أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش -غابة الأرز-















المزيد.....


ملحمة جلجامش -غابة الأرز-


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4334 - 2014 / 1 / 14 - 03:39
المحور: الادب والفن
    


غابة الأرز

جلجامش يحمل فكرة التمرد على كل ما هو كائن، ونفسه تأبى التسليم للأمر الواقع، ويسعى السمو فوق الجميع، ويريد أن يكون أنموذجاً فريدا يسترشد بفعله من الآخرين، فيقرر الذهاب إلى غابة الأرز ليكون مميزا عن الجميع ويخلد اسمه ولا يفنى كبقية البشر، ولتستقر نفسه الباحثة عن المستحيل، فهو يعرف أن أيام البشر معدودة ولا يمكن تجاوز القدر، ومع هذا لا يريد الاستسلام وبهذه الحقائق يسعى ليتخطاها رغم استحالة ذلك، فهو يرفض وبإصرار أن يكون من الفانين، وسيعمل جاهدا لكي يبقى خالدا والى الأبد.
اتخذ جلجامش قراره بالذهاب إلى غابة الأرز، ورغم بعدها وصعوبة الوصول إليها وخطورة تلك الرحلة، إلا انه يقرر الذهاب، فيستشير صديقه انكيدو أولا
" هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض" السواح ص121
جاءت كلمات جلجامش لتعيده إلى ذاته الخيرة، التي ترفض الشر وتسعى للخير، من هنا يريد أن يخلص الناس من الشرور مهما كان مصدرها ومصدرها، انكيدو عاش في البرية ويعرف غابة الأرز ويعرف طريقها ومن هو حارسها، وبهذه المعرفة تحدث لجلجامش
" أنها تمتد عشرة ألاف فرسخ في كل اتجاه
لقد عين انليل هواوا لحراستها وأسلحته بسبعة ألوان الرعب
عندما يزأر يكون صوته كهدير العاصفة
أنفاسه مثل النار وأنيابه الموت بعينه
انه يحرس الأرز بيقظة كبيرة
أن الخوف يستولي على كل من يقترب منها" السواح ص121
ليس صراعا متكافئا عندما يقابل المرء هواوا
انه محارب عظيم، انه إله التحطيم" بشور ص204
أنكيدو الصديق الوفي يخبر جلجامش بكل ما يعرف عن الغابة وعن حارسها ، فهي بعيدة جدا والوصول إليها يحمل الكثير من المشقة والتعب، وهذه أول المعيقات أمام الوصول إليها، وهناك أرادة سماوية لحماية الغابة من الدخلاء، وهذه الإرادة متمثلة بأنليل الذي وضع هواوا أو خمبايا لحراستها، وبما أن هذه الإرادة سماوية إلا أن الحارس هواوا يمتلك أسلحة سماوية وقوة جبارة وهيئة مرعبة، تتمثل فيما يلي، منظر مرعب يلقي الرعب في قلب كل من يتجرأ وينظر إليه، ويمتلك صوت العاصفة الهوجاء، ويخرج النار من فمه، وأنيابه مثل السيف، هذه الأوصاف لا يمكن أن تكون لرجل أو إنسان بل لمخلوق متوحش أسطوري.
أن خمبابا هو كائن رهيب يمتلك تلك المقدرة الإلهية وهو دائم اليقظة يسمع كل من يقترب من الغابة، ويضيف أنكيدو محذرا جلجامش من السفر إلى الغابة، الرعب يدب بكل من يذهب إلى تلك الغابة، وكذلك المنازلة مع ذلك التنين هو نزال محسوم سلفا لصالح التنين، ويكمل أنكيدو حديثه عن قوة الحارس قائلا، إنه محارب عظيم وهذا يعطي خمبابا الخبرة في القتال وليس القوة فقط، وهذا ما يجعل منازلته شبه مستحيلة.
