أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - آدم وحواء.. وثالثهما!















المزيد.....


آدم وحواء.. وثالثهما!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 4328 - 2014 / 1 / 7 - 16:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


جواد البشيتي
وإنَّ لكل عصر تاريخي جديد ما يميِّزه من "الغباء" و"الأغبياء"؛ وفي عصرنا هذا، يُمْكننا، وينبغي لنا، أنْ نقول، بما يشبه التعريف للغباء، إنَّ الغباء هو "إنكار التَّطوُّر"؛ وإنِّي لأتساءل، في دهشة واستغراب، قائلاً: لماذا يتوفَّرون على جَمْع واستجماع "الأدلة" على أنَّ التَّطوُّر (وفي عالم الحيوان على وجه الخصوص) عِلْم زائف، مُسْتَنْفدين الوقت والجهد في ذلك؟!
مأساة هؤلاء الذهنية والفكرية والمنطقية تكمن في كَوْنِهم يتَّخِذون (في أَمْر وجود الإنسان على سطح الأرض) مِمَّا هو في حاجة إلى إثبات، دليلاً (مُفْحِماً) على صِدْق زعمهم؛ فإنَّ قصة خَلْق آدم هي عندهم "المُسلَّمة"، والتي بما يَتَّفِق، أو يتعارَض، معها من أفكار، يُوافِقون، أو يعارِضون!
عندهم القِطُّ هو القِطُّ؛ فهذا الحيوان الذي يرونه الآن، كان قِطَّاً، وسيظل قِطَّاً؛ ولو ظلَّ القِطُّ موجوداً آلاف الملايين من السنين، فإنَّه (أيْ نوعه) لن يتغيَّر (إذا ما تغيَّر) إلاَّ بما يُبْقي ماهيته، وجوهره، وخصائصه وصفاته وسماته الجوهرية، في الحفظ والصَّوْن. القِطُّ (نوعاً) لا يأتي (في معتقدهم) إلاَّ من القِطِّ، ولا يأتي إلاَّ بالقِطِّ. هُمْ لا يُنْكِرون الزمن؛ لا يُنْكِرون أنَّ لكل شيءٍ ماضٍ، وحاضِرٍ، ومستقبلٍ؛ إنَّهم يُنْكرون فحسب أنْ يُحْدِث جريان الزمن في الكائنات الحية "فَرْقاً في النوع".
هُمْ في طريقتهم السَّاذجة في التفكير والنَّظر إلى الأمور كذاك الذي رأى ماءً ترتفع درجة حرارته في استمرار، فقال أوَّلاً إنَّ الماء ظلَّ ماءً على الرغم من هذا الارتفاع المستمر في درجة حرارته؛ ثمَّ شَرَع يُحدِّثنا عن ماءٍ درجة حرارته 150 درجة مئوية!
إنَّهم يرون "الكم"، ولا يرون صلته السببية بـ "الكيف"؛ فالشيء عندهم يظل هو نفسه من حيث الجوهر والنوع مهما تغيَّرت "الأعداد" فيه.
تخيَّلوا أنَّنا على سطح كوكب لا وجود فيه للماء؛ وفجأةً، نَزَلَ عليه ماء من السماء؛ وكانت أجزاء سطح هذا الكوكب متفاوتة تفاوتاً كبيراً في درجة الحرارة، فتجمَّد ثُلْث الماء، وتبخَّر ثُلْثه الثاني، وظلَّ ثُلْثه الثالث والأخير سائلاً. وكان على سطح هذا الكوكب ثلاثة رجال: رَجُل دين، وداروين، وهيجل.
أوَّلاً، أُنْظروا إلى العواقب الحتمية للاختلاف البيئي؛ فبعض الماء ظلَّ سائلاً، وبعضه تجمَّد، وبعضه تبخَّر. وبعد ذلك، لن تجدوا مشقَّة في إدراك "السبب الجوهري"؛ ألا وهو "قابلية" الماء للتحوُّل بما يُوافِق ظروف وجوده البيئية.
