ألى صديقي ورفيقي الراحل الكبير طلعت يعقوب في ذكرى رحيله 17-11-1988 / 17-11-2002
نضال
قلائل هم الذين يعرفون طلعت يعقوب عن حق وعن قرب, أنه رجل من طينة فلسطينية خالصة ومن إخلاص فلسطيني وقناعات ثورية مميزة عاشت على الصدق والصبر والمثابرة والثقة الكبيرة بالأصدقاء والرفاق. لم يكن يعرف البذخ ولا سطوة المال والمركز والتبذير, كان يجوع مثلما رفاقه جميعا عندما كانوا يجوعون, فيؤكد بنبله وشهامته مقولة أن القائد آخر من يأكل وينام وأول من يقاتل ويتابع المهام. كان البعض الفلسطيني والعربي يحاربه وتنظيمه بلقمة العيش, فيمنع مستحقات التنظيم ويمنحها للذين التحقوا بما سموه يومها القرار الفلسطيني المستقل,هذا القرار الذي أوصلنا إلى مستنقع أوسلو وما تلاه من اتفاقيات لم يلعب فيها ذاك القرار سوى دوره الموشوم بالتنازلات المصيرية و الموصوم بالتبعية وبتخليه عن الاستقلالية. لقد انشقت بعض الجماعات عن تنظيماتها لتلتحق بالمتنفذين من أصحاب القرار والسلطة في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. فأصبح هذا البعض شاهد زور على أكبر عملية التفاف شهدتها المنظمة وكانت نتيجتها نهاية عصر القرار المستقل وبداية تكريس عصر العمل المنفرد تماما والدائر الظهر لكل ما هو فلسطيني وعربي من مجلس إعلان الدولة في الجزائر حتى مجلس إلغاء الميثاق في غزة.
كان طلعت يعقوب من القادة القلائل الذين يحق لفلسطين أن تفتخر بهم وتذكرهم كمنارات مشعة ومضيئة في زمن الوجوه التي غدت كوشم من السواد والعتمة والظلام تخيم بسوادها وظلامها الدامس على جراح فلسطين المستبسلة في صد العدوان ورد الاحتلال. كان رجلا للقواعد وللفكر والمقاومة, أبنا بارا للمخيمات الفلسطينية المكافحة من أجل العودة إلى مدن وقرى وبلدات فلسطين من الجليل إلى النقب وبئر السبع وكل قرية فلسطينية تمتد جذورها الضاربة عميقا في هذه الأرض المباركة عمق الجذور الكنعانية المؤسسة لهذا الوطن الفلسطيني الأصيل. لم يكن من عبدة العملة الصعبة, ولا من مستعبدي الأنظمة الثورية أو الرجعية, كان صاحب قرار فلسطيني حار كالجمرة الملتهبة, وعربي تقدمي لا تلفه أفكار الطغاة ولا تديره مظاهر الحياة. كان وفيا للتراب الفلسطيني الكامل المتكامل, ولكل دمعة ذرفتها عين أم فلسطينية في مخيمات البرد والبؤس والشتات, ومخلصا كل الإخلاص للشهداء وللأسرى من رفاق المسيرة المعقدة. لم تسلبه الدنيا بمتاعها قناعته التي عاش لأجلها ومات وهو معتزا بها, فقناعته كانت بفلسطين حرة مستقلة,أبية وعصرية مستنيرة , نواره. نعم كان وفيا لتلك الحقائق وللبيارق التي رفعتها عاليا أيدي المناضلين وتضحياتهم على كل جبهات العمل الكفاحي الفلسطيني الحر والشريف داخل وخارج البلاد.
أعوام طويلة من غضب الحجارة والشعب والمقاومة والسماء التي أمطرت للأرض شهداء, تفصلنا أيها العائد إلى عباسية حيفا عن يوم رحيلك المفاجئ في يوم فلسطيني كان عاصفا ومملوءا بالتشابكات المعقدة, ما بين إعلان الدولة الفلسطينية في المجلس الوطني في الجزائر العاصمة, دورة الشهيد أبو جهاد الوزير, وما بين الواقع الفلسطيني الحقيقي الذي كان يأبى الكلام المغمس بالعسل والذي بالأصل هو كلام فارغ ومغمس بالفشل. هناك ويوم أعلنت الدولة وظهرت نتائج الدورة, كان أبو يعقوب في طريقه لعقد مؤتمر صحافي ففي الطريق فاجأته نوبة قلبية حادة ألمت به كانت كفيلة لأن تختطفه منا نحن رفاقه الذين صعقنا النبأ وألمنا المصاب الجلل. فكيف يموت القائد المحبوب في ساعة نحن أشد الحاجة فيها لرمزيته وشرعيته, فالكلاب المسعورة كانت تنهش لحم القضية والذئاب كانت تنتظر على مسافة قريبة لتحضر لنفسها وليمة كبيرة تليق بالمؤامرة الأكبر. لكن صحوة رفاق المسيرة والدرب الطويل والمعقد والمزروع بالأشواك والألغام,فقد وقفوا و كانوا معه في حياته وعند موته وبعد مماته. فظلوا أوفياء للقيم وللقواعد والمبادئ والنضال الوطني الفلسطيني الحقيقي. فلم يتحولوا إلى دكان صغير في مجمع الدكاكين والمتاجر التي كانت تعج بها الحالة الفلسطينية. بهذا الحفاظ على نوعية العمل والفكر والاختيار مع كل ما كان من ضغوط وحرب تجويع استمرت لسنوات صمد رفاقه صمود الصخور والجبال أمام العواصف والزلازل والبراكين, فكيف لا يصمدوا وهم من طين وتراب فلسطين.
طلعت يعقوب كان رجلا من هذا الزمان ومتواضعا من نسل المحبة والفقراء والأبناء الأبرار, أن رأى أم أو زوجة شهيد تشتكي و تتعذب أو أبن شهيد أو جريح أو أسير يتألم من جوع أو نقصان مادي لأن التنظيم بسبب أزماته وحصاره كان عاجزا عن تأمين حاجتهم ومساعدتهم, كان لا ينام حزنا وأسفا وغضبا, وهو يعرف أن الثمن الذي يجب دفعه لفك الحصار عن التنظيم, هو أن يتحول التنظيم إلى جمعية أو دكان في جمعية المتاجر المتنفذة في سوق النضال الرسمي الفلسطيني والعربي تلك الأيام. فالموقف الثوري والوطني الحر والسليم والنزيه لم يكن ثمنه سوى الابتزاز والتجويع والتركيع و محاولة شراء الذمم والمواقف والعقول والبشر. فعلا لقد كنا نحيا ولازلنا ندفع ثمن الأخطاء المفجعة والسياسة المتبعة من قبل أولياء أمور السياسة في بلادنا. لكن وبعد كل تلك السنوات من عمر الموت المفاجئ الذي أختطف يوم السابع عشر من نوفمبر 1988 القديس الثوري والولي التقدمي الراحل الشهيد طلعت يعقوب, أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية, رفيق سمير القنطار عميد الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال, وأبو العمرين فؤاد زيدان
رجل المعسكرات والمواقع والمواجهات, شهيد الثورة المنبعثة من الانقراض المحتمل بعد عاصفة أيلول الأسود
الشهيرة وما تلاها من مآس مريرة. ورفيق القادة الميدانيين جهاد حمو, أبو كفاح فهد, سعيد اليوسف, أبو الفهود العراقي, سمير الكردي, أبو سعدو وأبو خلدون وكافة شهداء وجرحى وأسرى وأحياء التنظيم من الأوفياء للأمانة والقسم والأهداف العليا. في ذلك اليوم ترك أبو يعقوب المقعد القيادي خاليا وترك أطفاله مثلما جاءوا بلا مال وأملاك وثروات وهبات, تركهم بعد أن زرع فيهم حب فلسطين والتواضع والأفكار الثورية السليمة, فظل مثالهم العالي ووالدهم الغالي. فها هو طارق طلعت يعقوب الشاب الناشئ يكدح ويجهد ويتعب ويعمل ليلا ويدرس في الكلية نهارا حتى يستطيع العيش ومواصلة الدراسة في إحدى دول أوروبا الشرقية سابقا, مع أن أبناء البعض من المحسوبين على شعبنا أولياء يدرسون في مدارس أمريكا ويتلقون المساعدات السخية من آبائهم ورؤساء آبائهم. لا تتعب ولا تيئس يا طارق, أن الطريق الصعب والمتعب خير من طريق الردة والمذلة والانحناء وبيت الطاعة العمياء. فوالدك كان يريدك مثله وأنت تسير الآن على خطاه بثبات وعزم وحزم. أذكر حديثك لي عن والدك وكيف قذف بالليمون الذي كانت والدتك تحمله بعدما تسلمته كهدية من والدة أحد الشهداء التي جاءت تطالب بمرتبات ابنها الشهيد وكانت يومها أحوال التنظيم سوداء قاتمة وميزانيته تحت الصفر والإفلاس سيد الخزانة. فبعد أن انتهى من الحديث مع والدة الشهيد واعدا بتأمين أي شيء في القريب العاجل, خرج ليودعها وعاد من الباب فوجدك تأكل برتقالة ووجد وعاء البرتقال في يدي أمك, فأنتزعه صارخا, والدة الشهيد تريد مرتبات أبنها ونحن بلا فلوس وأنت تحملين كل هذا الليمون , وقبل أن يتمكن الحضور من توضيح الأمر لأبي يعقوب, قام برمي الوعاء مع الليمون من شرفة المنزل. عندها قالت له زوجته أم طارق,هذا البرتقال يا طلعت هدية لك ولأطفالك من والدة الشهيد.. نعم يا طارق أذكر تلك الواقعة لأنني كنت يومها حاضرا وشاهدت الواقعة بأم عيني, وكنت أنت لازلت طفلا صغيرا, حرمتك شفافية والدك وأمانته واستقامته ونبله ووفاؤه من البرتقالة. لكن يا عزيزي هذا هو قدر الشرفاء والنبلاء في زمن الخداع والنفاق والكذب والهراء.
* أوسلو : نوفمبر 2002