أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نافذ الشاعر - تأثر القرآن بثقافة العصر الذي نزل فيه (*)















المزيد.....


تأثر القرآن بثقافة العصر الذي نزل فيه (*)


نافذ الشاعر

الحوار المتمدن-العدد: 4188 - 2013 / 8 / 18 - 17:11
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


1- نعيم الجنة:
يوصف محتوى القرآن الكريم بأنه هدى وموعظة للعالمين، كما أنه في محتواه دعاوي لعدة أمور كالتدبر والتحدي والتأمل..
ومن مجموع هذه النصوص، يقتضي أن يكون خطاب القرآن خطابا متعارفا عليه لدى المخاطبين، لأن دعوة المخاطبين للتدبر في كلام غير معروف، أو للتحدي بأمر مجهول، لا يناسب الداعي الحكيم.
أضف إلى هذا، أن القرآن الكريم نفسه أكد مرارا وتكرارا على أنه نزل بلسان القوم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}إبراهيم4

من جانب آخر قالوا: أن اللغة تكون حاملة لثقافة الأقوام الذين يتحدثون بها، وكل كتاب يكون بلسان قوم من الأقوام، فهو يحمل وزر ثقافتهم.
وفي ضوء هذا الفرض- الذي قد يكون بالجملة صحيحا أو غير صحيح- اعتقد بعضهم أن القرآن خضع لثقافة عصر نزول القرآن، يعني صدر الإسلام. وبالتالي، مع قبول الثقافة الجاهلية والتسليم بها، خلط هذا الرسالة بأسس غير علمية ومشوبة بالخرافة والعبث.
ليس هذا فقط؛ بل إن هذا الرسالة من الأساس مبنية على مثل هذه الأسس الخرافية؛ مثل عنف العقاب والمجازاة، وكيفية تعامل القرآن مع النساء، وتعدد الزوجات، وكيفية نعيم الجنة، من الحور العين، والقصور والأشجار والأنهار، والوعيد والعذاب الفظيع والاستئصال، ووجود الجن والسحر واستخدام تعبيرات خرافية مثل رؤوس الشياطين.. الخ؛ كل تلك الأشياء هي بمثابة شواهد متنوعة على هذا الرأي الذي هم يذهبون إليه.

لكن المتدبر لآيات القرآن الكريم يدرك أنه نزل ليدمر هذه العادات المتحجرة الفاسدة، ويقضي على هذه الآراء العتيقة البالية، ويحرق تلك القيم الجاهلية المتفشية، ويقتل جميع الزائل المنتشرة.
وبهذه الطريقة، سوف يؤثر على الثقافة الموجودة ويخضع الناس الضالين والمتحيرين، ويجرهم إلى الفضيلة والأخلاق، وهذا هو السر، في تكرار هذه الآية ثلاثة مرات: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }التوبة33
ومن يتأمل في التعاليم الرشيدة لهذه الكتاب البليغ بعين الحق، يجده بعيدا جدا عن المشابهة مع العادات الجاهلية فضلا عن أن يكون متأثرا بها. لكن منشأ هذا التوهم، هو توهم التلازم بين التحدث بلسان قوم وبين الاعتراف بالمعاني التي يحملها هذا اللسان الذي يتحدثون به.
وقبل أن نتوجه لمناقشة هذا التوهمات المذكورة لابد من ذكر عدة نقاط تسلط الضوء على الجو الذي انبثقت منه تلك الشبهات، ومن ثم تكون كالمقدمة للبحث عن هذه الإشكالات.

المقدمة الأولى: الموافقة في الاستعمال:
يجب أن نبحث أولا: هل التكلم بلغة قوم يستلزم الاعتراف بجميع ما تحمله لغتهم من ثقافاتهم وأفكارهم وآرائهم..؟ أو يكون فقط في حد التوافق معهم في استعمال هذه اللغة للتفاهم؟
تلكم هي الحقيقة..!

