أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-















المزيد.....



ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4332 - 2014 / 1 / 11 - 08:59
المحور: الادب والفن
    


انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.
انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.

انكيدو في أوراك


قبل الحديث عن دخول انكيدو إلى حياة المدينة نريد توضيح بعض المسائل المتعلقة بانكيدو وجلجامش، فحاكم المدينة جلجامش يمتلك من القوة الشيء العظيم بحيث لا يجد مكاناً أو طريقة لتفريغ هذه الطاقة الكامنة فيه.
"يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا
حكيم عليم، يعرف كل شيء
يخترق حالك الظلام بثاقب نظره
يدرك الأسرار، يعرف ما يخفي على الناس
جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان
جال في الأرض طويلا، أضناه التعب
وعلى لوح من حجر دون ما فعله وما رآه
بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس
بنى أسوارا عجيبة لم يبنى مثلها الناس
هيكلا لآنو، كبير الآلهة، هيكلا لعشتار
تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها
أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟
الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
و "هدد" الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله، وثلثه الباقي إنسان
أسلحته فتاكة، ألقى الرعب في قلوب الناس" ص12 فريحة
أننا أمام إنسان خارق للقدرة الجسدية، مقاتل جبار، يحسب له ألف حساب، ذو موهبة على البناء والتعمير، باني للمدن بطريقة جديدة فيها من الجمال والقوة والإتقان ما يجعل بناءه فريدا، صاحب معرفة وعلم كبير، سائح ورحال في العديد من المدن والأماكن، مما أعطاه معرفة وعلم ورجاحة العقل معا، هذا الكائن مزيج بين البشر والآلة معا، من هنا تأتي فرادة جلجامش عن الآخرين.
"بغى وظلم، لم يترك ابنا لأبيه
لكنه راعي أرك، فهو راعينا
لم يترك فتاة لحبيبها، ولا ابنة جندي
ولا خطيبة لنبيل، بغى وظلم فضج الناس البشر" ص 12فريحة
الكائن الخارق القوي المعمر والبناء والحامل للناس، لم يعد قادرا على السيطرة على القوى العديدة والمتنوعة الكامنة فيه، فأخذ يقوم بأعمال لا تليق بحاكم عظيم، أهل أوراك عرفوا جلجامش القوى المدافع عنهم والحامي لهم، تفاجئوا بأعماله غير السوية، فهو في حقيقة الأمر لم يكن سيئاً أبدا، لكن بعد أن أنجز ما أنجز من العمران والبناء ووصوله إلى المعارف ومن ثم الحكمة، تجواله في مشارق الأرض ومغاربها، لم تلبي كل هذه الأعمال والأفعال وحجم المعرفة طموحه، وجدها أدنى من جلجامش، وكأن الملحمة هنا تطرح فكرة أن الإنسان لا يمكن يتوقف عند حد معين في طموحه، فهو كائن يبحث وباستمرار وبشكل مضطرد عن الجديد والبعيد، فهو ساعي باستمرار للحصول على المعرفة، فجلجامش يبحث عن شيء مبهم لم يحدد معالمه بعد، ولا يعرف تفاصيله أيضا، لكن هناك هاجس أو قوة خفية تدفع به إلى هكذا أعمال، من هنا كانت أعماله غير منطقية ولا مقبولة من الناس في أوراك، وإذا دخلنا إلى نفسه سنجدها تبحث عن شيء ولا تجده، من هنا لم يتردد ابداً في التعرف على الكائن القوي المتوحش انكيدو، فعندما سمع بان هناك مخلوقا غريبا في الغابة أرسل البغي مع الصياد لتجلبه إلى أوراك، المخلوق البدائي اخذ حيزاً من تفكير جلجامش، فهو لا يعرف ماهية هذا المخلوق، يحس انه سيفتح له طريقاً لتفريغ ما بداخله من قدرات، وهذا التفكير بالمخلوق انعكس في أحلام جلجامش، الحلم الأول والثاني، كانا بمثابة فتح أبواب جديدة من المعرفة وإفراغ القدرات الكامنة فيه.
