السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4203 - 2013 / 9 / 2 - 18:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
ولد مفهوم "الثقافة" من رحم علم الأنثروبولوجيا (علم الانسان) ليعبر عن "ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والعادات وأي قدرات أو عادات يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع"، طبقا لما جاء في كتاب عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي إدوارد تايلور "الثقافة البدائية: بحوث حول نشأة الميثولوجيا والفلسفة والدين واللغة والفن والعادات". واليوم، وبعد مرور 142 سنة، لم يعد استخدام هذا المفهوم مقصورا على علم الأنثروبولوجيا بل امتد لعلوم أخرى كعلوم السياسة والإدارة والاقتصاد. وقد أدى تعدد سياقات استخدام هذا المفهوم الى تعدد ما ينطوي عليه من معان او ما يفهم منه من ابعاد.
فالبعض ينظر الى الثقافة من منظور ضيق فيعتبرها مجمل الإنتاج الأدبي والفني لأمة ما بشتى صوره من قصص وشعر وموسيقى ودراما وفنون تشكيلية. وهو منظور، بتركيزه على المنتجات الثقافية فقط واغفاله لمرتكزاتها القيمية، يعتبر غير كاف لمن يرغب في احداث نقلة نوعية في ثقافة مجتمع ما لتتواءم مع مستجدات العصر. ان أولئك الساعون للتغيير في حاجة الى منظور أكثر شمولا وعمقا ينظر للثقافة بوصفها منظومة متكاملة تضم بالإضافة للمنتجات الأدبية والفنية كافة أنماط السلوك السائدة في المجتمع، وللقيم التي يتبناها أفراده، أو "منظومة القيم"، هذا بالإضافة إلى المعتقدات الأساسية، أو "منظومة المسلمات" ("الرؤية الكلية" Worldview)، التي تحكم هذه الأنماط والمنشئة للقيم المتبناة (السيد, 2013).
شجرة ام الشعور
لا نجد أفضل من شجرة ام الشعور (الصفصافة) لتمثيل منظومة الثقافة لمجتمع ما بمكوناتها الثلاثة: المنتجات الثقافية والانماط السلوكية، منظومة القيم السائدة، الرؤية الكلية التي يتبناها المجتمع. فأوراق هذه الشجرة، التي تحيط بجذعها وتتدلى حتى تلامس الأرض، تمثل الجزء المرئي (الظاهر) من ثقافة المجتمع والتي تشمل الـ "أنماط سلوكية"، مثل العادات والعلاقات العائلية، والـ "منتجات ثقافية" أيا كان شكلها، أدبية أو فنية أو علمية أو تكنولوجية، بدءا من اللغة المستخدمة في الحياة اليومية وإنتهاءا بالدين ومرورا بالطرز المعمارية السائدة.
ويمثل جذع الشجرة، الذي تستره اوراقها، "منظومة القيم" التي تشكلها المعايير والأحكام التي يتبناها المجتمع وتحدد لأفراده ما ينبغي أن يكون، أو بعبارة أخرى السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم.
اما جذور الشجرة فتمثل "الرؤية الكلية" التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه وتنبثق منه المكونات الأخرى لمنظومة المجتمع الثقافية. وتتكون منظومة الرؤية الكلية من ستة مكونات تضم كافة المسلمات التي تقدم لأفراد المجتمع إجابات على مجموعة من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالعالم الذين يعيشون فيه (السيد, 2010).
وأول هذه المكونات هو "نموذج الحاضر"، أو "المكون الأنطولوجي"، يتعلق بتصور أفراد المجتمع لطبيعة العالم الذي يعيشون فيه. ولا يقتصر مفهوم العالم هنا على العالم المادي بل يمتد ليشمل العالم المعنوي بما يتضمنه كيانات وعلاقات اجتماعية. ويتشكل هذا المكون من إجابات على أسئلة من قبيل: ماهي طبيعة العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يعمل؟ وماهي طبيعة العلاقات بين الموجودات؟ ومن نحن؟ وهي كلها أسئلة عما هو كائن بالفعل أي عن "الحاضر".
وثاني مكونات النظرة الكلية هو "التفسير" Explanation، أو "نموذج الماضي"، الذي يتشكل من إجابات على أسئلة من قبيل: من أين أتى العالم الذي نعيش فيه؟ ولماذا اتخذ شكله الموجود عليه وليس شكلا آخر؟ ومن أين أتينا؟ أي أنها الأسئلة التي تدور حول "أصل وفصل" الإنسان وللكون الذي يعيش فيه. وتمثل إجابات هذه الأسئلة محاولة تفسير الإنسان لما يدور حوله من أحداث.
وإذا كان أول مكونات الرؤية الكلية عن "الحاضر" وثاني مكوناتها عن "الماضي" يصبح من المنطقي أن تكون ثالثة مكوناتها عن "نموذج المستقبل" أو عن "التنبؤ" بأحداثه لتكتمل بذلك حلقات مسيرة الإنسان من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر. لذا تعتبر إجابة الإنسان على سؤال "إلى أين نحن ذاهبون؟" أو "ما هو مصيرنا؟" أهم العناصر التي يتشكل منها هذا المكون.
ويتعلق المكون الرابع بالـ "نظرية القيم" (أو الـ "أكسيولوجى" Axiology) ويتكون من إجابات الإنسان على الأسئلة الأساسية التالية: ما هو الخير؟ وما هو الشر؟ ولماذا هذا الشيء خير؟ ولماذا هذا الشيء شرير؟ وتعتبر الإجابات على هذه الأسئلة بمثابة الأهداف التي يسعى الإنسان لتحقيقها وتمنحه معنى لحياته كما تعتبر بمثابة المحددات الهادية لأفعاله.