فالحقيقة تفيد بأن الحوار- بغية التفاهم- بأي لغة كانت؛ لا يحتاج لأكثر من العلم بمعاني الكلمات في مقام الاستعمال الشائع عند من يستخدم هذه اللغة. يعني؛ هناك مقامان: مقام الوضع ومقام الاستعمال، والخلط بينهما هو الذي يسبب إشكالات كثيرة؛ مثل وضع الأسد للحيوان المفترس، ولكن قد يأتي شخص ويقول: "رأيت أسدا يرمي" وهذا الاستخدام لكلمة الأسد ليس استخداما لما وضعت له كلمة أسد، إنما كان بقصد آخر!
إذن، ينبغي أن نتماشى مع هؤلاء في تبدل المعاني والمفاهيم حسب ما هو معهود بين المتكلمين باللغة اليوم، وليس من واجبنا أن نلاحظ الدواعي والأسباب التي جعلت الواضع يضع هذا اللفظ لذاك المعنى.
وبما أن هذه الدواعي تلاحظ في مقام الوضع، ولكن في التكلم والحوار لا يجب ملاحظة اللفظ في مكان الوضع لزوما؛ بل يكفي فيه التوافق معهم في مقام الاستعمال اليوم.
فربما المتكلمون باللغة لم يعرفوا الأسباب التي من أجلها وضعت هذه الكلمة، لأنهم سمعوا الناس تتكلم بها فقلدوهم في هذا الكلام، أو ربما نسوا الأسباب التي سببت وضع ذاك اللفظ لذاك المعنى، فمثلا لفظ مجنون وضع لمن يكون عنده اختلال شديد في الأعصاب. والداعي لهذا الوضع أنهم كانوا يعتقدون أن هذه الحالة تحصل بسبب مس الجن لهؤلاء الأفراد. ولذلك في القديم كانوا يعالجون المصابين بهذا المرض بالتعاويذ والأوراد التي تختص بطرد الجن وإبعاده عن المجانين، ظنا منهم أن الشياطين قد تلبستهم وسيطرت على عقولهم.
لكن هذه العقيدة اليوم تعتبر خرافة!
ومع هذا فلا زالت كلمة (مجنون) تستعمل اليوم كما كانت تستعمل بالأمس للدلالة على مختل العقل والأعصاب، ولكن ليس بالمفهوم الخرافي الذي كان شائعا قديما والذي كان سبب ذلك الوضع.

ومن هذا القبيل: التفاؤل، الذي لوحظ عند وضع بعض الكلمات، ولكنه لم يعد ملحوظا عند استخدام تلك الكلمات للدلالة على الأشياء فيما بعد، يعني مثلا عندما يقول احد الناس: صحراء أو مفازة أو وادي غير زرع[1].. لا يريد بهذه التسميات أن يتفاءل، كما أراد من وضعوا هذه الألفاظ للدلالة على الصحراء!
هذا بالضبط كمن يسمى أحد الناس ابنه (جميل)، وهو يعتقد أن ابنه سيكون جميلا فيما بعد، لكن الآخرين عندما ينادون على هذا الابن باسم (جميل) فهم لا يستخدمون هذا اللفظ وهم معتقدون أن هذا الابن جميل أو غير جميل؛ لأن التسمية قد حصلت والاسم صار علما لهذا الشخص بدون أن يكون حاملا للمعنى الملحوظ حينما أطلق الأب على ابنه هذا الاسم..

إذن، الاستعمالات الرائجة التي تكون تابعة لمدلولات الألفاظ؛ فقط تستخدم كدلالة على الأشياء؛ دون ملاحظة المناسبات والدواعي التي لوحظت حين وضع هذه الأسماء. فلو وضع لفظ لشيء يدل على معنى مقصود وراء هذا اللفظ، فإن المعنى يزول وتستمر التسمية دون دلالة على مقصود الواضع من ورائها..

