أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - عن شعبوية شافيز وغموض السيسي















المزيد.....


عن شعبوية شافيز وغموض السيسي


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 4335 - 2014 / 1 / 15 - 16:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



((يتداول البعض بكثرة هذه الأيام التلويح بخطر مايسمونه "الشعبوية".. بعد تصاعد ظاهرة السيسي والاحتمالات الكبيرة لتبوئه منصب رئيس الجمهورية.. ورأيت هنا أن أقدم للقارئ ورقة سبق أن كتبتها عن هذه الظاهرة في أمريكا اللاتينية.. لعلها تفيد في نقاش علمي لتطبيق المصطح.. وقد فضلنا التركيز هنا على شافيز وليس عبد الناصر، لأن الأول أقرب إلى سياق العصر الحالي ثم أشفع ذلك بتعليق سريع))

رغم كثرة استخدام مصطلح "الشعبوية"، لا يوجد تعريف واحد متفق عليه في القواميس السياسية. ومن ثم فهو قد يطلق على هتلر وعبد الناصر والخميني، وربما أطلقه البعض أيضا على رونالد ريغان، مثلما يطلق على شافيز في نفس الوقت.. رغم الاختلافات الجليّة بينهم، الأمر الذي يكاد يفقد المصطلح أي مغزى علمي محدد، وإن غلب عليه الطابع السلبي. وإذا كان الإعلام الغربي قد اتهم شافيز وموراليس وغيرهما (وقبلهم كاسترو) بهذه التهمة، فإن بعض اليساريين قالوا أيضا بها حينما وجدوا أن خطاب وسياسات الزعماء "الشعبويين" تخرج عن النموذج الأيديولوجي المعيّن الذي يدينون به.

من المعروف أن هذا المصطلح قد بدأ في الظهور مع الحركات الفلاحية في الغرب الأمريكي في سبعينيات القرن التاسع عشر التي احتجت على أسعار الأرض وتكلفة النقل المرتفعة بالسكك الحديدية والديون التي أخذت بخناقهم، وذلك تحت قيادة "الحزب الشعبوي". كما أطلق المصطلح نفسه على "النارودنيك" (أصدقاء الشعب) في روسيا أواخر القرن نفسه، وخاض ضدهم حزب البلاشفة صراعا أيديولوجيا ضاريا.. ثم أصبح يطلق بمدلول سلبي على كل الحركات والزعامات التي تعطي الأولوية المطلقة للمطالب الشعبية المباشرة والجزئية، ولو كان هذا على حساب الرؤية بعيدة النظر لمستقبل المجتمع "ككل"، أو بتجاهل موازين القوى القائمة.

وعموما فهو مصطلح غامض يستخدم على أوجه عديدة، وإن غلب في العقود الأخيرة استخدامه في الخطاب السياسي والإعلامي كمرادف للحكومات المتسلطة (وربما الرعناء والفاسدة وحتى الأصولية و"الظلامية"..) التي تغازل وتنافق الرأي العام، وبالأحرى الجماهير الساخطة منخفضة الوعي وسهلة الانقياد وراء من "يرشونها" بمكاسب اجتماعية مباشرة. ومن يدقق في التناول الإعلامي الأمريكي سيجده يلصق هذه الصفة بكل حركة أو حكومة "تنحرف" عن قواعد التجارة الحرة أو تتبنى مواقف مناهضة للمصالح الأمريكية والمخططات الإمبريالية "لإعادة هندسة العالم والمجتمعات". وفي محاولة لتفسير الجماهيرية الكبيرة التي تتمتع بها هذه الحكومات والحركات، ولفوزها في الانتخابات الديمقراطية، يتم تصويرها على أنها ليست ذات شعبية حقيقية، وإنما هي "شعبوية" تتملق العواطف غير الناضجة للفئات الأميّة سياسيا وأبجديا، وتستغل مشاعر الحنين القومي تجاه ماض بعيد، وتقدم الرشا الاجتماعية، وتُحلّ عبادة البطل محل الديمقراطية؛ وبهذه الطريقة يتم تسفيه تلك الحركات والحكومات ومحاولة نزع الشرعية الشعبية عنها، ومن ثم تبرير الانقلاب عليها سواء من الداخل أم من الخارج.

