أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - سيار الجميل - دعوة صريحة من اجل غلاسنوست عراقي















المزيد.....



دعوة صريحة من اجل غلاسنوست عراقي


سيار الجميل

الحوار المتمدن-العدد: 1056 - 2004 / 12 / 23 - 08:43
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


اولا : العراقيون : كيف نفهمهم ؟

معنى الغلاسنوست : مقاربة في الفهم
لابد من تعريف مصطلح " الغلاسنوست " الذي كان قد طرحه الزعيم الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف في الايام الاخيرة من حياة الاتحاد السوفييتي قبل احتضاره وموته كدولة كانت في يوم من الايام دولة قوية يحسب لها حسابها ، ولكنها لم تكن توازن بين متطلباتها الدولية وحاجات مجتمعاتها فتفككت ثم انتحرت فجأة .. ولم تزل مجتمعاتها قاطبة وحتى المنفصلة والمستقلة عنها تعاني من بؤس الحياة وعصابات المافيا والتنمية البطيئة وضعف العملة برغم قوة الموارد الطبيعية والبشرية ! الغلاسنوست ، معناه باختصار : المكاشفة والصراحة والعلنية وطرح كل ما لدى الانسان المشارك باية فعالية سياسية او عملية اجتماعية او آراء فكرية .. بعيدا عن المخاتلة والتورية والنفاق والتغطية والتعمية والفبركة والاطناب واللف والدوران وكل ما هو مألوف في الحياة السياسية والاعلامية العربية التي اعتدنا عليها في القرن العشرين .
يتضمن الغلاسنوست ، فلسفة اعادة انتاج التفكير السياسي بوسائل منفتحة وليست عبر قنوات مغلقة .. وعليه ، فانه مبدأ مضاد لفكرة المؤامرة ، وهذا ما اصطلح على تسميته بعد ذلك بمبدأ الشفافية الذي طرح في الحياة السياسية الجديدة ضمن الاليات التي تعتمدها ظاهرة الليبرالية الجديدة في مقوماتها وكأحد الركائز التي لا يمكن العمل بها من قبل كائنا من كان ان لم يؤمن ايمانا حقيقيا بها .. وعليه ، فمن الواضح ان الشفافية والغلاسنوست لا تلتقيان ابدا عند اولئك الذين يمزجون الدين بكل فضائله الروحانية السامية بالسياسات الدنيوية وموارباتها .. او عند اولئك الذين ما زالوا يلبسون البستهم الايديولوجية المهترئة التي عافها العالم منذ نهايات القرن العشرين تحت مسميات شتى ! او عند اولئك الذين ما زالوا يتقوقعون في خنادقهم الطائفية والشوفينية والمذهبية المعتمة التي يمكن ان تجد عافيتها في العراق خصوصا ، ولكن على حساب تحطيمه ودماره وتمزيقه شر ممزق .. ان حالات الارهاب المسيطرة على واقع العراق الاليم تترجم كل التناقضات العراقية التي ستدمر كل شيىء اذا لم يكن التأسيس عراقيا مدنيا بعيدا عن اية محاصصات .

حاجة العراق وضروراته
فالعراق كما يدرك الجميع لا تنفع معه كل هذه الترسبات السياسية وبقايا التاريخ الصعبة التي تجد اليوم حيويتها بعد ان ضعف المجتمع ضعفا كبيرا بتأثير سياسات النظام السابق وبقايا تأثيرات الدولة التي عاشت في القرن العشرين 82 سنة ، ثم ماتت بسقوط النظام على ايدي قوات التحالف التي احتلت العراق بقيادة الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا ، وشيعها العراقيون على امل ولادة دولة جديدة .. ولكنهم فوجئوا بمجابهة اخطاء وسياسات وقرارات كان من نتائجها ولم تزل انفلات فاضح للامن والنظام وفوضى قيمية في المجتمع وتجمع لعصابات ارهابية متوحشة . فهل سيفلح العراقيون ببناء كيان جديد لهم في ظل انقساماتهم التي تتبلور شيئا فشيئا ؟ وهل لهم القدرة على التكيف مع التحولات الجديدة في ظل الوجود الاجنبي ؟ وهل باستطاعتهم التخلي ببساطة عن كل ما الفوه من التقاليد البالية والترسبات الصعبة كي يعملوا بمبدأ غلاسنوست عراقي واضح يتضمن نهجا في المكاشفات السياسية والشفافية عالية المستوى بعيدا عن الذهنيات المركبة والانتماءات المتنوعة ؟؟ انني اعتقد بأن اي مشروع غلاسنوست عراقي سيهتم به المجتمع ، لا اقول بأنه سينجح في مسعاه وبمباركة النظام الجديد الذي سيختاره الشعب بمحض ارادته بعيدا عن شرور الارهاب وانعكاساته .. بل انه سيفيد اوضاع العراق التي تختلف اختلافا كبيرا عن اوضاع روسيا وخصوصا من الناحية الاجتماعية .

العراق ازاء تفكيرين مختلفين !!
من السهل جدا ان تقول بأن العراق فيتنام ثانية ولكن من الصعب جدا ان تجد قواسم مشتركة بين الحالتين في بيئتين مختلفتين وفي زمنين متباينين وفي مجتمعين متعارضين وفي مناخين سياسيين عالميين غير متوافقين البتة .. ومن السهل جدا ان تقرن الحكومة العراقية الحالية بالحكومة ( العميلة ) وكل المسؤولين ( بالعملاء ) وتطلق عليهم كل صفات الردح والقباحة .. ولكن من الصعب ان تحل محلهم لتعرف معاناتهم اليومية ! ومن السهل ان تقول كلاما منمقا يسحر الالباب عن العراقيين وما يشحنهم من المواصفات والخصائص والمفردات الجميلة وكأننا في سوق شعرية تباع فيها الرومانسيات والزهور ولكن من الصعب ان تتوغل في الاعماق لتجد ما ترسّخ من شظايا وترسبات وبقايا من كوارث وامراض وانسحاقات ! من السهل جدا ان تنعت هذا وتهجو ذاك وتصف هذا بالعمالة وتشتم ذاك باقذع الكلمات .. ولكن من الصعب جدا ان تخط فكرة واحدة يمكن ان يكون لها اثرها وتترسخ في النفوس .. او ان تتحمل مسؤوليتك انت لو شاءت الظروف . لنسأل انفسنا : كيف ؟ من السهل جدا ان نجعل هذا الفصيل ممن نحب ونهوى ملائكة اطهارا وصديقين ابرارا ونجعل ذاك الفصيل ممن نكره أو نمقت شياطين وابالسة ..
ولكن بنفس الوقت من الاستحالة ان تبقى حياديا وموضوعيا وتحافظ على امانتك ومنهجك في العراق لأن هناك جدليات لا اول لها ولا آخر تحفها المخاطر ! وهي جدليات سياسية تعبر عن واقع اجتماعي معقد جدا لا يدرك اسراره الا من توغل في دراسته طويلا ، ودوما ما اشبه مثل هذا الحال وخصوصا في مجتمع صعب جدا كالعراق كمن يقّدم عرضا في سيرك وهو يمشي على حبل مشدود يعلونا بعشرات الامتار لا يدري متى يسقط سقوطا نهائيا لا يقوى على الحياة من بعده ! ان ما يحدث اليوم في العراق ليس مجرد " حركة تحرر وطني " او " مقاومة ضد الاستعمار " او " جهاد على الكفار " او انها مجرد " حرب عصابات " و " جماعات متمردة " .. الخ ان ما يحدث هو تعبير واضح عن فوضى داخلية او انقسام داخلي نتج عن احتقانات شرخ اجتماعي اتّسع بشكل مرعب عقب سقوط النظام السابق واسبابه اجتماعية قبل ان تكون سياسية .. وستثبت الايام ان صراع الاضداد في المجتمع العراقي سيكون وراء نتائج مأساوية وكارثية في العراق ان لم يتنبه العراقيون كل العراقيين مسؤولين ومواطنين ومن قبلهم الهيئات المرجعية التي تستمع اليها الناس .. وخصوصا العمل على معالجة آفاته ويبعدوا عنهم كل مسببات ذلك الصراع الذي يعمل اليوم كالجمر متوقدا تحت الرماد .. وهو يسري تحت مسميات شتى وتذكيه عناصر داخلية لا تعد ولا تحصى .. وتشجعه ادوات خارجية اقليمية واطراف عربية بالدرجة الاساس .