المقدمة الثانية: عموم خطاب القرآن:
إن القرآن مع أنه كان يخاطب العرب عند نزوله، إلا أن خطابه الواقعي لجميع أجيال البشر وليس لزمان محدد أو لنوع من الإنسان فقط..
وقد كان الغرض من مواجهة القرآن للعرب بلسانهم وعلى الأساليب المعهودة في الكلام عندهم- كان الغرض من ذلك أن يتفاهم معهم بهذه الطريقة. لكن هذا الأمر ليس معناه اختصاص القرآن بخطاب العرب دون غيرهم من الأمم، لأن رسالة القرآن عامة ودعوته شاملة..
مضافا إلى أن التعابير التي يبدو من ظاهرها أنها مختصة بالعرب، تكون في حقيقتها عبارة عن مفاهيم عامة، تشمل جميع الناس في كل زمان، وهذا ما جعل هذا الكتاب دستورا لجميع الناس وجميع الأزمنة. وهذا سر خلود سند الشريعة الخاتمة.
والأمثال والحكم الواردة في القرآن أيضا ليست مرتكزة على الذهنية العربية، بل هي مبنية على الذهنيات التي تتفق عليها جميع الأمم. حتى في ضرب المثل بالجمل؛ الذي يبدو أنه ورد للعبرة في القرآن من جهة العجائب الموجودة في خلقه، لكنها ليست عجائب عند العرب فقط؛ بل هي عبرة لنوع الإنسان في كل زمان وفي كل مكان.
كذلك أوصاف الجنة والنار والثواب والعقاب.. هذه الأوصاف تبنت معايير متفقا عليها عند البشر؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من آية إلا لها ظهر وبطن)[2] واستوضحوا من الإمام الباقر بهذا الخصوص فقال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله.
والمقصود من التنزيل ظاهر الآية التي نزلت في مناسبة خاصة، والمقصود من التأويل المفهوم العام المنتزع من الآيات، والذي يكون جاريا وساريا في توالي الزمان، ثم أضاف: العبرة لهذا المعنى العام هو الذي يضمن خلود القرآن، وإلا لو كان العبرة بظاهر التنزيل؛ لكان القرآن حلقة ضيقة من التاريخ تزول بزوال تلك الأقوام.

المقدمة الثالثة: إظهار الواقع في المطالب القرآنية:
كذلك لا مانع من استخدام التخيل كسلم من اجل الوصول للحقيقة؛ ولكن ما جاء في كتاب الله من العبر والأمثال عادة ما يكون حكايات عن أمور واقعية وعينية.. وهذه الأمور الواقعية والعينية؛ إما تكون: حقائق ثابتة في الأعيان الخارجية، أو تكون: تصاوير من الحالات الراسخة في القلب.

وإخبار القرآن عن عالم الغيب ليست تصورات وهمية، بل هو حقائق واقعية جارية، لذا عندما يحكي القرآن نقلا تاريخيا بغاية الهداية والعبرة، فهي تكون حكاية عن أمر متحقق في الخارج، لأنه لا عبرة في الأوهام. وهكذا التصاوير التخيلية من الحالات النفسانية التي أحياها القرآن بضرب الأمثال الواقعية لها.

وعلى هذا؛ فالحديث عن الأمور الغيبية والأمور المحجوبة تعد بمثابة نقل لحقائق ثابتة صورها القرآن في قالب من الاستعارة والتشبيه؛ فمثلا قال بعضهم: أن كون جناحين أو ثلاثة أو أربعة للملائكة هو تعبير عن مدارج القوى وطاقات الملائكة المدبرة للأمر، التي تؤدي وظائفها على حسب ما يُطلب منها.
والتعبير عن القوى بالأجنحة أمر شائع، وليس المقصود بالأجنحة أجنحة كأجنحة الطيور؛ إنما المقصود أن الله جعل للملائكة شيئا؛ فيه نفس الوظيفة التي تكون في الجناح للطائر؛ فهم بواسطته ينزلون ويصعدون.

أقسام استخدام تعابير القوم يعني عرف المخاطبين في القرآن:
مع ملاحظة المقدمات التي قدمناها يمكننا القول: إن الألفاظ التي يبدو أنها حاملة لثقافة القوم تستخدم في القرآن تكون على وجهين رئيسين:
الأول: الألفاظ التي تستخدم بدون ملاحظة ما تحمل من الثقافة، وتكون كمعبر وطريق للوصول إلى المعنى المراد.
وهذا القسم له قسمين:

أ- الألفاظ التي تستخدم استعارة: وهي الألفاظ التي تستخدم من اجل التعبير عن معنى فخيم ليس بإزائه لفظ موضوع في كلام العرب، فقد استعيرت من المفهوم الذي له مناسبة واشتراك مع المعنى المراد التعبير عنه، مثل الحور والجنات والأنهار والعسل المصفى.. ومع أن هذه الألفاظ مخبرة عن أمور واقعية وليست تمثيلية أو تخيلية، لكنها تشير إلى معان أعلى مما هو معهود عند العرب.