ومن الجدير بالملاحظة أن من أوائل من حذروا مبكرا من موجة شعبوية مقبلة في أمريكا اللاتينية "كارلوس سليم"، الرجل الأكثر ثراء على الإطلاق في القارة وربما في العالم، والذي استفاد بشكل مباشر من الخصخصة المشبوهة لشبكة الهواتف الضخمة في المكسيك. فقد حذر مبكرا من أن انخفاض معدلات النمو في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، مع "التركز الزائد للثروة" -!!- يمكن أن يقود إلى "هوس الشعبوية" و"بدائل تسلطية وشعبوية وحمائية غير مرغوب فيها"، أي أن التجارة الحرة لا تتمتع بسمعة طيبة سوى وسط مؤيديها من السياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال، بينما هي سيئة في نظر جميع الآخرين.

وتساءل الملياردير: "هل هي مصادفة أن يكون تصاعد الشعبوية في أمريكا اللاتينية في وقت تحتدم المنافسة العالمية على الوظائف والاستثمارات؟" ويجيب "بأن ضغوط التجارة العالمية الحرة تضرب بقسوة الكثير من بلدان الإقليم، وتهاجم بنيتها التحتية المدنية حتى في أكثر مجتمعاتها استقرارا، وهو ما يخلق الفرص للقادة الشعبويين كي يستولوا على السلطة، عبر عمليات ديمقراطية هذه المرة". وبالنسبة لفنزويلا تحديدا قال إن النخب القديمة قد انتهى زمنها، وتوجد في السلطة الآن مجموعة جديدة سبق وأن حرمت طويلا من الفرص، ومن ثم فإن أولويات هذا الشعب الآن هي "سقف وطعام وأمن..".

ويقول آخرون إنه كان من المتصور أن "الشعبوية" قد أصبحت جزءا من التاريخ، بعد الانفتاح التجاري واندماج الأسواق المالية الذي بدأ مع السبعينيات، ومن ثم استحالة العودة إلى فكرة التصنيع الوطني لإحلال الواردات، إلا أن التجربة أثبتت أنها قادرة على العودة بسبب "عدم تحقق الأهداف التي مضى على طرحها زمن طويل مثل دولة الرفاه والعدل الاجتماعي والإدماج السياسي والمساواة وكرامة العاملين وحقوق الجماعات المحرومة".

ويلاحظ أن الدوائر الأكثر يمينية في الولايات المتحدة لا تنظر إلى هذه "الشعبوية" كظاهرة سياسية بقدر ما تنظر إليها كتهديد للأمن القومي الأمريكي. ففي شهادة للجنرال"جيمس هيل" (قائد سابق للقيادة الجنوبية الأمريكية) أمام الكونغرس حذر من "خطر الشعبوية الراديكالية التي ستقوض العملية الديمقراطية وتقلّص الحقوق الفردية، ومن ثم ستنتهي بالضرورة إلى إلهاب المشاعر المعادية لأمريكا". ويتم استغلال هذا "الخطر" لتبرير رفع مستوى المعونات للحكومات والجيوش التابعة والإنفاق العسكري والأمني في القارة، بل وضرورة الحضور العسكري الدائم هناك.

ويحاول بعض الإعلام الأمريكي اختزال "الشعبوية" في الكاريزما. ورغم أن الكاريزما كان لها بالطبع دور واضحا في السياسات والإجراءات التي طبقها شافيز ونظراؤه، إلا أن هذا لا يعني التسليم بالمقولة الخبيثة التي لا ترى في الحركة أو الحزب "الشعبوي" سوى كتلة هلامية ملتفة حول القائد الفرد الديماغوجي. ويمتد هذا الطرح في الخطاب الأكاديمي الأمريكي حيث يتم الربط بشكل لا ينفصم بين الشعبوية وبين الحاكم المتسلط، وكأن الإجراءات الاجتماعية الراديكالية، وبعث القومية والدفاع عن السيادة الوطنية لا يمكن تحقيقها إلا على جثة الديمقراطية (وخاصة في عصر العولمة).