العراقيون بين الاحتداد والاستيلاد
جمعتني قبل ايام ندوة تلفزيونية عن موضوع " الديمقراطية " مع الاخ الدكتور عصام الخفاجي الذي كان كثير الكلام وابلى بلاء حسنا في الدفاع عن تخلف المجتمع العراقي الذي كنت قد وصفته بالصعوبة والتعقيدات والثنائيات – وهذا ما اتفق عليه اغلب العلماء القدماء والمحدثون وفي مقدمتهم علي الوردي – فقارن صاحبنا بين مجتمعنا والهند وكيف كانت الهند بكل تعقيداتها قابلة للنضوج فكيف بالعراق والعراقيين وهم من المتحضرين ( كذا ) .. فلم اجبه على تشبيهه العجيب ، وكأنه لا يدري بأن الانكليز حكموا الهند مئات السنين على عكس العراق .. وكأنه لا يدري أيضا بأن الهند تحررت بوسائل مقاومة سلمية ابتدعها المهاتما غاندي وصحبه .. على خلاف العراقيين وما فعلوه ! فالمسألة العراقية داخليا هي بالضرورة اجتماعية وليست سياسية وهي مسألة مجتمع تكثر بل تتفجر فيه التناقضات بشكل لا يصدق ابدا ..
مجتمع ليس فقط غريب في تنوعاته وتعدديته ، بل مختلف في توجهاته وميوله وتفكيره واساليبه ناهيكم عن هذه السايكلوجية العراقية الصعبة التي لا يمكن ان نجدها لدى بقية أنواع البشر .. سايكلوجية متمردة وقوية وحادة ازعجت ساسة وقادة وزعماء عرب امثال : الحاج امين الحسيني والرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين بن طلال ومؤسس البعث ميشيل عفلق وزعماء عرب آخرين .. نعم ، انها سايكلوجية تاريخية لها موروثاتها المركبة وجيناتها المتنوعة وقد تمركزت في قلب هذا العالم ومن قبله العالم القديم انثربولوجيا وها انها قد انتجت شخصية فريدة من نوعها وصعبة المراس جدا ..
انني واثق تمام الثقة بأن اي عراقي لو سمع بأن واحدا من مثقفيه اليوم قد قارن بين مجتمعه وبين الهنود لثار وازبد وارعد وتوّعد وهدد ، فليس من السهولة ابدا فهم المجتمع العراقي من قبل العراقيين انفسهم فكيف يمكن فهمه من قبل الاخرين ، وليس من السهولة ابدا ارضاء الشعب العراقي ، وليس من السهولة ايضا ادراك ما يريده الوسط العراقي .. ولقد ذكرني كل ذلك بما كتبته المس غروترود بيل في مذكراتها وهي المستشارة البريطانية التي قضت اهم سنوات حياتها في العراق ابان العشرينيات من القرن العشرين ، اذ اعتقد بأنها قد فهمت العراقيين فهما حقيقيا ، فلا نعجب ابدا اذا كان السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني في العراق وقت ذاك يستشيرها بامر العراق ولكن ما يثير العجب كثيرا ان الملك فيصل الاول وهو العربي القح ومؤسس العراق الحديث كثيرا ما كان يستشيرها في امر العراقيين الذين تحكي لنا عنهم وطبيعتهم من خلال وثائق بقلمها تمثلها رسائلها الى ابيها عن عشقها للعراقيين وقد وصفتهم اوصافا قلما يجود بها اي باحث عربي في هذا الوجود !
بل من المؤسف حقا انني سمعت وقرأت اكثر من زميل او كاتب او فنان او مذيع عربي كيف يتهكم بالعراقيين في تصرفاتهم وعقلياتهم !! ولا اجد احدا من المثقفين العراقيين المؤمنين بالشوفينية والذين وجدوا ان القومية العربية قدرا لهم ، لم اجد منهم أحدا ، وهم كثر ، يتجرد من خطاياه بحق العراق ليعالج الفهم العربي المسطّح عن العراقيين ومجتمعهم وعقلياتهم ، بل وان يعترف بكل ذلك خصوصا وان الشوفينيين من القوميين العراقيين دوما ما يشعرون بالضآلة ويعتبرون انفسهم اصغر حجما من اخوانهم العرب الاخرين في القومية العربية .

الشخصية العراقية : شخصية متمردة
انه شعب العراق المتنوع الذي تشكله حقا كتلة هائلة من العواطف والمشاعر الفياضة ، وهو سريع الانفعال والغضب يحتد بسرعة ولا ينطفىء جام غضبه الا بعد ان يطيب خاطره بكلمات جزلة ورقيقة يشعر فيها باعادة الاعتبار اليه ، فالانفة مستفحلة عنده .. تجده حالما ورقيقا وفجأة ينقلب على عقبيه ليغدو مهاجما شرسا اذا مسّ مسا خفيفا .. انه انعكاس حقيقي لمناخه القاري الصعب حيث مفارقاته التي لا مقاربات لها .. يتعّصب مع محلياته الجهوية او يتعاطف قبليا وعشائريا واسريا ولا يتقبل الاجنبي بسهولة بفعل طغيان استقلاليته الفردية وطغيان بدونته على حضريته وهو يهوى الفردية في العمل ولا يتلاءم بسرعة مع اي جماعة غريبة باستثناء حالات ونماذج عدة من تشكيلات من الساسة والمثقفين العراقيين المدينيين .. ربما تأقلم مع جماعته ولكن ليس مع الاخرين وهو لماح حتى في عشقه وثائر وملحاح ومتمرد ولجوج ولا يرضى ابدا عن اي شيىء .. يسألك دوما : " شكو ماكو " ويعيدها ويكررها حتى الضجر ، ولكن " الماكو " ( = اللاشيىء ) عنده كثير جدا ، وقلما يحدثك عن " الاكو " ( = الموجود ) . وهو الوحيد الذي باستطاعته ان يحكي لك قصة كاملة بعيونه .. بل وهو الوحيد الذي يبقى زمنا طويلا يتكلم بلغة الاشارة والتورية والسخرية كلاما مبطنا لا يدركه ايا كان من هذه الدنيا الا اذا كان عراقيا ، فهو يدرك لغة الاشارات والرموز منذ الاف السنين .. وهذا ما اصطلح عليه بعض الادباء العراقيين بتعبير ( الحسجة ) ، وهو تعبير له مفهومه الذي يدركه كل من امتلك ثقافة عراقية قحة ، وقد يستخدم الناس هذا المفهوم حتى في كلامهم المرموز واحاديثهم العادية .. انك ترى بيئات عراقية كبيرة لا يتواصل الناس رجالا ونساء الا من خلال تعابير شعرية وامثال شعبية وحكايا جميلة .. انه مجتمع مبدع حتى في تمرده وعصيانه ، في شعره ونثره ، في دينه ودنياه ، في مثاليته وواقعيته وحتى في مقدّسه ومدنّسه .. وهو شجاع على العموم وقد اثبت التاريخ بأن شجاعته كانت مضربا للامثال اذا آمن بقضية معينة كما يثبت لنا التاريخ قدرة العراقيين على التحمل والصبر بشكل لا يتخيله عقل . وقد اتصفوا ايضا بالجسارة والمغامرة اذا ما ارادوا التعبير عن امر ما وبشكل يثير الانتباه .
نعم ، انك تقف عند صحون يجتمع فيها عدد من نساك ومتبتلين وبكائين ومتصوفة وفي الطرف الاخر تستمع الى اقذع انواع الشتائم والسباب بحق كل الالهة ! انه العراقي ، مهما كانت طبيعته وعجينته فهو لا يعطي ثقته للاخر بسرعة ، ولكن ما يثير حقا انه ان منح فرصة من الحريات الفكرية والسياسية كالتي عاشها في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين فسيؤثر في كل ميادين الحياة وسيغدو له شأنه في الدنيا وسيبدع بشكل مذهل . ولن اجد الوان الطيف الثقافي بكل زهوه ولمعانه وانواعه الا في العراق فهو بيئة حقيقية لحضارات متوارثة وثقافات لها سلاسلها ابا عن جد للشعر والشعراء ويكذب من يقول عكس ذلك .. فالعراق بيئة متنوعة تتسلسل فيها الاجيال حضاريا اذ لم نزل نجد مجتمع صعاليك الستينيات من المثقفين والشعراء كما كان قبل الف سنة .. ولم نزل نجد مجتمع المتبتلين والزهاد الذين يذوبون وجدا وصبابة في اسرار الخلود .. ولم نزل نجد ثمة مفكرين وكتاب عراقيين لهم القدرة على التأويل وكأن اخوان الصفا والمعتزلة قد استمر وجودهم وتفكيرهم في البيئة التي ترسخوا فيها .. وهكذا بالنسبة لمن كان قد عشق الحكايا والملاحم والاساطير او هام بتنوعات البيئة العراقية ومحلياتها بكل جمالياتها الطبيعية .. وهناك مجتمع شعراء ومجتمع مجالس ومجتمع عشيرة ومجتمع بدوي ومجتمع ريفي ومجتمع كنسي ومجتمع لغوي ومجتمع مقاهي ومجتمع نقابات وجماعات ومجتمع اسواق ومجتمع عسكر .. الخ

