أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم الموسوي - العراق: جيش وسياسة















المزيد.....



العراق: جيش وسياسة


كاظم الموسوي

الحوار المتمدن-العدد: 4211 - 2013 / 9 / 10 - 11:42
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أسهمت القوات المسلحة، وخاصة الجيش، بدور حاسم ومؤثر في حياة الشعوب المستعمرة والتابعة. وقد كشفت التجارب التاريخية للشعوب أهمية هذا الدور في فترات كثيرة، كما أشرت إلى بطلان ادعاءات الكثير من الأيديولوجيين والكتاب الغربيين عن وقوف الجيش فوق الميول والاتجاهات وخارج الطبقات والصراع الطبقي في العديد من البلدان، وفي مختلف القارات. توضح ذلك الانقلابات العسكرية والديكتاتوريات الإرهابية.
وبالرغم من أن المؤسسة العسكرية هي إحدى مؤسسات الأنظمة الحاكمة والتي تعتمد عليها كجهاز حماية لها وقمع، إلا أنها في منعطفات معينة وبفضل عوامل كثيرة منها النهوض الوطني وقوة الحركة السياسية، تتحول هذه المؤسسة إلى قوة للحركة الوطنية ضد الأنظمة الحاكمة، المستبدة منها أو التابعة، فتنتقل إلى جانب الشعب ضد الحكم، كذراع ضارب، مسلح، منظم، وتساعد في إقامة حكم وطني جديد أو تسهم فيه أو تدعمه من ثكناتها.
وفي بلدان آسيا وأفريقيا، وفي اكثر الأحيان، انضمت القوات المسلحة، وخاصة الجيش إلى صف الحركة الوطنية وتدخلت في حسم الموقف بين أقطاب الصراع الاجتماعي والسياسي منحازة بشكل صريح ومعلن، وبحكم ميزتها كقوة مسلحة ومنظمة عددا وعدة، اشتركت في العملية السياسية، والسلطة، بعيدا عن الثكنات والشارات العسكرية، أو بها، بشكل ملفت للانتباه.
حدث هذا أيضا في تاريخ القوات المسلحة العراقية. فمنذ تأسيس الجيش العراقي رسميا في 6 كانون الثاني/ يناير 1921، مع تشكيل الدولة العراقية، رسم له أن يكون أداة للدولة في بقائها وحماية سيطرتها الطبقية وتبعيتها السياسية وقد وضع المحتلون الإنجليز هذا الهدف للجيش في العراق متوسعين في تنصيب شبكة مستشاريهم العسكريين في الوحدات العسكرية المشكلة حديثا، إضافة إلى ربط العراق بمعاهدة 1922 التي احتفظت الإمبريالية البريطانية بموجبها بقوات عسكرية في الأراضي العراقية، فضلا عن الأشراف المباشر على الجيش العراقي تدريبا وتسليحا. والبريطانيون المحتلون للعراق لا يريدون العراق مستقلا وبجيش قوي موحد، إذ كانوا يريدون أن يتحول الجيش العراقي الجديد التأسيس إلى وحدة من وحدات جيشهم الاستعماري (1)، يخدم المخططات المرسومة له، ليس في العراق وحسب بل وفي المنطقة العربية والمجاورة للعراق.
سمي أول فوج من تشكيلات الجيش العراقي باسم فوج موسى الكاظم، وهي تسمية مقصودة ضمن حسابات الإنجليز وتقسيماتهم للمجتمع العراقي، بينما عين جعفر العسكري أول وزير دفاع، ونوري السعيد أول رئيس للأركان.

تأسس الجيش على أساس التطوع الاختياري، بينما عين الضباط الذين درسوا في الأكاديمية العسكرية العثمانية في "اسطنبول" في قيادة التشكيلات. ووضعت معاهدة 1930 وبنودها الخاصة تجسيد مخططات السيطرة الإمبريالية على الجيش وبقائه تابعا لها. ومن بنودها ربط مصير الضباط الكبار والقيادات العسكرية بحاجة المستعمرين لهم في إدارة المؤسسة العسكرية، وتحويلهم مع المؤسسة إلى منفذ مطيع لما هو مرسوم ومخطط له (2). خاصة بعد إنشاء الكلية العسكرية لتخريج الضباط عام 1924، والإعدادية العسكرية، وتخرج دورات جديدة من الضباط العراقيين في بغداد، الذين انحدروا من فئات اجتماعية متوسطة من خارج المدن الرئيسية، وتفتحوا على الأوضاع السائدة وتعرفوا على الإصلاحات الاجتماعية (3).
قامت البعثات العسكرية البريطانية والملحقية العسكرية في السفارة البريطانية في تحجيم قوة الجيش العراقي ومحاولة "إبعاده عن السياسة"، وعن أن يكون جيشا وطنيا، ضامة أليه أكثرية من أبناء الاقليات القومية والطائفية، مستهدفة استحكام سيطرتها عليه، وإضعاف الشعور الوطني والقومي العربي داخل صفوفه. إلا أن التطورات السياسية الحاصلة في العراق وجيرانه، خاصة في تركيا وإيران، عكست آثارها في ضرورة توسيع حجمه ودوره كي يكون قوة ضاربة، حامية للنظام من التغيير الداخلي أو الأطماع الخارجية في ثروات العراق الهائلة التي ظهرت بعد اكتشاف البترول، فضلا عن الميزات الأخرى. وقد ترافقت هذه التطورات مع التطور الاجتماعي الاقتصادي وظهور ملامح مميزة للطبقات الاجتماعية وتعبيراتها السياسية في العراق.
كانت القيادات العسكرية المعينة من كبار الضباط الشريفيين، المنتمين إلى قمة الهرم السياسي الطبقي الحاكم، من كبار الإقطاعيين والملاكين والبرجوازيين البيروقراطيين، بينما ينتمي اغلب الضباط الآخرين إلى الفئات البرجوازية المتوسطة، والى الطائفة السنية من المسلمين (4).
ولكن بعد عام 1934، حين ادخل نظام التجنيد الإجباري في العراق، ازداد عدد الجيش أضعاف ما كان عليه قبل هذا العام. كان عدد الجيش عام 1922 ما يقارب 3500 فردا، ازداد إلى 7000 شخصا، عام 1927، و 11500 عام 1932. فأصبحت الحاجة ماسة إلى زيادة عدد الضباط أيضا، ولهذا فتحت أبواب الكلية العسكرية والدورات الخاصة إلى أبناء طبقات وفئات اجتماعية متعددة شملت القوميات والطوائف الأخرى. فصعد إلى المراتب العليا بعض الضباط الذين لم ينحدروا من الفئات الاجتماعية الحاكمة والمتنفذة، بحكم التقاليد العسكرية والتراتبية في المراتب، وأثر هؤلاء فيما بعد على المؤسسة العسكرية، واستخدموها لتحقيق أهداف وتصورات فئاتهم الاجتماعية والقومية.