والآن سنحاول تحليل نصوص الملحمة لتوضيح بعض الأمور المتعلقة بجلجامش
"هو الذي رأى كل شيء إلى تخوم الدنيا
هو الذي عرف كل شيء وتضلع بكل شيء
سيد الحكمة الذي بكل شيء تعمق" السواح ص87
هو الذي رأى كل شيء، أبصر كل الأشياء حتى انه وصل إلى آخر الدنيا، فهو ذو مقدرة خارقة، وصاحب معرفة وحكمة، كما يمتلك من القدرة الجسدية والإرادة الشيء الكثير، ومن هنا كانت معرفته وحكمته مقرونة بقوة جسده وإرادته معا، فهو يمتلك من القوة والإرادة ما تؤهله للوصول إلى أي مكان يريد، وهنا نجد القدرات العديدة التي يتمتع بها جلجامش ـ الجسد، الإرادة، حب المعرفة، وهذه القدرات العديدة تجعله قادراً على تحمل مشاق السفر، والإرادة التي يتمتع بها تجعل كل الصعاب والمعيقات هينة أمامه، ومعرفته تساعده للوصول إلى مبتغاه.
فبعد أن استطاع مشاهدة العديد من البلدان والأراضي البعيدة والأشياء العجيبة، تشكل لديه معرفة نادرة ثم تحولت تلك المعرفة إلى حكمة، فالتسلسل الذي تعطيه الملحمة، مشاهدة ومعرفة وحكمة هو تسلسل منطقي تماما ويتفق مع العلم الحديث الذي يؤكد هذا الترتيب للوصول إلى الحكمة أو الفلسفة، فكاتب النص الملحمي يعطينا فكرة السومريين ومن جاءوا بعدهم بفهمهم العميق والمنطقي للوصول إلى ذروة المعرفة ـ الحكمة ـ
الاقتباس السابق يوضح لنا طبيعة جلجامش الذي وصل إلى أعلى درجات المعرفة ـ الحكمة ـ وهذا يجعله محصنا ضد الجهل، أو الإقدام على أعمال بلهاء، لذلك أفعاله الظالمة لأهل أوراك على أنها حالة من تراكم الطاقة لم يعد صاحبها يستطيع السيطرة عليها، فهي التي تتحمل ما لحق بأهل أوراك من ظلم وليس جلجامش، فالنص الملحمي في حقيقة الأمر يريد أن يقول لنا بان جلجامش يتنزه عن الإقدام على الأفعال والأعمال الهوجاء، وهو غير مسؤول عنها، والمشكلة تكمن في القوة والطاقة التي في داخله وهي التي تدفع به ـ مرغما ـ ليقوم بها،
"مضى في سفر طويل وحل به الضنى والإعياء
رفع الأسوار لأورك المنيعة
ومعبد إيانا المقدس العنبر المبارك
انظر فجداره الخارجي يتوهج كالنحاس
انظر فجداره الداخلي ماله من شبيه
تقرب فإيانا مقام عشتار
لا يأتي ملك، من بعد،ولا إنسان
أعل سور أوراك، إمش عليه
إلمس قاعدته تفحص صنعه آجره
أليست لبناته من آجر مشوي؟"السواح ص87 و88
جلجامش ذو الطاقات والقدرات الكبيرة قام بسفر طويل حتى أضناه التعب، ليحصل على المعرفة، كما قام بتشيد المدينة المحصنة (أوراك) بنى أسوارها المنيعة ومعابدها المقدسة " آنو وعشتار" فهذه المدينة جاء حضورها في بداية النص الملحمي وفي نهايتها لأنها كانت تحتل مكانة مرموقة في العهد السومري، وهذا الأمر يشير إلى اهتمام السومريون ببناء المدن وكذلك على أهمية المدينة التي كانت في ذلك العصر تشكل احد أهم انجازات الإنسان القديم.
كما أن الملحمة تعطينا صورة جلجامش الباني لأوراك والمهتم بالمعابد وهذه الأعمال ـ رغم أهميتها ـ لا تكفي ليكون جلجامش فريدا في انجازه وأفعاله عمن سواه، ولا تكفي لكي تخرج الكم الهائل من الطاقات والقدرات الكامنة فيه، ولهذا جاءت الأسطر أللاحقة لتوضح لنا ماهية هذا البناء، فهو ليس بناءا عاديا كبقية الأبنية، بل في غاية الروعة والإتقان، فجودة البناء وجماله سمة ملازمة لكي يكون مميزا، ولهذا جاء الطلب ممن لا يعرف أهمية هذا البناء أن يتفحصه ويختبر جودته وصلابته، وهذه إشارة إلى الثقة والاتفاق في عملية البناء، وبهذا أخبرتنا الملحمة بان السور لن يكون له مثيل.