ويقولون إن الخطاب الشعبوي ينزع نحو "أسطرة"، أو إضفاء طابع ميثولوجي على الشعب، والتشديد على "ماضيه التليد"، وضرورة الانقطاع "الخلاصي" عن حاضر وماض قريب نسبيًا في الأزمة الشاملة للمجتمع. وهو في نظرهم خطاب يخاطب "الشعب" دائما، ويشير إليه كمرجع مهيمن، وبتبسيط شديد يتجاوز فكرة أن المجتمع يتكون من مصالح مختلفة ومتصادمة، ومن ثم يعتبر أن مصالح قطاعات معينة منه هي مصالح "الشعب" بأكمله. ويضيفون أن السخط الشعبي وحده لا يكفي كقاعدة "متينة" لبناء حركة سياسية. ويؤكدون أنه حتى لو تمكنت الشعبوية من تحقيق إنجازات وقتية فإنها ستنتهي حتما إلى كوارث تترك آثارا بعيدة المدى. أي أنهم يرون في الشعبوية حركات انتقالية تظهر في تاريخ المجتمعات بشكل دوري إبّان الأزمات الكبرى، وسرعان ما تفسح الطريق أمام معالجات أخرى "أكثر عقلانية".

وفي الحقيقة أنهم يتلاعبون بتصوير الغضب على النخبة (من الماليين وأصحاب الشركات والمسئولين والبيروقراطية الفاسدة والمثقفين التبريريين...) على أنه مشاعر سلبية تجاه جماعات "أخرى" في المجتمع، بينما هي في الحقيقة تجاه مصالح كمبرادورية عميلة تلعب دور الوكيل أو الشريك الأصغر للاستعمارين الأمريكي والأوربي، حتى أصبحت جزءا عضويا منهما وارتبط مستقبلها بهما، وقد حققت هذه النخب ثروات هائلة من خلال تسليمها مقدرات البلد للمصالح الرأسمالية الغربية، بينما أوقعت خرابا هائلا بأوسع القطاعات الشعبية. ومن السخف بمكان تصوير العداء لنخبة كهذه، حتى لو حكمت بديمقراطية مقيدة وليس بدكتاتورية صريحة، على أنه يدخل في باب الغوغائية وتملق الجمهور، فهل يمكن لأبسط حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن تستعاد أو تستحدث بدون عزل تلك النخبة وسحب امتيازاتها، باسم "الشعب كله"؟

وبالنسبة للحديث عن المخاطر التي تتهدّد الديمقراطية من جراء تصاعد "الموجة الشعبوية"، فماذا فعلت تلك الديمقراطية الشكلية (وتتلخص في الانتخابات الدورية) لوقف تلك النخب النهّابة عند حدها؟ ألم تكن "الديمقراطية" في أمريكا اللاتينية موضع إعجاب غربي و"قصص نجاح" تروى ويروج لها طالما ضمنت استمرار المصالح الأمريكية وحافظت للنخبة على احتكار المزايا، واقتصر عمل الديمقراطية على توزيع وإعادة توزيع هذه المزايا؟

ولعل هذا كان من أسباب الصدمة الناجمة عما توصلت إليه باستمرار استطلاعات الرأي في أمريكا اللاتينية خلال التسعينيات من وجود أقلية كبيرة لا تحبذ الديمقراطية لأنها ارتبطت بالسياسات الليبرالية الجديدة في الاقتصاد والحياة الاجتماعية عامةً، مما وسّع من دائرة الإفقار والبطالة وتراجع الدولة عن توفير الخدمات الأساسية. ولكن مع قدوم السياسات المتهمة "بالشعبوية" عن طريق صندوق الانتخاب أدرك المواطنون بالتأكيد أهمية الديمقراطية للحفاظ على المكتسبات الجديدة والمستعادة، وعلى العكس تماما نجد أن اليمين المحلي والعالمي هو الذي يحاول الانقلاب على قواعد اللعبة الديمقراطية بدعوى أن "الشعبوية" مصيرها الحتميّ هو التسلطية.