إذا كان المكون الرابع للرؤية الكلية يزود الإنسان بمجموعة من المفاهيم والأفكار عنما يجب عليه فعله وما ينبغي عليه تجنبه فإنه لا يحدد له كيفية تنفيذ الأفعال الرامية لتحقيق الأهداف والطريقة تنظيمها. وهنا يأتي المكون الخامس ليبين كيفية تحويل الأفكار إلى أفعال فهو عن "نظرية الأفعال" (أو الـ "براكسيولوجى" Praxiology).
ونصل في النهاية إلى آخر مكونات الرؤية الكلية وهو عن "نظرية المعرفة" (أو "الابستمولوجي") والذي يتعلق بالمعايير التي نستخدمها لتحديد "صدق" أحكامنا وتصوراتنا عن الواقع أو "كذبها".
الرؤية الكلية بين العلم والدين
تستمد "الرؤى الكلية" لثقافات مجتمعات عالمنا المعاصر عناصرها من مصدرين رئيسيين هما "الدين" و"العلم". وعلى الرغم من الصعوبة الشديدة في إيجاد تعريف عام لمفهوم الدين إلا أن التعريف الذي قدمه دانيل دنيت Daniel Dennett، أستاذ الفلسفة بجامعة توفتس Tufts الأمريكية، يعتبر مناسبا لموضوع هذا المقال. وطبقا لـ دنيت يعتبر الدين "منظومة اجتماعية يؤمن المنتمين إليها بوجود قوة، أو قوى، فوق طبيعية عليهم الالتزام بما تمليه عليهم" (Dennett, 2006) ص. 9). وفى العادة تتمثل إملاءات هذه القوة على هيئة نصوص أو أقوال يضفي عليها أصحاب الديانة صفة القداسة ويؤمنون بصحتها إيمانا مطلقا لا يقبل النقاش. وتتضمن هذه النصوص ردودا على كافة الأسئلة التي تحير الإنسان ولا يجد إجابة لها وتقدم له توجيهات وأوامر صارمة لما ينبغي عليه القيام به من أفعال.
أما العلم، المصدر الرئيسي الثاني من مصادر الرؤية الشاملة، فتعرفه موسوعة ستانفورد للفلسفة بأنه "أي نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا وتتضمن قدر كبير من الشواهد الإمبريقية" (Plantinga, 2008). ويقوم التفكير العلمي على ثلاثة ركائز هي:
1. الإمبريقية: وتعنى الاعتماد على الشواهد المحسوسة فلا مكان في العلم للشواهد القائمة على السمع أو على العنعنات ولا تلك القائمة على شهادة أفراد ولا على تلك القائمة على الإلهام أو العاطفة. أو بعبارة أخرى "مرجعية الواقع".
2. العقلانية: وتعنى استخدام العقل وملكاته وأدواته مثل أدوات التفكير المنطقي في تحليل الشواهد الإمبريقية واستخلاص النتائج منها.
3. الشك: ويعنى خضوع المعرفة التي ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هي تلك المعرفة القابلة لـ "التفنيد" Falsifiability وذلك طبقا لفيلسوف العلم الشهير كارل بوبر. فمنهج العلم، طبقا لبوبر هو: "منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لتفنيدها" (Popper, 1965). ويكمن في هذه الركيزة سر قدرة منظومة العلم الدائمة على التطور والتنامي والتكيف وعلى التغلغل في شتى أمور حياة الإنسان.
وتوضح اي نظرة فاحصة لثقافات المجتمعات المتقدمة ان العلم هو المصدر الرئيسي لرؤاها الكلية ومن ثم الاساس الذي ترتكز عليه منظومة القيم السائدة في تلك المجتمعات.
الخلاصة
تشكل منظومة "الرؤية الكلية"، المكون الأكثر عمقا من مكونات منظومة الثقافة، "الإطار المفهومى" الذي يستخدمه أفراد المجتمع لفهم ما يدور في واقعهم من أحداث وظواهر ويستعينون به كـ "مرجعية" لتوجيه وتقييم أفعالهم. وتشكل عناصر هذا المكون الستة الأساس التي ترتكز عليه وتنبثق منه كافة المكونات الأخرى لمنظومة الثقافة وبالذات منظومة القيم السائدة والانماط السلوكية. لذا لا يمكننا مناقشة قضية تحديث منظومة الثقافة المصرية، او الثورة الثقافية المنشودة، دون مناقشة أسس تحديث منظومة "الرؤية الكلية" التي ترتكز عليها.
وهنا قد يتساءل البعض أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في تنمية المجتمعات وهو سؤال مشروع سنحاول الإجابة عنه في مقالنا القادم: الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3).
المراجع
Dennett, D. 2006. Breaking the Spell: Religion as a Natural Phenomenon. New York: Penguin Books.
Plantinga, A. 2008. Religion and Science. In E. N. Zalta (Ed.), The Stanford Encyclopedia of Philosophy: http://plato.stanford.edu/archives/win2008/entries/religion-science.
Popper, K. 1965. The Logic of Scientific Discovery. New York: Harper Books.
السيد, ا. ن. 2010. ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. القاهرة: دار المحروسة.
السيد, ا. ن. ا. 2013. تحديث الثقافة المصرية .... المشروع القومي المنتظر. الحوار المتمدن, 4180(10 اغسطس): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=372608.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