أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سيار الجميل - العرب في سجن مؤّبد !! متى يهندسون تفكيرهم وزمنهم ومصيرهم ؟؟















المزيد.....


العرب في سجن مؤّبد !! متى يهندسون تفكيرهم وزمنهم ومصيرهم ؟؟


سيار الجميل

الحوار المتمدن-العدد: 1203 - 2005 / 5 / 20 - 10:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مهداة الى الصديق الدكتور متروك الفالح في محنته
نحن والعالم : الماضوية والمستقبلية
في العام 2002 ، نشرت مقالة في الكوريار انترناشنال عنوانها " التفكير والحريات في سجن مؤبد !!" قلت فيها أشياء عديدة تخّص حياتنا المعاصرة ، وربما غابت عني أشياء كنت قد وعدت وقت ذاك قرائي الاعزاء ان أحدثهم بها وخصوصا عن معاناة مجتمعاتنا ودولنا على حد سواء من سطوة الماضي السياسي ورهبة التوحّش ونزعة الحنين العاطفي الى كل قديم أو التشّبث بجملة هائلة من المواريث التي لم يعد لها اي نفع في مثل هذا العصر ومن دون الالتفات الى كنه هذا العصر والمشاركة فيه من خلال ما يمكن تقديمه من منتجات حيوية والتوّغل في صنعه بعيدا عن مستهلكاته . ان الماضوية التي كنت وغيري قد نّبهنا الى مخاطرها ، فانها تعني - باختصار - : العيش على اوهام ينفيها العقل نفيا قاطعا ، وان التفكير في سجن الماضي المؤبد ما هي الا مرض استعصى طويلا على الحكماء والفلاسفة وكل المصلحين الحقيقيين الذين استطاعوا تشخيص اعراضه بكل شجاعة وتوصيف هذه الكثرة الوافرة من البقايا والجذور التي نرجع اليها كل آن عندما نفّسر حتى ابداعات غيرنا وتشيؤات خصومنا ( هكذا يتخيل العرب دوما غيرهم خصوما لهم ) الذين وظفوا أزمانهم ولم يركنوا الى الماضي ، فالماضي لا يطعمنا ولا يسقينا حتى وان كان السابقون أكثر منّا فضيلة وأرسخ منّا قيما .. واخصب منّا عمالقة !
وقبل ايام وانا اتابع صحيفة الكوريار انترناشنال لفت نظري عنوان " ما الذي جرى بالتاريخ " كتبه د. فيكتور ديفيز هانسون يعتب فيه على الغربيين كيف انهم نسوا الماضي وراء ظهورهم وكيف غدوا جزءا من عجلة العصر وطغيان الحاضر ونزعة المعاصرة .. بل بدا لي انه يضادد ما كنت قد طرحته عن العرب في الصحيفة نفسها عندما يصف التشبّث بالمعاصرة مرض او داء عضال .. وهو يحّن حنينا جارفا الى الاسلاف الذين بنوا كل شيىء وتركوه الى الاخلاف ! هنا أود استعادة التفكير من جديد وبعد ان قارنت كلا من الفكرتين المتضادتين ، ايهما تخدمان اكثر .. فهل تشبّث الغرب ( والعالم من ورائه ) بالمعاصرة اهم ؟؟ .. أم هل ان تشبّث العرب ( والمسلمين معهم ) بالماضي أهم ؟؟ علما بأن فيكتور هانسون لم يقل بالماضوية ، بل طالب بالتاريخ .. والفرق بين الماضي والتاريخ كبير جدا ! ناهيكم عن ان تصنيف العقلاء واضح لكل الدنيا ، اذ لا يمكن ان نفّضل من يعيش في سجن ماضوي مؤبد بذاك الذي اكتسح العالم كله بمعاصرته ورؤيويته ومنتجاته وبات العالم كله لا يستطيع الحياة من دونه ابدا .