مجتمع الخصوصيات والتنوعات
ومع كل هذا وذاك ، اقولها وليس جبرا للخواطر لابناء بلدي الحبيب ، بل انها حقائق ثابتة عندي انني لم اقع - والحق يقال - طوال حياتي على اناس طيبين لا تجد مثلهم ابدا في طول هذه الدنيا وعرضها كالعراقيين الاصلاء .. انهم موجودون في كل مكان كالذي صادفتهم في الجنوب او كالذين تعاملت معهم في الشمال .. في الغرب ام في الشرق ، صحيح انهم متنوعون كفسيفساء مدهشة في عاداتهم ولغاتهم وتقاليدهم ولكنهم عموما اناس طلقاء كرماء يعبدون العشرة والصداقة والكلمة الطيبة ويحبون الحياة والحرية والانفتاح والمائدة العامرة والفن والسهر والنكتة الى درجة مذهلة !
ولا ادري ان كانوا قد تغيروا او ان الزمن الصعب قد غيرهم وبدلهم عن عاداتهم وتقاليدهم العراقية المتوارثة منذ مئات السنين . ولكن ليكن معلوما ان خمسا وثلاثين سنة من حكم نظام احادي شمولي عات وقف على رأسه صدام حسين لابد وان يتغير الناس بغير الناس ولابد ان تتأسس في العراق اساليب شرسة ودموية كالتي الفها العراقيون طويلا من خلال شراسة النظام في سيطرته المحكمة على المجتمع . المهم لابد ان ندرك نتيجة طالما فكّرت فيها تاريخيا وانا اقلب صفحات تاريخ العراق واقرأ معانيه من وراء الاسطر والصفحات انه اذا كان العراق مغلقا وضعيفا ومنهارا فانه يغدو مرتعا للاشرار والمجرمين والعصابات الذكية .. اما ان كان العراق قويا ومستقرا ومنفتحا فيغدو خميلة خضراء تزدحم جدا بالمبدعين الخلاقين الذين لا اول لهم ولا آخر !
ولابد من القول ان تاريخ العراق الاجتماعي يعلمنا بأن العراق طوال الزمن وعلى مر العصور يستقبل الالاف من الدخلاء الذين يصهرهم في بودتقته انصهارا كاملا ليصبحوا جزءا من كينونته ، ولعل من تنوع اللهجات واللغات المحكية المحلية دلائل حقيقية على امتزاج الثقافات المتنوعة في بيئات العراق ، ولكن دوما ما ينتج العراقيون ثقافتهم العراقية المتميزة بكل خصوصياتها . ناهيكم عن تنوع العادات والتقاليد العراقية التي قد لا نجد لها شبيها في كل هذا المحيط العربي الممتد في الشرق الاوسط . والمعروف بين العراقيين ان القدماء الاصلاء دوما ما يرفضون الدخلاء الطارئين حتى لو كانوا من اقرب الاماكن ، وثمة فجوات ومتسعات بين الطرفين عندما يتأسى احدهم عن حالة كهذه فيأتي بالمصطلح الشائع " لملوم " ( معناه : خليط من كل الاصناف والاجناس ) . وثمة مدن عراقية كبرى اليوم وبضمنها العاصمة بغداد غدت تضم " لملوما " متنوعا من البشر .
الانطلاق من الاقفاص المغلقة !
نعم ، ليس من الغرابة اليوم وبعد هذا المارثون التاريخي الذي يمر به مجتمع العراق ومنذ خمسين سنة ان يبقى مكللا بازهار الغار واوراق الورد وهو ينفث عسلا ويقطر سمنا .. لنعلم ان العراقيين قد مروا باصعب الظروف واحلك الايام وبأوزار ثلاثة حروب دموية عجاف اكلت اخضرهم واليابس ، فهل ستجدهم يهجعون ويستقرون ويهدأون وقد انطلقوا من اقفاصهم بعد ان كانوا محشورين فيها ومنعزلين عن رحاب الدنيا .. فكل عراقي اليوم مصر على ان يكون رأيه الوحيد هو الصائب وهو الاصح وهو الاسلم .. وان وجد نفسه بلا رأي ، اخذ يلف ويدور حول ما قاله زميله ليعيد انتاج ذلك من جديد كي يقول هذا هو الرأي الصائب فخذوه .. والكل تواق لشغل المناصب وتوّلي الصدارة من اجل سلطة او تفاخر او مكانة او استفادة .. ولقد برز جيل جديد تربّى على امتداد ثلاثة عقود من الزمن على اساليب النظام الحزبي الواحد وعلى تقديس الرأي الواحد وعلى عبادة البطل القومي الواحد وعلى كراهية الاخرين ومقتهم واحتقارهم وبالذات الاجانب من غير العرب .. جيل اشبع بنصوص المؤتمرات القومية والقطرية واغاني حب الريس والدعاء له .. جيل لم يسمع الا الشعارات والطوباويات واستعراض العضلات والاعلاميات الكاذبة .. جيل لا يتعلم الا خطابات القائد واحاديث القائد ولم ير الا صور القائد وجداريات القائد واحتفاليات القائد .. الخ جيل استمر محروما من كل منتجات العصر وتقنياته الحديثة وفي الثلث الاخير من القرن العشرين حيث تطور العالم كله بشكل مذهل .
ولعل من سوء قدر العراقيين ان يكون لهم كم هائل من المؤرخين وعلماء الاجتماع والمفكرين والكتاب والمنظرين المعاصرين من قدماء سابقين أو جدد لاحقين .. ولكن ويا للاسف الشديد لم يقّدم هؤلاء كلهم على الاطلاق تفاسير علمية حقيقية ومشروعات اجرائية واقعية يتطلبها العراق ويحتاجها كل العراقيين على امتداد خمسين سنة الا ندرة منهم لم تخصب الا القليل ، وليعذرني القراء ان لم اسجل اسماء تلك الندرة النادرة كيلا يعتب علي مئات الزملاء والاخوة العراقيين الذين احترمهم واجل اعمالهم كلهم مهما كانت توجهاتهم وعقائدهم وانتماءاتهم ! ولم اكن متوهما عندما كتبت بعد سقوط النظام اكثر من مقال احذر فيه من تداعيات الفرار من الاقفاص وما سيترتب على ذلك من نتائج وخيمة .. ولكن لم يكن يدر في خلدي ان تصل الحالة الى حز الرؤوس وقطعها وقتل الابرياء وخطف الناس العاملين ! وعدم الشعور بالمسؤولية في تلويث سمعة شعب كامل عرفته البشرية معلما لها منذ الاف السنين .
مخاطر الانقسامات وتشويه الصورة
انني المح ولأول مرة في تاريخ العراق ان افقا من شفق احمر قان يرتسم بعيدا ليؤجج شعلة من حرب باردة تسري اليوم في دواخل العراق الاجتماعية بتأثيرات اعلامية وسياسية ودينية بالدرجة الاولى محلية وعربية واقليمية ودولية .. نعم ، بدأت تتجسد وتتراكم جملة من الاحقاد والكراهية والضغائن بتأثير اخطاء سياسية ارتكبت بعد سقوط النظام ، ناهيكم عن متراكمات عهود شوفينية مضت على مدى اربعين سنة منذ العام 1963 وحتى العام 2003 ، وقد استفحلت جدا في عهد صدام حسين الذي ضرب على اوتار خبيثة بدل ان يترفع عنها كونه زعيم عراقي يتوجب عليه ان يكون عراقيا حضاريا حقيقيا يؤمن بالقيم الحضارية ويقف مترفعا ونظيفا فوق كل الميول والاتجاهات والطوائف والاديان والاعراق والقوميات والعشائريات .. لكي تنتقل هذه " الامراض " الوبائية اثر سقوطه الى " واقع " ربما لا يريد البعض ان يسمع عن هذا الواقع ، بل ويريد البعض التكتم عليه .. ويصل الامر بآخرين الى انكاره جملة وتفصيلا ترفّعا وتساميا .. ولكن كل هذا وذاك يذكي النار بدل اطفائها .. ولقد ابدع الاخ الشاعر العراقي احمد عبد الحسين في مقالته الاخيرة عن " الطائفية " و" الطائفيين " ( ايلاف ، 20 نوفمبر 2004) الذين لا يريدون الاعتراف بها ، بل وان اي طائفي يستخدم كل الدفاعات ليبعدها عنه كونه يعترف بشرورها .. او تجد من يتشدق كونه مجدد علماني المظهر مدني التفكير ولكنه يكتسي بالبسة طائفية داخلية مهترئة ، ومنهم سياسيون ومثقفون وكتاب ومهنيون مدنيون .. الخ تلحظهم غير طائفيين في العلن ولكن الطائفية قد تمكنت منهم في اللاوعي ، وهذا يحتاج الى ترسيخ منهج القطيعة لديهم بين الموروث التاريخي والواقع المعاصر .
وهناك من يريد ان يبقي الصورة وردية عن صراع الاضداد الصعب الذي يسري اليوم في مجتمع منسحق لم يهتم احدا به من العراقيين باستثناء قلة من الساسة والكتاب والمهتمين العراقيين الذين يمكن معرفتهم واحدا واحدا ! في حين لم ير العراقيون في حياتهم التاريخية ( مجتمعهم كما هو ) ولم يزرع في تفكيرهم الا ( الدولة ) وتقديس انظمتها السياسية وعبادة زعمائها وقادتها ( وثوارها وابطالها الوطنيين والقوميين الميامين ) في العلن .. هذا في العلن ، اما في السر فالعراقيون بشكل عام ومنذ عهود طوال مضت يمقتوا الدولة ويشعروا بأنها العدوة الاساسية لهم اذ يصل الامر ببعضهم ان يبيح المال العام – مثلا - من دون اي شعور بالذنب كونه ورث فرية عراقية قديمة تقول بأنه مال بلا اصحاب ويعبرون عنه بـ " مال حكومة " ، وهذا يرجع بالدرجة الاساس الى ضعف الانتماءات الى الكيان الواحد منذ العهود العثمانية السكونية ( او كما يسميها المؤرخ مجيد خدوري بـ المسكونية ) .

انتماء ام مجموعة انتماءات
ومن هنا غدا الانتماء للوطن / العراق امرا هزيلا مقارنة بغيره من الانتماءات لكل العراقيين .. والوطن ليس بيئة محلية معينة ولا مدينة ولا دين ولا طائفة ولا عشيرة ولا اسرة ولا تراب ولا نهرين ولا جبل ولا صحراء ولا .. ولا ، انه كل هذا وذاك وتلك وهذي وقبل اي شيىء هو الانسان او المجموعة البشرية التي لها خصائصها وخصالها وشراكتها التاريخية والجغرافية .. انه الانتماء الوحيد الذي يمكن لصاحبة ان يفخر به ، والمهم ان يكون هذا العراق غير محتكر من مجموعة او حزب او قبيلة او طائفة او هيئة او حكومة .. لقد عاش العراقيون لاكثر من اربعين سنة وصل الامر خلالها بأن غدا الحزب القائد ومن بعده الحزب الواحد ابرز كهنوت شرير لا يدرك العراقيون غيره كي ينهلوا من ينبوعه ، فاقسروا على الانتماء اليه بالرهبة والملاحقة .. فكيف تريدهم اليوم بعد ان كانت ابوابهم موصدة وينابيعهم جافة واقفاصهم مظلمة وسراديبهم عفنة .. كي يروا العالم فجأة كما هو عليه اليوم ولا يصيبهم اي تمرد او جنون مع غياب العقلاء واختفاء الحكماء وتشرد المبدعين وبقاء المشعوذين والدجالين والمطبلين والشعاراتيين والوصوليين واستخدام زمر الفاشيين والمتعصبين كتلا من الارهابيين في محاولات دموية لارجاع القديم الى قدمه ..
ولعل الاعلاميات العربية المعاصرة وجوقاتها هي التي اثارت الصدمات واججت المواقف وتلاعبت بالمشاعر الساخنة .. وكانت لها اجندتها المعروفة ازاء العراق والعراقيين متضمنة فيها كل احقادها وكراهيتها وفجأة يجد العراقيون انفسهم امامها ، وهي اعلاميات منظمة وخبيثة وماكرة ساهمت مساهمة اساسية في تشتت تفكير العراقيين وتضييع السبل امامهم خصوصا واننا وجدناهم فجأة وهم بتكويناتهم الصعبة يستخدمون ارقى الوسائل المتطورة ، ومنها الانترنيت والموبايل والستالايت والفضائيات التي غدا بعضها يبث اشرس الاعمال والاستعراضات والتصريحات والاقاويل توحشا ازاء العراق والعراقيين ، بل وغدا اكثر من محطة عربية قناة تختص ببيانات الارهاب وعرض عمليات القتل والاعدام وقطع الرؤوس على العالم ! ان مجرد عرض ذلك هو تشويه لسمعة العراق والعراقيين امام العالم وكأنهم في بلادهم قتلة ومجرمين وسفاكين .. ولنا ان نتّصور ماذا ستكون عليه احاسيس العراقيين الذين عرفنا خصائصهم قبل قليل ؟