بعد الحديث عن أعمال جلجامش العمرانية تنقلنا الملحمة إلى هيئة جلجامش وصورته.
"الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة
طوله أحد عشر ذراعا، عرض صدره تسعة أشبار
الشمس وهبته الحسن والجمال
وهدد الشجاعة والإقدام
ثلثاه إله وثلثه الباقي إنسان" فريحة ص11 و12
جلجامش هو خلق نادر للآلهة، فلم تخلقه كبقية البشر، بل مميز ليس له نظير، فهو يمتلك الجمال "الذي وهبته الشمس"والشجاعة والقوة من"هدد" فكانت هيئته توحي بالعظمة، طول في الجسم وعرض في الأكتاف وكأنه احد مصارعين اليوم، فالأوصاف الشكلية والصفات الخلقية تجعل من جلجامش كائن فريد ليس له نظير أبدا، جزء منه إنسان وجزء منه اله، فهو إنسان في همومه وطموحه، وإله في شكله ومقدرته الخارقة.
الملحمة من خلال تناولها طبيعة جلجامش وما يتمتع به من قدرات وطاقات كانت وكأنها تريد أن تبرر لنا الأعمال وأفعال التي قام بها اتجاه أهل أوراك، الشجاعة التي يمتلكها و تمتعه بقوة كبيرة والمعرفة والحكمة التي حصل عليها نتيجة السفر المضني والطويل، كل هذا يؤهله ليكون بعيداً عن التهور والانزلاق إلى الأعمال الرديئة وغير السوية، وآخر هذه التبريرات التي يطرحها النص الملحمي حينما وصفه بان ثلثيه اله، فما يراد من وضع السطر الأخير ليؤكد بان جلجامش له أن يفعل ما يريد، حيث انه يتمتع بقدرات الآلهة فله أن يفعل ما يحلو له دونما حساب، والمتتبع للنص الأسطوري والملحمي القديم يجد أن من حق الآلهة أن تفعل ما تشاء إن كان فعلها منطقياً أم لا؟، عادلاً أم دون ذلك؟، فهي صاحبة الفعل المطلق.
بعد هذه المقاطع الثلاثة التي تناولت جلجامش وما يتعلق به، جاء الحديث عن أفعاله اتجاه أهل أوراك
"ثار أهل أوراك في بيوتهم
لا يترك جلجامش ابنا لأبيه
ماضي في مظالمه ليل نهار
هو راعي لأوروك المنيعة
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم"
أهل أوراك بهذه الحالة لا يطالبون بإزالة جلجامش من مدينتهم، ولا يعترضون عليه شخصيا، بل على أفعاله الأخيرة التي قام بها تحديدا، وإذا قارنا فحوى الكلمات التي رفعها الناس نجد الشكوى مقرونة بالمديح، وهناك تسوي في عدد اسطر الشكوى والمديح، إذن هل أورك يريدون جلجامش صاحب البطولة والمجد والحكمة والباني والمدافع والحامي، وصاحب الهيئة الجملية، ولا يريدونه أن يستمر في أفعاله الشاذة الأخيرة.
نعود إلى الحدث الجديد والمخلوق الذي يرعب الصيادين ويقوض عملهم، وكيف استطاع هذا المخلوق أن يشكل هاجساً عند جلجامش
" سر يا صيادي الأمين أصطحب معك بغيا" فريحة ص14
هذه الكلمات قالها جلجامش للصياد، وهي أول حديث مباشر له في الملحمة، فكل الأسطر السابقة كانت على لسان الراوي أو على لسان أهل أوراك، الكلمات جاءت هادئة ليس فيها عنف أو انفعال، وجاءت كطلب مؤدب وبطريقة لبقة، تنم عن الحكمة التي يتمتع بها جلجامش، فالطلب جاء وكأنه من صديق يطلب من صديقه وليس من حاكم لمحكوم، وهذا الأمر يشير إلى الحكمة واللباقة التي تمتع بها جلجامش، وكأن كاتب النص الملحمي يريدنا أن نصطف إلى جانب أهل ورواك في موقفهم من جلجامش، فهذا الكلام اللطيف يجعلنا نتريث قليلا لنعرف سبب الأفعال والأعمال ـ غير السوية ـ التي أقدم عليها، فمن يتكلم بهذه الكيفية وهذه اللباقة لا يمكن أن يكون سيئاً.
