسندباد من سير الأشخاص، تختلط فيها الخرافة بالواقع وبالعكس. ومن القصص الدينية ثمة قصص (شفاهية) عن سيرة ابراهيم وموسى وخضر الياس وذي القرنين وسليمان وبلقيس وعيسى ومريم المجدلية ومحمد وعلي والحسين والحر الرياحي والمهدي المنتظر والحلاج ورابعة العدوية.
يقسم علماء الأديان تاريخ (الخطاب) الديني إلى تاريخ أشخاص (individuals)، وتاريخ أحداث (events). ويقابل ذلك عربيا سير (الأنبياء) وسير (المغازي). ويرى فيليب حتي أن المحدثين استخدموا عبارة (أيام العرب) للدلالة على قصصهم التاريخية، أو قصص تاريخهم، مثل داحس والغبراء، وتعتبر قصص (الطفّ) وما نسج في سياقها حول المواجهة بين جيش ابن زياد وجيش الحسين والحر الرياحي، من أكثرها شيوعا اليوم، سيما مع تفاقم أجواء الاحتفالات الدورية السنوية وما تستغرقه من أيام وأسابيع.
يتشكل البناء الفني للقصة الشعبية/ السيرة من ثلاثة مستويات رئيسة..
- النواة الواقعية أو خيط الواقع وتتمثل في حدث أو شخص مسمى.
- قصة ميثولوجية تنسجم معها وتكون بمثابة العمق التاريخي لقصة الغيب أو السيرة الدينية..
- نسيج من خرافات يرسم خصائص الشخصية أو الحدث ويجعلها فوق مستوى الواقع أو منطق العقل، مثل الطيران، أو مخاطبة الموتى، أو امتلاك معارف الغيب وسلطانه.
وظيفة الخيط أو المسمى الواقعي هو تحديد هوية القصة أو غرضها المسبق.
وظيفة الميثولوجيا تأمين عنصر الاقناع من خلال الارتباط بثقافات وعقائد قديمة، ومعظم الفكر الشعبي الديني يعتمد فكرة الحلول أو التناسخ، وهذا العنصر يدهم عقل المتلقي ويفجعه فيضطر للتسليم والانسياق في اللعبة. فشخصية موسى تتعاشق مع شخصية سرجون القديمة. بل قد تتداخل الشخصية مع أكثر من شخصية وقصة ميثولوجية متراكبة في إطار سرد حدث أو قصة شخص واحد. والقول بكون شخص معاصر أو حديث هو تجسد لشخصية سابقة أو قديمة، له وقع وضغط خارق على آليات العقل. وقد استخدم يسوع المسيح هذا التكنيك الخطابي مع حوارييه عندما قال:..
"جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبّأوا. وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو ايليا المزمع أن يأتي" (متى 11: 13، 14)، والاشارة هنا لما ورد في (ملاخي 4: 5) "ها أنذا أرسل إليكم ايليا النبي قبل مجئ يوم الربّ".
"وسأله تلاميذه قائلين، فلماذا يقول الكتبة أن ايليا ينبغي أن يأتي أولا. فأجاب يسوع وقال لهم: ان ايليا يأتي أولاً ويردّ كلّ شيء. ولكني أقول لكم، ان ايليا جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كلّ ما أرادوا. كذلك ابن الانسان أيضا سوف يتألم منهم. حينئذ فهم التلاميذ، أنه قال لأهم عن يوحنا المعمدان."/ (متى 17: 10- 13).
ويرى بعض اللاهوتيين ان بوذا وزرادشت والاسكندر المقدوني يمكن أن يكونوا تجسّدات وقتية مبكرة للسيد المسيح قبل ظهوره وتجسده الكامل. فقد جاء بوذا ودعا لنشر المحبة والترفع عن ضعفات الجسد الدنيوية، ودعا زرادشت لمعرفة الخير والشر والسلوك بالخير، وظهر الاسكندر الملك العدل الذي سعى لتوحيد البشرية تحت إمرة ملك واحد. وكل من هذه تمثل جانبا من رسالة يسوع الروحية لتحرير البشر من عبودية الشرّ والماديات.