ثانيا : الطائفية والشوفينية وراء صراع الاضداد

التمزق الحقيقي .. متاهة صعبة
ان المجتمع العراقي الذي كنت قد قدمت تحليلات عن ابرز مشكلاته في عدة دراسات منشورة .. يعيش اليوم تمزقا حقيقيا وتشظيا غريبا بفعل تراكم الاسباب والمسببات التي لا يمكن نكرانها وبقايا آثارها المهلكة .. وقد طافت على السطح فجأة كل الرزايا والموبقات بفعل انفلات الاوضاع وانقلاب عاليها سافلها من دون قيود ولا حدود ولا سدود ولا ممنوعات ولا محرمات .. لقد برزت فجأة كل منتجات المواريث والتقاليد البالية وبقايا الامراض المزمنة والترسبات المركبة لتاريخ طويل من احقاد فتاكة وعلاقات هشة وكراهية الدولة وثارات لعمليات القتل والنفي والاعدامات والتعذيب والتحقيقات والسجون والمعتقلات والمقابر .. كلها ركامات من عذابات مخزنة في الذاكرة العراقية الملتهبة على امل اشفاء الغليل واخذ الثارات .. التي كان المجتمع قد استوعبها ومن غباء النظام السابق انه فسّر صمت العراقيين وقت ذاك ازاء سياسته الشمولية باعتباره مجتمعا موافقا جدا على نزقه ومتوافقا جدا مع سياساته .. ومهما حاولت الدولة ومؤسساتها ومهما حاول الحزب واجهزته ان يثير فصائل ضد اخرى واللعب باوراق المجتمع الصعبة ، فقد فشل مشروع الطاغية سواء على عهد ام عهد البكر الذي سبقه وفي ظل حكم البعثيين الشرس وتطبيقاتهم القاسية التي مارسوها ضد المجتمع العراقي بمختلف شرائحه وفصائله وعناصره واصنافه وطوائفه وقومياته ..
دعوني اليوم اتوقف قليلا لمعالجة موضوع في غاية الاهمية ، وهو يهدف اساسا الى طرح محاولة لمشروع اتمنى ان يحول دون انهيار العراق ليس كمؤسسات دولة ، بل كتكوينات مجتمع .. وخوفي ان يتحول المجتمع العراقي الذي عرف بعراقته ومواصفاته الحضارية والمدينية كأقدم كتلة بشرية في تاريخ البشرية الى تمزقات وتشظيات يسهل على الاخرين ابتلاع اجزائه – لا سمح الله - . وهنا لابد ان يدرك كل العراقيين بأن مجتمعهم الذي يصادف كل هذي المعاناة ومآسي الحياة انما يصطدمون بترسبات بقيت مخفية عبر مئات السنين ولم تجد لها فرصتها للانطلاق .. انهم بحاجة ماسة الى ان يدرك كل طيف عراقي طيفه الاخر ويتلاقح معه من اجل بناء تعايش حقيقي غير مزيف ، وتضامنيات متماسكة غير مشوهة .. فهل سيدرك مجتمعنا ما الذي يحتاجه ؟ صحيح انه بحاجة الى عملية انتخابية سياسية جديدة تضمن له ولادة دولة جديدة ونظام حكم جديد ، ولكنه بحاجة اصلا الى عملية تضامنية اجتماعية تؤهله واجياله القادة لبناء تاريخ جديد .

صراع الاضداد
ان المشكلة التي لابد من التأمل فيها ما نسمعه ونراه ونشهده اليوم في واقع يمتلىء بالاضداد وصراع الاضداد بعد ان عاش تناقضات صعبة لا اول لها ولا آخر ! المهم اننا لا يمكننا ان نغمض عيوننا كعراقيين على ما يجري ليس على مستوى الحكومة مؤقتة كانت ام دائمة ، بل على مستوى المجتمع .. فأنا لا يرعبني حقا اي احتلال اجنبي يفرضه محتل خارجي بقدر ما يخيفني هذا التمزق الداخلي الذي لا يتطرق اليه اي من المفكرين والمختصين العراقيين ، وخصوصا من ذوي الباع والتخصص .. ليس خوفا من الموضوع ذاته ، بل لأنه لا يريد ان يقنع نفسه بأن خللا مستفحلا يسود في دواخل البنية الاجتماعية العراقية تحت اسماء شتى . ان عدة من الامور الحساسة جدا جعلتني انتبه الى مكامن الخطر في دواخل العراق الصعبة ، وهي تعّبر ليس عن حالات شاذة ، بل انما تعّبر عن واقع مؤلم لا يمكن السكوت عنه او التغاضي عليه او اخفائه تحت حجج واهية ومسوغات عاطفية .. ونبقى نتشدق بالوحدة والمثاليات والطوباويات والخصوصيات .. علما بأنني اول من يدافع عن ذلك في ظل واقع يزدحم بالقطائع والتمفصلات .
السؤال : كيف نصل بأي عراقي كي يشعر بأنه جزء من منظومة اجتماعية متكافئة وعريقة اسمها ( العراق ) لا باعتباره جزءا من فرع خاص !؟ وكيف نجعل العراقي يدافع عن كل التنوعات والالوان والاطياف والمصالح العراقية حتى لو كان ذلك على حساب انكار هويته وطائفيته وشكله ؟؟ وما هي الوسائل والادوات والاليات التي يمكننا توظيفها اجرائيا وعلى ارض الواقع من دون التغنّي بها كذبا وبهتانا وشعارات بلهاء لارضاء الاخرين واسكات المطالبات ؟؟
ان هناك امثلة ونماذج كانت كافية للتدليل على ان انقسامات وتشظيات اخذت تترسخ يوما بعد آخر على ارض الواقع في العراق .. ومن دون اي معالجات حقيقية يمكنها ان ترجع الامور الى نصابها ضمن ما يعرف بعمليات الاسترداد التاريخي للتعايشات بين العراقيين ، فان العراق سيمضي في طريق مسدود من دون دق نواقيس الخطر ، وربما يبقى الكثيرون رؤوسهم مطمورة في الرمال ، وهم لا يريدون سماع مثل هذا الذي يشكل كارثة حقيقية داخلية في العراق ، ولا يمكن ان يستفيد منها الا كل الذين يتربصون بالعراق من جيران واخوان خصوصا والذين ثبت انهم لا يريدونه ان يسير نحو الامام ليبني له تجربته التاريخية الجديدة .

لا حياة للعراق مع وجود الطائفية
وهي اخطر ظاهرة مرضية تتسرب اليوم وبشكل مذهل عند العراقيين الذين ستحيل تعايشاتهم التاريخية والقيمية الحضارية الى تمزقات وتشظيات . لقد زرعت الطائفية في العراق منذ تاريخ بعيد ، وبرغم هشاشتها على العهد الملكي بفعل علمنة النظام السياسي وليبراليته الى حد بعيد، الا ان النخبة القومية بدأت بالعزف شديدا على مفهوم " الشعوبية " ، فخلقت من لا شيىء ظاهرة وهمية معاصرة بدأت الاحزاب الشوفينية باستخدامها في العراق خصوصا ضد كل من لم يسايرها .. وزاد الضرب على الاوتار الطائفية مذ بدت تحيا منذ العام 1963 على عهد عبد السلام عارف واستمرت على عهد البعثيين البكر وصدام وحتى العام 2003 .. وكنت الحظ بأن صراع الاضداد بدأ ينمو بشكل مخيف في وسط العراق وخصوصا في العاصمة بغداد ، اذ لم يعرف لا الشمال ولا الجنوب مثل ذلك الصراع الخفي .. ان قطبي مجتمعات الشمال والجنوب متمثلين بكل من الموصل والبصرة كثيرا ما كانا يتلاقيان بمنتهى الشفافية من دون اي تعقيدات لا في السر ولا في العلن على عكس الصورة التي كانت العاصمة عليها وما يحيطها ويجاورها . وبالرغم من علمنة الدولة العراقية على العهدين الملكي والجمهوري في القرن العشرين ، الا ان محاصصة طائفية خفية كان لها ثوابتها في اغلب التشكيلات والمؤسسات .. ولا يمكن ان ينكر ذلك احد اذ تثبت الوثائق ان الطائفية كان لها حساباتها القبيحة في المعادلة العراقية لازمان ولت !
وكان من المؤمل ان يبدأ عهد سياسي جديد في العام 2003 يستند على العقل بتجريد العراق من اية محاصصات طائفية وتأسيسه على اسس قطائعية حديثة ، اي بولادة نظام تاريخي له قطائعه مع كل الترسبات باستثناء العراق وخصوصياته الوطنية وقيمه الحضارية .. وبالرغم من مناشدة العديد من رجالات الفكر والساسة العراقيين بعلمنة او – كما اسميها – بأهلنة الحياة السياسية العراقية الجديدة ، ولكن كل هذا وذاك لم يحدثا . كنت اتمنى على الساسة العراقيين الذين شاركوا في مؤتمر لندن ان يبعدوا انفسهم عن ممارسة اي دور خلال المرحلة المؤقتة ، ويمنحوا الفرصة لفريق عمل من التكنوقراط المستقلين لادارة الاعمال الفنية في حين تنبثق مجالس محلية في كل محافظة ، ينتخب من بين اعضاء كل مجلس ممثلا يشارك في مجلس للادارة في العراق على ان تراعى فيه الحجوم السكانية لكل محافظة ، ويبدأ العمل وتكون قراراته ملزمة ويعمل لاعداد الانتخابات ومن طرف آخر يعالج مع الامم المتحدة على تنفيذ القرارات حول شأنه ومصير الاحتلال مع السعي على تصفية الديون ..
لقد ارعبتني عبارة قالتها مؤخرا احدى العراقيات المثقفات المقيمات في لندن منذ سنوات عندما اجابتني بحدة وهي تعاتبني : ( كيف تقف يا استاذنا مع هؤلاء .. افضّل ان ينقسم العراق الف مرة ولا ارى الشيعة يحكموننا !؟؟ ) فزجرتها وعنّفتها .. وبعد ايام صدمت صدمة من نوع آخر وانا اقرأ ما كتبه احد العراقيين بأنه ( يفضّل الانقسام والاستقلال في الجنوب والانفصال عن المثلث السني المتخلف ) !! ان كلا من هذين الاثنين لا يدركان قيمة التاريخ ولا يمتلكان اي افق واسع من التفكير .. انهما نتاج علاقات مشوهة نفخ في نارها واجج سعيرها النظام السابق ، وجاءت المحاصصة الطائفية لتزيد على النار حطبا .