أما الجنود وضباط الصف فاغلبهم من أبناء الفلاحين وأشباه البروليتاريا في الريف والمدينة ونسبة ضئيلة من أبناء العمال والبرجوازية المدنية الصغيرة. وشكل أبناء الفلاحين وأشباه البروليتاريا حتى ثورة تموز نسبة تقترب من 95% من أفراد الجيش والشرطة، في حين توزعت بقية النسبة على العمال والبرجوازية الصغيرة في المدن وعدد محدود من أبناء البرجوازية المتوسطة (5).
عملت السلطات الحاكمة والإنجليزية ما باستطاعتهم على إبعاد الجيش عن المشاركة في الحياة السياسية والاندماج في الحركة الوطنية والإطلاع على هموم الشعب ومعاناته، ومنع الارتباط بأية منظمة سياسية منعا باتا، لذا خلا الجيش في الفترة الأولى من تأسيسه من الانتماءات والاتجاهات السياسية، وظل محصورا بين أسوار الثكنات والعمليات العسكرية والتدريبية خارج المدن. بل وشاركت قياداته في عمليات عسكرية إرهابية ضد أبناء الشعب في فترات مختلفة ارتباطا بمخططات النظام الحاكم وأسياده (6)،"ضد الآشوريين عام 1933، وضد العرب في مناطق جنوب الفرات عام 1935، وضد الأكراد واليزيدية عامي 1935ـ 1936".
وبالرغم من هذا السعي لم يكن الجيش بعيدا عما يدور حوله، وعما ينعكس عليه من معاناة وصراع اجتماعي يتمخض به الشعب. وبرز أول تدخل للجيش في الحياة السياسية في انقلاب بكر صدقي عام 1936، "ضابط كردي، سني، برتبة جنرال" الذي أيده ممثلون من الحركة الوطنية وشاركوه الحكم، حيث ترأس الحكومة حكمت سليمان، وشارك فيها كامل الجادرجي من قيادة الحزب الوطني الديمقراطي. وصار هذا الانقلاب فاتحة الانقلابات العسكرية في العراق، أول انقلاب عسكري في تاريخ البلدان العربية المعاصر.
أدت نوايا بكر صدقي السياسية ومشاريعه وعداؤه للديمقراطية إلى انهيار التأييد المدني له، والى مقتله بعملية عسكرية أيضا، وبروز قيادات عسكرية أخرى، لها طموحاتها وتأثيرها، كقوة مقررة في صنع قرارات الحكم والسياسة وأداة ضغط وتهديد للحكومات، وصلت إلى حد تعيين أو تنحية حكومات أو رؤسائها حتى مايس/ أيار/ مايو 1941(7).
وبسبب اختلاف المنشأ الطبقي للضباط، والوعي السياسي تمايز الدور الذي قاموا به في الحياة السياسية في العراق منذ انقلاب الجنرال بكر صدقي عام 1936، وتوسع أعداد الجيش وضباطه، ففي حين ارتبط جناح من الضباط بالنظام وأسياده ارتباط مصير، اتجه جناح آخر إلى الحركة الوطنية وقضاياها، وأصبح الجيش مصدر السلطة على اثر هروب الوصي ونوري السعيد وأركان حكمهما، بعد قيام حكومة "الدفاع الوطني" برئاسة رشيد عالي الكيلاني، والضباط القوميين العرب، الذين عرفوا برتبهم، بالمربع الذهبي، أو العقداء الأربعة، وقد قادوا الحكم والجيش في أول مواجهة عسكرية ضارية ضد السيطرة البريطانية في مايس/ أيار/ مايو 1941(8)، وانتهت بنتائج وخيمة، أولها تنفيذ إعدام الضباط الأربعة، صلاح الدين الصباغ، مدير الحركات في رئاسة أركان الجيش ومعاون رئيس أركان الجيش، ثم قائد الفرقة الثالثة، وفهمي سعيد قائد القوة الآلية، ومحمود سلمان آمر القوى الجوية، وكامل شبيب قائد الفرقة الأولى. كما كان سوء التنظيم والتسليح والتدرب والاعتماد على وعود مساعدات المحور الفاشي وضعف تقدير قوة الخصم وإغفال مبادءته الحرب والفشل في ربط الحرب العسكرية سياسيا مع المهمة التاريخية من ابرز الأسباب والنتائج التي أعادت الجيوش البريطانية لاحتلال العراق من جديد حتى عام 1947. وتعرض الجيش العراقي إلى فترة من أسوأ وانكأ ما مر به في تاريخه من الإذلال والعسف من جهة، ومن جهة أخرى أكدت الحرب للسلطات الحاكمة والمستعمرين موقف الجيش العراقي واغلب ضباطه منهم، في عدم تأييد سياستهم وسيطرتهم، فقرروا إضافة إلى مخططاتهم السابقة تقليص أعداده، وعدم الاعتماد عليه، ولا الاطمئنان منه، وتصفية كوادره الوطنية والقومية العربية إلى أدنى حد ممكن. كما جرت مطالبة بحل الجيش واعتقال جميع من ساهم أو شارك أو عطف على حركة أيار (مايو)، فاخرج من الجيش 2879 ضابطا ممن يشكلون العمود الفقري له وأحيل إلى التقاعد قسريا عدد آخر، وأعيد المستشارون البريطانيون الذين كانوا فيه عند تأسيسه لإعادة تنظيمه، ومارسوا سياسة الأضعاف غير المباشر، كما سماها رئيس البعثة العسكرية البريطانية بإنقاص وجبات الطعام اليومية لأفراده واعتماد خطة تنفير الناس وتهريبهم منه، حتى بدأ حسب تقرير البعثة لعام 1944، "في ثياب مهملة، بدون معدات، بدون معنويات" (9)، ليوجهه المستعمرون والحكام إلى حراسة مصالحهم وشركاتهم وبنوكهم، ومن استخدامه أداة لضرب سكان الشمال وضرب سكان الجنوب، "من توجيه الجنود إلى ابعد من ذلك لدفع الجنود العرب لضرب عشائرهم ودفع الجنود الأكراد ضد الأكراد، وفي المستقبل لضرب عمال العراق عندما تعجز الشرطة من كبح جماح حركة العمال" (10).