فقدم البعض فكرة أن شافيز نموذج "بونابرتي"، أي أنه من نوع تلك الشخصيات التاريخية المتمتعة بمواهب خاصة، وينشأ دورهم في لحظات معينة من الاحتقان الثوري، حيث يختطفون الثورة بواسطة الرطانة الراديكالية وتركيز القوى الفاعلة في أيديهم، ومن ثم يستطيعون الوقوف فوق كل من الطبقات الثائرة والطبقات المتشبثة بالأمر الواقع. ولكن الفارق الأساسي بين شافيز وهذا النوع من القادة هو أنه أتى إلى السلطة بطريق الديمقراطية، وأنه لا يقوم بالإجراءات التحويلية "بالنيابة" عن الجماهير، وإنما يشركها في تطبيق هذه الإجراءات ويشجع على توسيع أشكال ديمقراطية المشاركة على المستوى القاعدي.
ولما وجد آخرون أنه من الصعب إقامة حجة "التسلطيّة" على حكم جاء بالطريق الديمقراطي، وخضع لاختبارات ديمقراطية عديدة، طوّروا فكرة "نظم الحكم شبه التسلطية" بتحليل نماذج في أفريقيا وآسيا الوسطى، وطبقوها على حالة شافيز. ومؤداها أنه تحت ضغط "الموجة الثالثة" من الدمقرطة العالمية يعمد هذا النوع من نظم الحكم إلى تكرار الالتزام اللفظي بالمؤسسات الديمقراطية "كديكور"، في وقت تنتهك روح الديمقراطية بدعم "قاعدة جماهيرية غير ليبرالية بالأساس"! ويتجاهلون الفارق الحاسم في أن معظم هذه النماذج– على العكس من نموذج شافيز- تنتهج سياسات المؤسسات المالية الدولية ومنظمة التجارة العالمية فعليا، أو انتهت إليها عندما اختارت الانقلاب على آلية الانتخابات والعمليات الديمقراطية الأخرى.
وقالوا إنه بمجرد وصول هذه الحكومات شبه التسلطية إلى سدة الحكم "تبدأ في محاولة إدامة وجودها في السلطة والحيلولة دون الإطاحة بها في انتخابات مقبلة"، فهل انطبقت هذه "الحيلولة" على شافيز الذي كان يسعى بنفسه إلى الانتخابات والاستفتاءات واثقًا من قدرة الطبقات الشعبية على الاختيار السليم؟ حتى أن البعض من اليساريين في فنزويلا وخارجها أشفقوا كثيرًا من هذه "المبالغة" من جانبه في الاحتكام إلى العمليات الاقتراعية. وفي تعدادهم لخصائص هذا النموذج ذكروا عدم تزاوج الليبرالية الاقتصادية مع الليبرالية السياسية، دون الاكتراث بتقديم دليل علمي وعملي واحد على ضرورة وحتمية هذا التزاوج بالنسبة للدمقرطة، سوى القول المتعسف بأن حرية المشروع الخاص (المحلي والأجنبي) هي الشرط الضروري لبناء نخبة "مدنية" ليبرالية، وأن وجود هذه النخبة في الحكم هو من شروط نجاح الدمقرطة.

وحينما طبّق الكاتب المذكور هذه الفكرة على شافيز نجده يقول (وننقل هنا هذه العبارات المطوّلة لأهمية دلالاتها) : "لقد أطاح شافيز بالطبقة السياسية القديمة.. وأحل محلها الحكم الشخصي للرجل القوي كنوع من الديمقراطية التشاركية المباشرة التي توحد بين الناس وبين رئيسهم الشعبوي الجديد ذي الكاريزما" (..) "وفي ظله وقعت السلطة السياسية بشكل متزايد في هوامش أو خارج المؤسسات السياسية، لتتوحد في سلطة شافيز الشخصية، والتمركز الزائد للسلطة في أيدي الرئيس مع القليل جدا من آليات الرقابة، وتواطؤ القوات المسلحة.. وفي إطار أيديولوجية تخليطية تجمع بين القومية المتطرفة والعسكرية والاستفتاءات الشعبية". وهنا إشارة لأساليب التعبئة الجديدة التي لجأ إليها شافيز لتنفيذ برامجه الاجتماعية، دون إيلاء أدنى اهتمام لما يمكن أن تنطوي عليه من بعد ديمقراطي أيضا، ذلك أن مفهوم الديمقراطية ذاته مختلف عليه. كما يتم تقديم الكاريزما على أنها مجرد ولع "سيكلوجي" مرضي بالسلطة وبمعزل تام عن مشروعها السياسي..

وقد حاول البعض التحذلق أكثر بالحديث عن عامل ثقافي لو سلّمنا به لكان معناه تخليد النظم الدكتاتورية تقريبا في أمريكا اللاتينية، حيث يؤكدون استمرار الثقافة الأيبرية (وهي النقيض لثقافة الملكية الدستورية لبريطانيا التي كانت تستعمر أمريكا الشمالية) في التأثير على الجمهوريات التي استقلت عن التاج الإسباني، ومن ثم فإن هذه الدول الجديدة تحتاج دائما إلى "وصاية أبوية"، أي حكم شديد المركزية لجماعات نخبوية صغيرة تحكم بالنيابة عن كل السكان، وإلا فإن كيان هذه الدول ومجتمعاتها سيظل مهدّدا دائما بالفوضى والتفتت والاختراق.

ورغم موافقتنا على وجود دور بالفعل للعامل الثقافي التاريخي إلا أنه ليس العامل الوحيد المؤثر، كما أن الإرث الثقافي المعني ليس بهذه الصلابة الأقرب إلى القدريّة أو النواميس الطبيعية. ويتجسد خبث هذا الطرح في أنه يبرر للحكم الدكتاتوري اليميني إن وجد باعتباره حتميّا، أما الحكم اليساري أو الوطني فهو مقبل على الدكتاتورية لا محالة حتى لو جاء بطريق ديمقراطية، وبالتالي فهو لا يملك فضيلة عن غيره، ونتيجة لهذا فلا محل لإدانة الانقلاب عليه. وهذا مثال نموذجي على الابتذال الثقافوي للعلم الاجتماعي.

أما إذا تحدثنا عن علاقة هذه النبوءة بالزعامات الفردية "الاستثنائية" مثل زعامة شافيز، فليست هناك أية حتمية علمية وراء القول بأنها ستنتهي إلى التسلطية. صحيح أن معظم المبادرات الوطنية والشعبية التي عرفتها فنزويلا قد بدأت من عند شافيز، ولكن ليس معنى هذا أنها من "بنات أفكاره" المحضة، وإنما هي ترجمة وتعبير عن مصالح وأمنيات عميقة، بل وحركات شعبية موجودة على أرض الواقع، وأن القائد المسئول والمنتمي للشعب حقا يكون الأقدر والأسرع في المبادرة. ومن المؤكد أن كل مبادرات شافيز أدت وتؤدي إلى تزايد المبادرات الشعبية على نطاق واسع وبطريقة ديمقراطية تماما، فهو لم يعتمد في برامجه على جهاز الدولة بالدرجة الأولى، وإنما حاول جاهدا بناء آليات جديدة للمشاركة الشعبية، تعمل إلى جانب هذا الجهاز وبالتنسيق معه، في مسعى لثلم حدة النفوذ البيروقراطي.

والخلاصة هنا أن حكم شافيز ونظرائه قد جاء بوسيلة ديمقراطية، وترسخ عبر العديد من اختباراتها القاسية (انتخابات، استفتاءات..) وصمد أيضا في وجه كل المحاولات الانقلابية والإضرابات التخريبية والتحريض الإعلامي المتواصل. لقد استطاعت الحكومات "الشعبوية" تحقيق هذا كله بقوة وضعها الدستوري والحركات الشعبية، وليس بقمع أو سجون أو تشريعات معادية للحريات.. ومن ثم فنحن أمام زعماء شعبيين حقا وليسوا "شعبويين" بالمعنى السلبي.

مثلاً استطاع شافيز أولا بناء تحالف واسع من العسكريين الثائرين، والأحزاب اليسارية الصغيرة، والمثقفين التقدميين؛ الذي وجدوا فيه جميعا الرمز الذي يمكن أن يتوحدوا حوله. وسرعان ما اتسع هذا التحالف جماهيريا بقوة كاريزما هذا الزعيم وبرنامجه، حتى استطاع التحالف الوصول إلى السلطة في لحظة تاريخية خاصة. وحينما جرى تطبيق البرنامج اليساري اتسعت الآفاق الاجتماعية لهذا التحالف حتى وصلت إلى بعض الشرائح في قطاع الأعمال.

