أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - السيد نصر الدين السيد - الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر علوم التعقد (5/5)















المزيد.....

الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر علوم التعقد (5/5)


السيد نصر الدين السيد

الحوار المتمدن-العدد: 3825 - 2012 / 8 / 20 - 15:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تتبعنا فى مقالاتنا السابقة تطور المنظومة الذهنية التى إستخدمها الإنسان كأداة لفهم الواقع ولتغييره. وفى البداية كانت "منظومة الفكر الخرافى"، بصورتيها الأسطورية والدينية، هى الأداة الذهنية التى إستخدمها الإنسان لما يزيد على الـ 200000 سنة. ولعل أهم العوامل التى أسهمت فى بقاء هذه المنظومة، بشتى أشكالها وحتى يومنا هذا، هو وعودها بحياة أفضل للإنسان فى عالم آخر هو "عالم الغيب". وهى بالطبع وعود لايمكن التحقق من صدقها. كما تميزت الأشكال المختلفة لهذه المنظومة بإضفاءها صفة القداسة على ما تنطوى عليه من أفكار (أو تهيؤات) فيجعلها محصنة ضد النقد وغير قابلة للمراجعة.

ومنذ 350 سنة ظهرت منظومة ذهنية أخرى هى "منظومة العلم الحديث فى صورته الأولى" (الفكر العلمى التجزيئى). وهى المنظومة التى تتمتع بخصائص فريدة ميزتها عن كافة أشكال "منظومة الفكر الخرافى". وأولى هذه الخصائص هو أن ما تنتجه من معرفة يسهم بطريقة مباشرة فى الإرتقاء بشتى جوانب حياة الإنسان فى "عالم الشهادة". فعلى سبيل المثال أسهمت المعرفة العلمية، وفى فترة لم تتجاوز 216 سنة (من 1796 إلى 2012)، فى زيادة متوسط عمر الإنسان من حوالى 24 سنة إلى حوالى 63 سنة. أما الخاصية الفريدة الأخرى لهذه المنظومة فهى قدرتها غير المسبوقة على التطور والتجدد المستمرين. فلقد شهدت هذه المنظومة منذ منتصف القرن العشرين ثورتين أحدثتا تغيرات جوهرية فى نظرتنا لأحوال الواقع. الثورة الأولى، والتى تعرضنا لها تفصيلا فى المقالة السابقة، كانت ضد مبدأ "اﻹختزالية" Reductionism، الذى ينص على أنه يمكن فهم خصائص سلوك أى كيان ككل بـ "تفصيصه" الى مكوناته الأولية ودراسة خصائص سلوك كل منها على حدة. وهو المبدأ الذى عجز عن تفسير ظهور "الخصائص المستجَدة" Emergent Properties وهى الصفات التى يتمتع بها الكيان ككل ولاتتمتع بها مكوناته. وقد كانت نتيجة هذه الثورة ظهور "المنظوماتية" وما جاءت به من مفاهيم ومناهج جديدة للنظر فى أحوال الواقع وإنتقلت بالعلم من صورته الأولى إلى صورته الثانية "منظومة الفكر العلمى المنظومى (العلم الحديث فى صورته الثانية).

وفى الثلث الأخير من القرن العشرين بدأت ملامح الثورة الثانية فى التشكل. إنها الثورة التى قامت ضد المبدأ الثانى من مبادئ العلم الحديث فى صورتيه الأولى والثانية وهو مبدأ "الحتمية"Determinism . وهو المبدأ الذى يعنى أن أى تغير يحدث فى أحوال أى كيان يمكن صياغته على صورة قانون يربط بين الأسباب والنتائج فيمكنا من "التنبؤ" اليقينى بأحواله المستقبلية إنطلاقا من معرفتنا بأحواله الراهنة (أو مايعرف بالـ "الشروط الإبتدائية" Initial Conditions). أى أنه القانون الذى يشبه الشريط السنيمائى الذى إن أدرته للآمام إنطلاقا من مشهد بعينه تتوالى أمامك المشاهد اللاحقة للعمل الدرامى (المستقبل). أما إن أدرته للخلف ستتوالى أمامك الأحداث السابقة التى أدت إلى مشهد الإنطلاق. وهكذا ربط االتفكير العلمى التقليدى برباط وثيق (كالزواج الأرثوذكسى) بين كلا من مفهومى "الحتمية"، أو خضوع الكيان لقانون السببية، و"التنبؤية" Predictability، أو قدرتنا على معرفة المستقبل إنطلاقا من معرفة الحاضر. وهكذا تخضع كيانات الواقع لمبدأ "التنبؤية الحتمية" Determined Predictability الذى يحولها الى مجرد كيانات آلية يمكن التحكم فى سلوكها والتنبؤ بأفعالها وليس لها من خيار سوى ذلك الذى يسمح به القانون، قانون السبب والنتيجة، الذى يحكمها.