رَجُل الدين نَظَر، فقال: إنَّ الماء والثلج والبخار ثلاثة أشياء لا جامع يجمعها، تتجاوَر، ولا يمكن أنْ تتعاقَب؛ فالثلج مجاوِر للماء فحسب، وليس ممكناً أنْ يتحوَّل الثلج إلى ماء، ولا الماء إلى ثلج. الثلج، على ما يَعْتَقِد رَجُل الدين، يمكن أنْ يسخن؛ لكنه، ومهما ارتفعت درجة حرارته، يظل ثَلْجاً، ولا يمكن أنْ يصبح ماءً؛ والماء يمكن أنْ يبرد؛ لكنَّه، ومهما انخفضت درجة حرارته، يظل ماءً، ولا يمكن أنْ يصبح ثَلْجاً.
داروين نَظَر، فقال: إنَّ الماء يبرد، وتنخفض، في استمرار، درجة حرارته، وإنَّ تحوُّله إلى ثَلْج هو العاقبة الحتمية لتنامي برودته في بيئته. وكان هذا هو الصواب في قَوْل داروين؛ أمَّا الخطأ الذي وَقَع فيه فكان فرضية "الحلقة المفقودة". وَقَعَ في هذا الخطأ إذْ تأمَّل الفروق النوعية الكبيرة بين الشمبانزي والإنسان (أيْ بين الماء والثَّلْج في مثالنا). وَوَقَعَ إذْ افْتَرَض، من ثمَّ، وجود "حيوان ثالث (هو "الحلقة المفقودة")" لحلِّ هذه الإشكالية، أيْ إشكالية الفروق النوعية الكبيرة بين الشمبانزي والإنسان.
هيجل نَظَر، فقال: إنَّ داروين لم يتمثَّل معنى "الطَّفْرة"؛ فالفَرْق النوعي بين الماء والجليد يَلْقَى خير تفسير له في "الطَّفْرة"، التي يكفي أنْ نفهمها هذا الفهم حتى تنتفي الحاجة إلى فرضية "الحلقة المفقودة". إنَّ الماء يتحوَّل إلى جليد مباشَرَةً، ومن غير أنْ يجتاز "طوراً انتقالياً" يكون فيه الماء (قُبَيْل تحوُّله إلى جليد) على هيئة "العجينة".
"الطَّفْرة"، والتي فيها، وبها، تتحوَّل "الفروق الكمية" إلى "فروق نوعية"، هي ما يجعلنا نرى ما يشبه "الهوَّة السحيقة" بين الشمبانزي والإنسان. ومع ذلك، أقول إنَّ هذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، استبعاد احتمال أنْ يكون الإنسان قد تطوَّر عن حيوان وسيط بينه وبين الشمبانزي، أو احتمال أنْ يكون الإنسان والشمبانزي قد تفرَّعا من أصل حيواني مشترَك. الأمر الجوهري إنَّما هو أنَّ الإنسان لم يكن في ماضيه البعيد إنساناً.
إنَّ عيبهم المنطقي الجوهري يكمن في كونهم لا يَنْظرون إلى الأشياء نظرة تاريخية؛ فَهُمْ كمثل ذاك الذي لمَّا رأى رجلاً ضخماً، تساءل في دهشة واستغراب قائلاً: "هل يُعْقَل أنَّ هذا الرَّجُل الضخم قد خَرَج من رَحْم أُمِّه؟!"، وكمثل ذاك الذي لَمَّا رأى حَبَّة ليمون كبيرة ناضجة، تساءل في دهشة واستغراب قائلاً: "هل يُعْقَل أنَّ هذه الحبَّة جاءت من هذا النتوء الصغير في غصن شجرة الليمون؟!". لو نَظَر إليها نظرة تاريخية، لقال إنَّها في ماضيها ما كانت، ولا يمكن أنْ تكون، كما هي الآن، أو في حاضرها. وكل من يَنْظُر إلى الأشياء بمعزل عن تاريخها لا يمكنه إلاَّ أنْ يقول بالخلق الإلهي لكل شيء.