بعد هذه التصفيات داخل المؤسسة، والتي صارت سياسة ثابتة بشأنه، لقيت مؤسسة الشرطة عناية خاصة باعتبارها مؤسسة قمعية اكثر ولاء للنظام واطمئنانا له. وقد تشكلت هي أيضا مطلع العشرينات كقوة عسكرية محلية لحماية الأمن الداخلي واغلب أفرادها من الفلاحين وأشباه البروليتاريا، وبذلت السلطات الحاكمة جهودا استثنائية لتدريبها وتربيتها على الطاعة والولاء للنظام القائم والعداء للحركة الوطنية، والاستعلاء على الجماهير الشعبية. وقد بلغت المصروفات الاعتيادية على الأمن والشرطة حوالي تسعة ملايين دينار، أو حوالي سبع مجموع المصروفات الاعتيادية من ميزانية الدولة (11). ووضعت في قيادتها عناصر موغلة في الرجعية وكره الديمقراطية، والتمتع في الفساد والرشوة، من أبناء الإقطاعيين والأغوات وشيوخ القبائل والبرجوازيين البيروقراطيين. وصارت حالة الفساد والرشاوى ظاهرة عادية عند أفراد المؤسسة ومراتبها. وقد زاد عدد أفرادها عام 1945، إلى اكثر من 19 ألف شرطي بزيادة العدد مرتين، مقارنة عما كانت عليه عام 1939. كما جند خمسة آلاف شخص في الشرطة السيارة والأمن (12). وتمرست هذه المؤسسة في قمع الحركة الوطنية واعتقال نشطاء الأحزاب السياسية وإتقان أساليب مكافحة الشيوعية والحركات العمالية والطلابية والفلاحية وغيرها. ولهذا كانت مؤسسة منعزلة من الشعب، تتواجه معه عنفيا في كل هبة جماهيرية، وتزيد من إرهابها وممارساتها ضده. ومنعت معظم الأحزاب في أنظمتها الداخلية التعاون بين أعضائها ومنتسبي هذه المؤسسة وخاصة شرطة الأمن السرية منها، وحظرت الانتساب أليها.
ورغم ما حصل للجيش، وما خطط له، من حصر وراء أسوار المعسكرات، وإشعاله بتدريبات عسكرية دائمة، وفرضيات مرهقة في المناطق النائية والجبلية، وتشديد الضبط والانضباط العسكري، إلا أن الحركة الوطنية وأحزابها السياسية تمكنت من خرق الأسوار والقوانين والنفاذ إلى داخل المؤسسة وكسب عناصر من الجيش، سواء من الضباط أو المراتب الأخرى، وشدهم إلى مشاكل الشعب الاقتصادية خاصة والمصالح الوطنية والقومية. وقد خلقت أحداث ما بعد أيار/ مايو 1941، استياء عاما لدى الشعب، بإعدام القادة العسكريين، وخيانة قضية فلسطين، إلى القمع والإرهاب اليومي، ومعاهدة بورتسموث، والاتفاقات والمعاهدات الآمنة وغيرها، ومواصلة التبعية للسياسة البريطانية ومصالحها، الأمر الذي مد الاستياء الشعبي إلى داخل المؤسسة العسكرية، وخاصة الضباط من أبناء المدن الواقعة خارج العاصمة، بغداد، بدرجات متفاوتة، وتنامي الإحباط من النظام الملكي القائم، والتناقض الحاد بين مصالح العراق والإمبريالية.
وخشيت السلطات الحاكمة من زج الجيش في كبح هبة الشعب في وثبة كانون الثاني/ يناير 1948، إلا أنها لم تتورع من توريطه في ضرب انتفاضة تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، والقيام بشبه انقلاب عسكري للسيطرة على الوضع المتفجر، وكبت انطلاقة الشعب، كما أشركته في قمع انتفاضة 1956.
إخراج الجيش من ثكناته إلى الشارع السياسي تجعله مشاركا في الأحداث والتطورات السياسية، وتعكس داخله تأثيراتها التي تتجلى فيه بعدها طبيعة الصراع الطبقي والاجتماعي والانحيازات الوطنية والقومية وحتى الطائفية. وهذا ما توضح خلال انتفاضة تشرين الثاني/ نوفمبر 1952. ففي الوقت الذي انحازت فيه القيادة العليا للجيش برئاسة رئيس أركان الجيش نور الدين محمود للنظام الملكي، وقف الجنود ومراتب من الضباط موقفا وطنيا شجاعا، إذ لم يطلقوا الرصاص على المنتفضين أو يقمعوهم حسب الأوامر الصادرة لهم من القيادات العليا الحاكمة والتابعة. الأمر الذي دفع الجماهير المنتفضة إلى استقبال الجيش بالهتاف بحياته. وكانت يوميات الانتفاضة شهادة شعبية لصالح الجيش وعلاقته بالشعب خلاف الشرطة التي واجهتها الجماهير بالعنف المتبادل مقابل ممارساتها العنفية، بينما هتفت بحياة الجيش واستقبلت مدرعاته (13). وقد أثرت هذه التطورات والانعكاسات في الحياة اليومية للمؤسسة العسكرية، وأسهمت في تهيئته الأجواء للنشاطات السياسية الوطنية، إضافة إلى إبراز أهمية الجيش ودوره في الحياة السياسية والعملية الثورية وموقعه في تطوراتها، كأكبر قوة منظمة، ومسلحة بأسلحة ثقيلة ومتنوعة.
وقد ركزت الإمبريالية، وخاصة الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية جهودها على استمالة اتجاهات الجيش لمصلحتها، ولكسب انحياز الضباط خاصة في البلدان المستعمرة، ومنحهم امتيازات ودورات بغية ربطهم بآلتها العسكرية والأمنية. وكانت تعمل على اختيارهم من الضباط المندفعين والمنحدرين من الفئات البرجوازية المتوسطة والصغيرة ومن أبناء الاقليات والطوائف. كما شددت في مجال توريد الأسلحة، وتقنينها والضغط على الحكومات عبرها.
وقعت بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بيانا في أيار/ مايو 1950، لتنسيق احتكار السلاح وللحيلولة دون تكوين قوات مسلحة وطنية في البلدان العربية، خصوصا (14).
هذا إضافة إلى ما كانت تقوم به السفارتان البريطانية والأمريكية من كتابة تقارير دورية عن وضع الجيش واتجاهاته، ودراسة عدده وعدته من قبل المستشارين المكلفين بالعمل في صفوفه وأتباعهم. حيث كانت البعثات العسكرية والملحقيات تعد دراسة فصلية ونصف سنوية مفصلة عن الجيش العراقي، وعن حياة ضباطه، وميولهم، وتدريباته ومناوراته، حتى عن أعداد البطانيات والأحذية التي يستخدمها.
لم تكن هذه الأوضاع خافية عن العديد من الضباط، بخاصة العاملين في وحدات الجيش في بغداد أو في وزارة الدفاع والأركان العامة والكلية العسكرية. فضلا عن العوامل الداخلية كرداءة التسليح وثقل البرامج التدريبية والفرضيات الموسمية والتشديد المفرط في الحياة العسكرية داخل ثكنات المعسكرات المسيجة، وحداثة التقاليد العسكرية لدى الضباط الشباب العراقيين، واقترانها بالعوامل الخارجية عن المؤسسة من تردي الأوضاع الاقتصادية، وسياسات التنكيل والقمع وتكميم الأفواه، المعمول بها مع أزمة الحكم المتفاقمة في علاقاته الداخلية والخارجية، وارتباطاته الواضحة بمصالح المستعمرين.
