أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علي هصيص - حكاية ليث ( 1 - 15 )















المزيد.....


حكاية ليث ( 1 - 15 )


علي هصيص

الحوار المتمدن-العدد: 4136 - 2013 / 6 / 27 - 19:43
المحور: سيرة ذاتية
    


حكاية ليث (1 – 15)

(نشرت الحلقات على الفيسبوك)

(1)
سكنت عمان 10 سنوات متتابعة، وقضيت قرابة 7سنوات في جبل اللويبدة الرائع المدهش، كنت كثيرا ما أخرج وحدي في الليل قاطعا مسافات طويلة ما بين اللويبدة وجبل الحسين أو اللويبدة وجبل عمان، كنت أحيانا أكون وحدي من يصعد الدرج الطويل وينزله في تلك الليالي.
حقيقة كنت أتخيل ان هناك أشباحا من خلق ما تسكن هذا الدرج وتحرسه للأبد!
لو كان لديكم وقت لحدثتكم عن ليث؛ ذلك الفتى الشركسي الذي يسكن على منحدر ما بين اللويبدة والحسين، ليث ما زال حزينا حتى اليوم!
ألم أقل لكم أن هناك أشباحا من خلق ما؟!

(2)
أمس نشرت منشورا تحدثت فيه عن بعض رؤاي في عمان، وتحدثت عن الطفل الشركسي الحزين ليث...
حقيقة لم أتوقع أن تأتيني تعليقات كثيرة في صفحات كثيرة تطلب مني أن أواصل الحديث عن ليث!
اليوم تحدثت مع ليث هاتفيا، ليث لم يعد طفلا، ولكنه ظل حزينا حتى لحظة مكالمتي إياه هذا اليوم، طبعا أخباره لا تسر، وإن كان يحاول أن يبتسم دائما ويخفي الألم.
كنت أود ان أحدثكم اليوم عن ليث يوم حصلت الهزة الأرضية القوية التي داهمت المملكة عام2004، ولكني آثرت أن أحدثكم عن جدة ليث الرائعة المكافحة في هذه الحياة اليابسة من أجل ليث ومن أجل الحياة، أوصتني ذات يوم أن أحضر لها سطلية جبنة من خيرات إربد، فأحضرتها لها، وأصرت أن تدفع ثمنها وأقسمت على ذلك، ولكني قلت على مسمعها: (المرة الجاية رح تكون هدية مني)، ولكن للأسف لم أوفِ بوعدي حتى اليوم! ويبدو أن السبب هو أني رحلت من الحي بعدها، ولكني حملت معي أجمل الذكريات المزهرة بين جبل اللويبدة وجبل الحسين!
قصة ليث قصة رائعة...

(3)

ذات يوم أحد كنت عائدا من إربد، وبعد انتهاء دوامي في مدرسة ضرار بن الأزور على جبل اللويبدة، مررت قريبا من بيت ليث، حيث كنت أمر أشرب الشاي في محل صغير يملكه أبو رامي الحرامي، هو ليس حرامي، ولكنه نصاب، وقد استطعت أن أسترد 100 دينار منه من أصل 120 من خلال ما يمكن أن أسميه "القانون الخفي"، أبو رامي النصاب حدثني عن مشهد مروع حدث قريبا من بيت ليث مساء الخميس، وهو أن شابا كان يقطع الشارع ليوصل كأس القهوة لأحد السائقين، فجاءت سيارة مسرعة ، والحديث الآن في شارع السلط، ورسميا شارع الملك حسين، الذي يفصل جبل اللويبدة عن جبل الحسين، السيارة المسرعة أخذت في طريقها ذلك الشاب المسرع، وألقته أمام سيارة مسرعة أيضا تأتي من الاتجاه المعاكس، لتأخذه هي الأخرى بطريقها، حيث انفصل رأسه عن جسده باستثناء لحمة في مؤخرة الرقبة ظلت ملتصقة في لحم الظهر!
هذا الشاب عمره 30 عاما ، كان يرفض الزواج ليظل يعيل أمه العجوز...
ليث ليس حزينا فحسب، ولكن الأحزان تحيط به بين الحين والآخر أيضا!

