أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - بصرة عام 11 (الحلقة الثانية)















المزيد.....

بصرة عام 11 (الحلقة الثانية)


حيدر الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 4332 - 2014 / 1 / 11 - 11:10
المحور: الادب والفن
    



بصرة عام 11*

(الحلقة الثانية)


الطائرة التي أقلتنا بدت صغيرة وقديمة بعد رحلتي الطويلة في الطائرة العملاقة الحديثة التي نقلتني من دالاس الى دبي. كان مقعدي هو الأوسط من ثلاثة مقاعد خلف كابينة الكابتن مباشرة. الى يساري، لصق النافذة رجل بزي خليجي—دشداشة بيضاء ويشماغ أبيض مرقط بالأحمر، تفوح من ثيابه رائحة عطر قوية. حييته وعرفته بنفسي. فنظر إلي وصافحني وعرف بنفسه. أما الآخر فبدا مستغرق الذهن فتجاهلته. المضيفة—شابة جميلة شقراء—قدمت لنا شراباً. اخترت الماء. وانتبهت فجأة الى عدم وجود طبلة طعام أمامي. هناك واحدة الى اليمين، وأخرى الى اليسار ولاشيء في الوسط. ثلاثة مقاعد وطبلتان. يبدو أن المقعد الأوسط مقصود للأطفال. حين جاءت المضيفة بالطعام شربت بطل الماء الصغير بجرعة واحدة وأعدته إليها فارغاً. وقد أخذت الطعام منها، ووضعته في حضني. فعرض علي جاري الخليجي مشاركته طاولة طعامه، فشكرته ولم أفعل. أما العراقي الذي على يميني، فلم يبد أية رغبة في التعارف. بدا مستغرقاً. حين عادت المضيفة، ناديتها وأعدت إليها أكياس الطعام دون أن أفتحها. بدا لي من تعابير وجهها أنها تفهمت سبب رفضي تناول الطعام. كان نصف الطائرة تقريباً مليئاً بعمال من شرق آسيا معظمهم من الشباب. وقد ذكّر الكابتن المسافرين بأن استعمال (الموبايل) ممنوع. قال هذا عبر المايكروفون وبالإنكليزية. وأظنه قصد العمال الآسويين. ثم قطع أحد مساعديه الممر وهو يردد إن استعمال (الموبايل) ممنوع. إستعمال (الموبايل) ممنوع. ولم أعتد على تسمية التلفون المحمول بـ (الموبايل). وخطر لي أن المسافرين الآسيويين ربما لم يفهموا المقصود بـ (الموبايل). ففي أميركا يسمونه (سيل فون). وقد نبهت مساعد الطيار الى ذلك، فتجاهل ملاحظتي.

حين رحنا نحلق فوق شط البصرة، سمعت شخصاً خلفي يقول: "عمي، عمي، عمي." ولم أكن أعرف أنه كان يقصدني. حين التفتّ رأيت شاباً في العشرين. قال: "هذا دجلة لو الفرات؟" قلت: "هذا لا دجلة ولا الفرات. هذا شط البصرة، عمي، وهو شط صناعي." فنطق الجالس عن يميني للمرة الأولى قائلاً: "الأخ عراقي؟" فأجبته بهزة من رأسي، وعدت الى الشاب الذي خلفي. كان أسمر البشرة حليق الرأس، وقد بدا كأنه قد استيقظ من النوم تواً. راح يصغي لإجابتي بانشداه وتسليم، ويهز رأسه بين حين وآخر، أو يفتح فمه ثم يغلقه دون أن يقول شيئاً. قلت له ببساطة إن الفرات ودجلة يلتقيان في شمال البصرة ويكوّنان شط العرب. ففتح فمه مندهشاً، وهز رأسه وتحسر وقال: "الله". عدت الى الرجل الذي الى يميني. "عفواً. نعم، عراقي." وأعطيته موجزاً بسيرتي. قال: "أنا من بغداد. شرفنا. نقوم لك بالخدمة." فشكرته. وانتهت المجاملة عند هذا الحد.