المؤمنون بالخلق الإلهي لآدم لا يمكنهم أبداً أنْ يوافِقوا على فكرة تطوُّر الإنسان من كائن حيواني أقل منه درجة؛ فَهُم محكومون بنصٍّ ديني واضح لا لبس فيه، ولا اجتهاد معه؛ فالله خلق آدم على هيئة تمثال بشري من طين؛ ثمَّ نفخ فيه من روحه، فدبَّت فيه الحياة. لقد خلقه من طين حقيقي، وبالمعنى الحقيقي لا المجازي لكلمة "طين"؛ لكنَّ النصوص الدينية الخاصة بهذا الخلق يعتريها كثير من التناقض المنطقي؛ فنحن لا نعرف منها مكان خلق آدم (أَخَلَق الله آدم الطيني في الجنة أم على سطح الأرض؟). ولا نعرف منها طريقة الله في خلق سائر الكائنات الحيوانية؛ كما أنَّها لا تُفسِّر لنا وجود صفات بيولوجية مشترَكة بين الإنسان وسائر الثدييات.
وإنَّ قصة خلق آدم وحواء لا يمكن أنْ تُفْهَم على خير وجه إلاَّ مع ما قصة إبليس، الذي عَرَفَ آدم، وعَرَفَهُ آدم، في الجنة.
قبل أن يَخْلُق الله آدم، جَمَعَ "الملأ الأعلى"، ليحيط الملائكة عِلْماً بالأمر، وليستطلع رأيهم فيه، مُحاوِراً إيَّاهم، ومحاوِراً إبليس على وجه الخصوص، في طريقة "ديمقراطية".
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ". الآية 30 من سورة "البقرة".
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ". الآية 28 من سورة "الحجر".
"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". الآية 29 من سورة "الحجر".
الله، وبحسب التفسير الواضح والجلي لهذه الآيات، والحُرُّ من لعبة "التدليس اللغوي" التي يواظِب على لعبها "المؤوِّلون"، لم يكن قد "نَفَّذ" بَعْد "قراره" خَلْق آدم عندما جَمَعَ الملائكة في السماء، وفي "الجنَّة" تحديداً، على هيئة "مجلس استشاري"، أو "مجلس شورى"، فخاطبهم، مع "كبيرهم" إبليس، أو "أبو الجنِّ"، قائلاً: "إنَّي جاعِلٌ في الأرض خليفة"، أي إنِّي قرَّرتُ أنْ أخْلُق آدم (أبو البشر) لأجْعَلَهُ في الأرض خليفة.
"خليفةٌ" لِمَنْ؟!
إنَّ "الخليفة" هو من يخلف غيره، ويقوم مقامه. ولو ضَرَبْنا صَفْحَاً عن "التأويل"، بوصفه حيلةً وتدليساً لغوياً ودسَّاً للمعاني التي يريدها المؤوِّل في النص الديني وتطاولاً، من ثمَّ، على هذا النص، جسداً وروحاً، لفهمنا "الخليفة آدم (مع ذريته)" على أنَّه خليفة الله في الأرض، أي يُمَثِّله، ويقوم مقامه، وكأنَّه "والي الولاية (الأرضية)" الذي عيَّنه، أو ولاَّهُ، الله، حاكِم الكون كله.
لقد عرفنا "مكان" هذا "الحوار" بين الله والملائكة، وهو "الجنَّة"، التي في "السماء"؛ لكن، "متى" دار؟
لا شكَّ في أنَّه قد دار "بَعْد" خَلْق الأرض، فالملائكة كانوا، عند بدء "الحوار"، على عِلْمٍ بأنَّ الأرض قد خُلِقَت من قبل، فَهُمْ لم يسألوا الله عن "الأرض". الملائكة "آلمهم"، وحَزَّ في نفوسهم، هذا القرار الإلهي، فأبدوا ما يشبه "الاعتراض" عليه (أو التحفُّظ منه) إذ قالوا مخاطبين الله: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ".
وهذا "الاعتراض" لم يكن "اعتراضاً غير معلَّلٍ"؛ فالملائكة قالوا وكأنَّهم على عِلْمٍ بشيء من "الغيب": "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ".