فراغات التأسيس : خطايا مجلس الحكم الانتقالي
جاء في واحدة من خطابات الملك فيصل الاول مؤسس العراق في القرن العشرين قوله : " كل عمــل لا يشّيد على أساس متين .. لا تقوم له قائمة " ! وهنا نتساءل : سواء اتفقنا ام اختلفنا مع الاخوة من الساسة العراقيين الجدد الذين غدوا اصحاب قيادة انتقالية واسميت مؤسستهم بـ " مجلس الحكم الانتقالي " : هل كانت اعمالهم ومنجزاتهم قوية ام هزيلة ؟ واذا ما وجدوا انفسهم انهم لا يستطيعون تحمّل المسؤولية الصعبة للعمل من اجل العراق والعراقيين حتى وان كانوا منضوين تحت راية السفير بول بريمر ، فلماذا استمروا في مناصبهم ؟
كم كان حريا بمؤسسة ولدت كسيحة وعاشت وماتت وهي كسيحة ان تغيب غيابا نهائيا عن الساحة ؟ ولا اعتقد ان عراقيا واحدا باق حتى هذه اللحظة وهو يتقّبل كل الترديات التي جسدّها مجلس الحكم الانتقالي الذي زادت سلبياته على ايجابياته .. كيف قبل اولئك الساسة الاعضاء في مجلس الحكم الانتقالي من سادة وسيدات مبدأ العمل على اسس المحاصصة الطائفية التي صفق لها الملايين ويا للاسف الشديد من دون ادراك مغازيها الساذجة وآلياتها المتخلفة ونحن نتكلم عن عراق متطور ومعاصر لا يتقبل الا ما هو مدني ؟؟ كيف يمكننا ان نقّيم تجربة مجلس الحكم الذي عّين اعضاؤه تعيينا لا علاقة للشعب العراقي به ان يؤكد انه قادر على ان يقّدم للعراق وللعراقيين شيئا ؟ كيف يمكننا ان نتقبل ان يكون البعض من اعضائه وعضواته اصفارا على الشمال مع احترامي للبعض الاخر من اعضائه ؟ كيف يمكن للعراقيين ان يتخيلوا ان ذلك البعض من الحكام العراقيين الجدد نسوة ورجالا يمكنهم سد الفراغات التي احدثها سقوط الطاغية الذي كان يرعب بنظراته فقط كل العراقيين ؟
واذا كانوا من طّلاب المناصب وقد جاءوا لملىء الفراغات الطائفية او العرقية او الدينية حسب اجندة ارادتها الولايات المتحدة الامريكية .. فكيف يمكن للعراقيين ان يسكتوا على اساءات حصلت وقد اضرت بمصالح العراق العليا وخصوصا في أمن العراقيين واستقرارهم ؟ وكيف يمكن لاطراف اخرى وشخصيات وطنية وقوى نضالية شاركت حتى في مؤتمر لندن قبل سقوط النظام ان تقبل تهميشها ولها سمعتها وتياراتها السياسية في العراق وخارجه ؟ لماذا قبل بعض الاخوة من رؤساء الاحزاب الاساسية في المعارضة العراقية سابقا تهميش قوى سياسية عراقية اخرى ربما انا شخصيا لست مع توجهاتها ، ولكن كانت ولم لها جماهيرها وساحتها في العراق ؟ كيف نتخيل ان تحدث كل تلك التحولات اثر حرب ضروس دفع العراق ثمنها غاليا من اجل خلاصه من حكم الطاغية لاستقبال عهد جديد .. ويأتي الامريكيون بطاقم قد لا ابخس حق كل رجالاته ولكن التاريخ سيلومهم ومن نصبهم .. اننا نتساءل : كيف يمكن التحرك في دوامة تلك التحولات مع شخصيات لم يعرفها الشعب العراقي ، وان من بينها من كان لا يعرف كيف يركب جملة مفيدة ؟

تجربة لابد ان يتعّلم العراقيون منها شيئا
كيف يمكننا ان نتقبل ما كان قد اصدره مجلس الحكم الانتقالي من قرارات وتعليمات بائسة غدت اضحوكة لكل العالم بعد ان تخّلى اعضاء المجلس نفسه عنها ؟ والامثلة لا حصر لها .. لقد كان الامن والنظام مطلوبا جدا في كل انحاء العراق والاخوة اعضاء المجلس يتنقلون من بلد لآخر ، او ينزوون في بيوتهم ، او يصّرح احدهم ضد الاخر او يقرر البعض من دون البعض الاخر .. او ان ينشغلوا بأمور تافهة وقد تركوا الوزارات هزيلة .. او ان يدركوا حجم ما كان ينهبه هذا ويختلسه ذاك من دون اي اعتراض .. وان سألتهم قالوا ان الامر بيد الامريكان . فاذا كنتم غير مؤهلين لمخاطبة بول بريمر كما يجب ، فلماذا بقيتم تتحملون مسؤولية العراق وهو يعيد تأسيسه في اصعب مرحلة تمر بها البلاد ؟
اين هي الشفافية في العمل السياسي العراقي ازاء تصريحات سيئة اطلقها بعض اعضاء مجلس الحكم من دون اي محاسبة وهي تمس ليس السيادة الوطنية المفقودة ، بل تخص مستقبل مصالح العراق الوطنية ازاء ايران مثلا ؟ كيف تتقبلون ان يتدّنى احدكم من اعضاء مجلس الحكم لزعيم عربي كي يستجدي منه النقود لنفسه ؟ وكيف يمكننا ان نتصور احداهن وكانت عضوة في مجلس الحكم وقد سمعتها تقول متبخترة بأنها مؤهلة وزيرة للدفاع لأن ابيها كان من رجالات العراق العسكريين الافذاذ .. ولما سألها السائل عن منصبه ، اجابت : كان نائب ضابط ؟ ولا ادري هل ان العراق قد خصي عن انجاب قادة مرموقين واداريين مهرة وساسة حاذقين لكي يتولوا اول تجربة في تأسيس العراق الجديد بديلا عن بضعة ناس مع احترامي للبعض منهم ، الا ان مجلسهم الموقر احتوى على مترهلين ومتكلسين ومغفلين وطائفيين .. الخ
انني اذ انتقد نموذجا سيئا في عراق ما بعد صدام يمثله بعض ما انتجه مجلس الحكم الانتقالي ، فانني اشير من طرف او آخر عما يمكن تأسيسه من خلال حكومة منتخبة جديدة ودائمة وخوفي ان تعاد تجربة ذلك " المجلس " من جديد وباثواب واشكال واسمال مشابهة من خلال لعبة انتخابية .. ان الشعب العراقي لابد ان يعي حقائق اساسية اليوم بعد ان غّيب وعيه طويلا .. ولا اريد ان اخوض بأي ملاحظات ضد تجربة الحكومة المؤقتة الحالية بالرغم من بعض اخطائها ، ولكن لا يمكن البتة ان تقارن بتجربة مجلس الحكم الانتقالي السيئة ، ويكفي ان هذه الحكومة جابهت منذ تشكيلها حتى اليوم ازمانا صعبة للغاية .. ولكن سيأتي اليوم الذي يمكننا فيه ان نحلل تجربتها على مهل من اجل ان تعلمنا هذه التجربة او تلك ما الذي يمكن ان تتحلى به الحكومة العراقية المقبلة .. وامامها مهام صعبة للغاية في تشكيل العراق الجديد .

لعبة المحاصصة الطائفية
ان العراقيين من الساسة الجدد الذين تحالفوا مع الامريكيين قد أخطأوا اخطاء جسيمة باحياء اللعبة الطائفية والعمل من خلال مبدأ المحاصصة الطائفية في توزيع المناصب .. وهذا ما اثار حفيظة ليس الطوائف حسب ، بل اثار الاقليات واصحاب الديانات والاعراق ومختلف المذاهب ، وكأن السياسة قد خلقت لتوزيع العطايا والمناصب ، مما جر الى تفجير الوضع الاجتماعي في العراق بعد فترة من الزمن كان العراقيون يسيرون بتظاهراتهم ومسيراتهم وهم يطالبون بحاجاتهم ويعلنون عن مطاليبهم .. ان صوت العقل يدعونا للتأمل في ان يكون العراق مرجلا يغلي باحقاد اهله بعضهم ضد البعض الاخر .. وكراهية اهل هذه المناطق ضد مناطق اخرى .. واعتقد بأن رجالا عقلاء من السنة والشيعة قد اعلنوا جهارا بأن العراق لا يمكن ان يسلم بجلده اذا ما لعبت به الطائفية والعمل على اسس المحاصصات ..
ان بلادا متنوعة كالعراق لا يمكنها ان تحيا وتعيش وتزدهر وتتطور الا اذا ارست قطائع حقيقية وعلى اسس مؤهلنة لا طائفية فيها والاعتماد على الكفاءة والخبرة .. وكم تمنيت ان يكون زعيم العراق مسيحيا او مندائيا او كرديا او تركمانيا او عربيا .. سنيا او شيعيا لا فرق اذا ما وصل الادراك والوعي الى درجة يبتعد فيها العراقيون عن التحزبات الطائفية والدينية التي ربما لا تكون خطيرة في بلدان اخرى ، ولكنها ستغدو خطيرة جدا في العراق وتشكل عائقا حقيقيا لكل من المجتمع والدولة معا . انني اعتقد بأن الاجيال السابقة في العراق كانت تدرك قيمة التعايش الاجتماعي في العراق الذي من دونه لا يمكن نجاح اي تجربة سياسية ، ومن دونه لا يمكن لأي نظام سياسي ان يبقى حيا .. ان سر تطور العراق عبر التاريخ كان يعبر عنه انسجام رائع بين العراقيين بمختلف الوانهم واجناسهم ومللهم ومذاهبهم وطوائفهم .. اذ لم اقع ابدا في كتب التاريخ وآثاره على ما يسمى هذا بالاكثرية وتلك بالاقلية ! لقد كانت الاقليات الدينية كاليهود العراقيين والصابئة المندائيين والمسيحيين العراقيين الشرقيين بمختلف مللهم .. وكلهم من اقدم سكان العراق يرتبطون بمدنهم وارضهم ارتباطا شديدا .. وكانت مختلف الاعراق والاجناس في العراق لها علاقاتها الوشيجة بالبيئة والارض والنهر ..
اما العرب بمختلف اشكالهم وتقسيماتهم العشائرية والمدينية قد اندمجوا بشكل مذهل في الاوساط الاجتماعية الاخرى ، وربما كانت الصراعات القبلية والعشائرية لا نراها الا ضمن الهيئة الواحدة ، فالعرب لهم صراعاتهم ونزاعاتهم فيما بينهم ، وكذا الاكراد والاقوام الاخرى .. ويندر وجود اي نزاع او صراع بين قومية واخرى في العراق . وهكذا بالنسبة للمسألة الطائفية في العراق لم تجد لها اي فرص للصدام بين طائفة واخرى ، اذ كان المجتمع العراقي متوازنا ومنسجما مع بعضه الاخر ولم يؤسس هذا النزوع الخطير الا الحكومات القومية الفاشية المتخلفة في العهد الجمهوري والتي ارجعت العراق ومجتمعه عشرات السنين الى الوراء . ومن الامور التي لا استطيع استيعابها ان ترسخ المحاصصات الطائفية والعرقية في كل من المجتمع والدولة العراقيين ونحن نعيش في بدايات القرن الواحد والعشرين .