دفعت هذه العوامل الذاتية والموضوعية المزاج العام داخل المؤسسة العسكرية خصوصا إلى العمل السياسي والتنظيم والاتجاه إلى تغيير الأوضاع القائمة، وجاء نجاح ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، في مصر، وقيادة الضباط الأحرار لها نموذجا محفزا للتفكير في موقع الجيش ودوره في المهمات الوطنية والقومية. كما سارعت الأحداث السياسية المتلاحقة من فرض حلف بغداد وملاحقه، والعدوان الثلاثي على مصر، والمعاهدات العسكرية، ومشاريع الإمبريالية العدوانية في تمزيق المنطقة ودق إسفين الفرقة والتحارب بين شعوبها، واستلام مصر للأسلحة والمساعدات السوفيتية التي مكنتها من الدفاع عن حرية بلادها واستقلالها الوطني وسيادتها، والتحركات الشعبية العربية، والمقاومة للحكومات والمستعمرين، في تفجير حالات الاستياء والتذمر من جهة والتفكير بمهمات الجيش ومسؤولياته إزاء الشعب ومصيره من جهة أخرى. الأمر الذي شكل أساسا ملائما لتأسيس منظمات الضباط الأحرار والجنود وضباط الصف خلال الفترة 1952- 1956، والتي اندمج بعضها بعد ذلك أو عمل منفردا، كما كان هناك ضباط ساخطون على الأوضاع ولم ينضموا إلى هذه المنظمات، بل دعموها أو لم يعرقلوا نشاطاتها السرية الثورية.
وبحكم طبيعة هذا النشاط السري، الثوري، لم تتوفر معلومات دقيقة موثوقة، غير منحازة عن بداياته وعن عناصره الريادية، خاصة وهو داخل المؤسسة العسكرية السرية أساسا، ولم تتوفر الوثائق أو النشرات التي تشير إلى ذلك، لان ما نقل عن امتناع كتابة محضر أو تسجيل أية توجيهات بحكم السرية وخطورة الأمر حرم التاريخ من توثيق هذا النشاط للحركة الثورية داخل الجيش. إلا انه من المؤكد في الأخبار، والمعلوم من خلال ما كتب من ذكريات عدد من العاملين في الحركة، بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، أوضح أن البدايات انطلقت عام 1952 (15)، بعيد ثورة تموز المصرية، في الوقت الذي قاد الضباط المصريون الأحرار الثورة على الملكية وساندوا طموحات الشعب المصري، استخدم الضباط والجيش في العراق لقمع انتفاضة الشعب العراقي وضرب نضاله. الأمر الذي ترك أثره في تشكل البدايات.
اثر انكشاف أمر تنظيم عسكري سياسي، كان مجتمعا في محلة الكاظمية في بغداد يوم 7/10/1956، ضم الضباط رفعت الحاج سري، عبد الوهاب الامين وإسماعيل العارف، وازدياد أعداد الضباط الساخطين على النظام وامتداد الحركة الوطنية سياسيا داخل المؤسسة العسكرية، عقد في كانون الأول/ ديسمبر 1956، اجتماع في محلة العلوية في بغداد، في بيت ضابط متقاعد، اقر تشكيل لجنة عليا، واتفاقا على شؤون التنظيم وقسم الانتماء وسير أعمال المنظمة، وقد ضم الاجتماع كل من العقيد الركن محيي عبد الحميد، والعقيد الركن ناجي طالب، والعقيد الركن محسن حسين الحبيب، والعقيد المهندس رجب عبد المجيد، والمقدم وصفي طاهر، والمقدم الركن عبد الكريم فرحان، والرئيس الأول الركن صبيح علي غالب وصاحب الدار الرئيس الأول الطيار المتقاعد محمد سبع (16). والى جانب هذه اللجنة كانت تعمل لجان وخلايا في مواقع عسكرية في بغداد وخارجها، فكان هناك تنظيم معسكر المنصور القريب من مدينة ديالى، شرق بغداد، الذي ضم الضباط عبد الكريم قاسم، عبد السلام عارف، احمد صالح العبدي وعبد اللطيف الدراجي وتنظيم معسكر الناصرية الذي ضم العقيد شاكر محمود شكري وضباطا قوميين، وظل هذا التنظيم بعيدا عن نشاط اللجنة العليا للضباط الاحرار (17). وتنظيم الموصل وكان باسم تنظيم الضباط الثوار ضم المقدم الركن محمود عزيز والرئيس الأول محمد الجلبي والرئيس سالم سلو والرئيس حازم حسن والرئيس هاشم الدبوني والملازم كامل إسماعيل، وارتبط باللجنة العليا قبل ثورة تموز بفترة قصيرة. وكذلك التنظيم الذي يقوده الحزب الشيوعي العراقي داخل المؤسسة العسكرية، إضافة إلى روابطه بعدد من الضباط في التنظيمات الأخرى.
وبعد توسع حركة الضباط الأحرار بانضمام مجموعات لها، أعيد تشكيل اللجنة العليا المركزية لمنظمة الضباط الأحرار، فتكونت من الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيسا، الزعيم الركن محيي عبد الحميد النائب الأول للرئيس، الزعيم الركن ناجي طالب النائب الثاني للرئيس، العقيد المهندس رجب عبد المجيد سكرتيرا، والعقيد الركن عبد الوهاب أمين، والعقيد الركن محسن حسين الحبيب، والعقيد الركن عبد السلام عارف، والعقيد المتقاعد طاهر يحيى، والعقيد عبد الرحمن عارف، والمقدم المهندس رفعت الحاج سري، والمقدم الركن عبد الكريم فرحان، والمقدم الركن عبد الوهاب الشواف، والمقدم وصفي طاهر، والرئيس الأول الركن صبيح علي غالب، والرئيس الأول جو متقاعد محمد سبع أعضاء. وأغلبية هؤلاء الضباط من العرب المسلمين السنة، ومن الفئات الطبقية المتوسطة ومن مواليد أو سكنة مدن أو قرى من خارج العاصمة، بغداد. وقد وسم هذا التركيب الطبقي والاجتماعي والديني بطابع مجافاة التحزب واعتبار التنظيم العسكري "فوق كل الاتجاهات والميول الحزبية"، إلا أن الواقع العملي غير ذلك، إذ أن الضباط الأحرار لم يكونوا بدون مواقف وانتماءات سياسية أو اتصالات مباشرة أو بواسطة أعضاء حزبيين كما حصل بين رئيس اللجنة والحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الشيوعي، أو بين سكرتير اللجنة العليا وحزب الاستقلال، والضباط البعثيين.