هنا يثور التساؤل عن دور العسكر في الثورة الفنزويلية، خاصة وأن هذا الدور كان من أهم مثالب التجارب الموصوفة "بالشعبوية" من قبل. ومن السمات المعروفة للتجربة الفنزويلية تواجد عدد من العسكريين القدامى في مناصب إدارية وسياسية، ولكن ليس من منطلق كونهم "ممثلين" للمؤسسة العسكرية "كجماعة مصالح" (والتي حاول قطاع منها الإطاحة بالنظام كله) وإنما من منطلق كونهم شخصيات وطنية وتقدمية انخرطت من قبل في النضال السياسي في إطار ما يعرف بالتحالف المدني- العسكري. وكان تأييد هذا القطاع من الجيش سببه تدخل الأحزاب السياسية في أدق أموره، وتمرد صغار ومتوسطي الضباط على فساد وسوء تصرف القيادات العليا. وينبهنا آخرون إلى أن الجيش الفنزويلي له طبيعة خاصة يجب أخذها في الحسبان .

فحين دخول جيل شافيز فيه كان يتم تدريب الضباط في الأكاديمية الحربية الوطنية وليس في "مدرسة الأمريكتين" سيئة السمعة مثل معظم جيوش القارة، كذلك بادرت الأكاديمية الوطنية وقتها بتدريس علم السياسة مع التأكيد على المبادئ الديمقراطية وتحليل السياسة الفنزويلية، وحتى في العلوم العسكرية يتم تدريس استراتيجية "ماوتسي تونغ" إلى جانب "كلاوزفتس". وفوق هذا وذاك لم تكن المهنة العسكرية منغلقة على طائفة تتوارثها، وإنما فتحت أبوابها أمام أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقد كان هؤلاء بالذات هم الأكثر تأثرا بمذبحة "كاركاسو" سابقة الذكر.

ولم يعط نظام شافيز أية ميزة خاصة للعسكر بوصفهم هكذا، وإنما أعطاهم حق الانتخاب فقط دون حق الترشّح، كما كلفهم الدستور بحماية النظام، والمشاركة النشطة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال برامج إنتاجية (وحدات زراعية، مشروعات صيد..) وبرامج للمساعدة مثل تقديم الخدمات الطبية وإصلاح المدارس والتدريب التحويلي..

ونأتي إلى الاتهام الأخطر الذي وجه إلى سياسة شافيز، ألا وهو أنه يبدد ثروة البلد الطبيعية من إيرادات النفط على الإنفاق الاجتماعي ودعم الحكومات المماثلة في أمريكا اللاتينية، أي أنه استهدف شراء الولاء السياسي لنظامه داخل وخارج فنزويلا.

ومن المؤكد أن شافيز لم يكن أول دشّن سياسة الإنفاق الاجتماعي الواسع في أمريكا اللاتينية أو فنزويلا، فالحكومات اليمينية السابقة عليه كانت تنتهج أيضا هذه السياسة كلما سمحت لها أسعار النفط والمواد الخام العالمية بذلك، ولكن القسم الأعظم من هذه الإيرادات كان يضيع في عمليات الفساد الواسعة وإثراء النخبة من خلال التعاقدات الحكومية المميزة وغيرها من عناصر الشبكة المعقدة لما تسمى "الزبونية السياسية".

وتشير دراسات لا يمكن اتهامها بالانحياز لليسار، إلى أنه على الرغم من ضغوط المؤسسات المالية الدولية على حكومات القارة والعالم الثالث لخفض الإنفاق الاجتماعي على الصحة والتعليم.. فإن العولمة نفسها توجب موضوعيا زيادة هذا النوع من الإنفاق؛ حتى يمكن أولا الحفاظ على النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية القائمة من الانفجار، ولإنجاز أهداف النمو الاقتصادي ذاته.

وبالنسبة للشق الأخير فمن المعروف أن العولمة الحالية وما يسفر عنها من بطالة وإغلاق للمنشات.. تسهم في توسيع القطاع غير الرسمي في الاقتصاد. ومن ثم فإن التوسع في الإنفاق الاجتماعي (وبغض النظر عن التوجه السياسي للحكومة) يهتم أساسا برأس المال البشري؛ وهو ما يفيد بالدرجة الأولى القطاع غير الرسمي الآخذ في الاتساع، وليس القطاع الرسمي المنكمش، من حيث رفع المستوى المهاري والنوعي لقوة العمل في هذا القطاع. بل إن بعض المؤسسات الدولية تضغط على حكومات العالم الثالث للإنفاق على رأس المال البشري من هذا المنطلق الاقتصادي البحت. ومع ذلك فإنه يمكن القول إن البعدين الاجتماعي والسياسي حاضران بقوة أيضا في سياسة شافيز ونظرائه في هذا الصدد.)))