ثالثا : العراقيون : هل يدركون ما العمل ؟

انقسام العراقيين
لا يبالغ اي عراقي ليقول بأن العراق واحد موّحد اليوم ، فالانقسام الحقيقي يظهر واضحا للعيان ، ومن المؤسف ان هناك من يؤيد الوضع القائم برمته وارجع لأقول : بان ما يحدث اليوم يعد ثمنا باهضا لابد ان يدفعه العراقيون لقاء زوال حكم الطاغية صدام حسين .. وهناك من لم يؤيد الوضع القائم ابدا مهما تغيرت الفرص وتبدلت الاحوال كونه يؤمن ايمانا حقيقيا بأن العراق تحت وطأة الاحتلال ، ولا يمكن ان يرى العراق نور الحياة الا بخروج المحتل الامريكي البريطاني ومن يحالفهم .. وربما كان العراقيون وما زالوا يعيشون تحت وطأة الخوف والرعب الذي كانوا عليه لعشرات السنين .. فلا يمكن ان تقف على حقيقة اكيدة وموقف ثابت لأي عراقي الا الندرة القليلة .. واعرف من الكثيرين ما يعلن عكس ما يبطن ، واذا ما سألته ، اجاب بأنه يخاف على سمعته الشخصية من ان تلطخ بتأييد المحتل !
نعم ، ان العراقيين اليوم منقسمون على انفسهم انقساما حادا ، وانني اقرأ لما يكتبه البعض وما يتلفظونه ضد البعض الاخر !! لقد وصلت درجة الوقاحة الى الحد الذي يتمنى فيه البعض سحق مدن كاملة على رؤوس ابنائها كلهم ! ويأتي آخر ليصف ابناء مدينة اخرى كذباب لابد من رشهم وابادتهم ! وهكذا بالنسبة الى آخرين يبكون ضحايا طائفة دون اخرى ! وآخرون من طائفة أخرى تلوم مرجعية اخرى باشنع الاوصاف ! واستطيع القول بأن كلا من الاحتلال والارهاب كانا وراء هذا الانقسام الذي نتمنى الا يمتد ابدا ، فهو اخطر ما يهدد العراق ! ويجد الاخوة العرب في البلاد العربية ضالتهم ليخترقوا العراق والعراقيين من هذا الباب الذي لو فتح على مصراعيه لتمزق العراق اربا اربا .. واعلموا يا ابناء كل العراق بأن لا احد سوف يقف الى جانبكم وبعضكم يأكل لحم الاخر ! انني اخاطب السنة والشيعة من العراقيين بأن لا يكتفوا بتبويس اللحى والاكتفاء بمظاهر ساذجة وخادعة كأن واحدهم يعشق الاخر في الظاهر .. وفي السرائر تختبىء مجموعة ضغائن واحقاد تعبر عن نفسها في ما يقذفه بعضهم ضد الاخر من السفاهة .. او ما يتناوله هذا الطرف ضد ذاك او بالعكس !
مخاطر ثنائية التوجهات
لم يحدث ان وجدنا شعبا في كل هذه الدنيا حتى وان كان مركّبا من قوميات متعددة وانقسمت دولته بعد ان توحدت مثل يوغسلافيا او غيرها قد وصل الحال بقومياتها ان تصفق من اجل الانفصال ، فلا ادري كيف يمكن للبعض من العراقيين ان يثير مثل هذه الشعارات وهو لا يدرك ما الذي سيحصل عندما يفتقد العراق مقوماته في قلب هذه المنطقة الساخنة من العالم . ان الانقسام الاجتماعي اخطر بكثير من الانقسام السياسي ، ولقد نجح زعماء عراقيون مثل صدام ومن سبقه كالبكر وعبد السلام عارف في زرع فجوات كبرى بين ابناء الشعب العراقي ، بل ونمت شرائح طفيلية بليدة التفكير وغريبة التصرفات لم يكن لها اي وجود ابدا قبل خمسين سنة لكي تغدو كتلا جماهيرية لها مصالحها الفئوية وتأثيراتها السيئة المستفحلة في المجتمع ولتزيد من تناقضاته الصعبة .
ان المجتمع العراقي اليوم منقسم على ذاته الى قسمين اثنين نتيجة التحول التاريخي الذي جرى على ايدي جيوش الحلفاء وسقوط النظام السابق ، وكل قسم من هذين القسمين لا يمتثل لارادته في الايمان بتقرير المصير للعراق والعراقيين ، بل ان كل قسم له عواطفه في الرجوع او الركون الى مصالحه والى ما سيجنيه من ربح او خسارة ليس الا .. ان هناك من وجد بغيته في تحرير العراق من صدام وطغمته من خلال الادارة الامريكية .. ولكن هناك من وجد نكبته في احتلال العراق من قبل جيوش غازية اسقطت صدام ونّصبت ( حكومة عميلة ) ( كذا ) ! وان هناك من وجد فرصته في تحسين حياته ومعيشته واساليب فكره واتصاله بالعالم بعد زوال الطاغية ، ولكن هناك من وجد مصالحه قد فقدت وان مناصبه قد ذهبت ومكانته قد تبخرت وراحت عليه مكرمات ( القائد الضرورة ) ! وان هناك من وجد تاريخه يتحول بالكامل من رسالة قومية فاشية او عقائد مصبوغة بالصبغة الدينية ومن شعارات مثالية ودعايات كاذبة لحملات ايمانية .. وفجأة هناك من يجد بأن دمارا لحق بالكامل بهوية العراق القومية ورسالة الامة الخالدة ومن قائد ( فذ ) كذا الى ركب الاستعمار والصهيونية !
هذه التشظيات التي يعبر عنها انقسام في الثنائية العراقية بين متفائل بالوضع الجديد برغم كل الالام والانهيارات والدمار وبين متمرد متبرم من الوضع الجديد برغم كل ما تحقق للعراقيين من فرص جديدة في التحولات .. وكل من الطرفين لا يدركان بسبب انعدام الواقعية وبسبب اختفاء عراقيين قادرين على الاستجابة للتحديات سواء كانوا في المسؤولية ام في خارجها من اجل تجسير الفجوات بين العراقيين ، بل ومن اجل تجسير الهوة بين الطرفين ورأب الانقسام ، ناهيكم عن تجسير الفجوة بين اهل الداخل واهل الخارج من العراقيين .. تجسير حقيقي يؤسس من خلال رؤية بعيدة المدى ليس لها من اهداف الا تحقيق مصالح العراق العليا باساليب بعيدة عن كل الخطايا ، وان تتحقق النزاهة وتكافؤ الفرص واحتواء المجتمع العراقي ليس بالاساليب التي تربى عليها ، بل اقناعه بمدى اهمية تقديم الاهم على المهم .. فاذا كان الامن مفقودا ، فلابد من تكريس كل الجهد لتأمين هذا الجانب من دون اهماله على حساب مشروعات اخرى سياسية كانت ام اقتصادية ام غيرها .

مسألة الاعراق لابد ان يحترمها العراقيون
ومسألة الاعراق والقوميات والاقليات العرقية لابد لها من معالجات جذرية .. اذ لا ادري كيف لا يدرك البعض من القوميين العراقيين بأن العراق له خصوصياته التي ان لم يدركها العرب بعد لأنهم اعداء لما يجهلون ، ولكن لا استطيع ان افّسر مواقف احزاب ونخب من العراقيين الشوفينيين الذين يتشدقون باسم القومية العربية في العراق وبرغم كل ما حدث في العراق على امتداد القرن العشرين من ردود فعل صعبة من قبل الاكراد وغيرهم ازاء السياسات القومية الشوفينية التي اضرت بمصالح العراق التاريخية ، الا ان القوميين بمختلف اشكالهم ما زالوا لم يستوعبوا الدرس العراقي كونهم يقدموا اجندة الانتماء الى الامة العربية على هوية المواطنة العراقية وهم يدركون بأن تجارب سياسية وايديولوجية عديدة قد جرت في اطار الوحدة العربية وقد فشلت بين اقطار عربية عدة ، فكيف يمكن ان نستخف بمسألة الاعراق في العراق ؟؟ ان العراق له تجاربه التاريخية العربية القومية التي برغم فشلها ايضا ، فلقد كانت قد سببت له مشكلات ومعضلات لا تعد ولا تحصى ابدا لعل ابرزها خلق كراهية لا مبرر لها ضد العرب العراقيين من قبل الاكراد والتركمان والاثوريين .. كما تثبت الوقائع الجديدة بعد ان كانت هناك توازنات وانسجامات واختلاطات وزيجات وعلاقات اجتماعية متطورة بين مختلف الاعراق العراقية !
نعم ، كانت هناك انسجامات رائعة في المجتمع العراقي في القرن العشرين لا تماثلها افتراقات سيئة في السياسات العراقية وخصوصا في العهود الجمهورية المختلفة عندما ازداد تأثير المواقف الشوفينية من قبل الساسة القوميين العراقيين والتي كانت تذكيها اطراف متعددة عربية وخارجية .. لقد عصفت الاقتتالات بالاخوة العراقية العربية الكردية منذ ان اعلن العصيان المسلح في مطلع الستينيات وقابلته سياسات حكومية بليدة وصلت الى اعتى همجيتها بضرب مدينة حلبجة بالاسلحة الكيمياوية في نهاية الثمانينيات لتشّكل سابقة خطيرة في تاريخ العراق ليس في الصراع بين قوميتين او حرب بين الاعراق بل في قتل دولة لمواطنيها العزل وقتل نظام لابناء مجتمع وباسلوب همجي لم يدان الا بعد مضي عدة سنوات من قبل المجتمع الدولي !

بين الواقع واللا واقع
وسواء كانت الاعراق العراقية قد تأججت لتصبح عند ذروتها ردود فعل عنيفة ضد من استخدم شعارات وادوات وآليات في الشوفينية العربية ، فان تجارب الصراع العرقي لابد ان تكون درسا لكل العراقيين في ان يؤسسوا لهم تاريخا جديدا تمثله الشراكة والتعايش والحقوق .. وان متطلبات كهذه تمنحنا القدرة على ان يفكر العراقيون جميعا وكل القوميين الشوفينيين معهم بأن الاعراق في العراق والاكراد في مقدمتهم يعترضون اليوم اشد الاعتراض على اعتبار العراق جزءا من الامة العربية .. وبرغم جسامة مثل هذا الطلب ، ولكنني كعربي عراقي لابد ان افكر بمصير العراق قبل ان ابحث عن وجود الامة ، فالعراق واقع وتاريخ وحضارة وجغرافية وخصوصيات ومصالح عليا له ثقله الدولي .. اما الامة العربية فوجودها الحقيقي في مخيلتنا وثقافتنا ولغتنا ومسلسلاتنا التلفزيونية .. وهي البعد الاخر من مصالحنا التاريخية . ان العروبة مبدأ اصيل له مقوماته عبر تاريخ طويل والعراقيون كلهم لا ينكرون العروبة ابدا لأنها نسغ دائم في الحياة ولأنها قديمة في العراق .. ولكن العروبة ليست هي المشكلة الحقيقية ، انها مشكلة القومية العربية التي لا تدرك المعاني الحقيقية للعروبة .
ان مشكلات عدة معّلقة اليوم او انها ستثار في يوم غد حول ما يمكن ان تثيره مسألة الاعراق .. وبالرغم من جبروت صدام حسين ووسائله المتنوعة في التطهير العرقي لخنق القومية الكردية خصوصا على حساب وهم ( الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ) وبعد ان وظف الانقسامات الكردية توظيفا مازوشيا مقيتا .. فاننا اليوم كعراقيين عربا واكرادا واعراقا اخرى ، لابد ان نرتفع بتفكيرنا ونرتقي من حالات التبسيطية والهشاشة والاوهام ويوتوبيا اللاواقعية لنرى اين تكمن مصالحنا العراقية الوطنية المشتركة في محيط اقليمي لابد من استيعاب العراقيين لمكامن الاخطار فيه واستعادة العراقيين لتجارب الامس على العهدين الملكي والجمهوري من اجل فتح تاريخ جديد للعراق الذي يعتبر البلد الوحيد ضمن المنظومة العربية تحده اكبر دولتين اقليميتين كبيرتين مثل تركيا وايران .. وعلى العراقيين ان يقرأوا تاريخ العلاقات الاقليمية للعراق بين كل من هذين الطرفين بعيدا عن وهم الامة العربية التي .. فلا يمكن للاخوة المغاربيين ولا للاخوة في وادي النيل وبلاد الشام ولا للاخوة في الجزيرة العربية ادراك مثل هذه التعقيدات التي تحف بالعراق اقليميا !! ان واحدا من اخطر الاسباب في اثارة النزعات الطائفية في العراق اليوم يعود الى حجم ما يمارسه طرفان اساسيان ، احدهما يختفي وراء دعاوى السنة العراقيين ، وثانيهما يختفي وراء دعاوى الشيعة العراقيين .. واعتقد ان كلا من هذين الطرفين يعيشان وهما وسذاجة .. اذ لم يعرف تاريخ العراق الحديث عبر قرون من الزمن اي صراع طائفي في العراق .

اسجّل للتاريخ
وانني اذ اكتب هذه " الرؤية " اسجل للتاريخ ، انه ان بقيت النوازع الطائفية والانقسامية مكرّسة ضمن اي عملية سياسية في العراق ، فسوف لن تكون هناك اي فرص سانحة لتقدم العراق واستقراره سواء بوجود الاحتلال ام بوجود طوائف وملل ونحلل لا تعرف لماذا تتنازع فتذهب ريحها .. ان ابرز ما يتطلبه الوضع اليوم ان يتم التنازل عن التعصب الديني والغلو الطائفي المستحكم لدى البعض من الطرفين ، وليكن الدور للاكفأ والانظف والاذكى من النسوة والرجالات والنخب والجماعات .. من دون ان يقّيم كل هؤلاء على اساس الانتماء والطائفة والعرق واللون والمكان .. انه مؤهل ما دام عراقيا لا يأبه الا لهويته وانتمائه العراقي اولا واخيرا .. وليعلم العراقيون بأن مجرد الاعلان الوهمي عن الاخوة العراقية ونفي صراع الاضداد ما هو الا عملية ساذجة يضحك فيها احدهم على الاخر ، فالامر بحاجة الى الاندماج الحقيقي ودفاع عن كل العراقيين .. انها مشكلة اجتماعية قبل ان تكون سياسية ولابد للساسة العراقيين الجدد الترّفع عن النزعة الطائفية ، ولا يقنعني كائنا من كان ان اي حزب ديني في العراق ليس له اجندته الطائفية لكل من الطرفين السنة والشيعة .. ولكن ما لايمكن فهمه ان يكون هناك حزب علماني كما يعلن وهو ينسق باسم منظومة طائفية !!؟؟ فلماذا نكابر ونحن ندرك بأن النتائج ستكون وخيمة على كل من الطرفين ، وان لم تكن كما يريد البعض من غلاة الطرفين ، فان العراق هو الخاسر الوحيد لكيانه التاريخي الذي عرف منذ العصور الكلاسيكية الاولى .

هل من مشروع عمل ؟
ثمة مشروعات ودعوات لا حصر لها يطرحها مختصون لهم باعهم في الشأن العراقي ، ولكنها تفتقد دوما مسوغاتها بفعل عقبات يضعها البعض ممن لا تستقيم تلك المشروعات او الدعوات مع مصالحهم واهدافهم وغاياتهم ولحاجات في انفسهم .. وكثيرا ما يتهم اصحاب تلك " المشروعات " او " الدعوات " بتهم خطيرة في العرف العربي التعصبي الشوفيني وما لديه من تقاليد ومهارة في هذا الباب .. وسرعان ما يقصى اصحابها وتهمّش رؤاهم وكثيرا ما تغدو تلك مشروعات ودعوات خصبة في عهدة النسيان بعد ان تشوّه صورتها تشويها كاملا .. وهذا هو الذي جعل كل الامم المتخلفة لا يستقيم فيها الحال ويكثر فيها اصحاب العاهات والبلداء والمشوهين والجامدين والمتكلسين والمقلدين والتنابلة والمنافقين والكذابين ويختفي منها الشرفاء والنزهاء والاصحاء والقديسين .. ان ثمة مدخلات سهلة الى موضوعات التخلف والبلادة .. ولكن يا لصعوبة المخرجات منها .. انها دوامة من التناقضات التي لا اول لها ولا آخر بحيث تغدو المسائل فيها اشبه بكوميديا ساخرة غريبة الاجناس .. وترى الناس فيها باشكال مختلفة والوان متعددة وهم يحملون فوضى من الافكار والقيم لا تستقيم والمنطق في كثير من الاحيان ! وتجد التأويلات والتفسيرات والادعاءات لا حدود لها ابدا وهو جزء من منهج هروب ذاتي من الموضوعات التي تجابه اصحابها بالمعلومات الدامغة التي تصطدم عادة بكل ما يحفل به المجتمع من تقاليد بالية متردية لا تستقيم والحقائق والظواهر ذات الامكانات التطبيقية .
ان الاسطرة وعبادة النصوص والتراص مع التقاليد العتيقة كلها تجعل مهمة التجديد واعادة التفكير مهمة مستحيلة ونادرة ، وهذا كله ما يسهل تسويق الاكاذيب والاوهام والاخيلة على حساب الاعجاب بالواقع الكسيح ومهما كان فيه من الفساد والظلم والبلاء والفجائع والخراب والدمار والتخلف والتوحش .. فان الارتقاء من خلال الاصلاح والتغيير والتبديل ما هو الا عملية صعبة جدا بحاجة الى منهج من القطيعة وغسل التفكير وتغيير الاذهان .