الكلمات التي قالها جلجامش يستدل منها على حبه لمعرفة ما هو جديد، فهو يعشق المعرفة كما يعشق المغامرة، فهو يفكر بهذا المخلوق الذي يشعر بأنه سيلبي طموحه ويستطيع به ومن خلاله أن يفرغ القوة والطاقة الكامنة فيه، وهذا الشعور جاء مستندا على أقوال الصياد عن الوحش ثم على الحدس عند جلجامش، ونستطيع أن نقول بان الوحش أصبح يشكل هاجساً عند جلجامش من خلال أحلامه.
"أماه رأيت في البارحة حلما
كانت السماء حاشدة بالنجوم
وكشهاب آنو الثاقب واحد منها انقض علي
رمت رفعه فثقل علي
حاولت إبعاده فصعب علي
تحلق حوله أهل أوراك
نجم السماء هذا نظير لك
هو رفيق عتي يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة ذو بأس عظيم
متين العزم كشهاب آنو الثاقب
وهذا يعني أنه لن يتخلى عنك قط" السواح ص 102 و103و 104
لقد وجد جلجامش الشيء الذي يبحث عنه، وها هي أمه تخبره بحقيقة الخبر، فجلجامش الذي سعى إلى شيء لا يعرف ماهيته حصل على بعض المعالم عنه، فهو إنسان صديق قوي جدا ، وصاحب عزيمة ويتميز بالإخلاص والتضحية في سبيل من يحب ، وجاء الحلم الثاني ويحمل نفس المضامين .
"في أوروك المنيعة ، فأس مطروحة ، تجمعوا عليها "
" تحلق أهل أوروك حولها "
" أحاط أهل أوروك بها "
" تدافع الناس إليها " السواح ص104
من خلال الحلم الأول والثاني نستنتج بأن جلجامش كان يشعر في قرارة نفسه [أن أهل أوروك مظلومين ، ولهذا جاء حديثه عن الحلم الأول والثاني يتحدث عن الناس في أوروك، ولنمعن النظر في الكلمات التي استخدمها "في أوروك المنيعة" هذا يعني أنها محصنة ،ولا يمكن لأي دخيل أن يدخلها، "فأس مطروحة" لم تكن هذه الفأس عادية بل فأس غير التي نعرفها، أو هي شيء يشبه الفأس، هي رمز لشيء عظيم، ولهذا كان ذلك التجمع عليها، ثم يضيف جلجامش كلمة "تحلق حولها" وهنا لنحصل على استمرارية الفعل ولتعبر عن اهتمام الناس بهذه الفأس، ويستمر حديثه عن الفأس مشيرا إلى الأهمية التي يرى بها أهل أوروك هذه الفأس فيقول مكملا حديثه "أحاط" وهذا يعطي مفهوم التجمع من كافة الجهات حول هذه الفأس، وبعد أن اقترب منها الناس اخذوا بالتدافع لمشاهدتها، وهنا نجد التنافس بين الناس لتقرب أكثر من هذه الفأس، وهذا الوضع يؤكد بان جلجامش كان يشعر بالأحوال السيئة التي يعيشها أهل أوروك، وإذا عدنا إلى الحلم الأول نجد نفس المضامين لفكرة "النجم" فهناك كلمات استخدمها جلجامش يروي بها حلمه مثل "تحلق" "تجمهر" "أحاط" . ومن خلال ما تقدم نستطيع أن الجزم بان اهتمام جلجامش بأهل أوروك كان حقيقة واقعية وليس تفسير أحلام، وهذا القول تأكد بعد موقف جلجامش من عشبة الخلود فأول كلمة قالها بعد أن خرج من الماء .
" سأحملها معي ألي أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقسمونها "
" ولسوف أكل منها أيضا فأعود إلى شبابي " السواح ص223
لقد كان جلجامش فعلا حامياً لأوروك ولأهلها، ولم يكن أبدا ذلك الظالم المتغطرس، ولهذا حينما حصل على العشبة ولم يفكر في نفسه، بل بأهل أوروك أولا، وهذا ما جعله يحتفظ بالعشبة ولا يأكل منها، مثل هذه المواقف لا تكون ألا عند من هم يضحون بأنفسهم في سبيل المجموع.