وينسب إلى عبدالله ابن سبأ قوله بخلود علي ابن ابي طالب وكونه مخلوق قبل الكون، والبعض أضافوا على ذلك أو اختزلوا، ومنهم أنكر عليه ذلك، زاعمين منه من مخلفات عقيدته السابقة. وتمثل فكرة المهدي المنتظر أحد تجليات فلسفة الحلول الشائعة عند الهنود، والتعويل على الحياة الأخرى أو الفكر الارجائي. وقد استخدم عبيدالله بن اسماعيل تلك الفكرة مدعيا انه المهدي لجمع الأنصار واعلان الدولة. وأشاع الحاكم بأمر الله الفاطمي أنه هو (الله) المتجسد، وآمنت به جماعة يقال لهم (الدروز) وانتهت حركته بقتله ومطاردة أتباعه الذين التجأوا إلى شمالي فلسطين في جبل العرب وما زالوا فيها حتى اليوم على عقيدتهم.
وفي السنوات الأخيرة تضافرت عوامل عدة، أعادت ترويج الخرافات الدينية، وبين حين وآخر يتم اطلاق إشاعة حول ظهور المهدي أو قرب ظهوره، على هامش أوضاع سياسية مأزومة، سواء في العراق أو اليمن، أو الخلاف الايراني السعودي، أو الوضع الفلسطيني الاسرائيلي*. بما لا ينفصل عن مظاهر الانحطاط العام وانتشار الفساد على مختلف الأصعدة، سيما المجتمعات التي تروج للفكر الشيعي، كما سبق. وفي أيام احتجاجات ميدان التحرير تم تسريب فيديو يتضمن خيال حصان أخضر يخترق الجموع، في إشارة إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي (6: 8) "فنظرت وإذا فرس أخضر والجالس عليه اسمه الموت، والهاوية تتبعه، وأعطيا سلطانا على ربع الأرض، أن يقتلا بالسيف والجوع والموت وبوحوش الأرض.".
*
ليست الخرافات والخزعبلات الدينية والشعبية قصرا على جماعة دون غيرها، فهي منتشرة في الغرب كما في الشرق، وفي الشمال كما هي في بلاد الجنوب، بل المتشابه منها يضاهي المتفاوت. لكن عرب القرن السابع الميلادي كانوا يقرون بجهلهم وتخلفهم الحضاري، كما هي النظرة إليهم حتى اليوم من قبل الشرق أو الغرب، وهو ما جاء الاعتراف به في لغة القرآن (الذي بعث في الأميين ريولا منهم)/ الجمعة 2. ولم تكن لهم كتابة أو تدوين أو خط أو أبجدية، وأغلب الظن أنهم كانوا يستخدمون العبرية أو السريانية/ الآرامية للتدوين النادر، وكان الخط الحيري أو المسند، المأخوذ عن العبرية أقدم خطوطهم المستعملة.
وفي رأيي أن التخلف والأمية ليست بنمط المعيشة أو القراءة والكتابة، وانما هي بالعقلية ونمط اتفكير وطبيعة المنطق. فقد تعلم العرب وأسرفوا في الألقاب العلمية وأعداد الجامعات ولكن أنماط تفكيرهم التقليدية لم تتغير، وزادت نسبة التخلف (الثقافي) في صفوفهم رغم انتشار مظاهر التكنولوجيا الحديثة بينهم. لعلّ الردّة الفكرية الثقافية التي جعلت الفكر الديني الغوغائي الرجعي يتصدر المجتمع والسياسة والدولة والدستور دليل مفجع على ذلك.
ويبدو أن مصطلح الدين أو الفكر الديني عرضة لسوء الفهم اليوم. ان دعاوى الدين/ (التدين) والدعوة لتطبيق الشريعة أو (الاسلام)، يختلف المقصود بها اليوم، عما كان عليه الأمر قبل نصف قرن/ قرن/ أو قرنين وفوق ذلك. فالمعنى يرتبط بثقافة الزمن ومستوى الحضارة. وإذا كانت الفوضى والانحطاط هي ملامح حياة العرب اليوم، فلا يمكن الاطمئنان إلى ما يخرج من تلك الفوضى والانحطاط أو ما يمثلها. بعبارة أوضح أن علماء الدين ومشايخه في زمن الانحطاط ليسوا علماء ومشايخ لو كانت الأمور في خير. ويكفي أن نجوم الفضائيات الاعلامية ينظر إلهم باعتبارهم علماء ومشايخ في لغة رخيصة تبتذل الألقاب والعلوم. بينما يستخدم مهرجو الاعلام مختلف تقنيات البطل الشعبي (popstar) للاستحواذ على عواطف الناس واستقطاب مشاعرهم وتوجيه رغائبهم. وازدياد القنوات الدينية (اسلامية أو مسيحية) هي من علائم الفوضى والتجارة الدينية التي تركز على نجوم شاشة ومهرجين جدد حسب رغبات الجمهور ورواد الاتصالات الفضائية المتلفزة.