بعد سماع جلجامش هذه المعلومات، يرد على أنكيدو بكلمات يريد من خلالها جلب أنكيدو للموافقة على سفره إلى غابة الأرز .
" يا صاحبي من الذي في وسعه أن يدحر الفناء
ليس سوى الأرباب تحت الشمس من يظفر بالبقاء
أصبحت ترهب الردى ونحن لم نزل هنا
فما الذي دهى النزال فيك والبطولة
أهكذا تحقق المنى
وما الذي عساني أن أقوله
دعني إذن أسير قدامك يا أنكيدو
أسير وليناديني فوك : تقدم لا تخف
فأن أصاب مهجتي التلف
أكون قد دونت لي اسما خالدا
وسوف يذكرون عني قائلين أبدا :
لقد قضى جلجامش في نزال خمبابا المريد" عبد الحق فاضل ص 236
جلجامش يعرف كيف يخاطب الأبطال أصحاب العزائم القوية، ويعرف كيف يثير فيهم العزيمة لقد استخدم جلجامش الخطاب الفكري أولا ثم ألأخلاقي ثانيا، مستخدما كلمات موجعة مؤثرة، لقد جاء حديثه عن الخلود والموت يحمل بين معانيه الذل والتقريع لك من يريد أن يبقى ساكنا غير يفعل، ويحمل أيضا الإقناع المنطقي، فأصحاب الفعل لن يغيروا نظام الحياة والموت، وأصحاب عدم الفعل لن يغيروا كذلك النظام، ومن هنا جاء سؤال جلجامش في بداية حديثه " يا صاحبي من الذي في وسعه أن يدحر الفناء" يحمل الإقناع المنطقي، ويدفع بألهمم لصالح طرحه.
وبنفس الأسلوب الذي بدا فيه أنكيدو الحديث مع جلجامش، يرد عليه جلجامش ودخل الآلهة في الموضوع كما أدخلها أنكيدو، وجاءت كلماته واضحة مثل الشمس ليس فيها غموض أو إبهام، ويكمل جلجامش حديثه عن الإنسان والأيام المقدرة له من الإلهة، جاء هذا الخطاب الفكري لإقناع أنكيدو بأن قرار جلجامش الذهاب إلى غابة الأرز هو قرار صائب، لكن كيف سيقنع أنكيدو بان يذهب معه إلى الغابة ؟ من خلال معرفة جلجامش لنفسية أنكيدو المخلص، جاءت كلماته أللاحقة فيها النار التي تشعل الزيت في قلب أنكيدو الشجاع، ويبدأ معه بكلمات تدفعه نحو القبول بألفعل، أيعقل أن يكون أنكيدو القوي يخاف من مجرد ذكر خمبابا وهو ما زال في حضرة جلجامش!، أليس هذا امتهان لانكيدو؟، ثم يسأل جلجامش أنكيدو بحقيقة مؤلمة، أين ذهبت قوتك؟ وجاء هذا السؤال إنكاري لتلك القوة التي يحملها أنكيدو، ويكمل حديثه أنا أسير أمامك وأنت خلفي، مفهوم هذه الكلمات في نفس أنكيدو،النار الحارقة التي يحترق بها وكيف يسير في الخلف وهو الشجاع؟، ولا يكتفي جلجامش بذلك بل يكمل بجملته القاتلة: "وأنت تصرح تقدم ولا تخف" هذا الحديث جعل أنكيدو يعيد كل حساباته، ولقد ذهل من سماع هذه الكلمات وها هو يعد العدة مع جلجامش للذهاب إلى غابة الأرز، وكأن الكلمات التي سمعها هي تحدي شخصي له، فيقرر المضي مع جلجامش ويأخذ في أبداء النصائح لجلجامش ليكون سفرهما ناجحا .
" فأخبر اتو ( شمس ) أوتو البطل
أن الأرض أرضه
أن ارض الارز الذي ستقلعه تخص أتو" بشور ص 205
هذه النصيحة التي وجهها أنكيدو لجلجامش تكون البداية لسلسلة من الإجراءات يتخذها جلجامش قبل السفر، وفعلا يخبر جلجامش الإلهة شمس، وتكون هذه كلمات جلجامش لشمس الإله:
" يموت الرجل في مدينتي، وقلبه مثقل بالهموم
يهلك الرجل وهو محزون القلب
ها أنذا أنظر من فوق الأسوار
فأرى الجثث تطفو على النهر
وأنا سيحل بي حقا نفس المصير
الإنسان أطول إنسان لا يمكنه أن يطال السماء
الإنسان أعرض إنسان لا يمكنه أن يغطي الأرض" بشور ص 205
جاء خطاب جلجامش لهذا الإله فيه هم الإنسان الذي يحمل هموم الناس جميعا، جلجامش يحزن من مشاهدة الرجال موتى، وقبل أن يحصلوا على شيء من الحياة، وهذا الحقد على الموت سيكون هو أحد أهم الصراعات التي يخوضها جلجامش، فهو يكتفي بالحقد هنا، ولم يصل بعد إلى مرحلة التناقض معه، فهو رفض ـ مسالم ـ يريد أن يكون فعالا يظهر صورته أمام الناس وأمام الإلهة كبطل حقق شيئا مميزا وفريدا.
جلجامش هنا يعمل ضد كل ما هو ساكنا، ويسعى إلى أن يكون كل شيء متغيرا، فالسكون وعدم الفاعلية والثبات نقائض يعمل جلجامش على إزالتها من الكون، وبعد هذا الهم الجماعي لأهل أوروك ينتقل جلجامش ألي همه الشخصي مخاطبا شمس، هل سيحل بي نفس المصير؟، هذا السؤال يؤكد بأن جلجامش يرفض أن يسلم للأمر الواقع – قدر الموت ـ وكذلك بإنسانيته، ولكن سيعمل بشكل مخالف لعمل الإنسان العادي، فهو يتميز عن بقية الناس ليس بقوته وهيئته وحسب بل بالعقلية الرافضة كذلك، وبعد هذا السؤال ينتقل جلجامش للحديث عن فلسفته اتجاه الموت وكيف ينظر لهذا الموت، فكأنه يقول للإله شمس، ما دام الإنسان أعظم إنسان لن يصل إلى السماء ولن يغطي الأرض لأنه سيموت في النهاية فدعني افعل قبل أن أموت، وبعد هذا الحديث يوافق شمس على سفر جلجامش ويعطيه الأمان في الذهاب والعودة إلى أوروك سالما.
وبعد هذا الانجاز موافقة أنكيدو ثم مباركة الإله شمس، يأتي الإعداد والتجهيز لتلك الرحلة الطويلة، يأمر جلجامش الصناع لكي يصنعوا أقوى ألأسلحة ليواجه بها خمبابا، وأثناء ذلك يعلم شيوخ أوروك انكيدو عن خمبابا الذي لا يمكن قهره، يرد عليهم جلجامش بمنطق الرافض للسكون.
" بماذا سأحبهم ؟
وسأمكث داخل بيتي كل أيام حياتي؟" بشور ص 207
استخدم جلجامش صيغ التحقير لحالة التسليم والسكون ليثير المستمعين نحو رفض هذا السكون والتسليم بما هو قائم، وجاءت كلماته تحمل فلسفته عن الحياة والفعل وبعد هذا الحديث مع الشيوخ والإله شمس وأنكيدو من قبل، نستطيع القول بأن جلجامش يسعى إلى سمو الإنسان ويعمل على رفض كل ما هو قائم مقدر، وهو يمتلك فلسفة خاصة به عن الحياة والفعل والموت والسكون، وهذه الفلسفة تعتمد على الإنسان الذي يعتبره جلجامش بموازاة الآلهة، وقد استخدم أسلوب التحقير المحرض على الفعل، وهذا الأسلوب كان مقنعا جدا، حيث حصل على دعم كل من تحدث معه.
وقبل أن يبدأ جلجامش وأنكيدو الرحلة إلى غابة الأرز، ويدخل جلجامش على أمه ننسون ليحصل على مباركتها، وجاءت كلماتها كما يلي :
" أي شمس لماذا أعطيت لأبني قلبا لا يعرف الراحة
لماذا أعطيت هذا القلب لجلجامش
أنت دفعته فهو الآن في طريقه إلى ارض خمبابا
سيسير طريقا مجهولا ويخوض معركة غريبة
لا تنسه إذن من يوم رحيله حتى يوم عودته
حتى يصل غابة الأرز ويقتل همبابا
ويحطم الشر الذي تمقته يا شمس
بل دع الفجر "أيا عروسك العزيزة تذكرك دائما
وإذا ولى النهار دع حارس الليل يحفظه من كل أذى
ثم أطفأت ننسون أم جلجامش البخور والتفتت تحرض انكيدو
أي أنكيدو القوي ... سوف استقبلك كإبني بالتبني، أنك ولدي الآخر
اخدم جلجامش كما يخدم اللقيط المعبد والكهنة الذي ربوه
أني أتمنك على ابني فأرجعه إلى سالما بشور ص 208
كلمات أم جلجامش تحمل العاطفة الجياشة، والحرص على ولدها من الأذى، ويستدل منها على حالة الاضطراب التي تمر بها، فهي تحمل الإله الشمس مسؤلية ما أقدم عليه
ابنها، فهو من منحه قلب لا يعرف السكينة والراحة، وكان عتابها للإله شمس لتريح نفسها من الثقل الذي يتعب نفسها أولا، ثم لتحصل على دعم إضافي من شمس،
فبعد أن افرغت ما في نفسها من هم من خلال الكلمات التي وجهتها لشمس، شعرت بالراحة النفسية، ثم أخذت تطلب منه أن يحمي ولدها في سفره وفي عودته، وان ينصره على عدو الإله شمس خمبابا، وكان استخدام كلمة "الذي تمقته" لتحمل شمس على الاندفاع أكثر لمساندة جلجامش في مغامرته، فكأن جلجامش أقدم على تلك المغامرة نيابة عن الإله شمس، وجاء السطران الأخيران من حديث ننسون لشمس فيهما الهدوء ولا يحويان كلمات الانفعال والاضطراب كما هو في بداية حديثها، وهذا التسلسل المنطقي في ترتيب الكلمات ينم عن القدرة وحالة الإبداع الفني في الكتابة الملحمة والتي يتمتع بها من كتب النص الملحمي.
بعدها تنتقل ننسون إلى توجيه كلامها لانكيدو مرافق ولدها وصديقه، فتحدثه حديث الأم لابنها وتجعل منه ابنا لها، ثم تأخذ في توصيته على جلجامش ليعود إليها سالما، ولان انكيدو وفي لأصدقائه كانت كلمات ننسون تجعل منه المسؤول عن سلامة جلجامش.
وإذا تمعنا في الكلمات التي خاطبت بها ننسون نجدها قد وضعت بدقة متناهية، فتم مخاطبة كل شخصية بما يناسب وضعها، وهذه الحوارات تحمل تفاصيل شخصية كل من تكلم وكلم في آن واحد، فتم مخاطبة كل شخصية حسب الموقف الذي يراد مها القيام به.