الحزب الشيوعي والجيش في العراق:

أولى الحزب الشيوعي العراقي اهتماما مبكرا بالجيش، وبأهمية العمل بين صفوفه وتنظيم خلايا عسكرية، خاصة بعد قانون التجنيد الإجباري الذي وسع من قاعدة الجيش الاجتماعية، وجعله قطاعا كبيرا ومنظما من قطاعات المجتمع العراقي، ومؤسسة مسلحة ذات أهمية ودور في العملية الثورية في البلاد.
في انتفاضة سوق الشيوخ عام 1935، وجه الحزب الشيوعي بيانا إلى الجنود للوقوف إلى جانب الجماهير المنتفضة وحثهم على رفض الأوامر العسكرية، معبرا في ذلك عن إدراك مبكر لدور الجيش وتأثيره وطبيعته. كما انطلق الحزب في اهتمامه من خلال تطبيق أحد شروط القبول في الأممية الشيوعية الثالثة - الكومنترن - التي وضعها لينين، منذ تأسست عام 1919، المؤكد على "القيام بإلحاح ودأب وانتظام بالدعاية والتحريض في صفوف القوات المسلحة وتشكيل خلايا شيوعية في كل وحدة عسكرية. وهذا العمل انما سيضطر الشيوعيون إلى القيام بمعظمه سرا، ولكن رفض القيام بهذا العمل يعني خيانة الواجب الثوري ويتنافى مع عضوية الأممية الشيوعية" (18).
قد تأسس الحزب الشيوعي العراقي رسميا عام 1934، وتم له تنظيم أولى الخلايا في وحدة المخابرات الأولى في بغداد والفرقة الثانية في كركوك عام 1935، أي بعد عام من إنشائه، وانتشر التنظيم بسرعة، ولكن لقلة الخبرة انكشف أمره للسلطات عام 1937، فاعتقلت 65 عسكريا، حكمت على ثلاثة منهم بالإعدام وبأحكام مختلفة على الآخرين (19). مما يشير إلى فعالية الحزب وانتشار أعضائه أو قدراته التنظيمية ومحاولات تنفيذه للتوجيهات الحزبية والفرارات الأممية.
وتبين نشاط الشيوعيين داخل الجيش أثناء انقلاب الجنرال بكر صدقي عام 1936، وبعده، بالرغم من حظر النشاط السياسي ومنعه منعا باتا، لا سيما لنشاط شيوعي في الجيش. وقد سجل الميثاق الوطني للحزب الشيوعي فقرة خاصة عن الجيش، تعكس اطلاع الحزب على وضع المؤسسة العسكرية وظروفها، ودعا الميثاق إلى النضال "من اجل الاعتناء بالجندي العراقي المكلف، بصحته، وبتغذيته، وتثقيفه وتربيته التربية الديمقراطية من اجل إلغاء الأساليب غير الإنسانية المتبعة في الجيش، كالضرب والسجن، وإيجاد ضبط ديمقراطي في الجيش، وتنظيف الجيش من الرتل الخامس والعناصر الرجعية، ونناضل في سبيل جيش يخدم الشعب ويدافع عن استقلاله الوطني" (20)، كما تابعت صحافة الحزب السرية ومنشوراته الأخرى أوضاع الجيش والوحدات العسكرية، ومعالجة أحوال الجنود وتوعيتهم سياسيا وحثهم على المقاومة والنضال، وقد كتب عدد من الضباط الشيوعيين مقالات تعبوية بأسماء مستعارة في صحافة الحزب" (21). ولم ينقطع عمل الحزب السري داخل المؤسسة العسكرية ومعاهدها، وتنظيم الخلايا السرية، وقد تبين مثل هذا النشاط من خلال مشاركة الجنود في النهوض الوطني ومساهمتهم في مظاهرة حزيران/ يونيو 1946، التي قادها حزب التحرر الوطني، واجهة الحزب الشيوعي العلنية، وعصبة مكافحة الصهيونية، حيث ضربوا سياجا من الحراسة لصد هجمات الشرطة، وكانوا يغيرون على أفراد الشرطة ويردونهم على أعقابهم (22).