ويرى الباحث ابراهيم فوزي* أن ثمة خطأ في فهم الشريعة بين اتجاهات الفقه التقليدي والفقه الحديث. ويؤكد على أهمية الفصل بين العبادات والمعاملات. ويرى ان الشريعة تتحدد بالعبادات المنصوص عليها أما المعاملات فهي متحركة متغيرة بحركة الزمن وتغيره. ويقول أن المعاملات الواردة في القرآن نفسه خضعت للتغيير عند اختلاف الظروف من خلال ما يدعى بالناسخ والمنسوخ، مستشهدا بالقول .. (وما ننسخ من آية أو ننسِها، نأتِ بخير منها أو مثلها)/ البقرة 106. وثمة.. فلابد من التكيف مع حياة العصر، ولا يليق اتباع نهج الأولين في أمور دنيانا اليوم.
أما الأمر الآخر الذي يشير إليه فهو مدى مصداقية المرويات الاسلامية سواء في الحديث أو السنّة أو تواريخ الأولين. ويتوقف لدى أشخاص الرواة والمدونين، وما تذكره المصادر عنهم، مؤشرا على أمرين، العدد المبالغ فيه للروايات والأحاديث التي لا تناسب سن الراوي أو علاقته بالمروي عنه، وكذلك التفاوت والتناقض في الروايات والأحاديث. ويمكن القول، أن خضوع الاسلام للدولة من جهة، والصراعات السياسية المستمرة، كان لها أثر رئيس في كثرة المرويات وتناقضها، كلّ بما يخدم مصالحه واتجاهه، وهو ما يدعى بالروايات المختلقة والأحاديث الأكاذيب.
فالمروجون للشريعة يخلطون بين كل ذلك، مضافا إليه تاريخ الافتاء الرسمي عبر القرون وباختلاف المذاهب، مما ينفي وجود نسخة مدونة واضحة وثابتة من الاسلام (الشريعة)، وانما هو نسخة انتقائية تتحدد بمدى معرفة الزعيم الديني أو يقوده إليه عقله واجتهاده، في ظل مرحلة الفوضى والانحطاط الراهن.
يقول الدكتور صادق جلال العظم، (أن الفكر الديني بهذا المعنى ليس إلا الصعيد العلوي الواعي لكتلة هلامية شاملة غير محددة الجوانب من الأفكار والتصوّرات والمعتقدات والغايات والعادات التي نطلق عليها أسماء عديدة..)*، ويحدد في دراسته المرتبطة بدراسة أسباب هزيمة 1967 (أن الأيديولوجية الدينية على مستوييها الواعي والعفوي، هي السلاح "النظري" الأساس والصريح بيد الرجعية العربية (وحلفائها العالميين) في حربها المفتوحة ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن)*.
والسيرة الدينية – في هذا المجال- هي ركن أساس من أركان الفكر الديني غير المعلنة رسميا. ولها يرجع الفضل في تسويق وتسويغ الخطاب الأيديولوجي بطرق ووسائل ديماغوجية تتخذ طابع البراءة (المسمومة). أهمية (خطورة) الخطاب الشعبي السردي لا تقتصر على توصيل الفكر الوعظي التوجيهي والرسائل الظرفية المشفرة للجماهير العريضة، وانما في طبيعة جمهورها المفتوح بدون محددات أدلجية. فجمهور السواليف والأساطير هذه لا يقتصر على أتباع الدين، وانما المجتمع على سعته، وطبقاته بغير تحديد. فهي بذلك تتخذ مكانها كجزء من الثقافة العامة واللاوعي الجمعي للجميع بما فيهم الانتلجنسيا وأتباع الديانات والمذاهب الأخرى. ورغم طابعها السطحي والساذج (harmless)، فهي سلاح متعدد الأغراض والتأثيرات. ورغم ذلك فأنها عادت وانتشرت بشكل يندر مثيله في عصر تجاوزت فيه الحداثة كل أطرها التقليدية، وبدل الانتقال لما بعد الحداثة (الأوربية)، وجد المجتمع العربي نفسه في مرحلة ما قبل القرون الوسطى، مما يعيد للأذهان القول (مع أن كون الفكر الديني سلاحا نظريا بيد الرجعية العربية وحلفائها العالميين كان معروفا (..) لم تهتم حركة التحرر العربي أبداً بواجبات التصدي الفكري والعملي لهذا السلاح، عن طريق التحليل العلمي النقدي، لفضح أنواع التزييف والاستلاب التي تفرضها الأيديولوجية الدينية على الانسان العربي)*.