بهذا الرضا الأمومي ومباركة الأرباب وصحبة الأصدقاء ينطلق جلجامش إلى غابة الأرز مودعا أهل أوراك وداع الأحبة، موجهين له النصائح التي تعبر عن الحب والحرص على شخصه، وينفذ الحاكم الحامي تلك النصائح والوصايا ويجعل انكيدو يسير في المقدمة أمامه، يسير الصديقان إلى غابة الأرز، يقطعان الجبال السبعة وفي ثلاثة أيام يقطعان مسيرة خمسة وأربعين يوما، يتقدمان في المسير نحو غايتهما، إلى أن يصلا مشارف الغابة، وهناك يكون احد الحراس الذي يحرسون الغابة، يصاب جلجامش بالنوم فلا يقوى على الحركة فيحدثه انكيدو يحرك فيه الحمية والشجاعة
" تذكر ما قلته في حضرة شيوخ أوراك
انهض تقو اهجم عليه، اقتله
أنت ابن أرك
سمع جلجامش هذا الكلام
أسرع لمنازلته تقلد أسلحته" فريحة ص30
الملحمة في هذا الجزء تستخدم كلمات دافعة للقتال على مسامع أبطالها حين يصابون بالتهاون أو لتراخي، محرضة إياهم على الإقدام، فها هو انكيدو يخاطب جلجامش بعين الأسلوب الذي خوطب به في أوراك حاثا إياه على الشجاعة والاقدام، وداعيا إياه الابتعاد عن الخمول والتهاون، فكان تذكيره بالكلمات التي قيلت له في أوراك، وانه ابن تلك المدينة الشامخة العصية المنيعة، وبعد سماعه هذا الكلام يتجاوز جلجامش حالة التراخي السلبي ويعود إلى ذاته القوية.
يقف جلجامش وانكيدو أمام مدخل الغابة ويحاول انكيدو الدخول فتشل يده ويدب الخوف والرهبة في نفسه، ويطلب من جلجامش أن يوقف الرحلة إلى هذا الحد، إلا أن جلجامش العنيد يخاطبه ليزيل عنه ثوب الخوف والهلع
"قال جلجامش لا تكن يا صديقي كرجل ضعيف
أنت تعلم الحرب، يداك حذقتا فنونها
لا ترهب الموت... إبق معي
سيزول شلل يدك...
سنتوغل في الغابة ... إنس الموت
تقدم من يكون في المقدمة يحفظ حياة
من يمشي وراءه... إذا سقطنا
نخلد اسمينا" قريحة ص31
كلمات جلجامش اخف وطأة من سابقتها، وهذا يعود إلى خطورة الموقف الذي أصبحا فيه، فجاء استخدامه لكلمات تعيد الثقة لانكيدو، وتحفيزه على الاستمرار في المسير، ثم يأخذ في طمأنة انكيدو بأنه سيكون في أمان إذا استطاع أن يتجاوز حالة الخوف والهلع الذي دب فيه، فالخوف وهو الشر الذي سيلقي بهما إلى التهلكة، ولكذلك لا بد من إزالته.