الوصايا : حاجتنا الحقيقية نحن العراقيين
انني اقول بأن العراقيين بحاجة الى غلاسنوست حقيقي وشفافية في ان يعلن كل طرف ما يريده من الطرف الاخر من دون المساس بمشاعر الاخر وان يعلم الجميع بأن التراب الواحد هو الجامع المانع بين كل الاطراف .. ان مجرد استخدام اساليب الهمز واللمز والباطن والاختباء وراء قشور او سلطات او احداث او عناصر من دون مكاشفة ولا شفافية ولا مصارحة .. فان كل ما يطمح اليه العراقيون سوف لن يتحقق البتة . ان العراق والعراقيين بحاجة ماسة الى اجندة عمل سياسية وفكرية في مؤسساتهم وبرامجهم ومناهجهم واعلامياتهم واساليب حياتهم بعيدا عن اي وازع من صراع الاضداد . ليعتزوا بانتماءاتهم مهما كانت في دواخل مجتمعهم ومدنهم واريافهم .. ولكن ليبعدوا كل من الدولة ومؤسساتها والنظام السياسي والدستور ( = القانون الاساسي للبلاد ) عن اي انتماءات طائفية او مذهبية او دينية واي اي محاصصة طائفية ليتفاهم كل العراقيين على قواسم مشتركة في المبادىء لا في التطبيقات من اجل ان لا يجر هذا بطرف والاخر بطرف اخر .. انني اعيد واكرر منذ سنوات خلت بأن لا حياة للعراق والعراقيين من دون اساليب مدنية وقوانين مدنية واحزاب مدنية ووسائل مدنية وادوات مدنية وعناصر مدنية وسياسات مدنية .. الخ لا اطلق عليها بالعلمنة التي يتكهرب منها البعض ، بل اسميها بالاهلنة التي تقطع الطريق على كل الانتماءات التي يريدها البعض بديلا عن الانتماء الوحيد .. الانتماء للعراق . واذا كان هناك من العراقيين اليوم من غدا يكره العراق واسم العراق نتيجة ما تحمله من اعباء وبلايا ومآس .. فلا يمكن ارسال هؤلاء الى مصحات عقلية كما يتبجح البعض من المعقّدين ، بل انهم بحاجة ماسة الى حكومة عراقية نظيفة وقوية تعمل جهدها الى بناء دولة جديدة وارساء نظام سياسي جديد يحقق للمجتمع اهدافه وتطلعاته وحاجاته وطموحاته ..
لقد اوضحت لنا التجارب وكما يطلعنا عليه واقع العراق اليوم بأن اي انتماء خارج عن سياق العراق والدفاع عن كل شبر فيه والاعتزاز بكل شبر فيه والتحرك في كل شبر فيه والتلاحم من خلاله بكل انسان في مكانه في هوره وكردستانه .. في فراته الاوسط وجزيرته الفراتية .. في جباله ووهاده .. في سهوله ووديانه .. بين نهريه العظيمين شريانيه الازلييين .. تحت ظلال نخلاته وبساتين برتقاله .. في بطائحه وصحرائه الخ سوف لن يقّدم شيئا من حياته المأساوية التي نشهد فصولها اليوم .. والخوف كل الخوف من ان يتحول الصراع الى حرب شرسة بين الاهل من طوائف واحزاب واطراف في مدن معينة تأخذ طريقها الى مختلف الجهات لا سمح الله .. ان كل عراقي اليوم مدعو الى ان يحافظ على الاخر وان لا يكون اخيه مشروعا مباحا للقتل ! ان كل عراقي اليوم مدعو الى ان يدرك بأن ما حصل من تحولات تاريخية تحصيل حاصل ولا يمكن ارجاع عقارب الساعة الى الوراء ..

ما العمل ؟؟
لا اريد ان أوجه كلامي الى الامريكيين الذين كان لهم دور تاريخي في تحولات العراق الصعبة .. ومن طرف آخر كان لاخطائهم القاتلة وممارساتهم الفجة آثارها المأساوية على العراق .. ليس لأنهم لا يدركون ما يفعلون ، بل لأن الكلام العراقي لا ينفع معهم ، او قل لأنهم لم يسمعوا او يستمعوا ابدا للعراقيين .. وهم بتجربتهم في السيطرة يختلفون عن الانكليز في العراق المحتل ايام الحرب العالمية الاولى وحتى تأسيس الكيان العراقي ، ولا يمكننا ابدا ان نشّبه برسي كوكس – مثلا – بـ بول بريمر في تجربتيهما .. ولا اريد عقد مقارنة تاريخية بين التجربتين اذ انه من المؤكد ان اختلافا جذريا قد تشكّل بين الاثنين وسيقف المؤرخون في المستقبل لدراسة هذا " الموضوع " كي يكتشفوا الاسباب الحقيقية التي جعلت من العراق مرتعا للارهاب . اننا نأتي الان لنسأل : ما العمل ؟
على الرغم من اختلاف اساليب الحكومة المؤقتة عن ذاك الذي اتبّعه مجلس الحكم والذي قام على اساس المحاصصة الطائفية كي تتفجر الاوضاع بشكل عنيف .. ان انجع وسيلة لاستقرار الوضع هو كيفية ادارة الازمات العراقية مستقبلا من قبل اناس لهم نزاهتهم وصراحتهم والتصاقهم بشعبهم وشفافيتهم وتقديم مصالح العراق فوق كل شيىء وان يكونوا فوق الميول والاتجاهات لا اطماع لديهم ولا ترّفع عندهم ، يخلصون لكل ترابهم يجمعون ولا يفرقون يسمعون ولا يخطبون ، يعملون ولا يتقولون .. يؤمنون بسيادة القانون .. يعترفون بالاخطاء امام الجميع لا يواربون ولا يخادعون ولا يتكبرون .. اناس يضعون العراقيين فوق الاكف ويكون العراق عندهم فوق كل الانتماءات .. يعملون على خلق الانسجامات في النسيج العراقي ولا مصالح شخصية ولا انوية ولا عشائرية ولا جهوية ولا قبلية ولا طائفية ولا عرقية ولا دينية .. يحاسبون انفسهم قبل الاخرين وينقدون تجربتهم قبل ان يتناولهم الاخرون .. يعملون ليل نهار من اجل سيادة العراق واستقلاله السياسي .. زعماء عراقيون جدد لا علاقة لهم بموروثات وترسبات القرن العشرين .. ان خلق آليات عمل يمارسها العراقيون جميعا من خلال نظام يقوم على القطيعة بين الدولة والمجتمع وبين السياسة والدين وبين الطائفة والسياسة .. ولابد لأي حكومة عراقية قادمة ان تأخذ بمبدأ " خذ وطالب " ، وان يكون هناك جدولة ومقاييس لكل الحالات ، وان يكون هناك تطبيقا كاملا للاحكام والعقوبات وفرض السيادة ..
ان العراقيين جميعا بحاجة الى وعي جديد في تقييم الاوضاع وان تهدأ الخواطر وان يعتنوا بالقانون من اجل ضبط الحياة وليس احوج للعراقيين اليوم من استعادة التكوين المعرفي بتطوير الاجهزة العلمية والجامعات ونشر الالاف المؤلفة من المدارس ونقل التفكير والوعي العراقيين من انساق الماضي الى رؤى المستقبل .

واخيرا : ما الذي نخرج به من دراستنا ورؤيتنا للعراق والعراقيين ؟
ان شعبا مثل العراقيين الذين حاولنا ان نقدم صورة بانورامية عن خصائصهم وخصالهم وتأثير تواريخهم وجغرافياتهم في تكويناتهم وانتماءاتهم منذ عراقتهم اللكلاسيكية القديمة حتى اليوم يمنحنا الثقة بأن العراق والعراقيين ليس من السهولة ابدا تخفيف حدة التحديات عنهم او تجاهلها ازاءهم .. فضلا عن ان العراق والعراقيين اصبحوا هم بالذات اصحاب مسألة كبرى تشغل كل العالم بها .. ومن التواضع ان اقول بأنني قد توقعت قبل قرابة اربع سنوات وعند نهاية القرن العشرين بان العراق تنتظره مسألة تاريخية كبرى في القرن الواحد والعشرين على غرار المسألة الشرقية في شرقي اوربا ابان القرن التاسع عشر او على غرار مسألة تصفية المستعمرات في القرن العشرين .. ان العراقيين بكل ما يحتوونه اليوم من اثقال يرفعونها على اكتافهم سيواجهون تحديات صعبة وضغوطات اصعب على امتداد السنوات القادمة خصوصا اذا ما علمنا بأنهم يمرون اليوم بتحولات تاريخية لم يمر بها اي بلد مجاور للعراق في المنطقة . ان العراق هو البلد الوحيد في منطقة الشرق الاوسط الذي افتتح النظام الدولي الجديد اوراقه فيه وبدأ اجندته الصعبة بالمسألة العراقية التي ستشغل العالم لسنوات اخرى .
انني اخاطب في دعوتي الصريحة هذه كل العراقيين والعراقيات سواء كانوا في دواخل العراق ام اولئك الذين توزعهم الشتات ، بأن يقرأوا الواقع العراقي الصعب قراءة جديدة ، وان احتلال العراق هو الذي لم يقض على نظام صدام حسين السياسي حسب ، بل قضي على تاريخ دولة العراق المعاصرة التي نشأت قبل اكثر من ثمانين سنة .. وان تكيفهم مع هذا " الواقع " سلبا ام ايجابا لا يمكن له ان يتم بمعزل عن تأسيس مشروع عراقي باستطاعته ان يرجع للعراق سيادته المنقوصة وكامل استقلاله .. وهذا لا يمكن ان يتم من دون غلاسنوست عراقي يؤهل المجتمع توافقيا ويجعلة متفقا على حدود دنيا من المبادىء والقيم الحضارية العراقية .. من اجل العمل على اعادة بناء العراق الحضاري ومؤسساته المتطورة الجديدة .



#سيار_الجميل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة جديدة الى العراقيين : التفكير بالبعد الثالث بعيدا عن خ ...
- عاتكة الخزرجي : قيثارة العراق : شاعرة وقت الشفق .. حالمة عند ...
- عبد القادر القط :استاذ الادب العربي والنقد المقارن :مفهوم تأ ...
- نزار قباني : شاعر الرسم بالكلمات الرائعة : نسف البنى الاجتما ...
- المسيحيون العراقيون : وقفة تاريخية عند ادوارهم الوطنية والحض ...
- محمد شكري : الروائي المغربي المعروف صاحب الخبز الحافي :اعترا ...
- البنية الفوقية والبنية التحتية : المفاهيم المستترة والمعاني ...
- الى متى تبقى بلقيس في قفص الاتهام ؟ وهل من ركائز عراقية جديد ...
- حنا بطاطو : مؤرخ العراق المعاصر مؤرخ غريب الاطوار لن يكتب أح ...
- الدكتور سّيار الجميل لم يوّقع على اي بيان او رسالة اصدرهما ا ...
- الحريات الشخصية قبل غيرها: هل يفهم العرب معنى الصداقة والعلا ...
- نازك الملائكة : رائدة الشعر العربي الحر- هل تنبأت عاشقة ليل ...
- لمناسبة رحيله : الفيلسوف جاك دريدا : رائد الفلسفة التفكيكية ...
- نقولا زيادة المؤرخ المثقف : زهرة التفكير وخضرة الروح
- هل نقرع الاجراس من اجل الدفاع عن المسيحيين العراقيين ومصيرهم ...
- الخالدون من العراقيين .. من هنا يمرّون : كفاكم تخلطون الاورا ...
- الليبرالية العربية الجديدة! مفاهيم عصر راهن لا تلغيها الثيرا ...
- الاوراق المكشوفة صراع الارادات السياسية ام سباق المصالح الذا ...
- العسكريتاريا العربية
- استحقاقات العراق الجديد العراقيون .. يمّرون باخطر مرحلة تاري ...


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - سيار الجميل - دعوة صريحة من اجل غلاسنوست عراقي