سيار الجميل
الحوار المتمدن-العدد: 1071 - 2005 / 1 / 7 - 08:56
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
" متى يتعلم العرب من تجاربهم السياسية وتتحرر ارادتهم .. "
غسان
غسان جبران تويني علامة بارزة ليس في تاريخ لبنان المعاصر ، بل عبقرية مشهود لها بالتميز في تاريخ العرب ابان القرن العشرين اذ كانت شهرة الرجل قد طارت في الافاق منذ عهد طويل وكان واحدا من ابرز كتاب المقال الصحفي في العالم العربي قاطبة على امتداد خمسين سنة .. هذا الرجل المثير للجدل هو واحد من ابرز رجالات الثقافة العربية المعاصرة .. ولقد تميز بخصال ومزايا قلما تميّز بها غيره بها ، ولا يمكنني ان اقرن اسمه بغيره من عمداء الصحافة العربية الذين عاصروه ، فلقد بز عليهم جميعا وخصوصا في مهنته بسبب ثقافته العليا التي لم يكتسبها غيره من الصحافيين العرب .. فضلا عن ان غسان تويني رجل كلمة وموقف في آن واحد وانه بقي على خطّه الفكري الليبرالي ثابتا لم يتزعزع ابدا .. ونجح في ريادته الصحفية ابان النصف الثاني من القرن العشرين .. انني اعتبره واحدا من عباقرة لبنان الذين اشتهروا بمهنة الصحافة منذ قرابة قرنين من الزمن .. واعتقد ان التاريخ سيذكر غسان تويني ويجعله واحدا من اقوى اركان ثقافة العرب في القرن العشرين .
سيرته الشخصية
انه من مواليد العاصمة بيروت في العام 1926 والتي نشأ وتكّون ودرس فيها وعشقها منذ صغره وكان تلميذا نجيبا تنّقل في مدارس عدة وتعّلم على عديد من الرجال الكبار خصوصا وان نشأته كانت مزامنة لعهد الاحتلال الفرنسي .. نال بكالوريوس في الفلسفة في الجامعة الامريكية ببيروت في العام 1945 ، ونال شهادة الماجستير بتفوق في العلوم السياسية في جامعة هارفرد بالولايات المتحدة الامريكية في العام 1947 .. وعاد الى لبنان ليعمل في وظائف عدة اذ عمل لمدة سنة واحدة في تدريس العلوم السياسية بالجامعة الامريكية ببيروت للعام 1947 – 1948 . تزوج ببيروت وانجب ولدين منهما جبران الذي سيغدو احد اكبر مساعدي والده ، وهو اليوم رئيسا لمجلس الادارة ( المدير العام ) لـ النهار الشهيرة .
لقد وجد غسان ان ذاته لا تتحقق الا من خلال صحيفة سياسية ، فكان ان وقف الى جانب والده الاستاذ جبران تويني الذي كان قد اسس النهار الغراء يوم 4 آب / اغسطس 1933 في بيروت ، فجاء غسان بكفاءته وتخصصه كي يترأس تحريرها منذ العام 1948 ، ويتولى شؤونها على امتداد اكثر من نصف قرن وحتى اليوم .. اي مضى على عهده في النهار البيروتية اكثر من 55 سنة كان خلالها قد اشعل معارك سياسية واثار مشكلات فكرية وفجّر زوابع اجتماعية ، فضلا عن تأسيسه دار النهار الشهيرة بالطباعة والنشر والتي اثرت الحياة الثقافية والفكرية العربية بالمئات من الاعمال الرائدة على امتداد عقود طوال من السنين .. ولكن غسان لم يتوان عن المشاركة السياسية والارتقاء بمناصب في الدولة اللبنانية ، فلقد انتخب في العام 1951 نائبا عن جبل لبنان ، وانتخب نائبا عن بيروت في الاعوام 1953-1957 ثم انتخب داخل المجلس نائبا لرئيس مجلس النواب اللبناني . وفي العام 1967 نصّب سفيرا للبنان في الولايات المتحدة الامريكية . ثم اختير وزيرا للاعلام والتربية ونائبا لمجلس الوزراء اللبناني 1970- 1971 . ونصّب وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية والسياحة والصناعة والنفط 1975-1976 . واختير رئيسا لجامعة البلمند اللبنانية 1990- 1993 ، وغدا عضوا لمجلس امناء الجامعة الامريكية في لبنان بين 1998 – 2002 . ولقد غدا رئيس لجنة متحف سرسق في العام 1998 . ومنذ ذلك الوقت والرجل متفرغ لجريدته ومؤسسته التي يعاونه في ادارتها ولده جبران .. وجبران برغم انه قد سلك سلوك ابيه ومنهجه السياسي والفكري ، لكنه يختلف عنه في كثير من الخصال حتى في المهنة .