-1-
رسوخ النزعة الماضوية
ان العرب تنزع بصورة غير مألوفة للحديث عن الآباء والاجداد بنبرة من التقديس والتفاخر من دون الاهتمام بالابناء والاحفاد ، وكأن المعادلة مفقودة التواصل بين الابوة والبنوة كما هو حال الامم الاخرى التي تبقى تحترم مواريثها وتعتّز بها اعتزازا شديدا من دون تقديسها أبدا ! ان ما يقوم به العرب ( ومن يشاركهم هذا التفكير ) من اضفاء صفة القدسية والبهرجة والانبهار على زعمائنا وابطالنا الذين ينتمون الى اجيال مضت ( أي : انها عاشت في الماضي ) من دون مراعاة مضامين ما حملوه ، حتى وان كان الاكثر مشاركة وفاعلية في تاريخ الحضارة .. ستضيف جديدا في الحياة التي تصلبت منذ ازمان وبث الدماء في شرايين المستقبل . ان الزمن تافه في عرف العرب ومن يشاركهم تفكيرهم والتحسس بالزمن هو الذي يدفع الانسان وبالتالي المجتمع الى ان يشعر بأنه صاحب ارادة لتحطيم القيود التي تكبله في سجنه المؤّبد الذي وجد نفسه فيه منذ ازمان مضت .. ان التفكير اذا بقي مصفدا بالاغلال هو الاخر سيبقى اجيال كاملة لا تعرف طريقها نحو الافضل .. فما الذي يشحذ التفكير اذا بقي مسجونا داخل صندوق مغلق من دون ان يستعيد التفكير على نحو جديد كي ينحى نحو الحرية .. ان الحرية لا يمكن تحقيقها في المجتمع ان لم يحققها الانسان في ذاته بتغيير تفكيره كي ينطلق باتجاهات مختلفة لا يخشى اية سلطات على عقله ومشاعره .. ان من أشد مصائب العرب انهم يعشقون ماضيهم ويهيمون بماضويتهم ، ولكنهم لا يفقهون شيئا عن تاريخهم ولم يستفيدوا ابدا من تجارب تاريخهم .. كونهم من ابعد الناس عن المعرفة التاريخية ، وهي المعرفة التي لا يمكن امتلاكها من دون وسائل نقدية وأدوات منهاجية .. فترى العرب يعيشون وكأنهم في العصور الوسطى من دون فهم لتاريخهم ، ومن دون نقد لتجاربهم ، ومن دون ادراك لواقعهم ومن دون وعي بمصيرهم .
-2-
الذاكرة العربية والفجوة الشاسعة
اذا كان الغربيون ينتقدون انفسهم بأنهم نادرا ما يأتون على ذكر اسلافهم ، ونحن ندرك مدى قرب اسلافهم منهم وما قدموّه لهم منذ ازمان النهضة ، فان العرب بشكل خاص ومن يشاركهم تفكيرهم وتقاليدهم باقون في معبد الماضي ، يتهجدون في جنباته ويتعبدون رموزه ضمن تقاليدهم وأعرافهم ليس من اجل تهذيب الارواح والتسامي في التجليات الدينية ازاء السماء فهذا لا اقصده ، بل انما اعني اداءهم عادات فطروا عليها باتباع سنن الاباء والاجداد ممن كان عصرهم يبدو بدائيا اصغر جدا من هذا العصر ومكانهم واسع هائل اكبر جدا من هذا المكان .. ان الاباء والاجداد قد اورثوها لهم وماتوا من دون ان يدرك المعاصرون منّا ما الذي يعود عليهم بالفائدة التي ترجى من ذلك كله ؟
ان الفجوة المريعة في الذاكرة العربية بين ما يقدم للماضي وما لابد له ان يقّدم للحاضر من اجل المستقبل لم يكن هكذا ابدا ، فلقد كانت اجيال عربية سبقتنا لها سمات ممّيزة في السعي للاندماج ضمن حياة العصر وجعل المنظومة العربية شركة مساهمة في منتجات مخصبة تشارك هذا الزمن وظائفه من دون نسيان اسلافنا وماضوياتنا التي يمكنها ان تشكّل دفعا من نوع نادر ، ولكن التفكير العربي قد انقلب على عقبيه انقلابا مريعا في الخمسين سنة المنصرمة اذا غدا العرب مستعدون للبقاء في سجنهم المؤّبد ولا يعرفون غير ماضيهم التليد ، واذا ما سألتهم عن المستقبل ، اجابوا بالتواكل وان ذلك ليس من اختصاصهم ابدا .. فهم لم يعرفوا كيف يخططون وهم لم يعرفوا كيف يتدبرون وهم لم يعرفوا كيف يوظفون الزمن وهم لم يعرفوا كيف يغتنمون الفرص السانحة وهم لم يعرفوا ماذا سيفعلون .. وهنا أود ان اسجّل بعض ما كنت قد نشرته في العام 2002 :