وسنكمل الحديث عن العشبة وجلجامش حينما نصل ألي الحديث عن الحلم ألإنساني، والآن نعود إلى حلم جلجامش وكيف تفسر أمه ننسون هذا الحلم.
" الفأس التي رأيت ،رجل "
" معنى ذلك رفيق عتي، يعين الصديق عند الضيق "السواح ص105
وحينما سمع جلجامش هذه البشرى من أمه مرة أخرى ونطق بكلمات .
" قال جلجامش هل حظي حن لا فوز "
" بمثل هذا القوى الوفي " فريحة ص19
بداية الوصول إلى طرف الخيط تبدأ، وهذا الوصول بدأ فكريا أولا، حيث أن جلجامش يفكر بهذا المخلوق الذي سيكون الصديق الوفي، ويمتلك قوة تعادل قوته، إذن نستطيع القول بأن هناك دوافع واضحة عند جلجامش للتعرف على هذا الرجل الذي سمع عنه من أمه، وهناك رغبة وشوق للقائه بعد هذه البشائر التي سمعها.
ننتقل للحديث عن أنكيدو، أنكيدو الإنسان الذي ما زال يحمل غريزة الدفاع عن الضعفاء أيا كانوا وأينما كانوا، ومواجهة الأشداء والتصدي لهم، وإذا عدنا إلى حديث المرأة مع أنكيدو، نجد هناك تحريضا من المرأة على جلجامش، لكن هذا التحريض لم يكن باتجاه الصراع الدموي بل باتجاه إيقاف جلجامش عن ظلمه، وأنكيدو كان يثق بقوته الجبارة، وكان يعتبر نفسه أقوى الرجال جميعا، ولا يوجد من هو أقوى منه، وهذه الثقة ظهرت من خلال حديثه مع المرأة .
"سأناديه وأكلمه بجرأة"
" سيجلجل صوتي في أوروك أنا الأقوى "
" نعم أنا من سيغير نظام الأشياء " السواح ص101
انكيدو مندفع غريزيا لمواجهة جلجامش، ليثبت من خلالها انه الأقوى، ثم يغير من خلال حسم المواجهة لصالحة، النظام السائد القديم، ظلم أهل أوراك من قبل جلجامش، ومن خلال الكلمات السابقة نجد تشبثه بالدفاع والوقوف إلى جانب الضعفاء، وكأنه وجد للدفاع عنهم، أن كان في الغابة ـ مساعدة الحيوانات ـ أم في المدينة ـ وإذا عدنا إلى علاقة انكيدو في الغابة مع الحيوانات من جهة، والصياد جهة ثانية، نجد عمله اقتصر فقط على إنقاذ الحيوانات دون الحاجة إلى اللجوء للصراع مع الصياد، وهذا يشير إلى انه لا يسعى إلى صراع دموي قاتل، وهو لا يرغب بمثل هذا الصراع، بل يسعى إلى صراع ودي يثبت من خلاله أنه الأقوى ثم يغير النظام بعد الفوز بالنزال، وهذا ما نطق به انكيدو قبل الشروع والذهاب إلى أورك
"نفسي تود أن تتحدث إليه، خذيني" فريحة ص16
من خلال ما تقدم نستطيع القول بان هناك دوافع ورغبات عند انكيدو للقاء جلجامش، وهناك أيضا رغبات مماثلة عند أهل أوراك للخلاص من ظلم حل بهم، وبعد هذا الحديث عن انكيدو ننتقل إلى الحديث عن أهل أوراك عندما شاهدوا انكيدو
"دخل انكيدو أوراك ذات الشوارع العريضة
تجمهر الشعب حوله
تزاحم الناس وتحدثوا قائلين
انه توأم جلجامش
لكنه أقصر منه
إنه أضخم عظما" بشور ص200 و201