الدور السياسي لغسان تويني
لقد اثرى غسان تويني المكتبة العربية بشتى انواع التآليف والكتب المتنوعة والعديدة واسهم من خلالها بترسيخ فكره السياسي في الثقافة العربية على امتداد نصف قرن من الزمن الصعب . ولكنه متفرغ اليوم لجريدته الشهيرة ( النهار ) البيروتية التي يترأس تحريرها ، وله مقالته السياسية فيها . ولقد نجح الرجل في تطوير اساليب العمل الصحفي اللبناني ابان القرن العشرين ، وكان له تأثيره في تطور الصحافة العربية اذ كان وراء ادخال جملة من المزايا والافكار ، منها فكرة الملحق الثقافي وملاحق اخرى .. كما شهدت جريدته دورا أساسيا في معالجة جملة من القضايا المحلية اللبنانية الصرفة والقضايا العربية والاقليمية التي تخض مشكلات المنطقة المستعصية منذ خمسين سنة .. ناهيكم عن معالجات النهار لقضايا دولية يعيشها هذا العالم منذ بعيد الحرب العالمية الثانية حتى اليوم مرورا بالحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية والحروب الخليجية وصولا الى احداث 11 سبتمبر 2001 وتداعياتها المستمرة حتى اليوم . ان صحيفة النهار البيروتية عاصرت عهودا ودولا وانظمة وزعماء واحداثا واحزابا وبرلمانات وخطابات وقوى واجيالا وصراعات وحروبا وجملة هائلة من الاطياف السياسية .. وتضمنت مسيرتها الطويلة ركاما رصينا من الادبيات السياسية والثقافية والمعلومات الاقتصادية والاخبارية التي تعتبر بحق مصدرا اساسيا لتاريخ القرن العشرين .. كما وانها كانت الصحيفة العربية الاولى التي رصدتها العديد من الانظمة السياسية العربية ، وثمة انظمة سياسية منعتها من الدخول هنا او هناك .. ولا يفوتني ان اذكر بأن النهار استقطبت على مدى اكثر من نصف قرن العديد من كبار الكتاب والمؤلفين والمراقبين والمحللين السياسيين اللبنانيين والعرب بشكل خاص .
الدور الفكري لغسان تويني
وغسان تويني مفكر ليبرالي معاصر لا يمكنه ان يتوقف ابدا مجرد دقائق ليكون خارج هذا الزمن وحركته ، انه دوما في قلب هذا الزمن يدور مع عجلته ، بل ان من يسمعه يتكلم ويقدم رؤيته للاشياء والاحداث والوقائع مشخصا ما يمكن ان يحدث في المستقبل يكتشف في غسان تويني انه كثيرا ما يسبق الزمن اذ ان تجاربه الغنية وحركته الدائبة تجعله دوما صاحب رؤية استشرافية للحياة وخصوصا في التكوينات الصعبة التي تعيشها منطقة الشرق الاوسط .. وغسان تويني له امانته الموضوعية في معالجة الامور واعطائها حقها من جميع الجوانب ، بل وانه يتمتع بخصال عدة انسانية قبل كل شيىء خصوصا وان ثقافته المتنوعة ومعرفته التعامل مع لغتين عالميتين الانكليزية والفرنسية قد سمح له ان يتزود كثيرا وطويلا من بحر واسع الابعاد .. كما وانه رجل له شجاعته الادبية والسياسية في ان يقول ما يؤمن به ولا يتوانى ابدا عن قول الحقيقة كما هي ولا يخشى في الحق لومة لائم ..
لعل من ابرز ما يعجبني في غسان تويني انه محلل بارع ليس للاحداث حسب ، بل للشخصيات وخصوصا القيادية والسياسية اذ ان له ميزة في معرفة الرجال والنساء وسبر اغوارهم والكشف السريع عن توجهاتهم وافكارهم وخططهم .. فضلا عن قوة مجابهته للخصوم وخصوصا في الصحافة اللبنانية التي مرت بمراحل شتى تلونت فيها الافكار والسياسات والايديولوجيات بدءا بعهد الانتداب الفرنسي وانتقالا الى عهد الاستقلال ومرورا بالثورة القومية ايام جمال عبد الناصر وانتقالا الى التصادم مع الفلسطينيين واندلاع الحرب الاهلية اللبنانية والدور السوري في لبنان وانتهاء بمرحلة ما بعد مؤتمر الطائف حتى اليوم . لقد مر غسان بكل مؤسسته التي اصطبغت بشخصيته بكل هذهه المراحل الخطيرة وخرج منتصرا منها كونه قد حافظ ليس على حياته حسب ، بل على كيانه كله الذي بناه منذ عشرات السنين .