إنَّهم لم يقولوا ذلك على سبيل "التوقُّع"، أو "التكهُّن"، أو "التخمين"؛ لقد قالوه عن "عِلْمٍ"، في منزلة "عِلْم اليقين"؛ قالوه وكأنَّهم يَعْلَمون أنَّ البشر لن يكونوا إلاَّ في هذه "الطبيعة"، أي "مفسِدون (في الأرض) يسفكون الدماء".
الملائكة، وعلى ما يبدو، فهموا "مثالب" البشر تلك على أنَّها جزء لا يتجزأ من "طبيعتهم"، وليست، من ثمَّ، بـ "مُنْتَج إبليسي"، فـ "طبيعتهم"، وليس تأثير ونفوذ إبليس في أنفسهم، هي السبب الذي يجعلهم "يُفْسِدون (في الأرض) ويسفكون الدماء".
إنَّ البشر لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقوا، من ثمَّ، "طبيعتهم" تلك؛ فالله هو الذي خلق آدم من "طين"؛ وقد تُفسَّر تلك "الطبيعة البشرية (السيئة بمعايير الملائكة)" على أنَّها العاقبة الحتمية لخَلْق آدم من طين؛ فـ "المخلوق من طين" لا يمكنه أن يكون بغير هذه الطبيعة.
الملائكة "آلمهم" الأمر لهذا السبب، ولسبب آخر لا يقل أهمية بحسب وجهة نظرهم، ويكمن في قولهم لله "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"؛ فَلِمَ تُفَضِّل آدم علينا، وتجعله خليفة لكَ في الأرض ونحن الأوْلى والأحقُّ بهذه المكانة؟!
لقد شقَّ على معشر الملائكة فهم حيثيات "القرار الإلهي"، فهذا "التفضيل الإلهي" لآدم عليهم (والذي يشبهه تفضيل بني إسرائيل على العالمين) بدا لهم غير مبرَّرٍ؛ لأنَّ "خليفة الله في الأرض"، وإذا كان لا بدَّ منه، يجب أن يكون "مُسبِّحاً بحمد الله، مُقَدِّساً له"، لا أن يكون "مُفْسِداً (في الأرض) يسفك الدماء".
الله استمع إلى وجهة نظرهم، وإلى ما بدا له اعتراضاً على قراره، أو تحفُّظاً منه، فردَّ عليهم قائلاَ: "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ"، وكأنَّه أراد أن يقول لهم: أنتم، وبما تعلمون، قد اعترضتم؛ أمَّا أنا فإنِّي أعلم ما لا تعلمون؛ وعليه سأمضي قُدُما في تنفيذ قراري.
على أنَّ الله لم يَقُلْ للملائكة "إنِّي أعلم ما لا تعلمون" من غير أن يسعى، في الوقت نفسه، في إقناعهم بأنَّ "اعتراضهم" فيه من "الجهل" أكثر مِمَّا فيه من "العِلْم"، فخَلَقَ آدم، ثمَّ "علَّمه الأسماء كلها".
"وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ". الآية 31 من سورة "البقرة".
"قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ". الآية 32 من سورة "البقرة".
"قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". الآية 33 من سورة "البقرة".
ما نعلمه هو أنَّ الله خلق آدم من طين، هو من طين الأرض، فخَلْق آدم إنَّما تحقَّق في أثناء خلق الله للأرض، وفي "رُبْع الساعة الأخير" من خلقه لها على وجه التحديد، فـ "الأرض"، وليست "الجنَّة" التي في السماء، هي "مسقط رأس آدم".
ومع ذلك، نرى، في بعض الآيات القرآنية، ما يدل على أنَّ آدم كان مع حواء (التي خُلِقَت من ضلعه الأيسر) في "الجنَّة"؛ وكان ممكناً أن يظلاَّ فيها لو ظلاَّ بعيدين عن تلك الشجرة (من شجر الجنَّة). إنَّهما لم يلتزما (إذ نجح "الشيطان" في إقناعهما بالاقتراب منها) فـ "أهبطهما" الله، عقاباً لهما، من "الجنَّة" إلى "الأرض".
"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ". الآية 35 من سورة "البقرة".