ب- أما الألفاظ الشائعة التي تكون من المميزات الكلامية لدى القوم، فهي تستخدم بدون أن تكون لها لوازم علمية؛ إنما هي عبارة عن كنايات. ومن المعلوم أن استخدام المتكلم للكنايات في لغة ما، لا تعني قبول اللوازم العلمية لها؛ وتلك مسالة موجودة في سائر اللغات؛ فعلى سبيل المثال في اللغة الفارسية يقال للشخص المبتلى الذي به مرض أو مصاب في عقله: (مجنون)، لكن بدون الالتزام بأن هذا الشخص مصاب بالجن حقيقة.

والقرآن أيضا كما في المنهج المعمول به عند العقلاء استخدم التشبيهات والتعبيرات الشائعة من اجل تفهيم مقاصده العليا؛ مثل احتجاج إبراهيم مع النمروذ ، وتعابير القرآن بخصوص المجانين، وتشبيه ثمرة الزقوم برؤوس الشياطين، والقسم، والعتابات اللفظية، والألفاظ غير العربية في القرآن التي كانت تستخدم ذلك الزمان.. كل ذلك يكون من هذا القبيل.

الثاني: الألفاظ التي استخدمت في القرآن مع ملاحظة ما تحمل من المعاني في الثقافة الجاهلية.
ومواجهة القرآن الكريم مع العناصر الموجودة في ثقافة زمن النزول تكون على قسمين:
أ- العناصر الجيدة المرغوبة في ثقافة العرب؛ قبلها ونقحها وأكملها، كالحج الذي أخذ من الأديان الإبراهيمية.

ب- العناصر غير المرغوبة في ثقافة العرب مثل خرافات الجاهلية، لم يقبلها بل حاربها ونبذها مثل: العقائد الجاهلية بخصوص الجن، أو جعل البنات لله، ويمين الظهار، وكثير من الأحكام الجاهلية كأكل الربا، ووئد البنات..
إذن، كل ما يطعن فيه أعداء القرآن في توصيف النعم في الجنة بعنوان تأثر القرآن من ثقافة العصر، نقدر أن نلخصها فيما يلي:

خرافة الآخرة:
مر الكلام على الجنة بذلك الوصف الأسطوري الذي يسيل له لعاب أي مؤمن. وطوال التاريخ التالي لمثل هذا التناقض الذي يسمى الجنة، كانت الثمرة أسئلة بلا نهاية لا زالت تطرح من قبل العقول الناقدة والأذهان السئولة وبقيت بلا إجابة. منها الأنهار من الشراب أو العسل أو الأشجار الخضراء المثمرة، والحور مع العيون الواسعة كدرر في صدف وغير ذلك.. كل هذا من اجل أجر ما كانوا يفعلون.
والنقطة العجيبة جدا هي أن في أسطورة الجنة حذفت وأهملت طائفتان من البشر: الطائفة الأولى النساء اللاتي يشكلن نصف المجتمع البشري، فليس معلوما ما هو شأنهم في عالم الآخرة في جنة الرجال.!
أما الطائفة الثانية: فهم أولئك الذين يعيشون في المناطق غزيرة الأمطار على سطح الكرة الأرضية، أو يعيشون في القطب الشمالي. هؤلاء بسبب الشرائط الطبيعية التي حُملوا عليها من جانب الله في مكان عيشهم؛ لا رغبة لديهم لظل الأشجار الدائم، ولا للأنهار التي تجري وهي مليئة بالماء..
فيقول هؤلاء: ما هذا الرب الذي أهمل طائفة كبيرة من البشر، وليس لديه علم عن وجود المناطق الاستوائية أو القطبية التي تحرك الساكنين فيها بنعم يرغبون فيها، وليس بنعم يرغب فيها العرب فحسب.