ما الذي اكتشفته في الرجل ؟
لقد التقيت بالرجل مرتين مرة واحدة قبل حوالي عشر سنوات ومرة قبل عدة اشهر واثناء زيارتين لي الى بيروت ، في الاولى كنا مجتمعين في واحدة من المناسبات بواحدة من قاعات فندق مخملي ببيروت ( لا اذكر اسمه ) .. وكان حاضرا عدد من مثقفين ومفكرين واساتذة ومختصين وصحفيين لبنانيين وعرب ، والقى الاستاذ غسان تويني كلمة مؤثرة في ذلك المكان واطال محللا جملة من الاوضاع الدولية والاقليمية .. لمست في الرجل عمقا هائلا من الثقافة وصوتا له القدرة على ان يضع النقاط فوق الحروف .. لقد اكتشفت فيه وانا المؤرخ المتواضع مؤرخا ماهرا صاحب منهج ورؤية ، باستطاعته استدعاء البراهين والادلة والشواهد والامثلة التاريخية التي يمكنه توظيفها بكل مهارة وفن من اجل ان يكسب جولته وهو يقدم افكارا جريئة ليس باستطاعة غيره ان يقتحمها ابدا ! كان مغامرا في الخروج بنتائج تبين لي في ما بعد انه صائب في تقديراته للاحداث وسيرورتها التاريخية .. فضلا عن قدرة الرجل في معرفة ما يدور في العالم وحركة القوى الدولية ، كما وان باستطاعته قراءة المتغيرات العالمية التي كانت تتبلور عند مطلع التسعينيات ، وخرج بنتائج اثبتت الايام مصداقيتها وحقيقتها .. ان رؤيته الثاقبة للامور تنسجم الى حد كبير مع مدى ما يؤمن به الرجل من افكار ومعتقدات سياسية .. انه لبناني قح ولكنه لم يجعل من العروبة قميص عثمان يحمله اينما كان . انه يحترم خصوصياته ويدلي بقوة كيف تكون الامور لدى الاخرين .. بل ووجدته ينبه من مخاطر محلية واقليمية ودولية ، ولكن لا حياة لمن تنادي ! لقد اكتشفت في الرجل ايضا نزعته النقدية وقدرته على تحجيم الخصوم بتهميش ما يقولون وجعل رأيه هو المحور الاساسي في التعامل . وعليه ، فان خصومه معروفون دوما وليس باستطاعتهم منازلته اذ يدركون جيدا مدى قوته ازاءهم .
بعض افكاره الجديدة
لقد خرجت مؤخرا بعد قراءة متأنية لبعض كتبه الاخيرة ان غسان تويني الذي رأيته وانا احضر زائرا في مبنى نايسلي هول في محاضرة منتدى الدراسات الحضارية في الجامعة الامريكية ببيروت وقد قدمته الدكتورة منى تقي الدين اميوني .. لقد ارتجل استاذنا تويني الكلام وبدأ يخوض في ظاهرة الارهاب ويحللها سياسيا على نحو رائع متسائلا : هل الدين هو المسألة ، ام الاقتصاد ؟ ولم يقتصر على تحليل الحاضر تمهيداً لاستكشاف المستقبل ، بل عاد الى التاريخ قائلا ان جذور الصراعات الحالية تعود الى عهد الفتوحات الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكان اكثرها تأثيرا احتلال بونابرت لمصر الذي يعتبر منطلق العصر الحديث. لقد وجدت تويني يستدعي التواريخ افضل بكثير من مؤرخين عرب مختصين بحقبة التاريخ الحديث والمعاصر .. اذ يمتلك ثقافة واسعة في هذا المجال اهلته مثلا كي ينفي صفة الحرب الاهلية في لبنان لأن تمويل الحرب وميليشيات الحرب واسلحة الحرب والتدخلات في الحرب لم تكن لبنانية صرفة ! غسان له افكاره عن العولمة والشرق اوسطية والمتوسطية وعن دور كل من تركيا وايران واسرائيل مع معرفة معمقة بالشأن الامبراطوري الاميركي وروما الجديدة .. انه الاعرف بتفكك العرب وتساؤلات المستقبل عن كيفية اعادة تركيب انفسهم وله رؤيته في سبل نهضتهم بعيدا عن الاستبداد والزيف واقترابا للحرية والعصرنة . والحاجة الى مشروع عربي لمجتمع اكثر استقرارا في المستقبل .
واخيرا : ما الذي لابد من قوله ؟
انني اذ اهنىء لمناسبة سنة 2005 الجديدة لبنان الحبيب وكل الاصدقاء والاحبة فيه ، ابارك للنهار الزاهرة هذا العام الجديد كواحد من كتابها المعاصرين ، ولا يسعني المقام الا ان ازجي بتحياتي وتبريكاتي للاستاذ الكبير غسان تويني كواحد من عمالقة لبنان الكبار ، متمنيا له دوام الصحة والعافية وان يبقى شمعة منيرة للاجيال القادمة في رسم معاني المستقبل .
#سيار_الجميل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