كان قرار الله هو أن يَخْلُق آدم (من طين) ليجعله خليفة له في الأرض. ولقد جاء في آيات قرآنية أنَّ الله خَلَق آدم، في الأرض، وفي نهاية خلقه لها. على أنَّ هذه الآية تُخْبِرنا أنَّ الله قال لآدم: "يَا آدَم اُسْكُنْ أَنْت وَزَوْجك الْجَنَّة.."، فهل خلقه في الأرض (من طينها، وفي نهاية خلقه لها) ثمَّ "أصْعَدَهُ الجنَّة"، ثمَّ "أهْبَطَهُ" منها، مع حواء، إلى الأرض؟
إنَّه سؤال يستلزم إجابة واضحة.
في "الجنَّة"، وبعد انتهاء "الحوار" بين الله والملائكة في أمْر خَلْق آدم وجَعْلِه خليفة له في الأرض، عَكَفَ الله على "تعليم" آدم الأسماء كلها، أي أسماء المسمَّيات أو الأشياء جميعاً، فعلَّمه مثلاً أنَّ هذا الشيء هو "شجرة"، وأنَّ ذاك هو "شمس"، وأنَّ ذلك هو "نهر". ولولا الله لَمَا كان لآدم أن يَعْلَم أسماء الأشياء جميعا، فـ "اللغة" إنَّما تعلَّمها آدم تَعَلُّماً من الله في الجنَّة؛ ثمَّ علَّمها آدم (لزوجته وأولاده). وليس ثمَّة ما يدل على ماهية تلك "اللغة الأُم"، التي، على ما يُزْعَم، تفرَّعت منها لغات كثيرة.
ثمَّ جاء الله بـ "الأشياء"، التي علَّم آدم أسماءها، متحدِّياً الملائكة أن يذْكروا له أسماء تلك الأشياء إنْ كانوا صادقين في زعمهم أنَّ الله لا يخلق أعْلَم منهم، وأنَّهم، من ثمَّ، أحق بالخلافة.
لو أنَّ الله علَّمهم كما علَّم آدم لذكروا له أسماء تلك الأشياء جميعاً. لقد عجِزوا (وكيف لهم أن يستطيعوا؟!) عن إجابة "السؤال الإلهي"، فقالوا مخاطبين الله: ".. سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".
ثمَّ جاء بآدم داعياً إيَّاه إلى أن يَذْكُر للملائكة أسماء تلك الأشياء جميعاً، فَذَكَرَها، فقال الله، عندئذٍ، مخاطباً الملائكة: "أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ". لقد أثبت الله للملائكة أنَّه هو الذي يَعْلَم غيب السماوات والأرض، ويَعْلَم الظاهِر والباطِن من مواقف الملائكة.
وبعدما جاءهم الله بالدليل المُقْنِع والمُفْحِم، أمَرَهُم (وكان إبليس بينهم) بالسجود (سجود تحية بالانحناء) لآدم، فسجدوا إلاَّ إبليس أبى واستكبر، قائلاً إنَّه خيرٌ من آدم، فـ "أصبح" من "الكافرين".
إبليس وحده ظلَّ ثابتاً على "اعتراضه"، مُحوِّلاً إيَّاه إلى "تمرُّدٍ" و"عصيان".
"الغرور" استبدَّ بإبليس، فرَفَضَ أن يَمْتَثِل للأمر الإلهي بالسجود لآدم، فهو من "نارٍ" وآدم من "طين"؛ والطين، على قول أبو العلاء المعرِّي، لا يسمو سموَّ النار.
و"كُفْر" إبليس ليس بالكفر "المُطْلَق"؛ فهو لم يُشْرِك بالله، أو يكفر به، أو يُنْكِر وجوده. إبليس "أصبح" من الكافرين؛ لأنَّه عصى أمْر الله له (ولسائر الملائكة) بالسجود لآدم.
الله خاطب "العاصي" إبليس قائلاً: ".. مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ". الآية 12 من سورة "الأعراف".
وبعد توضيح إبليس لسبب "عصيانه"، "وتمرُّده"، خاطبه الله قائلاً: ".. فَاهْبِطْ مِنْهَا (أَي من الجَنَّة، وقيل من السَّمَاوات) فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ". الآية 13 من سورة "الأعراف".