*
(هل أتاك حديث الجنود.فرعون وثمود.)/ البروج 17، 18.
(ان هذا لفي الصحف الأولى. صحف ابراهيم وموسى.)/ الأعلى 18، 19.
(ألم ترَ كيف فعل ربّك بعاد. إرمِ ذات العماد. التي لم يخلقْ مثلُها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالوادِ. وفرعون ذي الأوتاد.)/ الفجر 6- 10.
(ألم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل. ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيرا أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل. فجعلهم كعصف مأكول.)/ الفيل 1- 5.
(كنزا ربّا) كتاب المندائية المقدس يشير إلى عدّة كتب قديمة، منسوبة إلى آدم، ادريس (أخنوخ)، نوح، يوحنا المعمدان. كما كشفت العثريات المصرية عن كمية من الأدبيات المسيحية غير المذكورة بين دفتي البايبل، ومنها أناجيل توما، يهوذا، مريم المجدلية، ورسائل رعوية من الرسل والآباء. وبما يفيد عمق الرغبة/ الحاجة البشرية أو الدينية لكتابة سير شخصية وقصص أحداث تندرج في خط ديني معين، يتفق مع الخط العام أو يختلف عنه.
*
يبتدئ الكتاب المقدس بسفر التكوين المتضمن لقصة نشأة الخليقة وظهور الانسان الأول والعائلة الأولى والعشيرة الأولى وصولا إلى طوفان نوح وبداية الخليقة الجديدة من أبناء نوح الثلاثة وصولا إلى اصطفاء ابراهيم وذريته. الاعتقاد السائد ينسب الكتب الخمسة الأولى إلى موسى النبي، وتعرف بالتوراة في اللغة العبرية، أو (pentatuch) أي الأسفار الخمسة. لكن سفر التكوين يتناول مرحلة تنتهي قبل ولادة موسى بكثير، ما دفع بعض المؤرخين اللاهوتيين لتفنيد نسبته إلى موسى، وترجيح نسبته إلى يوسف بن يعقوب والذي ترد قصته في (تك 33- 50). كما تتضمن قصص السابقين من أبائه وأجداده. ويزعم البعض أن يوسف (اللقيط) عندما نال حظى لدى فرعون مصر، وتقرر زواجه من ابنة رئيس كهّان مصر، لم يشأ أن يبدو غريبا مجهولا في عيون أنسبائه، فوضع هذا السفر الذي يتحدث عن عائلته ومكانتها الدينية والمميزة عند إلههم، فترتفع صورته في أعينهم ويكون زواجا رفيع المستوى. أما سيرة موسى فترد في سفر الخروج وتستمرّ في الكتب الثلاثة التالية حتى قصة موته في الاصحاح الأخير من سفر التثنية (34: 7). وبعدها سفر يشوع خليفة موسى في قيادة شعبه. وكثير من أسفار التناخ تحمل أسماء الشخصية الرئيسة في كل منها.
يقسم كتاب التناخ إلى ثلاثة مجاميع من الكتب، توراة، تاريخية، نبوية. لكن الملحوظ أن قصص الأشخاص (السير الشخصية) تتداخل مع قصص الأحداث في معظم الأقسام. ولا ينجو من الخلط غير أسفار محددة في القسم النبوي.
وتختلف الكتب المسيحية (الأناجيل) في تخصيصها لسرد سيرة السيد المسيح وأعماله وأقواله، رغم أنها تحمل أسماء الكتاب (متى، مرقس، لوقا، يوحنا). ويعنى سفر (أعمال الرسل) بسرد قصص الأحداث التي تمت بعد موت يسوع وقيامته. وفي رسائل بولس التالية يمكن ملاحظة اهتمام بولس الرسول بعرض جوانب من سيرته الذاتية والصعوبات التي واجهها في سبيل كرازته بكلمة الربّ. كما يهتم بتقديم نبذ سريعة عن العاملين معه مثل تيموثاوس أو تيطس وفيليمون وغيرهم.
وتتخذ رؤيا يوحنا اللاهوتي مكانة وأهمية خاصة في اهتمامها بسرد ما يحدث في نهاية الأيام وقصة المجئ الثاني. ويذكر أن إشارات للموضوع سبق أن وردت في أسفار دانيال وزكريا.
ان ما يميز قصص الأسفار التوراتية واليسوعية هو أنها رغم تقديمها لحيواة شخوص وقصص أحداث تاريخية، فأن العامل الرئيس والمحرك فيها هو روح الإله ويده. وليس العامل الانساني بالمفهوم العلماني.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال السرد العجائبي وظواهر المعجزات العصية على منطق العلم والعقل حتى الآن، مثل شق البحر، لعبور بني اسرائيل، وذلك بضربة عصا موسى. وهي العصا التي أخرجت الماء من الصخر. وقصص أخرى كثيرة تدخل في باب الخوارق. وقد عقد ميخائيل كوغان فصلا لدراسة الخلاف بين ملك أشور سنحاريب وملك يهوذا حزقيا، والمقارنة بين التفسير الديني لانتصارهما وهزيمتهما والتفسير التاريخي العلماني*. ويشاركه الرأي توماس تومبسن* فيما إذا تخليص قصص التناخ من صور الخرافة والمعجزات، يجعلها صالحة لكتابة تاريخ علمي أو علماني.
يتعلل فريق من المسيحيين بعلة الخطاب الفني والاسلوب الأدبي لتعليل علل المبالغة والتكرار والتناقض في مرويات الكتاب (المقدس) وفي ذلك يقول الدكتور نعمان عبد الرزاق السامرائي ".. لا يعقل أن تكون التوراة وحي الله تعالى، ثم تتضارب وتختلف نصوصه وأخباره، وبهذه الكثرة الكاثرة. فالله تعالى حق، ولا يصدر عنه إلا الحقّ، فالتناقضات في نصوص التوراة صارخة، ويستحيل الجمع بين المتضارب من رواياته.."*.
ويحفل القرآن بطائفة من الرموز والاشارات القصصية والمختلة في طواعية لغة السجع أو البلاغة الشعرية. والغالبية من تلك القصص تنتسب إلى مصادر توراتية (اسرائيليات) أو تراث الثقافات المجاورة. ونتيجة الابتسار والضبابية التي تكتنف تلك القصص ظهرت كتب مصنفة بالقصص القرآني أو قصص الأنبياء. وقد تناول المؤرخون والباحثون الدينيون* تفصيل تلك القصص وتحليلها، وكشف ما بينها من تداخل واختلاط ونسبة تخطئة في الزمان والمكان. ومنها الخلط بين شخصية مريم اخت هارون (النبية) في مصر وسيناي، وبين شخصية مريم العذراء أم يسوع في فلسطين وبينهما حوالي ستة عشر قرنا.
ويمكن تصنيف القصص الاسلامية إلى قسمين، قسم يتعلق بالقرآن ومرحلة صدر الاسلام؛ وقسم يتعلق بالقصص المتأخر في العهد العباسي وما تلاه، من اضطراب سياسي وديني، وانتشار الانقسامات والبدع والهرطقات، وانسيابها في المخيال الشعبي، خاصة بعد توقف حركة التوسع العسكري وحاجة الناس لشيء يملأون به عقولهم ووقت فراغهم. وقد استطاع كل رهط بابتداع أحاديث وخطب نسبوها لرموز الاسلام وقادته، حتى اختلط الصحيح بالزغل.
ان القصص الاسلامية تتصل بالتراث المتعاقب لمجتمعات حوض البحر المتوسط أكثر من اختصاصها بالاسلام وقرآنه تحديدا. والمعروف أن سكان البلاد كانوا قد عرفوا جملة من الديانات القديمة المجوسية واليهودية والمندائية والمسيحية والمانية قبل الاسلام، وقد تمازجت آثار تلك الديانات والعقائد والثقافات المتعاقبة مع بعضها وأعادت صياغة نفسها في معتقدات وطقوس متجددة انطلت بصبغة الالاسلام الخارجية وما هي من الاسلام حقيقة. كما أن الاسلام نفسه ليس منقطعا عن العقائد والطقوس السابقة.
*
نماذج تطبيقية من سير خرافية..