## التعليق على النص ##
بالطبع لا يوجد تناص بين حالتي شافيز والسيسي.. فنحن أمام الأخير إزاء "سمك في الماء".. فهو لم يعلن بعد انحيازات اجتماعية واضحة.. بل يغلب الإيحاءات الرومانسية الوطنية، كما أنه لم يكن له ماضٍ سياسي معروف على العكس تمامًا من حالة شافيز الذي كان غارقًا في السياسة وسبق أن سُجن بسبب محاولة انقلاب فاشلة.. خاصة وأن تجربة الإخوان في الحكم لم تنطو فحسب على مخاطر الإفقار والتبعية والاستبداد.. وإنما هددت بقاء الدولة نفسها، وأنذرت بتفكيك المجتمع وإغراقه في صراعات عمودية (طائفية- نوعية-..).

المهم أن نستوعب الدروس من تاريخنا ومن الخبرات الأخرى. فمن الطبيعي أن نحذر من الحماس الشعبي "الزائد" لكاريزما لا تزال غامضة، ولم تفصح بعد عن اتجاهاتها (وإن كان من المرجح جدًا أن تميل إلى تثبيت الأوضاع على ما هي عليه).. إلا أننا يجب أن نتفهم أن مبعث ذلك الحماس هو "الذعر" الشعبي من محاولة إعادة المجتمع إلى ما هو أكثر من الوراء، وإغراقه في حالة ظلامية تامة، متوسلة في هذا بالانقلاب على ثورة الشعب ضد نظام مبارك.

لكن يجب على القوى الواعية أن تثقف الشعب بأن السيسي يصعب أن يكون تكرارًا لعبد الناصر، لأن السياق غير السياق، والأفراد ليسوا الأفراد. لكن الضغوط الجماهيرية كفيلة بانتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب يساعد مستقبلاً في تغيير ثوري حقيقي.

المهم أكثر أن نشجع الشعب على التمسك بأهداف ثورته، والعمل على إجبار الكاريزما ومروجيها على تبني تلك الأهداف.. أي أن تقدم الكاريزما أماراتها، وإلا أصبحت مجرد مؤامرة مقابلة على ثورة الشعب المصري..

الوضع في مصر بالغ السيولة.. ومستوى الوعي الثوري عند الجماهير صاحبة المصلحة في الثورة لا يزال محدودًا ويتأثر بالعوارض كثيرًا.. إلا أنه لا بد أن يتطور- تحت وطأة الصراع الطبقي والسياسي- إلى مستويات أعلى.. وحينئذ سيكون من السهل التمييز بين توجهات استراتيجية كبرى وبين مواقف تكتيكية لا مفر منها، حتى وإن صبغتها أوهام واكتنفتها تنازلات.

ودور الثوري هو الارتقاء بالوعي الناتج عن التجربة الذاتية والمباشرة للشعوب في لحظة محددة.. نحو وعي تاريخي، جذري وشامل.



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من كتيبة المجهولين- اليساري بالسليقة
- مستقبل مغامرة السيسي
- لا تكرروا خطيئة التحالف مع الشاطر إخوان
- فريق رائع
- من غير لف ودوران
- دليلك إلى القيادي الشرير
- وحزب يساري جديد في مصر..
- ثورة من جديد ؟!
- وحدة اليسار المصري بين السراب والممكن
- حديث طريف.. وكله عِبَر
- مينا دانيال.. بطل من مصر
- مسألة السيسي بين الاستقالة أو الاغتيال
- كي لا تفشل الثورة المصرية
- مظاهرة الزيتون
- غابت البوصلة والطليعة فحضرت الكاريزما
- شعب ثائر وحكومة مرتعشة
- المجد للشعب المصري
- أيام مصر الخطيرة
- انقلاب عسكري أم انقلاب ثوري
- الثورة المصرية بحاجة لطليعة


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - عن شعبوية شافيز وغموض السيسي