إبليس (الخبيث الماكِر) سألَ الله، عندئذٍ، "النَّظِرَة (الانتظار) والإمهال إلى يوم البعث والحساب"، أي طلب ألاَّ يموت؛ لأنَّ يوم البعث لا موت بعده، فأجاب الله طلبه قائلاً له: ".. إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ". الآية 15 من سورة "الأعراف".
لقد قال إبليس لربِّه: "أَنْظِرْنِي!"، أَيْ أَخِّرْنِي وَأَجِّلْنِي، ولا تُمِتْنِي إلى يوم يُبْعَثُونَ، أي إِلَى يَوْم يُبْعَث الْخَلْق؛ فَقَالَ الله له "إِنَّك مِنْ الْمُنْظَرِينَ"؛ لكن "إلى يوم الوقت المعلوم"، والذي قيل في تفسيره (أي في تفسير "يوم الوقت المعلوم") إنَّه يَوْم فناء البشر جميعا.. ويوم موت إبليس أيضاً. وليس ثمَّة ما يَمْنَع من تفسير "يوم الوقت المعلوم" على أنَّه "يوم البعث"، فإذا فُسِّر على أنَّه كذلك فهذا إنَّما يعني، أو قد يعني، أنَّ إبليس لن يموت أبداً، فـ "يوم البعث" إنَّما هو اليوم الذي لا موت ولا فناء بعده.
ومع ذلك، ليس ثمَّة ما يكفي من الوضوح في شأن "العقاب الإلهي" لإبليس إلاَّ إذا كان ممكناً أنْ يعاقَب هذا "المخلوق الناري" بـ "النار"، أي بـ "جهنَّم".
متى "أهْبَطَ" الله إبليس من "الجنَّة"، أو من "السماوات"، عقاباً له على "عصيانه"، مع قبوله طلبه أن يكون من المُنْظَرِين؟
الجواب هو: عندما، أو ما أن، رَفَض السجود لآدم؛ وهو أيضاً: قبل أن "يُهْبِط" الله آدم وحواء من "الجنَّة" إلى "الأرض"، عقاباً لهما على عدم امتثالهما أمْر الله لهما بأن لا يقتربا من "تلك الشجرة" بالأكل منها.. وقد كان إبليس (الذي أهْبَطه الله من "الجنَّة" إلى "الأرض" قبلهما) هو من "أقنعهما" بالاقتراب منها.
إبليس ذو الكبرياء "عصى" و"تمرَّد"، فـ "أصبح" من "الكافرين"؛ ثمَّ طلب أن يكون من المُنْظَرِين، فلبَّى الله طلبه، "مُهْبِطاً" إيَّاه من "الجنَّة" و"السماوات" إلى "الأرض"، فبدأ "حرب الانتقام" من آدم وذريته، وكأنَّ غايته أن يُثْبِتَ لله من خلال نتائج تلك الحرب أنَّه كان مُحِقَّاً إذ رَفَض السجود لـ "آدم الطيني"، أي الأقل منه منزلة ومكانة على ما صوَّر له "غروره (العنصري)".
إبليس المطرود من "الجنَّة" قَبْل آدم وحواء، وعلى الرغم من طرده منها، نجح في إغوائهما، أي في إيقاعهما في الضلال والغواية، فغضب الله عليهما، فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كانا فِيهِ مِنْ النَّعِيم.. "وَقُلْنَا اهْبِطُوا" إلَى الأرْض، أَيْ أَنْتُمَا بِمَا اشْتَمَلْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ ذُرِّيَّتكُمَا، "بَعْضكُمْ"، أي بَعْض الذُّرِّيَّة، "لِبَعْضٍ عَدُو"، مِنْ ظُلْم بَعْضكُمْ بَعْضًا، "وَلَكُمْ فِي الأرْض مُسْتَقَر"، أي مَوْضِع قَرَار، "وَمَتَاع"، أي مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتهَا، "إلَى حِين"، أي إلى وَقْت انْقِضَاء آجَالكُمْ.