-3-
الانسان : البيئة والثقافة
دلفت وأنا في مقتبل العمر على غرفة مكتبة والدي رحمه الله وكان من رجال القانون المعروفين الذين يؤمنون بأن عاملين اثنين يحددان تقدم أي دولة وأي مجتمع ، هما : الحقوق والحريات ، وان عاملين آخرين اثنين يحددان تقدم أي نخبة ، هما : البيئة والثقافة ! وان عاملين آخرين اثنين يحددان شخصية أي إنسان في وجوده ، هما : الذهنية والتفكير ! تعلمت هذا منذ زمن طويل ، وكلما يجري الزمن تتفكك قناعتي عن ذاك الذي كان راسخا في عقلي ووجداني : كنت أتمثله واتهيب منه ، بل وكلما أتقدم في العمر أشقى شقاء الوعي الأول واكتشف أن دولنا ومجتمعاتنا في كافة أوطاننا هي اضعف بكثير مما كنت قد رسمته في مخيلتي لها من اوهام العظمة والمجد والمفاخرة والنسيب والمدائح .. كما تعلمناها في أناشيدنا المدرسية الكاذبة وما كنت قد غرسته تربيتي عنها في أعماق تفكيري من الهيبة والوقار الذي يذكرنا بعظمة السلاطين الفارغة والهشة وهم يقدمون فرامينهم بعشرات الألقاب التفخيمية والتعظيمية التي لا ادري كيف يتقبلها البشر ! وهذا لا يستقيم اليوم عند مطلع القرن العشرين في ان يبقى العرب يربّون اولادهم في بيوتهم ومدارسهم على اكذوبات واحلام لا اساس لها من الصحة .. فضلا عن ان سؤالا يفرض نفسه علينا جميعا نحن العرب كي ندرك حجم المأساة التي يعيشونها اليوم في معاصرتهم ، فهل يمكن لأي عاقل ان يقبل ان مجتمعا عربيا واسعا يدين بالولاء والتقديس لأحد الائمة المسلمين الذي عاش قبل سبعة قرون ؟
-4-
دعوني اكمل ما بدأت به :
نعم دلفت على المكتبة لأقرأ بعض النصوص التي تستهويني في كتاب عنوانه : " قانون العقوبات المدني " ولعل من اكثر ما رسخ في عقلي وشغل تفكيري نص قانوني مدني يقول : ( من قتل حيوانا أليفا كلبا أو قطة من دون وجه حق يحكم بالحبس الشديد مدة زمنية لا تقل عن ستة اشهر ويدفع غرامة معينة ) !! بقي هذا " النص " يشغل تفكيري منذ أربعين سنة خصوصا وأنني أتذكره كلما اسمع كم من بشرنا الأبرياء ومن دون وجه حق قد ازهقت روحه إذ قتل أو اعدم أو عذب أو اغتيل أو فجّر أو سحل أو قّطع ومثّل فيه أو نكّل به أو حل الغدر به أو أفتى بمصيره أو ذهب ضحية بريئة لثارات قبلية مقيتة أو قتلت مع سبق الإصرار لغسل العار وهي بريئة .. وكلها لأسباب تافهة سياسية أو اجتماعية أو تحزبية أو دينية أو طائفية أو عنصرية أو شخصية سايكلوجية .. ولقد تعودت مجتمعاتنا أن يكون الإنسان عندها ارخص ما في هذا الوجود ! وعلينا أن نحصي قتلانا في هذا المحيط العربي خلال الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين .. أولئك الذين ذهبوا ضحايا الاحتلالات والقمع والدكتاتوريات والاضطهاد والتعذيب والاغتيالات والانقلابات الدموية وأنواع الحروب الغبية الإقليمية والمحلية والأهلية .. ناهيكم عن ضحايا الارهاب المفجع التي تجتاح عالمنا اليوم بمختلف الطرق الوحشية ..