نظرية الكيوس أو الفوضى الخلاقة
إن كلمة سر الثورة الثانية التى شهدتها منظومة العلم الحديث هى الـ "كِيوس" Chaos. وتخبرنا المعاجم (Webster على سبيل المثال) بأن الكيوس هو حالة الأشياء التى تحكمها الصدفة ولايسرى عليها قانون معروف. كما ينطوى المعنى التقليدى لهذه الكلمة على مفاهيم من قبيل "العشوائية" Randomness و"اللانظام" Disorder و"اللاإنتظام" Disorganization. إلا أن العلماء يتجاوزن هذا المعنى التقليدى للكلمة ليصفون الكيوس بأنه وصف للأشياء فى لحظات التحول والإنتقال من حال لحال ومن وضع قديم لوضع جديد. وهى اللحظات التى تمتزج فيها الصدفة بالقانون والفوضى بالنظام.

وبتبنى العلماء لهذا المفهوم ولدت "نظرية الكيوس" التى أحدثت تغيرا جذريا فى مهمة العلم. فبدلا من أن تكون مهمته الأساسية مقصورة على البحث عن القوانين العامة التى تتيح له التنبؤ الحتمى بالأحداث وتوفر له وصفا دقيقا للأحوال المستقرة أصبح فى بؤرة إهتمام هذه المهمة دراسة التغيرات والتحولات المحكومة بعنصر الصدفة والتى لايمكن "التنبؤ الحتمى" بحدوثها (Young, 1991). لقد وفرت هذه النظرية منظورا بالغ الجدة لسلوك المنظومات المعقدة طبيعية كانت أو إجتماعية. منظور يتآكل فيه التمييز بين "الفوضى" و"الترتيب"، وبين "التغير" و"الإستقرار". فالـ "الفوضى" و"الترتيب" هما وجهين لنفس العملة و"التغير" و"الإستقرار" هما أيضا وجهين مختلفين لذات العملة (Prigogine & Srengers, 1984). إن نظرية الكيوس قى نهاية المطاف هو علم دراسة "العمليات" لا دراسة "الحالات" (Gleick, 1987). أى أنه علم همه الأول دراسة "الصيرورة" Becomimg لا دراسة "الكينونة" Being.

وطبقا لـ "نظرية الكيوس" تنشأ القوى التى تحدد سلوك "المنظومات الديناميكية"، التى تتغير أحوالها من لحظة لأخرى، كنتيجة للتوازن الدينامكى بين كلا من "الفوضى" و"النظام". فعلى سبيل المثال لو تخيلنا منظومة يسود أحوالها النظام والترتيب المطلقين وتحكم أوضاعها قواعد وقوانين ينصاع لها الجميع ولاتشوبها أخطاء الصياغة أو إنحرافات التنفيذ، أو "منظومة النظام المطلق". إن مثل هذه المنظومة، إن وجدت، لامكان فيها للجديد فكل شيئ فيها مقرر سلفا وكل ماسيحدث لها فى المستقبل يمكن التنبؤ به بدقة فائقة. والمصير المحتوم لمثل هذه المنظومة هو التجمد وفى النهاية الإنقراض لإستعصاءها على "التكيف" وإمتناعها عن "التطور" مع مستجدات بيئتها دائمة التغير. فكلا من عمليتى التكيف والتطور تقومان فى الأساس على إنتاج "الجديد"، سواء كان هذا الجديد فى السلوك أو فى المكونات. وفى المقابل لو تخيلنا كيان لاتحكم سلوك مكوناته أية قواعد أو قوانين ولاتنتظم العلاقات بين هذه المكونات فى بنى محددة، أو "منظومة الفوضى المطلقة". إن وجود مثل هذه المنظومة غير ممكن لإفتقادها لأبسط أسس الدوام والبقاء حتى وإن كانت قادرة على إنتاج الجديد. فهى تفتقد البنى والقواعد والقوانين القادرة على توظيف هذا الجديد لصالح وجودها نفسه. وهكذا يتطلب وجود أى منظومة وقدرتها على الحفاظ على هذا الوجود مزيجا متوازنا من "النظام" و"الفوضى". فوجود "النظام" يسمح لها بالدوام والإستمرارية عبر مايوفره من بنى وترتيبات ويمكنها أيضا من التنبؤ بأحولها المستقبلية بدقة معقولة عبر ما ينطوى عليه من قواعد وقوانين. أما وجود "الفوضى" فهو أمر ضرورى لكلا من عمليتى التكيف والتطور اللازمتان للحفاظ على وجود المنظومة وذلك بوصفه القوة المحركة لإنتاج الجديد بما ينطوى عليه من خروج عن المألوف وبتحديه للمستقر وبتجاوزه للقواعد.