الأرض، في هذا المعنى، إنَّما هي "دار العقاب"، فالله أهْبَطَ آدم وحواء من "الجنَّة" إلى "الأرض" عقاباً لهما على "اقترابهما (بالأكل) من تلك الشجرة"، مع أنَّ الله أبلغ إلى الملائكة، من قَبْل، قراره أنْ يجعل آدم خليفة له في الأرض؛ لكنَّ آدم، وقبل أن يُهْبِطه الله من "الجنَّة" إلى "الأرض" عقاباً له على إثمه ذاك، تلقَّى من ربِّه كلمات "فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". وهذا إنَّما يعني أنَّ آدم الذي تاب عليه الله هو الذي عُوقِب بأنْ أهْبَطَهُ الله من "الجنَّة".
إبليس، ومُذْ طرده الله من "الجنَّة"، يَعْتَقِد، أو يتوقَّع، أنَّ لديه "فرصة" ليس للانتقام من آدم وذريته فحسب، وإنَّما لإقامة الدليل لـ "ربِّه" على أنَّ آدم، أو نسله، ليس جديراً بأن يكون خليفة لله في الأرض، وبأن يَسْجُد له هو وسائر الملائكة.
"المشيئة" هي "الإرادة"؛ ومشيئة الله تعلو ولا يُعلى عليها، ولا مَرَدَّ لها. ومشيئة الله "مُطْلَقَة"، فكل ما حَدَثَ، ويَحْدُث، إنَّما هو جزء من مشيئة الله. حتى أعمال الشياطين والكفرة هي جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ووجود إبليس مع أعماله (مع شروره كافَّة) لا ينفي، بل يؤكِّد، أنَّ الله هو "خالق الخير والشرِّ معاً"، فـ "الشرُّ" لا يمكن فهمه إلا بوصفه جزءاً مِمَّا خلق الله.. الله "الخالق لكل شيء".
وفي سورة "الحجر (الآية 39)"، خاطب إبليس ربَّه قائلا:".. رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ..".
إنَّ إبليس المُعْتَرِف بربِّه يَنْسِب الظلم إلى الله قائلا إنَّه هو الذي أغواه؛ ولا شكَّ في أنَّ إبليس، في موقفه هذا، إنَّما يؤكِّد إيمانه بأنَّ مشيئته جزء من مشيئة الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. و"تمرُّد إبليس" كان مِمَّا شاء الله له أن يكون، ولو لم يشأ لَمَا كان.
حتى إبليس سمح الله له بمحاورته وبالاعتراض على مشيئته.. وكان حواراً عقلانياً هذا الذي تجرَّأ عليه إبليس؛ فالله خَلَق إبليس من عنصرٍ أسمى، فَظَنَّ أنَّه يفوق آدم أهميةً، فلَّما أمره الله أنْ يسجد لآدم أبى واستكبر، وحاوَر الله، الذي حاوره هو أيضاً. ولمَّا ظلَّ على عصيانه عاقبه الله؛ لكن "عقابا رحيما"!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف لِمَنْ يَعْتَقِد ب -آدم وحواء- أنْ يَفْهَم داروين؟!
- البابا فرانسوا: حتى الله يتطوَّر!
- هذا الدليل البسيط على صواب أو خطأ نظرية -تمدُّد الكون-!
- هذا الإحباط الشعبي الثوري!
- ما وراء -أُفْق الكون-!
- عاصفة من -التَنَبُّؤات الفلكية-!
- عاصفة ثلجية بنكهة سياسية!
- -الدولة المدنية- و-الربيع العربي-
- انحناء المسار بانحناء المكان
- النَّجْم إذا حَفَرَ في الفضاء
- بأيِّ معنى نفهم سرعة الضوء على أنَّها -مُطْلَقَة-؟
- -التركيب- و-التفكيك- عربياً
- كيف تَصِل إلى أبعد نجم في الكون في دقيقة واحدة فحسب؟
- أين -المُطْلَق- في -النسبية-؟
- الجاهلية الإسلامية!
- في -نسبية الحركة-
- قانون يُدْعى -تنظيم الحق في التظاهر-!
- -النقطة- التي منها وُلِدَ الكون!
- مِنْ عملة -الكيميائي السوري- إلى عملة -النووي الإيراني-!
- في قانون التكافؤ بين قوى الجاذبية وقوى التسارع


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - آدم وحواء.. وثالثهما!