الناس تتجمع حول هذا المخلوق، ينظرون إليه بتعجب وأمل في آن واحد، ينتظرون منه تخليصهم من ظلم جلجامش، أهل أوراك الذين عرفوه حامي مدينتهم، يتكلمون عن المخلوق الجديد انكيدو ويقارنوه بجلجامش، فهم لم يعرفوا أحدا بقوته ولا بهيئته، ولهذا اخذوا يقارنوا انكيدو بجلجامش، فهو توأمه وهذه إشارة إلى تشابه الهيئة بينهما، إلا أن هناك فوارق بينهما، تكون في صالح انكيدو مرة ولصالح جلجامش في الثانية، الطول لصالح جلجامش، والصلابة لصالح انكيدو، وبعد ذلك تنقلنا الملحمة إلى الحديث عن مشاعرهم اتجاه انكيدو
" فرحوا صاحوا الآلهة خلقت ندا لجلجامش" فريحة ص 23
الشعور بالفرح سمة لكل من يقع عليه الظلم فهو يبحث عن الخلاص من القادم، مهما كان، المهم عند المظلوم هو رفع الظلم عنه، وهذا الأمر ـ فرح الناس ـ يؤكد على أن المجتمع العراقي القديم يهتم بالمجتمع كما يهتم بالفرد، فهنا نجد احترام الملحمة لمشاعر الناس، وجاءت تصور مشاعرهم حتى لو كانت هذه المشاعر لا تتوافق مع نهج وسلوك الحاكم، ونعتقد بان هذا الأمر يتجاوز عصر الدويلات العربية بكثير، وبعد هذا تتقدم الملحمة إلى الأمام وتأخذ بنشر أفكار سياسية عن الوضع الجديد الذي يؤمل أن يكون واقعيا على الأرض
" فرح الناس
رأت بطلا قد ظهر
الآن وجد جلجامش نده
سيجد العظيم الذي يعادله" بشور ص201
أن إصرار كاتب الملحمة على ذكر أحوال الناس قبل وبعد ظهور المخلص انكيدو وبهذه التفاصيل الدقيقة، وما يتبع ذلك من مشاعر وانفعالات وما يتبعها من كلمات، هو تأكيد على التطور الحضاري الذي وصله السومريون القدماء، وكذلك تأكيد على احترام مشاعر الإنسان والاهتمام بما يشعر به أيضا، فمهما كان موقفه من الأحداث، ضد أو مع.
وإذا كانت الملحمة في فكرتها تتحدث عن الإنسان الفرد "جلجامش" إلا أنها لم تهمل مشاعر العامة، ولهذا تم التطرق إلى الحديث المكثف عن الناس وما يشعرون به، وهذا يؤكد على النظرة المتكاملة للفرد والمجتمع معا، فلم يتم إهمال أي منهم، وكأن الملحمة كتبت لتنسجم في طرحها مع المدرسة الواقعية الاشتراكية ومدرسة الفن للفن.
بعد هذه الصور لأحوال الناس تعود الملحمة بنا إلى جلجامش وانكيدو
"اقترب جلجامش اعترض انكيدو الطريق
سد في وجهه الطريق
تقدم إليه التقيا في وسط سوق المدينة
سد انكيدو الباب بقدمه
منع جلجامش من الدخول
تصارعا نخرا كالثيران
حطما أركان البيت اهتز الجدار
انكيدو وجلجامش يتصارعان
ينخران كثورين حطما أركان القاعة
اهتزت الجدران
انحنى جلجامش قدمه راسخة في الأرض" فريحة ص23
إذا تمعنا في المواجهة بين جلجامش وانكيدو، نستطيع التعرف على الطريقة التي يفكر بها جلجامش، فهو شخصية لا تعرف الحواجز أبدا، خاصة في مدينته، ويجب أن تكون وتبقى مشرعة له دائما، هو حاميها وملكها معا، كما انه يجد نفسه أقوى الرجال فيها، وهو الذي سمع من أمه عن مخلوق غريب قوي سيكون صديقا، فهو يعيش في مرحلة انتظار لهذا الصديق الوفي، ومن هنا انعكس ذلك على طبيعة المنازلة مع انكيدو.