وإذا كان تقدير الدور الخلاق الذى تلعبه الفوضى فى حياة المنظومات، الطبيعية والإنسانية، هو أحد الملامح الرئيسية لنظرية الكيوس، فأن إهتمامها بخاصية "اللاخطية" Nonlinearity يشكل الملمح الرئيسى الثانى لها. وخاصية "اللاخطية" تعنى أن العلاقة التى تربط بين المتغيرات التى تصف حال المنظومة ليست خطية بمعنى أن قدر التغير فى أحد المتغيرات لاتتناسب طرديا مع قدر التغير فى المتغير الآخر. وقد لايعلم الكثيرون أنهم عندما يرددون عبارتهم الإستنكارية "إن الزيادة فى المرتبات لاتتناسب مع الزيادة فى الأسعار" إنما يتحدثون عن "علاقة لاخطية" بين المرتبات والأسعار. فالإرتفاع الطفيف فى المرتبات يعقبه فى العادة إرتفاع مهول فى أسعار السلع والخدمات. وعلى العكس من ذلك إن تناسب الإرتفاع فى المرتبات مع الإرتفاع فى الأسعار تصبح العلاقة بينهما "علاقة خطية". وفى الحقيقة أن أغلب العلاقات التى تحكم الواقع هى علاقات لاخطية. أى أن وصف أى شيئ بأنه "لاخطى"، علاقة كان أو منظومة، يعنى غيبة التناسب بين الأسباب والنتائج فتغير طفيف فى قدر سبب ما قد تنشأ عنه نتائج غير مأخوذة فى الحسبان. ويعنى أيضا أن خصائص المنظومة ككل، كمية وكيفية، هى بالضرورة خصائص مستجدة لاتتمتع بها مكوناته المنفردة. وسلوك "الكائنات غير الخطية" يصعب تكراره أو إعادة إنتاجه فعالمها هو عالم دائم التجدد لامكان فيه للتكرار. لذا يصبح من الصعب من التنبؤ بأحوالها. وفى العادة يطلق على المنظومات التى ترتبط متغيرات حالتها سويا بعلاقات لاخطية إسم "المنظومات اللاخطية" Nonlinear Systems.

وهكذا تشكلت "منظومة الفكر العلمى اللاخطى (أو علوم التعقد Complexity Sciences أو العلم الحديث فى صورته الثالثة). منظومة تنطوى على نظرة علمية جديدة لأحوال لكلا من الواقع الطبيعى والواقع الإجتماعى. نظرة تتبنى "رؤية عملياتية" Process View للمنظومات فتهتم بأحوالها وهى فى حالة الغليان والفوران والتغير والتبدل، أى بأحوالها وهى "بعيدة عن وضع الإتزان (أو الإستقرار)". نظرة تأخذ فى إعتبارها خاصية "اللاخطية" Nonlinear التى تميز العلاقات بين مكونات هذه المنظومات فتسفر عن تنوع وثراء فى السلوك. نظرة تقدر الدور الهام الذى تلعبه "الفوضى" فى إنتاج "الإنتظام". نظرة علمية جديدة أحدثت "نقلة بارادمية" [1] Paradigm Shift نعيش ونرى آثارها فى أيامنا هذه. إنها نظرة "مابعد الحداثة فى العلم" التى تشكل الإطار الجامع للعديد من النظم العلمية المستحدثة مثل "نظرية الكِيوس" Chaos Theory و"نظرية التعقد" Complexity Theory ونظرية "المنظومات المعقدة المتكيفة"Complex Adaptive Systems.

[1] الـ "بارادايم" Paradigm أو "النموذج اﻹسترشادى" هو مجموع التوجهات الفكرية العامة التي تحكم رؤى الانسان للواقع وتوجه أنشطته البحثية والعلمية ومنهجيات القيام بهذه الأنشطة.

المراجع

Gleick, J. 1987. Chaos: Making a New Science. London: Penguin Books.
Prigogine, I., & Srengers, I. 1984. Order Out Of Chaos. Toronto: Pantam Books.
Young, T. R. 1991. Chaos and Social Change: Metaphysics of the Postmodern. The Social Science Journal, 28, 3, pp. 289-305.



#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر الفكر العلمى ...
- الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر الفكر العلمى ...
- الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: الفكر الأسطورى ( ...
- الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: الفاتحة (1/5)
- الخيار المر ومسئولية الإختيار
- بيت المرايا ودنيا المغالطات
- زمار هاملين وروعة التدليس
- العلمانية والسيبرنيطيقا
- العَلمانية كثقافة
- الحداثة المراوغة: تأملات فى مجريات الأمور
- كهنوت الإسلام
- ثقافة النص ومآساة دوماستان
- لماذا أنا عَلمانى؟


المزيد.....




- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - السيد نصر الدين السيد - الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر علوم التعقد (5/5)