تحليل الإشكال.
على الظاهر بهذا الخصوص تبادر بأذهان أصحاب الشبهة عدة إشكالات رئيسة:
الأول: حكاية الحور العين مع وصف العيون السوداء الأثيرة لدى العرب، لا يتناسب مع شمول هذه النعمة لكل البشر؛ لأن هناك من الأقوام، من لا يدرج العيون السوداء في عداد الحسن والجمال.
الثاني: ما هو شان النساء في مثل هذه الجنة الرجالية التي نعمها مخلوقة لرجال العرب فقط ؟
الثالث: وصف الجنة مع الأشجار وظلها تكون مرغوبة فقط لقوم محرومين في حياتهم الدنيوية من مثل هذه الأمور.

لكن النظرة الأدق في مواضع تلك الإشكال تنور حقائق هامة:

حور العين:
عين جمع عيناء وهي امرأة واسعة العين التي وسعة عينها تتناسب مع جمال وجهها، كما يقال للبقر الوحشي (عين) من أجل وسعة عينه وتناسبها.
وحور جمع حوراء وظنوا أنها امرأة مع عيون سوداء وهذا وصف الجمال في نساء العرب، بخلاف لوصف الجمال عند الأوربيين الذين تكون عندهم العيون المرغوبة هي العيون الزرقاء، الذي ربما يكون عيبا عند العرب، ولهذا قد يقال أنه جاء وصف المجرمين في القرآن: ({يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً}طه102
إذن الوصفين، سواء من ناحية الجمال أو الكراهة، استخدم فقط على أساس معايير العرب.
لكن منشأ هذه الشبهة هو أن الحور ترجمت بالسوداء بينما معناه: (البياض اللامع لشدة ابيضاضه).
إذن الحور تكون شدة بياض العين التي تظهر لون الحدقة، والحوريات بمعنى النساء البيض، يقول الأزهري: (ولا تُسَمَّى المرأةُ حَوراءَ حتى تكونَ مع حَوَرِ عينيها بيضاءَ لَوْنِ الجَسَدِ)[3].
إذن الحور تكون امرأة بيضاء لامعة العيون التي تكون حدقة عينيها سوداء أو زرقاء أو أي شيء آخر لكنها تكون في شديدة اللمعان، وبسبب هذا حسن الجوار تكون في قمة الحسن والجمال.
هكذا المرأة تعتبر جميلة ليست فقط عند العرب بل عند الجميع. أما كون أو وصف المجرمين (زرقا) فهو بسبب العمى وذهاب نور العين من شدة العطش يوم القيامة؛ لأن شدة العطش تذهب بنور العين وتجعل العيون مظلمة؛ كأن الإنسان يرى دخانا هائلا بينه وبين السماء بسببه يرى الأشياء زرقاء، وليس لكون حدقة عينه زرقاء. يقول الأزهري: (عطاشاً قد أزرقت عيونهم من شدة العطش)[4]
يقول الفراء: (نحشرهم عِطَاشاً ويقال نحشرهم عُمَياً) معاني القرآن للفراء.
الذي يكون من أجل أنهم بالمشي على أرجلهم كالإبل يذهبون إلى شريعة الماء، يقول ابن عباس: (يقال للعطاش وردا لأنهم يردون في الشريعة لطلب الماء)[5]
حتى لو أن وصف عين المرأة بهذه الخصوصيات يكون مطلوبا ومرغوبا عند العرب فلا توجد أي مشكلة أيضا، لأن الذين يفضلون العيون الضيقة كاليابانيين، أو العيون الزرقاء كالأوربيين.. حتى هؤلاء قد لاحظهم القرآن عندما قال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} فصلت31 {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}الزخرف71

أما الإشكال القائل: ما هو حظ النساء المؤمنات من نعيم الآخرة، فقد أجيب عنه في الأحاديث المتواترة أن (الله سيجعلهم في الجنة حوريات أفضل من حور الجنة عند أزواجهن)[6] يقول ابن عباس في تفسير قوله تعالي: (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) إن الآية بشان الإنسيات يبدلهن الله حورا عينا في الجنان)[7]، ويقول تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}الرعد23، {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}الزخرف70

أشجار وانهار:
إن متعة صوت خرير الأنهار وشلالات الماء، والنظر إلى الطبيعة الخضراء، والجلوس في ظلال الأشجار.. ليس فقط لسكان الصحاري والقفار، بل لجميع أبناء البشر، والأماكن الترفيهية في كل العالم دوما تكون لها مثل هذه الخصوصيات. وليس معيار كون النعمة محبوبة للشخص بالضرورة أن يكون محروما منها، لأن المتمتعين بالنعم، أيضا راغبون بها وبالصور الألطف والأعمق منها. الشاهد على هذا الكلام رغبة جميع البشر في جميع العصور والأجيال في الطبيعة الخضراء والماء والعمران الطبيعي.. وتلك أحد الأجوبة التي رد بها الباحثون في القرآن على هذه الشبهة.