-5-
العادات والتقاليد البالية
لعل من أقسى السيناريوهات التي علمونا إياها في المدارس منذ عشرات السنين : محاربة العادات والتقاليد البالية وهي عبارات قرأناها منذ صغرنا ، ومن غدر الزمن أن تغدو اليوم تلك العادات والتقاليد ( البالية ) أصيلة يفخر الناس بها وبممارستها وتتشّبب الحكومات في حمايتها بقوانين تحت ذرائع الأصالة والتراث .. ومن تحت شقوق هذا الباب هبت علينا كل القيم السقيمة وابتلينا بكل ما جعلنا نتأخر في سلم الأولويات .. لقد خسرنا زماننا الثمين ، وخسرنا اكثر من جيل بدا اليوم عقيما ليس في عاداته وتقاليده حسب ، بل حتى في تفكيره وثقافته وطغت الذهنيات المركبة الموائمة بين النقائض ولا وعي لأصحابها ، وهي التي رضيت بواقع مليء بالموبقات المريعة ! تناقضات لا عد ولا حصر لها أبدا على مستوى الدولة والمجتمع والإنسان نفسه ! تناقضات لم يشق بها الناس نظرا لغياب الوعي بخطورتها وجناياتها . ولابد ان نتذكّر معا بأن تجارب العرب السياسية كلها فاشلة بناء حياتهم التاريخية المعاصرة .. كما ولم تنجح برنامج احزابهم ولا ايديولوجيات ثوراتهم .. خصوصا عندما تعاملوا مع الزمن تعاملا ساذجا ، فهناك مبدأ الطفرة التي اعتمدها الليبراليون العرب الاوائل ، والطفرة محال ، وهناك من تعامل مع فكرة حرق المراحل التي اعتمدها الماركسيون وقد باءوا بالفشل الذريع ، وهناك من تعامل مع اسلوب تفاهة الزمن التي مارسها البعثيون وقد أخرّوا الحياة في بلدين عربيين اذ تراجعا القهقرى .. وهناك من يتعامل مع تواكلية الزمن كما يؤمن الاسلاميون بذلك ، وهذا ما سنجده في تطبيقاتهم القدرية .. الخ
-6-
واقعنا من يحكمه ؟
من أسوأ العادات التي ابتليت بها شعوبنا ومجتمعاتنا وبطبيعة الحال ما عكسته على دولنا وحكوماتنا عدم تقبلها لكل الآراء عندما تطرح ، بل وممارستها القمع في كل جزئيات الحياة وكل ما يعين ذلك التسلط من وسائل وأدوات سواء كانت مادية أم معنوية . ومما يزيد في الطين بلة ، ما يطغى على حياتنا في عالمينا العربي والإسلامي من ضيق في الأفق ومحدودية في الرؤية وضعف في الإمكانات والهشاشة في التعامل والتراخي في الأعمال الجمعية وبلادة الساسة وانشغال الزعماء والمسؤولين وحتى سذاجة بعض المثقفين في المجتمع .. ناهيكم عن المساهمات القميئة نتيجة الجهل في المعلومات ! وطغيان المفبركات والأكاذيب والمصالح البينتهامية النفعية على اغلب المواقف والخطابات من اجل تغييب الحقائق ! وهناك : هياج العواطف بعيدا عن وازع العقلانية والتفكير ! وشراسة الأيديولوجيات والمعتقدات على فرص التعايش السياسي والديني والاجتماعي والثقافي المعاصرة وانتشار الآراء والأحكام السريعة التي تحكمها المطلقات من دون تحديد للمشكلات ومعالجات هادئة للجزئيات !