حين حطت الطائرة، وبدأنا نغادر، تقدمني الرجل الخليجي ببضعة أقدام. رأيته يتحدث الى شرطي، ثم يلتفت ويشير إلي: "الأخ حيدر الكعبي؟ مو؟ الأخ يسأل عنك." فسألت الشرطي ممازحاً: "عليَّ إلقاء قبض؟" ومددت يدي فصافحني بعد تردد. قال: "أبو عراق ينتظرك." وكنت أتوقع هذا. ولكن صديقي أبو عراق وأنا لم نكن قد التقينا من قبل. بدا المطار مهجوراً وهادئاً بشكل غريب. وهناك قسمان للتفتيش، واحد للعراقيين والآخر للأجانب. فقادني الشرطي الى قسم العراقيين الذي تتوسطه كابينة من الخشب، لا تزيد مساحتها على المترين. في داخلها ضابط شرطة. طلب مني الضابط أن أرجع بضع خطوات وأنتظر. قال الشرطي: "سيدي، خليه يمر." فقال الضابط:"تفضل"، فتقدمت الى نافذة الكابينة، وأظهرت جوازي. "ما عندك جنسية، هوية؟". قلت له إنني لا أحملها معي. نظر الي والى الجواز. قلت: "جنسيتي مذكورة في الجواز." فتناول ختماً وطمغ الجواز بضربة متمرسة وأعاده الي باسماً. كان شاباً حليق اللحية حسن الهندام. التفتّ لأحيي عن بعد صديقي أبو عراق الذي كان ينتظرني خلف حاجز، فيما راح شرطيان يفتشان حقيبتي. قال أحدهما: "هذا موبايل آخر؟" قلت: "لا، هذي كاميرا." واستلمت الحقيبة، وخرجت لأصافح أبو عراق ونتوجه الى البصرة.

رحنا نتجول في البصرة بسيارة أبو عراق البيضاء، وأبو عراق دليلي في الرحلة. مررنا بمنطقة الگزيزة التي تراكمت بيوتها الواطئة في الأرض المتربة المنحدرة عن الشارع العام، ونتأت من سطوحها بضعة أعلام خضراء، وهوائيات تلفزيون، وأقراص لاقطة، ويافطات، وإعلانات تجارية، وغسيل. كانت ألوان البيوت لا تختلف إلا قليلاً عن الأرض المحيطة بها. والطرق الداخلية ترابية، عذراء، فيما وصلت الأسلاك بين أعمدة الكهرباء المنتصبة كالصلبان. والبيوت أشبه بصناديق مفتوحة من الأعلى صوب سماء تستعير ألوانها من الأرض. وأينما ذهبت، واجهتك الجدران التي تساقط ملاطها كاشفاً عن الطوب أو الطابوق. ولأن الجدران تقوم بدور لوحات الإعلان فقد تساقطت أجزاء من الإعلانات القديمة بتساقط الملاط، ويبدو أن المساحات العارية تواصل توسعها على حساب المساحات المستورة. كان الوقت عصراً، وحركة المرور مضطربة والشوارع مزدحمة. والعربات الثلاثية العجلة كثيرة. وجداريات الآجر امتلأت برسوم لشخصيات ورموز دينية. وكان أبو عراق يبطيء في سيره ليتيح لي فرصة للتصوير. وفجأة صدمت سيارتنا عربة ثلاثية العجلات كانت ماضية في نفس اتجاهنا فخلعت دعامية السيارة. كان سائق العربة الثلاثية شاباً نحيفاً يرتدي دشداشة. راح يعتذر ويعد بتصليح الدعامية. وانظم إليه رجلان عابران يستسمحان أبو عراق ويرجوانه أن يعفو عن الشاب. قال أبو عراق: "عمي عاد بس ثبتها." وانتهى الأمر بربط الدعامية موقتاً بأسلاك نحيفة، فواصلنا السير. "مسكين" قال أبو عراق معلقاً على الحادث، "شتريد تاخذ منه؟ هو بروليتاري متكسر."

البصرة مزدحمة ودائبة الحركة وأصوات الباعة تتقاطع مع أصوات منبهات السيارات. والمدينة مهملة. هناك خندق كبير أشبه بنهر جاف يمتد بموازاة الطريق تحول الى مرمى للزبالة. وثمة شريط قصير من الأشجار الواطئة يحف بالشارع ويحجب خندق الزبالة عن الأنظار. هذا عدا عن الكثير من الكراكيب والزوائد والنتوءات التي تبتكرها المصادفات أو النزوات أو الفوضى. هنا مبنى مربع من البلوك لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار لا يجاوره شيء، وفي إحدى زواياه عشرات البراميل الصفراء مرصوفة الواحد فوق الآخر، تعلوه شبكة عنكبوتية من الموصلات الكهربائية أشبه بشبكة صيد السمك مشرعبة ومتداخلة بصورة معقدة ومتصلة بأعمدة الكهرباء وممتدة الى المباني المجاورة. وهناك ما يشبه النصب الحجري على هيئة نصف كرة، مثل خوذة كبيرة زرقاء، يعلوها تصميم بدائي يمثل خارطة العراق بنسختين في اتجاهين مختلفين، ويعلو هذا كله شكل كأسي ترتفع منه أشكال كأشباح طيور أو زعانف أو أشجار شوكية. وعلى نصف الكرة الزرقاء كتب رقم 2007. والنصب كله محجوب الى منتصفه بصف من الأشجار الواطئة. والمجمعات السكنية مفصولة ببرك صنعتها أمطار السنوات الماضية وأدامتها أمطار السنوات اللاحقة فتحولت الى مستنقعات دائمة، ومكبّاً للنفايات من علب وقنان وأكياس وخرق وأشلاء إطارات سيارات وسكراب من كل نوع.

شارع الوطن منطفيء. لم تعد تضيؤه وجوه الحسان. امرأة سافرة وحيدة كزهرة في صحراء تتلفت بحثاً عن تكسي. البارات أطلال. السينمات تحولت الى خرائب والمكتبات الى محلات للملابس. هياكل أبنية عديدة مهجورة. زجاجها مضبب حائل اللون مكسو بالغبار. الفجوات التي في الزجاج تكشف عن ظلمة قديمة. المتاجر الجديدة المصبّغة المضاءة تعلوها مبانٍ متهالكة رمادية اللون تتقاطع حولها الحبال والأسلاك والخيوط، وتنبعج من جدرانها أجهزة تكييف هواء منطفئة، مراوحها ساكنة، داخل أقفاص حديدية. الجهة الغربية من الرصيف بدت مرقعة، وذات إرتفاع متفاوت. بعضها مستوٍ وبعضها منحدر. بعضها مرصوف بحجر سداسي الأضلاع وبعضها بالبلاط المربع (الكاشي). فكأن جزء الرصيف المواجه لكل محل ملكية شخصية لصاحب المحل. فأنت لا تسير بمستوى واحد، بل ترتفع حيناً وتنزل حينا ً بارتفاع وانخفاض الرصيف. كثير من المحلات تحمل أسماء أجنبية، ميناهاوس، ستراك، ستوون، الخ. ولمحلات الثياب حصة الأسد.

"صوِّرْ عمّي صوّرْ. هم ذولة يعرفون شنو الفن؟" قال لي رجل وقد رآني ألتقط صورة ليافطة سينما الوطن، هي كل ما تبقى من السينما.


(يتبع)


* العنوان يحاكي فلماً شاهدته في طفولتي إسمه (بصرة ساعة 11).



#حيدر_الكعبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بصرة عام 11 (الفصل الأول)
- المتنبي شهيداً
- كتابة على حيطان الطفولة
- المثقف محمود عبد الوهاب
- قصف
- مَرْثاة
- أحلام أدوية الملاريا (2) / براين ترنر
- في الحشائش العالية / براين ترنر
- الى النسور: يوتوبيا مضادة / براين ترنر
- أحلام أدوية الملاريا 1 / براين ترنر
- تأبين / براين ترنر
- ما أشدَّ هذا البريق! / براين ترنر
- خدَّة وخَدَر / براين ترنر
- تشريح / براين ترنر
- النجف عامَ 1820 / براين ترنر
- 2000 رطل / براين ترنر
- ستة عشر شرطياً عراقياً / براين ترنر
- حراسة الأثر
- أشباح / براين ترنر
- قصيدة الجرّاح / براين ترنر


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - بصرة عام 11 (الحلقة الثانية)