وفي نظر أعمق لماهية النعم في الجنة في المحاولة إلى الوصول إلى بطون الآيات، يرى المفسرون أن هذه الألفاظ استعارات للمعان العليا، فمثلا قالوا: حور العين لفظ استعير لبيان (الجليس العلمي) للإنسان في الجنة، والذي يكون ذو بصيرة واسعة ويكون خبيرا[8].
وأيضا الأشجار والأنهار وسائر الألفاظ المشيرة إلى النعم في الجنة تكون استعارات للمعاني التي، ولو أن لها عينية وواقعية، ولكن لا تصل إليها يد الألفاظ المعمولة، وانتظار إدراكها بالحواس والآلات التي خلقت لإدراك الأمور المادية في هذه الدنيا لا يصح، بل هو انتظار في غير محله.

وأيضا القرآن الكريم من أجل الإشارة إلى مفاهيم عالية وفخيمة كان بحاجة إلى ألفاظ لا توجد في أي لغة وبالأخص اللغة العربية؛ أو في لغة العرب التي لم تكن حاملة لثقافة قوم عالم ومثقف، بل مرآة لثقافتهم آنذاك، التي كانت أكثر أمورها أوصاف المعشوق، وحكاية الحروب، وصفات الجمل، ورؤية المياه الآسنة في الحفر.. ولا تتجاوز ثقافتهم عن مثل هذه الأمور[9].

والسؤال هنا: لماذا يحتاج القرآن إلى مثل هذه المعاني العالية الفخيمة التي لا يوجد لها مقابل في أي لغة؟
لأنه مع كونه بلسان القوم ولسانه لسانا عرفيا، ولكنه بسبب بعض الخصوصيات كان نصا ممتازا ومنحازا من الأساس.
يعني يكون له مبدءا وحيانيا من ناحية الأصل، ومن ناحية الغاية فإن غرضه الهداية، كما أنه شاملا للزمان والمكان.
ومن البديهي في أجواء مثل هذه اللغة، من أجل تبيين مقاصده الراقية ومفاهيمه العالية، لا محيص عن الاستعارة. لكن في نفس هذا النص النوراني هناك قرائن تبين أن بعض التعبيرات في القرآن تكون استعارات مثل: (وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) التي تبين أن المقصود من اللبن أنه لبن لا يشبه لبن هذه الدنيا؛ لأننا نعرف بالوجدان أن لبن الدنيا يتغير طعمه مع مرور الزمان وتغيير الشروط المحيطة به. لذلك يكون هذا اللفظ مشيرا إلى معنى آخر، يكون متناسبا مع اللبن وخصوصياته بوجه من الوجوه أو بسبب من الأسباب.

قطعا، إن فتح أسرار هذه الدقائق يتطلب مجالا أوسع ومقالا أعمق، وما مر يبدو أنه كان كافيا في رد الشبهة ولو بشكل جدلي. والإشكالات في هذا القبيل من هذه الموارد المذكورة، التي جعلت المحارب للقرآن مشغولا ومشغوفا بها في الوقت الحاضر- ليست أمورا حديثة لم تخطر ببال الباحثين في القرآن في خلال هذه القرون الأربعة عشر التي مرت...
وقد رأى هؤلاء الباحثون، من وراء حجاب الألفاظ ببيانات متعددة أن مستوى التأمل والتدبر في نص إلهي يكون غايته الهداية، ويدعي الشمولية في الزمان والمكان، هو أعلى من مستوى الجرائد والمحاورة العادية؛ لأن اصطياد اللطائف العميقة من متن يكون في غاية الإيجاز وغاية البلاغة يحتاج إلى الحلم والبحث الدءوب.
إن دقائق هذا الكتاب مستورة في حجب ثقيلة عن أفهام العوام التي سقطت إلى أدنى مستويات الحياة اليومية، والذين لا يكون فهمهم من المتون مبنيا على منهج علمي سليم، ومن ثم يدخلون في هذا الوادي خاليي الوفاض، بدون الاستفادة من آراء جهابذة هذا الفن بدون أي رأس مال. ومن يحرم نفسه من ثمرة تجربة قرون وميراث غني لفهم القرآن يكون في الواقع فقيرا؛ لأن الإنسان العاقل ينبني علمه على أعمدة متقنة من علوم القدماء. والتي نرجو أن تصير الأمور كذلك.