- العهد القديم مجموعة قصص مماثلة لقصص سانتاكلوز أو بابا نويل.*
- إن النبي ابراهيم، قبل المسيح، لم يكن يتغذى بحليب، بل و بعد أن خبأته أمه في كهف بعيد عن أنظار الناس و أعدائه، و جدته قد وضع اصبعه في فمه، يمص فيه. و بهذا المص (الاصبعي) كان يتغذى و يكبر و يكبر. ففي يوم واحد كان الطفل يكبر و كأنه قد عاش اسبوعا. و في اسبوع يكبر و كأنه عاش شهرا. و في شهر يكبر و كأنه عاش عاما كاملا.... و هكذا... و لم يحدد كاتبوا هذه الخرافة عدد الأيام التي عاشها ابراهيم في الكهف لتـُخرجه أمه منه و تريه للناس. و كم كان وزنه و حجمه؟
و كتب كذلك الحائري (الذي حيَّر عباد الله و المؤمنين الذي يمجدون بكتاباته) أن الحسين لم يذق طعم حليب أمه أبدا، بل كان النبي محمد يأتي في وقت غذائه فيُدخل لسانه في فم الحسين و عن طريق لسان النبي كان الحسين يتغذى و يكبر و يكبر.. أي أن لعاب النبي يتحول إلى ما يشبه الحليب لتغذية الحسين.
.. وعلى شاكلة هذا القديس (يوحنا المعمدان) يقول أهل القاهرة المصريون أن رأس الحسين موجود عندهم في الوقت يقول الكربلائيون أن الرأس قد أرجعوه من دمشق و هو الآن عندهم مدفون مع باقي الجسد. أما الشاميون فيقولون: لا أن الرأس لا يزال عندهم. /*
- بينا أنا نائم في الحِجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أرَ شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أرَ شيئا، فعدت إلى مضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست، فأخذ بعضدي، فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يحفر بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه، ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.. ومضى جبريل معه حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه ابراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء، فأمّهم رسول الله فصلّى بهمثم أتى بإناءين، في أحدهما خمر، وفي الآخر لبن. فأخذ رسول الله إناء اللبن، فشرب منه، وترك إناء الخمر. فقال له جبريل: هديت للفطرة، وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر./*
..
ــــــــــــــــــــــــــ
• اسماعيل محمود الفقعاوي- اعصار المهدي المنتظر يضرب غزة هاشم مرتين خلال 64 عاما، لكن بلا خسائر- مجلة الحوار المتمدن ع3799- 25 يوليو 2012.
• ابراهيم فوزي- تدوين السنّة- رياض الريس للنشر- بيروت- ط3/ 2002
• د. صادق جلال العظم- نقد الفكر الديني- دار الطليعة- بيروت- ط6/ 1988- ص6
• م. ن. ص7، 8
• م. ن. ص8
• Mechael Coogan, The Old Testament- A Very Short Introduction, Oxford , 2008, Chapter 9- Hezekiah and Sennacharib: another deep probe, Pp. 91-99.
• Thomas L. Thompson, The Messiah Myth,- The Near Eastern Roots of Jesus and David, Pilmico Ed. 2007, London.
• د, نعمان عبد الرزاق السامرائي- التوراة: بين فقدان الأصل وتناقض النص- دار الحكمة- لندن- 2001.
• د. رفيق عماري- حلقات برنامج الدين والتاريخ- قناة الحياة الفضائية المسيحية.
• رياض قسيس- لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح.. نحو فهم أفضل للعهد القديم- منشورات (ptw)- د. ت.
• محيي هادي- خرافات دينية 3: البقايا المقدسة المسيحية- مجلة الحوار المتمدن- ع 3790 - 2012 / 7 / 16
• ابن هشام- السيرة النبوية- تحقيق وتخريج وفهرسة: جمال ثابت/ محمد محمود/ سيد ابراهيم- دار الحديث- القاهرة- ط2/ 1998- ج2- ذكر الاسراء والمعراج عن رواية الحسن- ص7،8



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في قصور الفلسفة..
- في رثاء الحضارة ..!
- شاكر النابلسي.. وعلم نقد الدين
- سعدي يوسف.. صورة في الثمانين (الكتاب كاملاً)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (18)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (17)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (16)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (15)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (14)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (13)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (12)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (11)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (10)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (9)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (8)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (7)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (6)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (5)
- احتفالية سعدي يوسف في عيده الثمانين (4)
- انحطاط الأمة.. والخوف من الكلمة


المزيد.....




- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- نزلها الآن بنقرة واحدة من الريموت “تردد قناة طيور الجنة 2024 ...
- قصة السوري إسماعيل الزعيم -أبو السباع-.. مطعم زوار المسجد ال ...
- كاتب يهودي: المجتمع اليهودي بأمريكا منقسم بسبب حرب الإبادة ا ...
- بايدن: ايران تريد تدمير إسرائيل ولن نسمح بمحو الدولة اليهودي ...
- أستراليا: الشرطة تعتبر عملية طعن أسقف الكنيسة الأشورية -عملا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وديع العبيدي - نحو علمنة الدين..! (الكتاب كاملا)