يعود جلجامش إلى التأكيد إلى قراره دخول الغابة ولا مجال للعودة عن القرار، ويخاطب انكيدو مشجعا إياه بفلسفة جلجامش عن للحياة والموت والفعل وعدم الفعل، ويخبره بأنه سيكون أمامه في المسير، وهنا يكون جلجامش درعا لانكيدو، ويقلب المواقع التي ابتدأ بها الطريق، فبدلا من أن يكون انكيدو في المقدمة لحماية جلجامش ها هو جلجامش في المقدمة ليحمي انكيدو، ويعطيه الثقة ومن ثم يحثه على تجاوز حالته السلبية، وهذا يستدل منه على عدم التقيد بالأنظمة بطريقة جامدة، ويجب التعامل مع كل ظرف حسب ما يقتضي وما يمليه الواقع، وأخيراً يذكر جلجامش بأنهما في حالة الفشل ـ أن حصل ـ سيكونان معا، وهنا يستعيد انكيدو عافيته وقوته، ويدخلا الباب فإذا بهما أمام لوحة طبيعية مبهرة، ويحلم جلجامش حلما يقصه على صديقه انكيدو فيكون هذا بشارة النجاح والنصر، فيقول انكيدو سيقتل خمبابا حارس الأرز على أيدهما، هذا تفسير الحلم، ويحلم جلجامش حلما آخر يقصه على انكيدو، وتكون فيه أيضا البشرى مرة ثانية، وهكذا يتقدم الصديقان ويقطعان أشجار الأرز، فيسمع خمبابا دويها وهي تسقط أرضا، ويقترب منهما
"وضع جلجامش درعه على صدره ... والتي تزن ثلاثين مثقالا وكأنها لباس خفيف ونادى رفيقه ضع يدك في يدي فما عسى أن يحدث لنا من سوء؟
كل المخلوقات الموجودة من اللحم ستحبس في النهاية في قارب الغرب ... إذا كان الخوف قد حل في قلبك فالقه عنك، خذ بلطتك في يدك واهجم من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام، ثم صاح جلجامش للتنين أن يخرج للمعركة" بشور ص 213 و214 بعد أن استعد القائد جلجامش للمعركة تناول عدة الحرب وارتدى اللباس ، بدا في إعطاء محاضرة تشجعه قبل الالتحام مع الخصم، مستخدما فيه الحث على القتال و التخلي عن الضعف و الخوف، ويطلب من أنكيدو أن يتناول سلاحه ويكون مستعدا للقتال، ثم يطلق حكمة المحارب المتمرس في المعارك لكل المقاتلين في العالم وفي كل مكان وزمان "من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش بسلام" ونستطيع من خلال هذه المقولة أن نؤكد بان الملحمة قد تجاوزت عصرها بكثير، فمثل هذا الكلام لا يمكن أن يخرج إلا من إنسان وصل إلى قمة التطور الحضاري والمعرفي والثقافي، ومثل هذه ألحكمه لو عمل بها من قبل الدول التي شاركت في حرب 48 و 67 لما وصلنا إلى هذه الحالة من الهزائم، ومره أخرى تؤكد لنا الملحمة على العبقرية التي يمتلكها جلجامش الناطق بهذه الحكمة، وبعد هذا الاستعداد لجلجامش و انكيدو يطلب جلجامش من خمبابا الظهور للقتال.
" خرج هواوا من بيته الارزي القوي
وأومأ برأسه وهزه منذرا جلجامش
وثبت نظرة عليه، نظرة الموت
تنفس و أمام زئيره، أحنت الأرزات رؤوسها
هجم مزمجرا كالعاصفة
زاعقا وكان الرياح قد أفلتت
استل الصديقان سيوفهما
استدار هواوا فلمح جلجامش وجه الشيطان
وجه مشوه أسنان عارية صفراء
وعينان حمراوان كالدم " بشور ص214
بعد أن أعطتنا الملحمة صورة جلجامش و انكيدو وكيفية استعداهما للمعركة انتقلت لتحدثنا عن خمبابا وكيف يستعد للمعركة، إن الكلمات التي استخدمت في وصف خمبابا تؤكد لنا بان هذا المخلوق هو تنين وليس إنسان وجاء استخدام جملة "تنفس و أمام زئيره أحنت الارزات رؤوسها كدليل على أن" النيران تنبعث من فم التنين وتحرق الأشجار وهذا ما جعلها تحنى رؤوسها.
في كل أحداث المعركة مع خمبابا لم يتم التطرق إلى استخدام خمبابا للأسلحة أو لأدوات الحرب المعدنية مثل درع أو السيف أو البلطة وما إلى ذلك، و إنما تم ذكر استخدام قدرته الجسدية فقط ومن هنا جاءت حركات الرأس و النظر إلى الخصم بطريقة توحي بالافتراس، ثم اخرج النيران وإصدار أصوات مرعبه وبعد أن استدار هذا التنين شاهد جلجامش وجهه المرعب الذي يؤكد على انه تنين يمتلك عينان حمراوان و أسنان صفراء حادة ووجه مخيف، أن هذا الوصف لتنين أعطانا صورة أدق من تلك التي نشاهدها على التلفاز للتنين، ومن هنا استطيع القول بان الخيال الموجود في الملحمة هو عميق جدا وواسع استطاع أن يصور لنا صورة خيالية لكائن خرافي بأدق التفاصيل، وهذا جعل ذلك الكائن يعيش في خيال الإنسان إلى هذا العصر.