وعلى أساس العمل السري داخل المؤسسة العسكرية وكسب أفراد منها جنودا أو ضباطا، توج الحزب الشيوعي نشاطه بتأسيس اللجنة الوطنية لاتحاد الجنود والضباط، أواخر 1954، من أعضاء الحزب وأصدقائه وبإشراف مباشر من قيادة الحزب، وكلف عضو اللجنة المركزية للحزب عطشان ضيول الايزيرجاوي، الملازم السابق في الجيش، بهذه المهمة. وأصدرت اللجنة الوطنية صحيفتها "حرية الوطن" أوائل كانون الأول/ ديسمبر 1954، رافعة شعارات: "انقذوا جيشنا وشعبنا من مؤامرة التسلح الأمريكية"، "كافحوا لطرد الخبراء والمستشارين الإنجليز والأمريكان من الجيش العراقي"، "في سبيل صحة الجندي وتغذيته وتثقيفه والحقوق الديمقراطية لأفراد الجيش"، وكتبت في افتتاحيتها: "في سبيل ماذا نناضل؟" مايلي: "إننا نخبة من الجنود والضباط وجدنا لزاما علينا أن نساهم بكل ما بطاقتنا من اجل تبديل الأوضاع القائمة في مرتبات جيشنا المختلفة. لقد قيل لنا، بأننا نعمل في جيش وطني يعمل لحماية الوطن، ولكن الواقع هو أن الجيش العراقي تسيره زمرة من الأمريكان والانكليز وبعض النفعيين الذين لا يهمهم مصير الوطن وحال الجندي بقدر ما تهمهم الرتب والنياشين" (23).
وقد نشرت اللجنة الوطنية لاتحاد الجنود والضباط أول بيان لها مؤرخ في 30/1/1955، حثت فيه "الرجال الشجعان المكلفين والمطوعين الغيارى والضباط الشرفاء في كل الوحدات العسكرية، ممن يحبون وطنهم إلى الخروج إلى الشوارع بملابسهم العسكرية والالتحام بالشعب كتفا إلى كتف ضد الاستعمار وخونة الوطن" (24)، وكانت تضم الرؤساء الأوائل إبراهيم حسين الجبوري وفاضل البياتي وموسى إبراهيم، وعرف ضمنهم أيضا لفترات زمنية العميد إسماعيل علي، ووصفي طاهر، وكاظم عبد المجيد، وإبراهيم كاظم الموسوي، وأشير إلى الاتصال بالزعيم عبد الكريم قاسم ومعرفته بها عن طريق العميد إسماعيل علي.
وأكد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي في أيلول/ سبتمبر 1956، على انتشار الوعي الوطني في صفوف الجيش، وعلى أهمية دور القوات المسلحة الوطنية في الثورة الوطنية، وبعد الانتفاضة التضامنية مع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، واستخدام السلطات للعنف ضد الجماهير المنتفضة، وتوريط الجيش بمساعدة الشرطة في أعمال القمع والتنكيل، اتخذ مجرى العمل الوطني السياسي صيغة التحالفات السياسية، وتصعيد النضال المشترك ضد الحكم الملكي والمستعمرين الإنجليز والأمريكان، واستكمال مستلزمات التغيير الثوري للوضع القائم، وقد خاض الحزب الشيوعي نضالا واسعا في مختلف المجالات، مع القوى الوطنية في جبهة الاتحاد الوطني، وداخل المؤسسة العسكرية، حيث تمت اتصالات مباشرة بين الزعيم الركن عبد الكريم قاسم "قبل وبعد رئاسة اللجنة العليا للضباط الأحرار"، وقيادة اللجنة الوطنية لاتحاد الجنود والضباط، والحزب الشيوعي، وتم التنسيق والتعاون بينهم (25).
وبذل الحزب الشيوعي جهودا استثنائية مع الضباط الأحرار ومنتسبيه في الجيش، قبل تشكيل اللجنة العليا وبعدها، وكذلك في التنسيق بين اللجنة العليا وجبهة الاتحاد الوطني، عبر أعضائها وأعضاء في التيار القومي العربي في الجبهة. وكذلك في التعاون المباشر بين رئيس اللجنة العليا وقيادة الحزب في مسائل عملية خطيرة قبل ساعة الصفر لإعلان الثورة.

لقد وجه الحزب الشيوعي تعليمات خاصة إلى منظماته تؤكد على التأهب والاستعداد للأحداث الكبيرة، المرتقبة، مشيرا بذلك إلى دوره في الإعداد والإسهام في وحدة الجبهة الوطنية وقوتها الضاربة - الجيش.
إن هذا الدور للحزب الشيوعي عزز من مكانة الجيش في الحركة الوطنية، وطور قوة الحركة الوطنية وطاقاتها في تحقيق أهدافها ومهمتها الأساسية: مهمة الثورة الوطنية الديمقراطية في 14 تموز/ يوليو 1958. ( سجل عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي ثابت حبيب العاني في مذكرات له نشرها الحزب على موقعه الالكتروني مؤخرا (12 تموز/ يوليو 2013)، ان تسلسل وقائع الثورة سجل مساهمات متميزة للشيوعيين من الضباط وضباط الصف والجنود في القطعات العسكرية التي تحركت في الرابع عشر من تموز للإطاحة بالملكية. فقد كلف سعيد مطر بالتوجه صوب معسكر الرشيد لاعتقال رئيس أركان الجيش رفيق عارف والسيطرة على المعسكر ضمن وحدة من الضباط وضباط الصف والجنود. وتوجه علي شريف، من أهالي السليمانية، ضمن مفرزة عبد اللطيف الدراجي للسيطرة على وزارة الدفاع ومديرية الشرطة العامة ومتصرفية لواء بغداد. كما توجه مصطفى عبد الله مع مفرزة مدرسة المشاة في الوشاش إلى قصر الرحاب لدعم القوى التي تحاصر القصر، ولعب دوراً مهماً في السيطرة على القصر وجُرح خلال ذلك. وقاد عبدالرزاق غصيبة مفرزة المدرعات من كتيبة صلاح الدين لإسناد القوى التي تحاصر القصر. أما المفرزة التي توجهت إلى بيت نوري السعيد فكانت بقيادة الشهيد وصفي طاهر ويرافقه بهجت سعيد الذي ارتبك قبل ان يصل إلى البيت، وأطلق عيارات نارية بلا هدف، مما اعطى الفرصة لنوري السعيد بالهرب الى بيت دكتور في منطقة الكرادة الشرقية، لا أتذكر اسمه. وقام هذا الدكتور بنقل نوري السعيد الى بيت الاستربادي في الكاظمية. أما المفرزة التي توجهت إلى مقر قوات الشرطة فلم يشارك بها أحد من رفاقنا. وشارك في المفرزة التي توجهت الى الاذاعة رفيقنا كمال نعمان ثابت. ومع ذلك لم تكن مساهمة رفاقنا بمستوى قوى الحزب الموجودة في القوات المسلحة. كما لعب الشيوعيون العسكريون دوراً هاماً في شل محاولات التعرض للثورة وإحباطها، وخاصة تحرك قائد الفرقة الأولى عمر علي في الديوانية. ويشار هنا إلى مبادرات الرئيس الاول كاظم عبد الكريم والرئيس جواد كاظم النعيسي والملازم الأول احسان البياتي في السيطرة على مقر الفرقة الأولى. كما لابد وأن أشير إلى الموقف المؤيد للثورة الذي أبداه العقيد طه البامرني آمر الحرس الملكي في قصر الرحاب.
وما دمنا نتحدث عن دور الشيوعيين العسكريين في انجاح الثورة، فإنه لمن الأمانة الإشارة إلى مأثرة الملازم الأول رشاد سعيد، آمر مخازن العتاد في معسكر منصورية الجبل، الذي زوّد لواء الثورة (اللواء العشرين) بالعتاد سراً أثناء توجهه إلى الاردن عبر العاصمة خلافاً للأوامر المشددة التي تمنع تزويد القطعات التي تمر عبر بغداد بالعتاد.) (وأضاف في صفحات اخرى له: من الشخصيات العسكرية التي لعبت دوراً في تكوين تشكيلات سياسية مناهضة للحكم الملكي يمكن ان نشير الى عزيز عبدالهادي (مقدام) الذي كتب فهد كراس "حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية" ردا على سؤاله لدى تواجده في السجن. وكذلك الضباط سليم الفخري وغضبان السعد وطه الشيخ احمد وجلال الأوقاتي وحسين خضر الدوري ومحي عبد الحميد ومير حاج. وكان الشهداء مصطفى خشناو وعزت عزيز وخيرالله عبدالكريم ومحمد محمود القدسي وقد إلتحقوا بالحركة الكردية عام 1945 بقيادة البارزاني واعدموا جميعاً بعد انهيار جمهورية مهاباد. وقد أثر ذلك على منتسبي القوات المسلحة. ومن قاعدة الجيش برز الكثير من نشطاء الجنود وضباط الصف في النشاط السياسي للحزب الشيوعي العراقي كجنود مجهولين ومنهم عمر ألياس والعريف عجيل. ولم يوقف هذا النشاط التهديد بالإعدام وفق المادة (189) التي اصدرها الحكم الملكي لمعاقبة مروجي "المبادئ الهدامة" في القوات المسلحة .كما برزت شخصيات عسكرية ديمقراطية وقومية على علاقات مباشرة وغير مباشرة بالحزب مثل الزعيم الطيار الركن جلال جعفر الاوقاتي، الزعيم الركن محيي عبدالحميد، الزعيم الركن ناظم الطبقچلي، العقيد الركن عبدالوهاب الشواف، الزعيم الركن داود الجنابي، الزعيم الركن هاشم عبدالجبار، العقيد حسن عبود والعقيد الركن عبدالرضا عبيد والمقدم الركن موسى ابراهيم والعقيد طه سلطان، العقيد سلمان الحصان والعقيد طه البامرني والعقيد فاضل المهداوي والعقيد الركن ماجد محمد امين والعقيد الركن كافي الببوي، العقيد الركن عبدالله سيد احمد، العقيد جلال بالطه، الرئيس الاول فاتح الجباري، الرئيس رسول مجيد، المقدم لطيف حسن والمقدم محمد عبدالغفور والمقدم ابراهيم الغزالي، الرئيس الاول كاظم مرهون والمقدم عدنان الخيال، العقيد وصفي طاهر، المقدم غازي دخيل، العقيد عبدالباقي كاظم، والعقيد الركن مجيد علي، المقدم محمد علي كاظم، المقدم جواد كاظم النعيسي، المقدم كاظم عبد الكريم، المقدم ابراهيم كاظم الموسوي والمقدم عمر الفاروق وغيرهم الكثيرون. كان الاثر المباشر لانتشار الافكار الوطنية وتنظيمات الحزب في الجيش العراقي انه لم يعد ينفذ اوامر الحكومة بضرب التحركات الشعبية او يتلكأ بالاستجابة لتلك الاوامر كما حدث في انتفاضة عام 1952).
وضّح هذا النشاط للحزب إدراكه المبكر لأهمية الجيش الوطني في الثورة الوطنية، وحسم الصراع السياسي والاجتماعي لصالح الشعب ضد حكامه الطغاة والمستعمرين المحتلين، وعكس قدرة الحزب ومكانته في جذب الطاقات الكامنة في هذا القطاع المهم والفعال، وتحويل هذا الذراع المسلح زخما دافعا إلى قوة الحركة الوطنية.


الهوامش

1. ينظر مقالة
Paul P. J. Hemphill, The Formation of the Iraqi Army, 1921- 1933.
P 96 in -The Integration of Iraq. London.
2. ينظر نصوص المعاهدة في كتابه: الشبيبي، حسين: الاستقلال والسيادة الوطنية.
3. Al Arif, Ismail, Iraqi Reborn P38.
4. Batatu, Hanna, Ibid, P 765.
والحبيب، محسن حسين/ حقائق عن ثورة 14 تموز في العراق/ ص 47،
ويذكر في الهامش رقم 1 في ص 97 بان الشيعة في حزب النهضة العراقي احتجوا على السنة ومسعاهم في السيطرة من خلال الجيش.
5. السامر، ب/ ملاحظات في طبيعة القوات المسلحة/ الثقافة الجديدة/ ع 145 آب 1983،
وكذلك الحبيب/ مصدر سابق/ ص ص47ـ 48.
وياغي، اسماعيل احمد/ مصدر سابق/ ص 20.
6. ميرسكي، ك و / الجيش والسياسة في بلدان اسيا وافريقيا/ ص 146.
7. ينظر تفاصيل في: جميل، حسين/ الحياة النيابية في العراق/ مصدر سابق/ ص 99،
وكذلك نص خطاب الوصي الذي أذيع في بغداد ليلة 14 تموز 1941، ونشرته الصحف في اليوم الثاني.
8. F.O. 371- 27062-27062
وترفع البعثات البريطانية العسكرية تقارير شهرية، وفصلية ونصف سنوية مفصلة عن الجيش، أعدادا وعدة، إدارة وإشرافا.
9. ينظر في الحبيب/ مصدر سابق/ ص ص 41ـ 43، وكذلك:
كنه، خليل/ مذكراته/ ص 168، والهاشمي، طه/ مذكراته/ ص 16،
والدره، محمود/ الحرب العراقية ـ البريطانية لسنة 1941/ ص 412.
10. فهد/ مقالاته في جريدة "حرية الوطن" ع 2 - أواخر كانون الثاني 1955.
وفعلا نفذ المستعمرون أوامرهم في الضباط، فمثلا عند قيام الحركة الكردية في ثورة بارزان الأولى عام 1945، وانضمام عدد من الضباط الأكراد إليها، اعدم منهم بعد قمعها الرؤساء عزت عبد العزيز، ومصطفى خوشناو، والملازم محمد محمود قدسي.
11. د. حسن، محمد سلمان/ دراسات في الاقتصاد العراقي/ ص 325.
12. فدجنكو/ مصدر سابق/ ص87.
13. ينظر في ملفات الشرطة عن الانتفاضة، وحميدي/ مصدر سابق/ ص ص711ـ 726.
14. لوسيف، وتيوسوفسكي/ الشرق الأدنى ـ النفط والسياسة/ ص16.
15. يرى د. فاضل حسين إن الضباط العراقيين تأثروا بتنظيم الضباط الأحرار المصريين في كثير من مقدماته وتنظيمه. "يراجع كتابه، سقوط النظام الملكي في العراق ص ص53 –54 وص 60 "، ويتفق مع هذا الرأي عدد من الكتاب المؤرخين كالدكتور مجيد خدوري في كتابه العراق الجمهوري، والأستاذ حنا بطاطو في كتابه المصدر المشار اليه اعتمادا على لقاءات أو حوارات مباشرة أو منقولة مع عدد من الضباط الأحرار العراقيين الأحياء. وجرى التعليق على ما نشر تحت "مذكرات عبد السلام عارف" من لقائه بالضابط رفعت الحاج سري في ليلة من ليالي كانون الأول/ ديسمبر 1952، ليتباحث معه عن مهمة الجيش، بينما يفيد الحبيب في مذكراته المشار إليها أن رفعت الحاج سري هو أول من بادر إلى تشكيل خلية سياسية في الجيش. ويتفق مع هذه المعلومة رجب عبد المجيد في مذكراته المخطوطة التي نقل عنها الأستاذ بطاطو في كتابه ص770، وكذلك يشير إسماعيل العارف في كتابه السابق عن دوره مع سري في المبادرة، وفي كسب عبد الكريم قاسم إلى الضباط الأحرار.
16. الحبيب/ مصدر سابق/ ص51، ويضيف الأستاذ بطاطو إلى الأسماء المذكورة العقيد الركن عبد الوهاب الامين، والعقيد المتقاعد طاهر يحيى، بينما يذكر غيره تغيب المقدم رفعت الحاج سري، والعقيد الركن الامين.
17. الجبوري، احمد/ ثورة 14 تموز والجيش العراقي/ الثقافة الجديدة/ ع 199ـ 200.
18. لينين/ حول وحدة الحركة الشيوعية العالمية/ ص 260.
19. خيري، زكي وسعاد/ مصدر سابق/ ص 39.
20. كتابات الرفيق فهد/ مصدر سابق/ ص 135.
21. ينظر في أعداد القاعدة، ومنها مثلا العددان / 2- 15 و 9- 12، ك2- 1944 وآب 1944.
22. أبو سعد/ نشاط الحزب الشيوعي العراقي للتأثير في المؤسسة العسكرية/ الثقافة الجديدة/ ع 154.
23. جريدة حرية الوطن العدد الأول/ أوائل ك1/1954، الافتتاحية موقعة باسم اللجنة الوطنية لاتحاد الجنود والضباط.
24. بطاطو، حنا/ المصدر السابق/ ص793.
25. ن.م. والجبوري احمد أيضا، وكذلك نقلا من: فتح الله، جرجيس/ العراق في عهد قاسم/ من ذكريات إبراهيم الجبوري/ص ص498ـ 499، وهناك أسماء كثيرة ترد دون معرفة انتماءاتها السياسية لنا، وكذلك هناك خلط غير دقيق بينها.
فهناك مصادر تقول بانتساب عبد الكريم قاسم، وأخرى تشير إلى اتصاله باللجنة الشيوعية والحزب الشيوعي مثلا، دون توثيق تاريخي موضوعي. ومنها ما اشار له ثابت حبيب العاني في مذكرات له نشرها موقع الحزب الشيوعي، بان عبد الكريم قاسم، كان على "اتصال بالحزب الشيوعي"، وكان قد بادر بإعلام الحزب بخطة الثورة. مما دفع الحزب إلى إصدار توجيهاته والاستعداد للحدث.




* بحث كتب اواسط الثمانينيات من القرن الماضي لمتطلبات الدراسة، عن الحركة العمالية في العراق من الحرب العالمية الثانية والى ثورة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958، ونشر في كتاب بعنوان، العراق: صفحات من التاريخ السياسي، ط1، السويد 1992، ط2 دمشق 1998، ط3 القاهرة 2008.

- اعادة نشره بهدف تعميم الفائدة وخدمة التاريخ السياسي في العراق، وربط الحاضر بالماضي للمستقبل.



#كاظم_الموسوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق: البعبع! *
- العراق: تحالفات سياسية*
- العراق: أحزاب وسلطة *
- العراق: البحث عن استقرار
- الاسلمة السياسية في العراق
- دروس من تركيا
- التحديات الامنية في المنطقة
- وصمة عار لا تمحى
- الاول من ايار.. عربيا
- عشر سنوات.. الانسان موقف
- عشر سنوات.. والعراق جريح
- بعد عامين.. الى اين؟
- قمة تقسيم العالم العربي
- عدم الانحياز وحكم القانون
- الوحدة الوطنية صمام الاستقرار
- غائب وغالب
- صراع القهر وعبد الصبور
- إدريس والعالم
- تنوير العقل عبر ثقب إبرة
- يتكلمون بغير ألسنتهم..!


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم الموسوي - العراق: جيش وسياسة