وفي الجانب المقابل هناك انكيدو الذي جاء إلى أورك ليوقف الظلم الواقع على أهلها، وليوقف من يقوم بهذا الظلم، ما جعله يسد الطريق أمام ـ الظالم ـ، جلجامش لم يعهد أحدا يتصرف في مدينته هكذا، وهذا ما جعله يثور على من أقدم على هذا الفعل، وإذا دخلنا إلى تفاصيل النزال نجده عنيفا حيث تحطمت الأبواب وتناثرت أركان القاعة، وحتى الجدران اهتزت، ثم انتقل الصراع من البيت إلى القاعة العامة، ومرة أخرى تهتز الجدران وتتحطم الموجودات، ومن ثم يكون الحسم لصالح جلجامش، بعد أن يقع انكيدو على الأرض
"ولما رجع إلى الوراء
قال له انكيدو
لا يوجد لك نظير في العالم
فليرتفع رأسك فوق الناس جميعا
لأن قوتك تفوق قوة البشر" بشور ص201 و 202
رغم قوة المنازلة وعنفها لم تكن نتيجتها دموية، وهذه النتيجة جاءت منسجمة مع ما يفكر فيه جلجامش ـ اللقاء مع الصديق الوفي ـ، الذي فعل الظلم بدوافع تكاد تكون خارجة عن إرادته، أو نتيجة إحساسه بالعبث، وكذلك جاءت منسجمة مع عقلية انكيدو الذي جاء ليوقف الظلم فقط، فجلجامش ينتظر اللقاء بصديقة القوي بلهفة، وانكيدو وجد في هذا الخصم العنيد إنساناً كريماً لا يسعى إلى سفك الدماء، وإنما إلى شيء آخر، ولذلك خاطبه بتلك الطريقة اللطيفة.
أن تعظيم انكيدو لجلجامش لم يأت بدافع الخوف أو الذل الذي لحق به في المنازلة، بل بدافع الاحترام، فانكيدو الذي عرف طبيعة الصراع في الغابة، بين الحيوانات والصياد، لم يشاهد مثل هذا التصرف النبيل، وهكذا ترك جلجامش في نفسه تأثراً ايجابياً، وإذا دخلتا إلى نفسية جلجامش وانكيدو، نجدهما يرغبان في مقابلة بعضهما، جلجامش يفكر بذلك الوحش الذي سمع عن قوته من الصياد أولا، ثم من أمه ننسون التي قالت عنه ينقذ الصديق عند الضيق، والذي له قوة جند السماء، فكان يشعر بان هذا الصديق هو خصمه العنيد الذي يتصارع معه، أما انكيدو الذي جاء يوقف الظلم الذي حل بأهل أوراك، كان يسمع بجلجامش صاحب القوة الكبيرة على لسان البغي.
نتوقف قليلا لنوجه الحديث عن المرأة، فهي التي حولت الوحش انكيدو إلى إنسان ومهدت له الطريق ليلتقي بنظيره جلجامش، أم جلجامش ننسون أعطت ابنها إشارات بأنه سيلتقي بصديق استثنائي، فالبغي قامت بدورها مع انكيدو وننسون مع جلجامش، فالمرأة إذن من العناصر الفاعلة في الحدث الملحمي، ولم تكن على الهامش أبدا.
وبهذه النتيجة ـ انتهاء الصراع ـ بين جلجامش وانكيدو، ويكونا قد تجاوزا إرادة الآلهة، التي أوجدت انكيدو ليكون نداً دائماً لجلجامش ولينشغل به ومعه في صراع مستديم لا ينتهي، إلا أن جلجامش الرافض للخضوع دوما يقلب المخطط ويجعل من الخصم صديقه الحميم، فكانت الصداقة بينما كصفعة للآلهة التي تعتبر نفسها المسير لهذا الإنسان، ومن هنا سيكون لهذه الصداقة نتائج تتناقض مع قرارات ومخططات الآلهة.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما هو المطلوب في سوريا
- محلمة جلجامش -البغي والوحش انكيدو-
- ملحمة جلجامش والجنس
- ملحمة جلجامش والآلهة
- الملعون لبدر عبد الحق
- حاجتنا إلى الإمام علي
- نزف القلوب لجهاد دويكات
- ملحمة جلجامش والمقدس
- ملحمة جلجامش
- عودة الوعي لتوفيق الحكيم
- غالي شكري واسرار الارشيف الثقافي السري
- اعمدة الحكمة السبعة
- ( النص القرآني) السحر والدين
- جزر منعزلة أم جغرافيا واحدة
- النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام
- النص القرآني (اول الكتب السماوية)
- ( النص القرآني ) عدم نضوج علم الكتابة
- مدخل الى النص القرآني
- أيهما خطر الكيماوي العربي أم النووي الإيرني؟
- الدين بين التطور والنزول من السماء


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - ملحمة جلجامش -انكيدو في اوراك-