|
الخطاب العلني للقوى المقهورة ضد القوى القاهرة
صاحب الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 1192 - 2005 / 5 / 9 - 11:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حين تعمد سلطة الاستبداد لاستخدام العنف المفرط ضد أفراد المجتمع وتضيق عليهم سُبل العيش وتهدر كرامتهم وإنسانيتهم في كل مناسبة، تنغرز في ذواتهم هواجس الحقد والكراهية بما يفوق طاقتهم على التحمل. وما لم يتم طرد شحنات الحقد والكراهية إلى خارج الذات باستخدام الخطاب العلني أو العنف المضاد لاستعادة الكرامة المُستلبة تصاب الكينونة بأمراض خطيرة. وبهذا الإطار من الضغط النفسي الكبير وما تمارسه سلطة الاستبداد ضد الإنسان المقهور، يتقلص هاجس الخوف والخشية للمحافظة على الذات من الهلاك، مما يؤدي إلى تعطيل آليات العنف لسلطة الاستبداد وتقتصر مهمتها حين ذاك على القتل من أجل القتل ليس إلا!. عند هذه النقطة الحرجة من استخدام العنف المفرط، يتحول خطاب الإنسان المقهور من خطاب مستور ضد السلطة بسبب الخوف والخشية من البطش إلى خطاب علني ومتحدي للسلطة متجاوزاً حاجز الخوف والخشية لأن قيمة حياته وموته تصبح واحدة!. إن استخدام الإنسان المقهور للخطاب العلني ضد السلطة، يعد تعبيراً صريحاً عن لغة القوة والتحدي لتقليل من هيبة السلطة وتحيد آليات العنف لديها. يعتقد ((جيمس سكوت))" إن إعلاناً أولياً مكشوفاً عن الخطاب المستتر، يعد تصريحاً بخرق بموازين وعلاقات القوى غير المتكافئة. ويحدث شرخاً في جسم الصمت الهادئ الذي يوحي بقوة عن إعلان الحرب". إن نقطة التحول العظمى للخطاب العلني تؤدي إلى تغيير موازين القوى للإطراف المتصارعة، حيث تلجأ القوى المقهورة لإعلان الحرب وبهجوم كاسح على القوى القاهرة. وتتخذ الأخيرة حالة الدفاع عن النفس، لامتصاص حالة الهجوم والرد بهجوم معاكس في الوقت والمكان المناسبين، ولكن إذا لم تتهيأ الفسحة اللازمة لذلك يتحين منتسبي الأجهزة القمعية الفسحة للهزيمة خشيةً من عمليات الانتقام وما يمكن أن يطالها تاركة رموز سلطة الاستبداد لموجهة مصيرها المحتوم. لايكتفي الإنسان المقهور بإعلانه الخطاب العلني ضد سلطة الاستبداد، وإنما يعمد لمهاجمة منتسبي أجهزة القمع وجهاً لوجه للتعبير عن حالة الرفض ساعياً لطرد شحنات الحقد والكراهية من ذاته إلى الخارج. يعبر ((باسكال)) عن شعور الإنسان المقهور للإعلان عن خطابه العلني ضد القوى القاهرة قائلاً:" أريد أن أصرخ في وجهك، حتى يكون لصراخي وزنه". وتعمد سلطة الاستبداد لاتخاذ كافة الإجراءات لتحجيم الخطاب العلني للقوى المقهورة، وتقليص فسحة تحوله المفترض إلى الخطاب العلني المصحوب بالعنف ضدها من خلال إطلاق الوعود بإجراء الإصلاحات استجابةً لرغبات القوى المقهورة وإطلاق الوعود بمحاسبة المقصرين وتحميلهم المسؤولية عن معاناة السكان لتبرأت رموز سلطة الاستبداد وامتصاص مشاعر الغضب والهيجان الشعبي. وإذا تمكنت سلطة الاستبداد من تحقيق غايتها في تحجيم الخطاب العلني وعدم تحوله إلى شكل من أشكال الاستخدام العنفي ضدها، تكون قد نجحت بشكل مبدئي في احتواء الخطاب العلني وشخصت النخب والقيادات المحرضة عليه، حينها تعمد لاتخاذ إجراءات عنفية غاية في القسوة لتعميق حالة اليأس والخيبة لدى القوى المقهورة وتعطيل هواجسها في التحدي والمعارضة في المستقبل. إن نجاح السلطة المستبدة في تحجيم الخطاب العلني، يفرز عدة نتائج منها: تراكم الخبرة لدى القوى المقهورة في التصدي للقوى القاهرة مستقبلاً، وتحول هاجس الخوف والخشية من ذوات القوى المقهورة إلى ذوات القوى القاهرة (منتسبي الأجهزة القمعية) وينتابهم حالات من الرعب والخشية من الانتقام وما يمكن أن يطالهم عند انهيار النظام. لذا تعمد القوى القاهرة لتقمص نفس دور القوى المقهورة في التمويه واستخدام الأقنعة المتعددة بينها وبين سلطة الاستبداد للتهرب من تنفيذ أوامرها بالقمع أو تميعها أو التخفيف من حدتها، حفاظاً على ذاتها ورغبة منها لإبداء تعاطفها مع السكان وتصوير الأمر (بشكل مستور) على أنها أجهزة تنفيذية ليس إلا. ترصد ((آلبرت رابوتو)) حالة من حالات التحول للخطاب المستور إلى الخطاب