إن ما وصلت إليه حياتنا اليوم هي مدعاة للتفكير العلمي بعيدا عن أية وجهات نظر لا تمت لذلك التفكير بصلة ! وإذا اعتقد كل إنسان بأن " الحقيقة " المطلقة لا يمكن إدراكها بسهولة ، وان فلسفة الأشياء تكمن أصلا في البحث عن حقائقها النسبية ، فربما كسبنا جولة واحدة من عشرات الجولات الخاسرة ! وإذا بدأ الإنسان يفكر قليلا ضمن آليات الشك كالتي قال بها ديكارت ونسبية القياس من خلال التجربة والبرهان لما كان تكّون في ذهنه من تراكيب راسخة ، فربما يغير ذلك من قناعاته ومطلقاته لكل الأمور .. ويبدأ يتنازل رويدا رويدا عن أبراجه العاجية التي ستحطمه في يوم ما ! وهنا نكسب جولة أخرى من الجولات الخاسرة التي تجعلنا نتحرك في ما يسمونها بالشفافية في التفكير ومن ثم الشفافية السياسية التي تستند في الأساس على تغيير الذهنية ومرونة الأشياء ومن ثم الأيمان بنسبية الحياة .. عند ذاك ستنخفض لدينا سطوة الجداريات الصلبة وبلادة الذهنيات المركبة وستهدأ العواطف الملتهبة والهياجات الحقودة التي أساءت إلى كل حياتنا العامة في التاريخ .
-7-
مجتمعاتنا لا تتعلم من الصدمات شيئا !
إن صدمات قوية جدا لم تؤثر أبدا كما يبدو لي في قطاعات كبرى من الناس حتى وان انتقلت تلك القطاعات وغدت جاليات في عالم الغرب بكل ما يحفل به الغرب من المكونات والتشيؤات والموروثات والمكتشفات .. إلا أنها جميعها لم تؤثر أبدا في الذهنيات الصلدة التي لم تتقبل أبدا حتى هوامش الأمور فكيف تتقبل أنصاف الحلول وكيف تقبل أن تتعايش مع المستحدثات الجديدة ومع الآخر برغم استخدامها الأعمى لكل وسائله وآلياته وتكنولوجياته وابداعاته واعلامياته .. الخ
لقد انتهت مراحل زمنية متنوعة لم تعرف فيها أبدا قيم المرونة والوسطية والاعتدال بسبب ما فرض علينا من شعارات دموية وخطابات مخيفة وإعلاميات صارخة وضمن أساليب أسموها بالثورية وطغيان الهمجيات القاسية للمؤدلجات العقيمة التي ترسبت عن مذاهب سياسية وتحزبات شوفينية تحت مسميات وشعارات لا حصر لها وصولا إلى التشبع بأغرب الاصوليات الشرسة من دون أي وازع للتسامح ومقابلة الرأي بالرأي والحجة بالحجة كما فعل الآباء الأولون .. لقد ساهمت في صناعة ذلك كله : الأجهزة التربوية والتعليمية والإعلامية ، إذ تتحمل دولنا وشعوبنا نفسها القسط الأوفر من نتاج تلك الصناعة التي أفرزت ظواهر مخيفة لا يمكنها أن تجعلنا نمضي لا في صراعنا المصيري ضد أخطبوط التخلف والبدائية ولا في بناء مستقبلنا الحضاري من اجل أن نتعامل مع العالم بنفس الصيغ الذكية العلمية والسايكلوجية والإعلامية والفكرية التي يتعامل بها معنا ! ان شراسة ما يتأصل في نفوس العرب من التقاليد المقيتة والاعراف الصلدة والقيم البالية منذ صغرهم يجعلهم لا يتأثرون ابدا بالصدمات الصعبة والمريرة التي يمكنهم من خلالها تقويم اعوجاجهم والسير قدما في طريق المستقبل .
-8-
حقوق الإنسان : أين هي ؟
السؤال : هل باستطاعة مجتمعاتنا أن تتمتع بحقوقها كاملة والتي تضمنها القوانين وتكفلها الدساتير بعيدا عن أية منظمات وهمية مرتزقة ما هي إلا صنيعة أنظمة سياسية أو واجهات أحزاب محتقنة واتجاهات عقيمة لا تؤمن هي الأخرى لا بالحريات ولا بالرأي الآخر ولا بالديمقراطية الحقيقية .. وهنا احب أن اعلق مستطردا بأن كل المنظمات والهيئات والأحزاب والجماعات التي تنادي بمثل هذه الأفكار التي تعتبر وليدة نتاج تاريخ أوروبا السياسي والفكري الحديث لا يمكنها أبدا أن تعتبر مرجعياتها عربية أو إسلامية وإلا تكون قد سجلت نوعا غريبا من الهراء الذي لا يمكن أن يتقبله العالم اليوم أبدا نظرا لأنها سوف تعيش سلسلة مفجعة من التناقضات والعجائب والغرائب . لعل أسوأ دور مارسته حكوماتنا ودولنا في القرن العشرين أنها زاوجت ضمن أشكال لا حدود لها من الخلط بين مختلف النقائض ، فهي تستعمل كل تعابير ومسميات مؤسسات الغرب ، ولكنها لم تشكل أية قطائع تاريخية ومعرفية بين تفكيرها السياسي ومرجعياتها التاريخية ..
لقد خلطت عن سوء تصرف وغباء بين المرجعيات فضاعت على الأجيال الجديدة من مختلف الاتجاهات والتيارات الأساليب الأصيلة في الابتكار ضمن حركة تكويناتها المعاصرة ولم تنتج عندنا في القرن العشرين إلا الذهنيات المركبة التي تاهت هي الأخرى بين النقائض المميتة . ومن المحزن أن الإنسان عندنا لا يحس وطأة هذه التناقضات أبدا إذ أن الذهنية المركبة قد أطبقت على كل مفاتيح أبوابه ، فأبقته سجينا ضمن آليات تفكيره القاصر وعواطفه الساخنة ، وكل من الاثنين يحركان كل توجهاته .. فبدا مغلقا لا يمكن أبدا تكسير مغاليق عقله وتفكيره من اجل تجديد وعيه بشكل كامل .
-9-
الديمقراطية .. وتأهيل المجتمع
علينا عندما نفكر في حقوق الإنسان والديمقراطية عندنا في عالمنا الذي يقدمه أبناؤه اليوم لقمة سائغة للآخرين أن ندرك بأن الحقوق السياسية تأتي في نهاية السلم ، إذ تسبقها حقوق في التربية وحقوق في التفكير ، وحقوق في المجتمع ، وحقوق في العمل ، وحقوق في تكافؤ الفرص ، وحقوق في العائلة ، وحقوق للمرأة ، وحقوق في المواريث ، وحقوق في الدراسة ، وحقوق في الإرادة وحقوق في التعبد والدين وحقوق في إحقاق الحق وحقوق في التملك وحقوق في توزيع الواجبات وحقوق في صنع القرار .. الخ إننا نقفز قفزات عالية تحت ذرائع ومسميات عريضة للدفاع مثلا عن سجناء الرأي السياسي من دون أن نعمل على تحرير سجناء أحرار المجتمع المقموعين ظلما وعدوانا ، ذلك أن البعض منا قد لا يهاب ما تصدره الدولة من قرارات ولكنه يخشى ما يفعل به المجتمع إن حاول الخروج عن تقاليده العمياء وماضوياته البليدة ! حقوق الإنسان نعم في منظومتنا العربية المعاصرة ولكنها تأتي جدا متأخرة بعد أن مضى قرن كامل والحقوق ضائعة : دول وحكومات عربية واسلامية بدت اليوم هشة وهزيلة تذروها الرياح أمام العالم بعد أن كانت تتنطع بأنها ذات جبروت لا يرحم !
مجتمعات شتى كان عليها أن تتقدم جدا بمشروعاتها وإبداعات أبنائها توظف مؤسساتها المدنية والأهلية في الإنتاج كي تؤثر في العالم كله .. ولكنها للأسف بقيت أسيرة حكوماتها وسجينة أسوارها وكسيحة تقاليدها وقد كبلها المتخلفون والكسالى والمتكلسون والمتحذلقون والشعاراتيون والمقلدون الببغاويون بالأغلال الحديدية تحت حجج واهية وتسويق التقاليد المميتة التي لا تعترف مطلقا بحرية الإنسان وتفكيره وسماحة دينه وسمو عقائده .. ويا ويل من يخرج عن تلك الأطواق والأقفاص الحديدية حتى لو كان ذلك مجرد ان يأتي من اجل التعبير عن أي رأي جديد أو بيت شعر أو أفكار قصة .. !! حقوق الإنسان نعم إنها وايم الله ضائعة في الدولة والمجتمع معا ! فالإنسان لم يتمتع بحقوقه المادية ولا المعنوية .. وكم ذهب من حياتنا بشر زهقت أرواحهم من دون مبرر ، واعدم وقتل واغتيل وفقد العشرات من الألوف من دون وجه حق ! وكم ضاع من الأطفال وانحرف من النساء وجرد عن العمل من العاملين ونفي من المغتربين المنفيين ، وكم خلق من المعوقين والمشوهين وكم أهين في كرامة العجزة والطاعنين . وكم غبن مثقفون ومختصون وموظفون .. وكم نيل من القضاء ومن التعليم ومن الصحافة كم وكم في حياتنا على امتداد القرن العشرين ؟؟
-10-
وأخيرا : انتظروا ماذا سيحدث ؟
لقد كتبت ونشرت في مطلع العام 2002 النص التالي : " أقول بكل جرأة أن واقعنا المهترىء والذي لا يريد البعض أو الكل الاعتراف باهتراءاته سيغدو لا محالة على المشرحة الأمريكية ، إذ ستجد أمريكا نفسها باسم النظام العالمي الجديد إن الشراكة ملزمة بهندسته على مزاجها ! نعم ، هندسته ليس سياسيا كما يصرخ البعض ، بل الأخطر من ذلك هندسته اجتماعيا وفكريا وتربويا وتعليميا وثقافيا وإعلاميا .. لأنها تتطلع بعد سنوات إلى ولادة أجيال جديدة تنتجها هي نفسها بعيدا عن كل المألوفات الصعبة التي لم يستطع أصحابها من تطويرها وإيجاد البدائل الحقيقية لها ! ثمة أصوات كانت ولم تزل تنادي بما يخطط له النظام العالمي الجديد بشكل شمولي لا يقتصر على الحدود وأنظمة الحكم ، بل يخترق كل الأسوار والجدران وينفذ إلى الأعماق كي يقوم بمهمة التغيير .. واعتقد أن الكل سيرضخ لهذا القادم الجديد ويعمل بنصائحه ويقر ويصفق لكل ما يهندسه له ليس على مستوى الحدود والمواثيق السياسية أو ضمن آليات الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارات الكتلوية ، بل حتى على مستوى التربية والتعليم وطبيعة ما ستدرسه أجيالنا القادمة في المدارس والجامعات .. فهل من معترض ؟
إنني اشك في ذلك ! " .
ان آخر ما يمكنني قوله : إنني لا أدين الآخر بما يفعله فينا ، بل لابد من إدانة أنفسنا عما جنيناه بحق أنفسنا على امتداد القرن العشرين .. لقد بدا واضحا جدا أن دولنا ومجتمعاتنا قاطبة كانت لا تفقه معنى تحولات التاريخ والزمن والحياة ، فبدل أن تستوعب تلك التحولات وتعرف حجومها واثقالها وقدراتها وتسرع الخطى في التفاعل معها برؤية واقعية ومستقبلية ، فإنها تراجعت لتمشي متصادمة مع هذا وذاك إذ أنها كانت ولما تزل تمشي وعيونها إلى الوراء فهي كانت ولم تزل ماضوية التفكير باسم التراث مرة وباسم المذهبية مرة والسلفية مرة والطائفية مرة .. وباسم الماضي التليد مرات وهي تتصور نفسها اكبر من حجمها كثيرا .. فهل ستغير الأجيال الجديدة من واقعا وتفكيرها وتراعي حقوقها وحرياتها وتصبح هي سيدة مستقبلها في القرن الواحد والعشرين ؟ ربما نعم ، وربما لا .. ربما سنكون وربما لا نكون !





#سيار_الجميل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرب يقتلون العرب .. لماذا ؟؟
- الليبرالية القديمة والليبرالية الجديدة : المعاني والمبادئ وا ...
- أسئلة ما بعد الانتخابات العراقية
- نعم لقد انتخبنا أخيراً ! الدرس العراقي الرائع للعرب
- لمناسبة اربعينية الراحل التونسي محمود المسعدي :الموحيات الخل ...
- الاعلام العربي :دعوة تحّولات من بشاعة المؤامرات الى خصب الشف ...
- معايدة سياسية وفكرية لغسان تويني لمناسبة العام الجديد 2005
- أدونيس : الشاعر السوري الغامض : مشاركات في المرافضات والتحول ...
- دعوة صريحة من اجل غلاسنوست عراقي
- رسالة جديدة الى العراقيين : التفكير بالبعد الثالث بعيدا عن خ ...
- عاتكة الخزرجي : قيثارة العراق : شاعرة وقت الشفق .. حالمة عند ...
- عبد القادر القط :استاذ الادب العربي والنقد المقارن :مفهوم تأ ...
- نزار قباني : شاعر الرسم بالكلمات الرائعة : نسف البنى الاجتما ...
- المسيحيون العراقيون : وقفة تاريخية عند ادوارهم الوطنية والحض ...
- محمد شكري : الروائي المغربي المعروف صاحب الخبز الحافي :اعترا ...
- البنية الفوقية والبنية التحتية : المفاهيم المستترة والمعاني ...
- الى متى تبقى بلقيس في قفص الاتهام ؟ وهل من ركائز عراقية جديد ...
- حنا بطاطو : مؤرخ العراق المعاصر مؤرخ غريب الاطوار لن يكتب أح ...
- الدكتور سّيار الجميل لم يوّقع على اي بيان او رسالة اصدرهما ا ...
- الحريات الشخصية قبل غيرها: هل يفهم العرب معنى الصداقة والعلا ...


المزيد.....




- إعلان مفاجئ لجمهور محمد عبده .. -حرصًا على سلامته-
- -علينا الانتقال من الكلام إلى الأفعال-.. وزير خارجية السعودي ...
- عباس: واشنطن وحدها القادرة على منع أكبر كارثة في تاريخ الشعب ...
- شاهد.. الفرنسيون يمزقون علم -الناتو- والاتحاد الأوروبي ويدعو ...
- غزة.. مقابر جماعية وسرقة أعضاء بشرية
- زاخاروفا تعلق على منشورات السفيرة الأمريكية حول الكاتب بولغا ...
- مسؤول إسرائيلي: الاستعدادات لعملية رفح مستمرة ولن نتنازل عن ...
- وزير سعودي: هجمات الحوثيين لا تشكل تهديدا لمنتجعات المملكة ع ...
- استطلاع: ترامب يحظى بدعم الناخبين أكثر من بايدن
- نجل ملك البحرين يثير تفاعلا بحديثه عن دراسته في كلية -ساندهي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سيار الجميل - العرب في سجن مؤّبد !! متى يهندسون تفكيرهم وزمنهم ومصيرهم ؟؟