وبعد هذا الحديث عن خمبابا نعود إلى المعركة وتفاصيلها مع هذا الوحش الرهيب، يصاب جلجامش وصديقه بالرعب فيطلب من شمش مساعدتهما للخلاص من هذا الوحش :-
" وتكلم جلجامش مخاطبا شمش
" تبعت شمش سلكت طريقا قدره لي شمش "
"أشفق شمش استجاب لصلاة جلجامش "
" فهاجت الرياح الإعصار هبت على خمبابا "
" الريح الشمالية العاتية والجنوبية العاصفة "
" هبت الرياح و الزوابع الرياح الحارة "
" فأعمت عيني خمبابا " فريحة ص34و35
إن الوحش خمبابا لا يمكن الانتصار عليه بقوة بشرية فقط، فهو يمتلك قوة الآلهة من الإله انليل، فكان لا بد من الاستعانة بقوة الآلهة للقضاء عليه، إلا أن القوة البشرية هي الأساس في المعركة وهي رأس الحربة، وهي من وقف في وجه التنين وناداه للمنازلة وجاءت القوة الإلهة تابعه لاحقه للقوة الإنسانية، جلجامش استعد بكامل قوته وعدته للحرب مع خمبابا فعمل المطلوب منه للانتصار على خمبابا، ثم جاء دور شمش ليساعد جلجامش على هذا الانتصار، إذن جلجامش استعد للانتصار في حربه مع خمبابا وتوكل على شمس في هذه الحرب .
وهكذا يرسل الإله شمش القوة الآلهة التي يملكها، ويرسل الريح الشمالية العاتية، ثم يتبعها بالريح الجنوبية العاصفة، فيصاب خمبابا بالعمى ولا يستطيع الحركة.
" استسلم خمبابا، توسل
دعني يا جلجامش أذهب، أنت سيدي الآن
أنا خادم لك
الأشجار التي تعهدتها في جبالي هي لك
ابني منها بيوتا من خشب الأرز" فريحة ص35
لقد كان خمبابا عظيما ومخيفا وذو قوة جبارة، لكنه ضعيف الإرادة يتنازل عن كل ما يملك ـ الأشجار، كرامته، حياته، ـ فقط لكي يبقى حيا، فيضع كافة ما في جعبته أمام جلجامش، يطلب منه أخذها مقابل حياته، فصورة الوحش المرعب ذو القوة الآلهية الذي وصل صيته إلى آخر الدنيا ها هو كائن ضعيف يتوسل ويطلب من الإنسان جلجامش أن يرحمه، فأيهما أعظم الإنسان أم ذاك الوحش؟، وهنا تكون ذروة المجد، الوحش صاحب القوة الجبارة يسجد للإنسان منكسرا واهن القوى يتوسل إليه ليمنحه العفو والرحمة، وهنا تكون الملحمة قد قلبت مفهوم العظمة والقدسية عند المجتمع ألرافدي القديم من خلال هذا المشهد، فقد نزع جلجامش وانكيدو هيبة الإله انليل بعد انتصارهما على خمبابا، ومرغوا هيبته في التراب.
وكأن الملحمة تريد أن تخبرنا بان خمبابا هو ادني بكثير من تلك المكانة التي وضع فيها، وهو ادني من امتلاك تلك المكانة والهيبة، فوضع خمبابا بعد المعركة اقل من الإنسان بدرجات، والإنسان المنتصر يتجاوزه من خلال مواقفه وإرادته التي استطاع أن يخرجها وتكون نتيجة المنازلة لصالح الإنسان.
ومن المفارقات المهمة في الملحمة الصورة التي رسمت لخمابا، فقد خيل لنا بأنه سيدمر الغابة على من فيها، وان نتيجة النزال ستكون مدمرة، وان هذا الكائن المرعب سيبقى يقاتل حتى آخر رمق، ولن يتنازل عن كرامته وهيبته، إلا أن كل ذلك تحطم أمام إرادة الإنسان، فلم نكن نتوقع أبدا مثل هذه الوضعية للوحش " أنا خادم لك".
وخلاصة الفكرة التي تريدنا الملحمة أن نستنتجها، أن الوحش ورعبه لم يكن ليكون إلا عند الضعفاء الساكنين الخانعين، أما عندما كان هناك من يفكر ويفعل ليصل إلى الوحش فلم يعد هناك إلا كائناً ضعيفاً جدا، يتوسل متذللا للإنسان، فالإنسان هو في حقيقة الأمر أعظم واكبر من كافة المخلوقات عندما يقرر أن يفعل ولا يبقى ساكنا.
هذا الوضع ـ البائس ـ لخمبابا يستحق عليه الهلاك، فلم يكن بذات المكانة التي وضعت له، ولا بالصورة التي رسمت له، وكان قزما أمام العملاق الإنسان، وهذا ما دفع انكيدو ليطلب من جلجامش الإجهاز عليه وقتله.
"لا تصغ إلى كلامه، لا تنصت إلى قوله
خمبابا يجب أن يموت" فريحة ص35
وهنا نتساءل لماذا طلب انكيدو من جلجامش أن يجهز على خمبابا؟ علما بأنه حتى هذه المرحلة لم يقدم لا جلجامش ولا انكيدو على قتل أي كائن حي، إن كان إنسان أم حيوان أم مخلوق أسطوري، فلماذا تتم الآن عملية القتل؟ وما الداعي لها؟، نستنتج من مسار الملحمة أن فعل القتل لم يكن إلا بالكائنات التي تتعلق بالإلهة أو لها صلات بالقوة الإلالهة فقط، وما دون ذلك لا يتم قتله، وكأن الملحمة تشكل حالة صراع دامي مع الآلهة فقط، وما دون ذلك يكون الصراع محدودا يتوقف عند حد معين، من هنا نجد عملية القتل الثانية كانت لثور السماء الذي أرسل ليقتص من جلجامش وانكيدو، فالصراع الدامي منحصر في النص الملحمي بين الإنسان والآلهة فقط، وإذا عدنا إلى حديثنا عن الآلهة والمقدسين، نجده المسار الرئيس لفكرة الملحمة، التي تطرح فكرة الصراع بين الإنسان ـ والذي هو أحق بالمكانة الرفيعة من ـ والآلهة ـ والتي هي في حقيقة الأمر اقل من أن تكون في مكانها العالي.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-
- ما هو المطلوب في سوريا
- محلمة جلجامش -البغي والوحش انكيدو-
- ملحمة جلجامش والجنس
- ملحمة جلجامش والآلهة
- الملعون لبدر عبد الحق
- حاجتنا إلى الإمام علي
- نزف القلوب لجهاد دويكات
- ملحمة جلجامش والمقدس
- ملحمة جلجامش
- عودة الوعي لتوفيق الحكيم
- غالي شكري واسرار الارشيف الثقافي السري
- اعمدة الحكمة السبعة
- ( النص القرآني) السحر والدين
- جزر منعزلة أم جغرافيا واحدة
- النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام
- النص القرآني (اول الكتب السماوية)
- ( النص القرآني ) عدم نضوج علم الكتابة
- مدخل الى النص القرآني
- أيهما خطر الكيماوي العربي أم النووي الإيرني؟


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش -غابة الأرز-