-------------
الحواشي:

(*) البحث بقلم: د. زهرا إخوان صراف، كاتبة وأستاذة في جامعة الإمام الصادق في طهران، من إيران.

[1] أطلقت العرب من باب التفاؤل اسم مفازة على صحراء، تفاؤلا بأن من يمر فيها سيفوز بالنجاة ولن يهلك كما كان يحدث لمعظم الناس قديما، وكذلك تطلق العرب اسم (سليم) على اللديغ أو المريض تفاؤلا بسلامته.

[2] - أخرجه ابن المبارك فى الزهد (1/23 ، رقم 93) ، وكذلك في كنز العمال وغيره وكل طرقه مرسلة.

[3] تاج العروس من جواهر القاموس: محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني.

[4] (تفسير الماوردي: النكت والعيون)

[5] لم أجد هذا القول عن ابن عباس، إنما جاء في تفسير فتح القدير للشوكاني: (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا)، الورد العطاش قاله الأخفش وغيره وقال الفراء وابن الأعرابي هم المشاة وقال الأزهري هم المشاة العطاش كالإبل ترد الماء؛ فهم يساقون مشاة عطاشا أفرادا وأصل الورد الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك والورد الماء الذي يورد) سورة مريم ج3/351

[6] نص الحديث يقول (قيل يا رسول الله أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين ؟ قال : ( بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة ) قلت: يا رسول الله وبما ذاك ؟ قال : ( بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان خضر الثياب صفراء الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبؤس أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا ) قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها ؟ قال : ( يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول : أي رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقا في دار الدنيا فزوجنيه يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة) المعجم الكبير للطبراني

[7] جاء في تفسير الطبري: عن ابن عباس ، في قوله : ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا ) قال : هن من بني آدم ، نساؤكنّ في الدنيا ينشئهنّ الله أبكارا عذارى عربا)

[8] ليس كل المفسرين يرون ذلك، بل قلة قليلة، وأيضا كان الواجب ذكر بعض هؤلاء المفسرين الذين يرون ذلك.

[9] لا أتفق مع الكاتبة في هذه الفكرة، من عدة نواح منها: أن اللغة العربية لغة واسعة وغنية بدليل أنها استوعبت كل علوم اليونان وفلسفتهم عندما تم ترجمتها إلى اللغة العربية في القرن الثاني الهجري. وأيضا القرآن الكريم لم يكن عاجزا عن استخدام أي لفظ يقرب أي معنى للأذهان بسهولة ويسر.



#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللغة الفارسية والمحاكاة
- معنى الكتابة في القرآن
- بين الصداقة والحب
- الشجرة الملعونة
- أينقص الدين وأنا حي؟
- لماذا أحبك (نقد قصيدة)
- كيف حملت العذراء بالسيد المسيح
- قافلة الرقيق
- في شغل فاكهون
- في البدء كان الكلمة
- التجسد
- حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
- الصلاة الربانية وسورة الفاتحة
- في سيناء (سيرة ذاتية)
- السلام العالمي والإسلام
- غموض الشعر بين الحداثة ونظرية ابن خلدون
- أهل الكتاب
- السحر والعلم والشعر في سورة الشعراء
- مفهوم الحسنة والسيئة في الإسلام
- تأثر أحكامنا بالجمال


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - نافذ الشاعر - تأثر القرآن بثقافة العصر الذي نزل فيه (*)