العلني المصحوب بلغة التحدي والتهديد جاء على لسان إنسان مقهور ضد إنسان قاهر قائلةً:" بمقدورك أن تهرب من كلماتي، وبمقدورك أن تستخدم كل الأساليب الملتوية لكي تحقق ما تريد من مصالحك وعلى حسابنا لكنك يجب أن تعرف بمقدورنا استخدام أيدينا للدفاع عن أنفسنا. ولكوني تجرأت على قول بما يجول في خاطري فتأكد إن كثيرين غيري، يضمرون لك في داخلهم مثلي. إن رائحتك تشبه رائحة الكبريت العفنة، ينفر منها كل إنسان مقهور في هذا المجتمع". إن لغة الخطاب العلني المصحوب بالتحدي والتهديد للقوى المقهورة، هو بمثابة إعلان لحرب شاملة ضد القوى القاهرة. وتعمل القوى القاهرة جاهدةً بين آونة وأخرى الإيعاز لنخبها على توجيه النقد المباشر لأداء النظام عبر الصحافة أو إجازة بعض النصوص المسرحية أو المسلسلات التلفزيونية المنتقدة لأداء النظام بغرض إجراء نوع من التنفيس للاحتقان الاجتماعي لامتصاص النقمة وشحنات الحقد والكراهية من ذوات القوى المقهورة لإعاقة تحول خطابها المستور إلى لغة الخطاب العلني المصحوب بالتحدي والتهديد المباشر للنظام. وتعد الأجهزة الأمينة لنظام الاستبداد خطة لـ (تنفيس الاحتقان الشعبي) وتوكل أمر تنفيذها لنخب النظام أو نخب محسوبة عليه في الخفاء ومعادية له في العلن لأجل تحقيق أهدافها في امتصاص النقمة الشعبية، وإعاقة سُبل التحول للخطاب المستور إلى الخطاب العلني الذي يمكن أن تستثمره النخب المعارضة وتوظفه لصالحها. إن محتوى الخطاب المستور للقوى المقهور يتضمن همومها اليومية: ارتفاع أسعار المتطلبات الأساسية، وقلة الأجور، والفساد الإداري وتفشي الرشاوى في مؤسسات الدولة، وزيادة الضرائب، والممارسات غير الإنسانية لمنتسبي أجهزة القمع والمتنفذين في السلطة ضد أفراد المجتمع....وغيرها. تلك الهموم اليومية، تعمل القوى المعارضة على توظيفها في خطابها لتحريض الجمهور ضد السلطة، في حين لو تبنت سلطة الاستبداد ذاتها وبشكل غير مباشر أجندة تحول الخطاب المستور إلى الخطاب العلني عبر صحافتها وأعلامها، يتم تفريغ الخطاب العلني ذاته من الدلالة والمحتوى لتنفيس الاحتقان الشعبي وسد الطريق على قوى المعارضة لتوظيفه لصالحها. وبذات الوقت، توحي للمجتمع بأن رموز النظام ذاته غير معنية بذلك وإنما المسؤولية تقع على عاتق المجتمع، لأنه مجتمع فاسد يسمح بتفشي هذه الظواهر الغريبة فما شأن رأس النظام ورموزه؟. إن العاملين في أجهزة ومؤسسات الدولة هم من أبناء هذا المجتمع الفاسد، فهل المطلوب من رأس النظام ورموزه تكليف أشخاصاً آخرين من غير أبناء هذا المجتمع لأجل إصلاح مؤسسات الدولة؟. وبهذا الخطاب العلني لسلطة الاستبداد، توهًّم المجتمع بأنه يتحمل المسؤولية وعليه أن يصلح نفسه قبل أن يطالب السلطة بالإصلاح. وإن السلطة مرغمة (في أغلب الأحيان) على استخدام العنف لاستئصال الظواهر الشاذة من مؤسساتها، وهذا الاحتواء للغة الخطاب العلني وما تعمد إليه سلطة الاستبداد يهدف لتنفيس الاحتقان الكامن في ذوات القوى المقهورة وإحكام القبضة عليها لأمد طويل.
#صاحب_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لقاء صحافي مع الباحث وخبير المياه في الشرق الأوسط السيد صاحب
...
-
سمات الخطاب المستور للقوى المقهورة
-
ردًّ الفعل الشعبي ضد ممارسات القهر والاستبداد
-
الصراع السياسي المستور بين القوى القاهرة والمقهورة
-
الكراهية والحقد الكامن في ذات الإنسان المقهور
-
السياسيون القردة
-
صراع القدر والإرادة بين السماء والإنسان
-
نشوء الدول القديمة والحديثة
-
صلاحية الحاكم والمحكوم
-
صراع العاطفة والجمال بين المرأة والطبيعة
-
التأثيرات السلبية للفقر والجهل على المجتمع
-
استحقاقات الرئاسة القادمة
-
مَلكة الإبداع بين العبقرية والالهام والفطرة
-
قيم الراعي والقطيع السائدة في الكيانات الحزبية
-
الحكمة والحقيقة في الفلسفة
-
مراتب المعرفة عند الفلاسفة
-
ماهية الإحساس والمعرفة في الفلسفة
-
صراع القيم والمبادئ بين الفلاسفة والملوك
-
تأثير الاستبداد والعنف على اختلال أنماط السلوك الاجتماعي
-
دور علماء الاجتماع في تقويم المجتمع
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|