(4)
لو ابتعدنا قليلا عن بيت ليث، وتحديدا سننزل بضعة مئات من الأمتار باتجاه الشرق الذي يأخذنا إلى وسط البلد، وأفضل علامة لتحديد المكان الذي سنكون فيه هي مطعم هاشم.
كان يوما حارا من أيام رمضان الفضيل، ولم أتوقع أنه سينتهي بحدث أشد حرارة منه، فبعد أن تناولت طعام الإفطار في أحد المطاعم، وبعد خروجي بثوان من المطعم، سمعت صوتا عاليا جدا، تبادر إلى ذهني في الوهلة الأولى أنه عبارة عن كيس حجارة كبير سقط على ألواح تنكية! بمعنى أن الصوت هو تكسير حجارة في مكان لا يناسب هذا الشيء!
التفت حيث مصدر الصوت، فلم أرَ شيئا، حتى هممت بإكمال المسير، ولكن الأصوات بدأت تتعالى وتكسر هدوء المساء الرمضاني، وبدأ الناس يتجمعون، فذهبت ودخلت بينهم فإذا أمامي رجل خمسيني ملقى على ظهره، وجبهته مكسورة كسرا طوليا واضحا ودمه ينزف، وهو يردد: يا الله... لا إله ألا الله...
سألت أحدهم فقال: لقد سقط من أعلى هذا الفندق!
سقط من الفندق وجاء على وجهه فوق كشك لبيع الكتب، وقد كان الكشك مسقوفا بالقرميد الأحمر الذي تكسر إثر سقوط الرجل عليه، ثم سقط الرجل من على سطح الكشك إلى الأرض حيث جاء مستلقيا على ظهره بجوار بسطة الكتب.
طلب منا أحدهم أن نبتعد حتى نفسح مجالا لمرور الهواء من فوق هذا الرجل، ابتعد بعضنا، في حين ظل بعضهم يقترب أكثر وأكثر!
دقائق قليلة ووصل الدفاع المدني.
ظللت أفكر طويلا تلك الليلة، وقد خلصت إلى أن الرجل بعد الإفطار كان يعمل في إصلاح شيء على سطح الفندق فسقط وهو يعمل.
ولكن هذا التفسير لم يكن شافيا، وقد مررت بعد أسبوع تقريبا من الحادثة، وسألت الرجل السبعيني، صاحب الكشك، عن الموضوع، ولم أتوقع منه أن يسرد كل التفاصيل التي سأحكيها بعد يومين.

حكاية ليث (5)
ما زلت أفكر بذاك الرجل، وتلك الدماء الساخنة على رصيف الألم! قال أحدهم: عندما سقط عن سقف الكشك كان تحته سائح وسائحة لو سبق ثانية واحدة لسقط عليهما.
أما الرجل السبعيني صاحب الكشك فقد أفادت شهادته بأن الرجل كان قد أتى من بلد عربي مجاور، وأراد أن يقوم ببعض المعاملات، وقد كانت رسوم المعاملات باهظة ولم يكفه المال الذي بحوزته حتى لمصاريفه الشخصية! اتصل ببعض أهل الخير، وببعض الجهات الخيرية، ولكن مشكلته ظلت تتفاقم حتى أقدم على الانتحار!
وعندما سألته عن مصيره قال: هو الآن في مستشفى البشير؛ وجهه ملفوف بالجبص وكذلك يداه. وأفاد الرجل بأن الجهات الأمنية قد استدعته واستجوبته عدة مرات بشأن هذا الحادث.
بعد شهر عدت وسألت صاحب الكشك أيضا عن الرجل فقال: لقد شافاه الله وعافاه، وقام مجموعة من أهل بلده بجمع المال له، وجاء ابنه وعاد به إلى وطنه.

لو وقفنا مقابل بيت ليث واتجهنا هذه المرة باتجاه الغرب، بضع مئات من الأمتار أيضا وبالتحديد إلى مجمع العبدلي، وبتحديد أكثر ندخل أحد المطاعم... ترى ما الذي جرى؟

(6)
ما أغرب عمان وما أكثر حكاياها!
نحن الآن نتجه غربا من بيت ليث، باتجاه مجمع العبدلي، الذي خسر وهجه ورونقه باسم ما يسمى "الاستثمار"!
كنت أتردد هناك على أحد المطاعم، وكان الشاب صاحب المطعم لطيف المعاملة حسن الخدمة، ويحرص على مصلحته بشكل لافت.
يوما ما كان لدينا نشاط في المدرسة، وطلب مني المدير أن أقوم أنا بشراء الوجبات، فأحببت أن يتنفع هذا الشاب، فذهبت واشتريت الوجبات من عنده، وطلبت منه فاتورة، فقال: تعال غدا لأعطيك إياها.
مررت في اليوم التالي وقال تعال بعد غد، فاستغربت هذا، وقلت حسنا!
عدت إليه فاعتذر وقال صاحب المطعم غير موجود.
عدت بعد أيام، فقال طلبت من صاحب المطعم أن يكتب الفاتورة ولكنه قال حين أكون موجودا أكتبها له، وطلب مني أن أعود في موعد آخر!
بدأت أرجم بالغيب، وأحيانا كنت أرجم باليقين! فما هو اللغز في تأخير فاتورة مستحقة عرفا وقانونا وما إلى ذلك من ألفاظ الاستحقاق؟!
عدت ثانية وثالثة ورابعة وهو يسوّف الأمر! والمدير يطالبني بالفاتورة...
قلت في نفسي: إن كان يريد التهرب من الضرائب فبإمكانه إعطائي فاتورة مختومة وغير مروّسة. وإذا كان يريد أن يتحايل على صاحب المطعم -مع أنه يبدو أنه هو صاحب المطعم- فلا بد من أن أخبر صاحب المطعم وأن أحصل على الفاتورة منه.
لا أدري إن كنتم تستطيعون الاجتهاد وتساعدونني في معرفة السر من وراء هذا التهرب بهذه الطريقة من فاتورة متواضعة المبلغ!
استمر التسويف ثلاثة أسابيع وربما أكثر قليلا، حتى ذهبت إليه في يوم وكلي إصرار على أن ألتقي بصاحب المطعم، لأخبره عن الموضوع كاملا.
ذهبت إليه وقد لاحظ الشاب الغضب باديا في وجهي...
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
إذا سمحت ممكن الفاتورة؟!

(7)
من الصعب على الإنسان أن يحسن النوايا دائما!
لم أتوقع أن يحتبس الشاب داخل نفسه وأنا أطلب منه الفاتورة بتلك النبرة الحادة، ولم أتوقع أيضا أن يذهب بتباطؤ إلى طاولة المحاسبة ويأتي إلي ببطء أيضا، وهو يحمل بيده قلما وختما ودفتر الفواتير ويقول لي وعيناه بعيدتان عني: (هاي دفتر الفواتير، اكتب اللي بدك اياه، أنا ما بعرف اقرا ولا اكتب...)
كان صوته مجروحا، ووقفته مهزومة، وأدركت حينها أن العلم ليس سلاحا ليعيش الإنسان بسببه فحسب، بل هو سلاح ليقف الإنسان بعنفوان أيضا أمام الآخرين!
بعد يومين موعد زيارتنا لبيت ليث، سنزور جدته... أقصد سنزور جدتنا الشركسية، طعم شايها بالنعناع لا يـُنسى، وإن كان يشوبه شيء من طعم الحزن!
سنرى البيت، وسنجلس كما طلبت أنا في ساحة البيت (حوش الدار)، وسنرى الأشجار: شجرة التوت والشجرة الثانية التي أعرف أنها شجرة الخشخاش، وأضافت لي جدتنا الشركسية معلومة حين قالت: في الشام يسمونها النارنج! كنت أسمع بالنارنج ولكن لا أعرفه
ثمة أشياء أخرى: التنك الموزع على أطراف الساحة، والمزروع بالأزهار المختلفة، الأرجوحة التي صنعها ليث على شجرة الخشخاش، أقصد (النارنج)! سنرى الخشب المصفوف بشكل متناسق والذي يمكن أن يشكل ورشة نجارة صغيرة.
هناك أشياء أخرى أذكرها وأشياء لا أذكرها
دعونا ننظر إلى جبل الحسين من رصيف شارع السلط (شارع الملك حسين)، دعونا نقطع الشارع، ونصعد الدرجات ونقف على العتبات ونطرق الباب
في تلك الزيارة شيء ما أزعجني

(8)
صعدنا الدرجات أنا وزوجتي وولدنا حسين، كان عمره ستة أشهر، طرقت الباب بغير موعد، فليث في عام 2003 لم يكن لديه هاتف في البيت، ولا هاتف نقال
فتح ليث الباب فدهش حين رآني، وصاح قائلا: ستي... الأستاز علي...!
ولم أتوقع أن تكون فرحتها أكبر من فرحة ليث حين قالت بصوت مرتفع نسبيا: ياااااا أهلا وسهلا...
دخلنا وجلسنا في حوش الدار تحت الشجر، كانت جدتنا الشركسية وكأنها لا تصدق نفسها
وعلى الفور وقبل كل شيء، فوجئنا بها تأتي بخمسة دنانير وتضعها في ملابس ولدنا حسين، وعبثا حاولنا ردها عن هذا، ولكنها أصرت مع ليث وقالت: هذه عاداتنا
حقا كان شايها الممزوج بالحزن شايا طيبا كقلبها الشركسي الطيب
تحدثت وتحدثنا في ذلك اليوم الصيفي الجميل! ولكن "ليث" أصر أن يدخل شيئا من الغضب إلى نفسي حين حمل الطفل بطريقة عشوائية خاطئة لا تخلو من اللاأبالية، حتى كاد الطفل أن يتشقلب من بين يديه ويأتي رأسه على الأرضية الإسمنتية الصلبة!
حقا غضبت، فهو حين أراد إنقاذه "شعتله" من قدميه أيضا...!
شيئا فشيئا هدأ الغضب عني، وقلت في نفسي: ليث غير معتاد على ملاعبة الأطفال!
الحرمان من اللعب مع الإخوة، ليس هو الحرمان الوحيد في حياة ليث!

(9)
عرفت ذلك الرجل الشيوعي في المقر القديم لرابطة الكتاب الأردنيين، في شارع إبراهيم طوقان باللويبدة، وقد كنت أسكن قريبا من هناك، وكان هو أيضا يسكن قريبا مني.
من خلال تبادل الحديث المستمر معه تبين أن الرجل شيوعي، بل ومتجذر في شيوعيته، ودخلنا في نقاشات حول المعتقد، وكان يقولها: لا يوجد خالق ولا إله. فسألته مثلا عن تدينه وهو صغير وكيف تم تغيير أفكاره تجاه الخالق. فقال: لم أومن بوجود إله في أي يوم، بل ومنذ طفولتي وأنا أعتقد بهذا المعتقد، ووجدت الأفكار الشيوعية تتوافق مع الكثير من أفكاري فانتسبت للحزب الشيوعي.
واعترف بأنه لم يصم يوما، ولم يدخل المسجد مع أبيه أو أي أحد وهو صغير، ولا يذكر أنه ركع ركعة واحدة في حياته!
لست مