تحذير: للكبار فقط

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4259 - 2013 / 10 / 29 - 16:34
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    

في معرض التصدي لحملة أنصار ’الفضيلة‘ ضد الإيحاءات الجنسية والألفاظ الخادشة للحياء في البرنامج السياسي الساخر "البرنامج" لمقدمه الأشهر باسم يوسف، أسقط هنا نقطة من بحر شتائم وبذاءات تصل، أو معادلاتها، بشكل يومي تقريباً إلى مسامع كافة الناطقين بالعربية دون استثناء. في الشارع: ’يا ابن الكلب‘، ’يا ابن الوسخة‘، ’يا ابن الزانية‘، ’يا متناك يا ابن المنيوكة‘، ’يا خول‘، ’يا علق‘، ’يلعن دين أمك‘، ’يلعن دين أبوك‘، ’يلعن دين اللي خلفوك‘، ’كسمين أمك‘، ’يلعن أبوك ابن كلب وسخ‘، ’يا ابن المره‘، ’يا ابن المره المتناكة‘، ’يا عاهرة‘، ’يا زانية‘، ’يا معفنة‘...الخ؛ ومن مكبرات الصوت أعلى مآذن المساجد: ’اللهم أهلك أعدائك أعداء الدين‘، ’اللهم شتت شملهم‘، ’اللهم يتم طفلهم‘، ’اللهم رمل نساءهم‘، ’اللهم عليك بالكفرة والمشركين‘، ’لا تشملهم برحمتك‘، ’اللهم عليك باليهود‘، ’أبناء القردة والخنازير‘، ’اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر‘، وسلط عليهم من لا يخاف ولا يرحم‘...الخ. أي من هؤلاء الفضلاء لم تمر على أذنه مثل هذه الألفاظ يحق له أن يعترضني هنا، أو ’يحط جزمة في بقه ويسكت‘!

منذ القدم، لا تزال المقاربة إلى الأخلاق تتنزل تنزيلاً من ’فوق إلى الأسفل‘- في صفقة تبادل منافع واضحة يتولى بمقتضاها رجال الدين تعريف وصيانة الأخلاق الحميدة، في مقابل أن يحصل رجال الحكم- بواسطة رجال الدين- على الولاء والطاعة الواجبة من الرعية المحكومة. مثل هذا التحالف قد بقي قائماً من أيام الحضارات القديمة في مصر والعراق وبلاد الشام وفارس، واستمر حتى بشراسة أكبر طوال الحقبة الإسلامية وصولاً إلى العصر الحاضر دون تطوير جوهري في أصوله. في العصر الحديث، على سبيل المثال، قد تأسست المملكة العربية السعودية ولا تزال فوق عمودين أساسيين: آل سعود بصفتهم رجال الحكم، وآل عبد الوهاب بصفتهم رجال الدين. على هذا الأساس، لا يستغني رجال الحكم عن خدمات رجال الدين، ولا يستغني الأواخر عن الحماية التي يكفلها لهم الأوائل.

وفق هذا التحالف الأقلوي- الفوقي بين النخبة السياسية والدينية، يتم تعريف ما هي الأخلاق والقيم ’الصحيحة‘- سواء في الوحي أو الكتب أو الشروح أو التفاسير أو مجالس أهل الحل والعقد أو كبار العلماء أو الخطب أو المحاضرات أو الأشرطة أو الفضائيات- ثم محاولة فرضها في شكل قواعد شرعية أو قانونية أو عرفية على عامة الناس، ومعاقبة أو إحراج كل من يخرج عنها أو يتحداها. من هذا المنطلق، لا أحد ينظر حتى في، ناهيك أن يحاول أن يصف أو يدرس، ما هي بالضبط القيم والأخلاق السائدة بالفعل وسط عامة الناس هؤلاء، ما إذا كانت مختلفة وإلى أي حد، وما إذا كانت أكفئ وأنفع وأحق بالاتباع من نظيرتها النخبوية الآتية من فوق. في الواقع، هي منذ البدء حضارة فوقية، نخبوية بالأساس- سياسياً وفكرياً وثقافياً وأخلاقياً واقتصادياً...الخ- ولا تزال كما هي دون تغيير جوهري منذ آلاف السنين. لكن أخيراً قد هبت ريح الربيع العربي، التي لا تزال منذ ثلاث سنوات تحاول أن تفتح ثغرة ولو بحجم ثقب إبرة في جبل الموروث النخبوي الاستبدادي العربي الشاهق، سياسياً ودينياً واقتصادياً وفكرياً ...الخ.

مثال باسم يوسف هذا وبرنامجه النقدي الساخر ذو النكهة الشعبية الذي تأذت منه مشاعر البعض لا يزال مجرد قطرة من سيل مدمر سوف يجرف معه في مرحلة ما كامل المنظومة السياسية والقيمية العربية القائمة. حتى الآن، هي لا تزال نذر ثورة شعبية حقيقية تحاول أن ترفع الفقراء بجهلهم وفقرهم وأجسادهم الهزيلة بسبب سوء التغذية والأمراض المزمنة إلى قدم المساواة التامة في كل شيء مع النخب السياسية والدينية التاريخية، وتعلي آدابهم وأساليب حياتهم وطرائق تفكيرهم وألفاظهم الفاحشة والنابية والبذيئة مكان مثاليات نخبوية عاقم ومفصولة عن الواقع منذ آلاف السنين. الشعوب تسترد إراداتها ومصائرها من تحالف السياسة والدين الذي يحكمهم، ويستغلهم، من آلاف السنين. بعد هذه الثورة الشعبية، لن تستطيع النخب بعد أن تملي على الشعوب ما تفعل وما لا تفعل، ما الصواب وما الخطأ، من مع الله ومن مع الشيطان؛ لأول مرة، الشعوب هي التي ستصنع بأيديها الحكام وتعزلهم، الوضع الذي سوف يحرم رجال الدين من وظيفتهم الأولية كجسر وسيط بين الحكام والمحكومين، ومن ثم تزول فائدتهم لدى رجال الحكم والسياسة ويتحولون إلى أشخاص عاديين تماماً، لا أكثر قيمة ولا أقل. إنهاء الاستبداد السياسي سوف ينهي بالنتيجة معه الاستبداد الديني.

كل الذين تولولون وتتحسرون على ‘ثوابت‘ قيمية وهمية من صنع خيالكم المنقطع الصلة عن الواقع، ثوابتكم ستزول معكم يوماً. الواقع، بشتائمه وبذاءاته وقيمه الوضيعة، سوف يفرض نفسه عليكم في النهاية. خير لكم أن تعترفوا بالواقع وتتعلموا التكيف معه وتحاولوا تنظيمه وتهذيبه وترقيته بدلاً من فرض أوهامكم المصنوعة ذاتياً وغير المطابقة، أو أن تتنحوا جانباً، لأن الموجة ستكون عالية عليكم هذه المرة.

#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل