أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - الجندي الأيطالي والمتحف السومري















المزيد.....


الجندي الأيطالي والمتحف السومري


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 1203 - 2005 / 5 / 20 - 07:37
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة :

الذي يعنيني في هذه الحكاية كلها هو آثار مدينتي و متحف الناصرية الذي بناه الثري الأرمني كولمبنكيان الذي كان قبل تأميم النفط يملك 5% من نفط العراق . في اعتقاد منه أن هذه المدينة التي تقع في سوادها الشمالي الغربي واحدة من أعرق مدن التاريخ ، مدينة آور الأثرية التي ذكرت من بين مدن قلائل في التوراة،على أنها المدينة التي ولد فيها نبي التوحيد إبراهيم الخليل ع .
غير أن المتحف والذي صمم بهندسة جميلة ويقع بمحاذات المتنزه الوحيد ، ولكنه كان منطقة ساحرة غناء قبل أن تهمله البلدية ويصبح وكراً للمدمنين والشقاوات وموابق أخر، بقي من دون أثريات حقيقية ، فأغلب ما موجود فيه كان عبارة عن نسخ جبسيه لأثريات هي الآن غائبة حتى عن متحف الدولة الوطني الذي نهب شر نهبة في الأيام الأولى للحرب الأخيرة التي أتت بجيش بابا الفاتيكان ليصير ضيفاً بكامل عدته العسكرية على المدينة التي حظها مع الجنود مثل حظ الغمامة مع الرشيد فأينما تمطر هي من خراجه .
كان الصباح الشتائي يقطر برداً جافاً .عندما قال لي صديقي الأديب والمترجم أمير دوشي الذي يتألم لفوضى السلب الذي تتعرض له آثارنا للبلاد التي ما تركت عصرا من عصورها إلا والأجانب يشربون الخمرة في حاناتها ، والسبب كما في كل مرة : ولاتنا الظالمون .غير أننا منذ عهد سومر ورغم كل ما يحدث نبدل رؤانا بأخرى لنصبح مثل عنقاء ترى في الولادة الجديدة خلاصا لكل الاضطهادات التي مررنا بها.
قال الصديق أمير:لأنك مهتم بالبعيد الذي كانت تعيش فيه مدينتنا فبإمكانك أن ترافقنا غدا صباحا نطارد العابثين بالتلول الأثرية الواقعة في قضاء الرفاعي من بعض أهالي المناطق التي تقع فيها هذه التلول .
قلت:أود ذلك .وهل بالإمكان أن أجيء بسيارتي الخاصة .
قال : كلا ستركب المدرعة معنا.
قلت : المدينة تعرفك مهتما بالآثار ومترجما في دائرتها .وغالبا ما يلجئون إليك للاستفادة من خبرتك . أما أنا فقد ينظر الى الأمر من وجهة أخرى.
قال :نحن ننطلق في الساعة الخامسة صباحا .حيث لا أحد سيشاهدك .وفي العودة بإمكانك النزول قبل أن ندخل المدينة.
وكما يقول المصريون رأيتها { فكرة مش بطالة } فتوكلت على الله ورضيت . رغبة في مشاهدة ما يحكى عن الدمار والعبث الذي لحق بتلك المناطق الأثرية حيث يتم الحفر من قبل الأهالي بصورة عشوائية وبالمعاول التي تكسر الفخار الذي يصادفها وتخرب أسس المدن القديمة التي أظهرت مديرية الآثار العامة بعضا من ملامحها على أن يستكمل البحث ما أن تنتهي أزمتنا مع أمريكا وكان الجميع يعتقد أن سرجون الذي يفضل السيجار الكوبي الفاخر سيتخلص من إحراج البوارج مثل كل مرة . ويقال أنه في هذه المرة رأى الشرر يتطاير من عيون الرئيس جورج واشنطن فقرر أن يعطي عمداء الواحد وخمسين ولاية حصصا متساوية من نفط حقول مجنون والرميلة وبابا كرر، لكن الخلاف الذي اشتعلت به الحرب كان على النسبة المتدنية من هذه الحصة التي يمكن أن تصيب ذات الأصل الأفريكاني مستشارة الأمن القومي لولاية لكش . وكما تقول الألواح حدث الذي حدث .وكانعكاس لتلك المجريات التي رفعت من دخل الموظف { الغلبان } ولكنها عجزت عن رفع السيارات المفخخة من الأماكن العامة.راح كل واحد يعبث بتراث بلده الجميل بطريقته الخاصة .وأذا كان هناك أرشد ياسين واحد من يشتري التحف الثمينة والآثار صار لدينا اليوم {آلاف الأرشدات}، وهم عكس سائق مروحية الرئيس يشترون منك المنحوتة بالرقم الذي تطلبه ،وباليورو ، لأن التزوير في الدولار شائع هذه الأيام .وحدثني السيد عبد الأمير الحمداني أمين متحف المدينة عن قصص مروعة للنهب الذي يتم في وضح النهار وأمام أعين الحراس الذين لاحول لهم ولاقوة .والمؤلم مانقله لي أحد المعلمين في المنطقة إذ كان مدعوا الى الغداء عند أحد الفلاحين في تلك المنطقة وحين ذهب ليقضي حاجة في التواليت الذي شيده الفلاح في العراء أمام بيته . ذهل عندما رأى أن أرضية التواليت هي بلاطة أثرية نحتت فيها أشكالاً لوجوه سومرية غابت ملامحها بسبب كثرة دوس الأرجل عليها وقت الاستعمال .قصص كثيرة . منها ما يضحك ، وآخر مبكي ، فلقد وصل الأمر ببعض المسؤولين الحزبيين أن يطلبوا تحفا أثرية بدل المال ، وهذا كان متبعا كي يعفى أحدهم من قواطع الجيش الشعبي .فعندما يعلن النفير في مدن السلالات أن أيلام شنت هجوماً على قاطع ديزفول . يهب الفلاحون الى التلول المتناثرة في مساحات شاسعة من الرمل الناعم كي يحفروا ،عسى أن يحظى أحدهم بختم أو تمثال صغير يبعد فيه عن نفسه شر القاطع الجديد.وهكذا تكون العلاقة بين فلاحي المثلث الأثري وهو ما يطلق على المناطق الواقعة بين الناصرية والديوانية نزولا حتى ناحية الدواية ، وبين النائمين في عمق هذه التلال من أهل سومر . علاقة مصائب قوم عند قوم فوائد!
تلك هي الأسباب التي دفعتني لأقبل شيئا من الإحراج وأصعد في مدرعة محتل وأنا في أرض وطني متذكرا قصيدة كنت حفظتها من ذلك الداغستاني الجميل الذي يدعى رسول حمزاتوف:
{ أرضى بأي إذلال..
غير ذلك الذي يجعل الغريب الذي يأتي من قومية أخرى
ليدوس على وردة حديقتك …
فأنه بذلك يستخف حتى بالدمعة التي لم تنزل من عينيك بعد }
ومرة أخرى أقولها وأنا أشد حزنا من {آبي ـ سين }الذي فعلها وأنتحر حين رأى آور تحترق.أقول السبب ولاتنا الطيبون الذي ظلوا مثل ببغاء المهراجا يرددوون بصوت منتظم {:يا شبل زين القوس سلم على القسطل..وقل له عدنا .عدنا ولن نرحل .}
المهم أن الإمبراطوريات ترحل كما السفن .هكذا يقول المؤرخ { توينبي }.وهاهم ورثة يوليوس قيصر يأتون الى الناصرية .وكأنهم يحققون حلم الإسكندر المقدوني الذي نال المنية على أرض العراق قبل أن تنالهم المنية في الناصرية جراء سيارة أرهابية مفخخة.وكان حلم القائد المقدوني أن يرى أرض سومر .حين أطل من قصره على الأفق الجنوبي وتساءل : أي أرض هناك ؟
فقيل له أرض سومر.
قال :أتمنى أن أراها.
لكنه لم يرها وأصيب بالكوليرا ومات . وبعده بآلاف الأعوام أصيب حفيد له بنفس المرض ومات وفي ذات البلد وكان مثل جده غازيا وهو:الجنرال الإنكليزي مود .والذي كان له تمثال وسط بغداد.وأخذ السيد بوش بنصيحته ولم يلب أمنية أحد ساستنا قالها عبر فضائية ما بأنه يحلم بإقامة تمثال للسيد بوش في ساحة الفردوس وسط بغداد.
ومثل لص بكرت مع أول خيط لضوء الفجر وذهبت الى حيث المكان الذي طلبني صديقي المترجم أن أنتظره.نصف ساعة ووجدت نفسي وسط المدرعة وقد تمالكني ضيق لم أر مثله في حياتي وأحسست كمن يتلاشى داخل نفسه وأنا أنظر بريبة وأستشفاق الى الجنديين الإيطاليين اللذان جلسا بقربي وهزا رأسيهما لتحيتي فأعدت أليهما التحية بابتسامة مرتعشة ومتخاذلة . وتمنيت أن يكون أمير معنا في نفس المدرعة ،لكنه أرتكن مثل جنرال الى جانب الكابتن أمر الدورية الذي حين رآني قبل صعودي المدرعة أبتسم هو الآخر فرفعت له يداً مرتعشة ولكنها عالية كمن يثق بقدراته .
كان الرتل يسير بأرض زراعية ،وكانت هناك تلال من الرمل المعتم تنتشر هنا وهناك .وقد أردت أن أقتل رتابة الطريق والمطبات التي بدأت ترفع المدرعة وتنزلها .فسألت أحدهم .أن كان يجيد التحدث بالأنكليزية .فأجاب :كلا أيتليانو فقط .
الجندي الأخر قال : نعم أنا أعرف الإنكليزية .
ولأنني أعرف أن الثقافة والسينما تكادان أن توحدا الشعوب.لكني اخترت اختصاصي .وهو الأدب وقلت :أنا أعرف عن الأدب الإيطالي الكثير منذ عهد روما القديمة .وكنا في طفولتنا إذا أراد أحدنا يستعرض ذكورته أمام بنت الجيران يمسك سيفا خشبيا ويقلد ستيف ريفس الذي أشتهر بدور هيركلس البطل الإغريقي الأسطوري.
قلت : أننا العرب نعرف عن التراث الرومي أكثر من أي تراث آخر بسب الحقب الاستعمارية التي توالت علينا منكم .
أبتسم الجندي وقال :أذن نحن الآن مستعمرون ؟
قلت :أنت تقدر ذلك .
ـ أنت مثقف ،وأنا أقدر مشاعرك .وأنا هنا لأؤودي واجبا براتب مغر . تركت والدتي العجوز في ميلانو مريضة جدا .وأجور المستشفى عالية . أنها مريضة بالسرطان .
ـ ربما هذا أمر خارج أرادتك لا نريد أن نناقشه الآن . فقط أردت أن أشعرك أنكم لم تأتوا الى أرض يباب كان يحكمها البرابرة.
ـ رغم كل شئ علي أن أحترم مشاعرك . ويمكنك أن تعتبرني صديقا .
ـ الصداقة في عرفنا ترتقي الى مرتبة الأخوة . لو جئت سائحا أو باحثا أثريا فالأمر يختلف ، ورغم هذا فأنت لست عدوي ولست صديقي.
ـ الأمر مرتبك بالنسبة لك أو هكذا أظنه .
ـ ربما أنت على حق. ما حدث ويحدث ليس بالأمر الجيد ولا السيئ في الوقت نفسه . ثمة غموض في الصورة .أنتم قتلتم فينا هاجس الخوف . وفتحتم لنا أملا بحياة جديدة .غير أنكم لم توسعوا دائرة الأمل وتوضحوا لنا ما لذي تريدونه بالضبط .النفط .آثارنا، خرافة الزئبق الأحمر الذي يقال أن خزينا هائلا منه في منطقة العمارة .هل تريدون أميراتنا ليصرن عارضات أزياء في دور العرض بباريس وروما.؟
ـ لست سياسيا لأجيب .الأمر من وجهة نظري واجب عسكري تمليه علي وطنيتي كإيطالي وبعض الظروف الخاصة .
ـ لنقلب الأمر . وهذه المدرعة تسير في نابولي وهي محتلة .وكنت أنا الجندي .وأنت المثقف الإيطالي ، ماذا كنت ستفعل ؟
ـ إذا كان ذلك في زمن موسليني فسيكون شعوري . مثل شعورك هذا . لست عدوك . ولست صديقك.أما عدا ذلك فسوف أقاومك طبعا . فأنت عدوي وعلي أن أخرجك من بلادي .
ـ وجودك أذن أرتهن بسبب . أقدره أنا بوعي من ثقافتي وبسبب مرجعية من المعاناة لشعبي . هذا أمر جيد . ولكنك ينبغي أن تفهم أن ثمة شعورا عاما لدى العراقيين .أن الأمر فيه بعض من غصة في الحلق .كان ينبغي أن يسقطه الشعب .كما فعلت روما ضد قياصرتها المستبدون مثلا .؟
ـ هذا من حقك . مرة أخرى أعرض عليك صداقتي.
ـ أنت أنسان من بلد متمدن . ولست من البرابرة .ولكنك جندي .صداقتك لرجل من بلد أنت تحتله لا تضيف لك شيئا .لأنك لن تستطيع أن تمارس معه أي طقس لهذه الصداقة إلا بحدود مساحة هذه المدرعة .وهي أشبه بزنزانة من حديد .والصداقات الجميلة قد لاتولد في الزنزانات ،هي تريد حرية وفضاء واسع.قل لنعتبرها صداقة مؤجلة.
الى هنا انتهى الحديث مع الجندي الذي قبل ذلك استعرضت له معرفتي البسيطة بالأدب الإيطالي وقلت له :أنني من أشد المعجبين بأيتاليو كالفينو.وأنا من المتأثرين جدا بتحفته الرائعة{مدن لامرئية}.وقلت له أن أكثر المثقفين العراقيين يربطون مراهقتهم بألبرتو مورافيا . وأن مسرح مدرسي في الناصرية قدم ذات مرة مسرحية للويجي براندلو .وأن نساء المدينة يتمنين أن يكن بجمال المونليزا الفلورنسية . وأن أثمن حذاء عندنا هو الحذاء الإيطالي ،وأن المعلمين في الناصرية يفضلون ارتداء ربطة العنق الإيطالية ،وأن الكثير من رسامي المدينة يعتاشون اليوم قرب مبنى الكابتول من رسم الموديلات الى السياح .وأني شاهدت أكثر من ستة أفلام لصوفيا لورين وهي تشارك ما ستيريو ماستروني البطولة .وأن أفلام ترنتي لبود سبنسر وترانس هيل كانت من الأفلام المفضلة لدينا . وأن جميع أطفال مدارسنا قد شاهدوا فليم عمر المختار .وعرفوا أنكم أعدمتموه ظلما أكثر من معرفتهم للأعدامات الكثيرة في بلدهم .
أبتسم .وتعجب أيضا ،لكنه أبدى استغرابه من أسم كالفينيو فهو لم يسمع به مطلقا .وقال مازحا يبدو أنك تعرف إيطاليا أكثر مني .؟
ـ ربما لأن إيطاليا تمتلك شيئا من النفس الشرقي .عكس دول الغرب الأخرى لأن حضارتها عبر قرون عديدة امتزجت بحضارتنا .منذ هيروديت والإسكندر.
قال بمكر:والإنكليز أيضا؟
قلت :الإنكليز حديثي العهد معنا.وهم عكسكم تماما لم ينحتوا منحوتة واحدة في بلادنا ، فيما أثاركم تملأ البلاد العربية.
ـ هذا يعني أننا جيدين؟
ـ أبدا لم يكن أي استعمار جيد في يوم من الأيام ، كل مافي الأمر النسب مختلفة.وأنتم ربما كنتم أقل وطأة علينا من الإنكليز.
ـ حتى في عودتنا هذه؟
ـ أرى في هذه المرة أنكم أجبرتم على العودة . ولوكان يقود بلادكم شخصا غير برلسكوني ربما لا تجيئون ألينا .والرئيس شيراك مثال لذلك.
ـ ربما.
مع ربما تلك ،توقف الرتل معلنا وصولنا الى المكان الذي كنا نقصده.وكان عبارة عن تلول متناثرة يشبه كل واحد منها ضرع بقرة .وحالما نزلنا من المدرعات حتى هرب الرعاة الذين كانوا يرعوا أغنامهم في المنطقة .أحد الأطفال أقترب من أمر الدورية غير عابئ بالجنود المسلحين ولم يتجاوز عمره الثانية عشر .طلب الكابتن من المترجم أن يسأله :أن كان الحفر من قبل اللصوص مستمرا.؟
فأجاب الطفل:نعم كل يوم .ولكنهم لم يحفروا اليوم لأنهم علموا بمجيئكم.
ـ ومن أخبرهم أننا سنأتي اليوم؟
رد الطفل مستهزئاً:العصفورة.
أبتسم أمر الدورية وقال ضاحكا :أنت طفل نبه وذكي .أعطوه علبة من المواد الغذائية.
رد الطفل بعنف :لا أريدها ..أن فيها لحم خنزير.
وضح أمير الأمر لأمر الدورية الذي أبتسم إعجابا بشخصية الطفل وتقدم ليهنئه على جوابه الشجاع ،لكن الطفل تراجع مسرعا وتوارى عن الأنظار.
كانت الظهيرة قد عكست على المكان أشعة من فضة،رسمت في مخيلتي أطيافا من البعيد الذي أعشقه كما تعشق السمكة الماء الجاري،فقد أيقظ في المنظر الساحر للأثر هواجس أحلام كنت أود أن أعيشها مع ساكني تلك المدن المندرسة تحت الرمل ، وكنت قد أدنت ذلك في مقالة قديمة عملية الأيقاظ المتعسف الذي يقوم به اللصوص من خلال التهشيم والتجريف للأثر النائم تحت الرمل،حيث الهدوء وسكينة الأزمنة،وحيث النوم الهادئ للحجر المنقوش برغبة الآلهة لتكون لها سر مديتها .على كل ما يتعامل به الإنسان ،كأس الشراب ،الأختام ،المكاييل ، مواثيق البيع والشراء.كانت ترغب أن تكون موجودة حتى يحس الأنسان بعظمتها ولا ينساها أبدا.
راح أمير وملاحظ الآثار يشرحان الى أمر الدورية ما تحوي هذه الأرض من أثار.وأشارإليه بأن هذه المناطق الممتدة على مساحة عشرات الكيلومترات كانت مهدا لسلالات سومرية أرت البشرية الجزء المشرق من حضارة العقل .
قال آمر الدورية :أن في باطن أرضكم عدا النفط كنوزا كثيرة وأهمها هذا التراث الهائل من المدن النائمة تحت الأرض بكامل مجوداتها .الفرق بين أثاركم وأثارنا أن أثرنا موجود فوق الأرض.ولقد مللنا رؤيته .أثاركم لازال أغلبها في باطن الأرض لهذا فهي محط فضول الجميع .
أنا نأيت عن الحديث . فالرجل أراد أن يبرر لجنوده المتعبين من مطبات الطريق الزراعي سبب المجيء فأخذت قدمي الى المواقع التي تباعدت فيما بينها مسافات متباينة ولكنها تدل على أنها كانت وحدة سكنية كبيرة .وأشبه ما تكون بمدينة صغيرة أو قرية كبيرة جدا .وكان بودي أن أسأل ملاحظ الآثار عنها ،غير أن السيد عبد الأمير الحمداني كان منشغلا في شروحا تفصليه لأمر الدورية.
تجولت في المكان .كانت النسائم الباردة للخريف الجنوبي تشعل في صدري بهجة حرمت منها منذ أن صودر متحف المدينة ليكون مقرا للقوات الأمريكية التي دخلت الناصرية في ثان أيام الحرب ،ثم سلمتها بعد انسحابها الى القوات الإيطالية .وكنت قد شعرت بشيء من الراحة عندما دعاني الجندي الإيطالي{سيموني}الذي تعرفت عليه في المدرعة أثناء الطريق .الى تناول الشاي معه في القاعدة رغم رفضي لعرض صداقته.إلا أن شوقي الى رؤية المتحف دفعني الى قبول دعوته على شرط أن يكون معي صديقي المترجم أمير .
انتهت جولتنا، لم تكن جولتي ذات فائدة سوى ذلك النقاش الذي أعتقد أني جعلت به الجندي سيموني يدرك أننا متحضرون ولسنا قطيع تقوده البارجات الى المرعى . أما المكان الذي قصدناه ،فقد آلمني ما شاهدت فيه .فلقد تمزق ثوب الزمن هنا وحفر العابثون أخاديد شرسة بمعاول لاترحم حتى الحجر الصلب ،وقد أراني أمين المتحف أجسادا للإلهة من الحجر وقد تحطمت وبدا شكلا منها أنه تمثال للملك كوديا ولكن لم يبق منه سوى صدره المندفع بكبرياء وهو في جلسته الشهيرة ،هذا الصدر الذي حمل واحدا من أحلام التاريخ الخالدة.
كانت كسر الفخار المبعثرة تدل على أن العبث كان يزاول منذ سنين طويلة .ولكنهم لم يكونوا ذوي دراية بما يفعلون لهذا كانت معاول اللصوص تهشم عشر تماثيل لصالح تمثال واحد، ربما أقل قيمة مما هشم ،وعندما أخبرته بقصة البلاطة الأثرية الموجودة في التواليت البدائي لأحد فلاحي المنطقة .قال أنه قرأ في مذكرات الحاكم المدني لمدينة الشطرة أيام الاحتلال البريطاني الأول للعراق، أن مجمل بيوت الشطرة وحتى بيته هو قد بني من الطابوق الأحمر الذي كان الأهالي يجلبوه من منطقة تلو الأثرية القريبة من مدينة الشطرة.
قلت: ثمة عبث دائم وإهمال مقصود حتى من الحكومات السابقة .
رد الكابتن: ولا أظن أننا نفعل شيئا . لنجعل الأمر مجرد نزهة.
نظرت الى الجندي سيموني نظرة ذات مغزى .فهم القصد .فالأمر قد لا يهمهم.
وزع علينا الغذاء المعلب .أنا أخذت بنصيحة الصبي الراعي ولم أتناول شيئا.
في طريق العودة ،لم يتطرق الجندي الى أي حديث ،فقد كان الجميع متعبين .فكرت أن أعتذر له عن حفلة الشاي المتواضعة في المتحف المقر .وكنت قد أبديت له لحظة العزومة أن المتحف بالنسبة لي مكانا خطرا كونه قاعدة عسكرية الآن ومقرا للقوات المحتلة!
أبتسم وقال : لاتخف فأن بابا الفاتيكان سيحرسه .
قلت يحرسكم أنتم وليس تراثنا الذي فيه .
ـ البابا طيب القلب . وما في المتحف من تراث جده إبراهيم .
انتفضت بغضب .قلت إبراهيم جدنا . كان عربيا حنفيا . كما في القرآن الكريم .
أبتسم مرة أخرى وقال :هو أبو الجميع .هكذا يقول البابا ،وأنا سمعت منه ذلك في عيد القديس بطرس.
قلت: لا أتمنى أن يحرس قداسته تراثنا فنحن الأجدر بذلك .
ـ ربما . ولكن ذلك تعويضا عن خيبة الأمل الني أصابته عندما منعت دولتكم قداسته من زيارة مدينة آور في بدء الألفية الثالثة.
ـ لسنا مسؤولين . كان الأمر شأنا سياسيا .وما يفعله اليوم قداسته ربما يندرج في خانة ذلك الشأن .
ـ أنت تتعمد الابتعاد عني في تقابلات الرؤى .لازلت خائفا مني كوني محتل.؟
ـ وهذا هاجس طبيعي .
ـ وتعبير عن حسن نية جديدة .عندما تزورني في المتحف سأهديك صورة ملونة للبابا . ولاتظن هذه الهدية عملا تبشيرا .نحن نعلم أن دينكم راسخ فيكم منذ أيام محمد . لكن هديتي إليك تندرج في فهم التواصل الحضاري.
ولأنني أردت أن أشعر الجندي بعدم الطواعية السهلة ، قلت :ستهديني صورة بابا الفاتيكان .أم البابا الذي يحرس المتحف الذي بناه كولمبنكيان؟
أبتسم وقال:أنت صعب جدا .لنقل الاثنين معا.
وصلنا الى أطراف المدينة حيث أضطرره الى نزول وإكمال الطريق إليها بسيارة مدنية . وكان في خاطري أن ألبِ دعوة الجندي الإيطالي سيموني ،وقد اتفقت مع أمير على ذلك . ولكن بعد أيام من التعارف داهمت مقر القوات الإيطالية في الناصرية سيارة مفخخة راح ضحيتها عددا كبيرا من أهالي المدينة والجنود الإيطاليين .لكن الذي آلمني بعض الشيء رغم حزني الكبير على أهالي مدينتي ، عندما أخبرني أمير في مساء اليوم نفسه:أن من بين الضحايا كان الجندي { سيموني } وبذلك حرمت من الحصول على صورة البابا حارس المتحف .
















#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تكاليف دفن الشاعر السومري
- جدلية الحلم في قلب الكاهن المندائي
- عقيل علي..موت ثمرة الفراولة
- أيروتيكا قيروانية ..خيمياء سومرية
- هل هبط أهل سومر من المريخ؟؟؟؟
- صبر أيوب عولمة من الألم ..أم ألم من العولمة؟
- للقلب دموع وللبصل ايضا
- امراة تتحدث مع وردة
- الذكورة والأنوثة بين الثقافة التقليدية والعولمة ...رؤى مؤسطر ...
- معزوفة ليل تحت جفن أمراة
- أتحاد أدباء العراق الصامت كحجر
- حمامة بيكاسو وحمامة كاظم ابو زواغي
- الحرب وأجنحة الفراشات ..فصل من مذكرات العريف كاستون باشلار
- عقيل علي طائر لن يتوارى وآدم باق في جنائنه
- مارواه الطبري عن العشق السومري
- ماركيز يكتب عن شاكيرا وأنا أكتب عن ماركيز وشاكيرا
- الأصول الأرضية والسماوية للطائفة المندائية
- الحرب بين تهديم الذاكرة وبناءها
- البيت المندائي أشعل قلب الوردة بالحب
- الاهوار ذاكرة البط والميثولوجيا ..الحرب


المزيد.....




- صحوة أم صدمة ثقافية؟.. -طوفان الأقصى- وتحولات الفكر الغربي
- وفاة الفنان العراقي عامر جهاد
- الفنان السوداني أبو عركي البخيت فنار في زمن الحرب
- الفيلم الفلسطيني -الحياة حلوة- في مهرجان -هوت دوكس 31- بكندا ...
- البيت الأبيض يدين -بشدة- حكم إعدام مغني الراب الإيراني توماج ...
- شاهد.. فلسطين تهزم الرواية الإسرائيلية في الجامعات الأميركية ...
- -الكتب في حياتي-.. سيرة ذاتية لرجل الكتب كولن ويلسون
- عرض فيلم -السرب- بعد سنوات من التأجيل
- السجن 20 عاما لنجم عالمي استغل الأطفال في مواد إباحية (فيديو ...
- “مواصفات الورقة الإمتحانية وكامل التفاصيل” جدول امتحانات الث ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم عبد مهلهل - الجندي الأيطالي والمتحف السومري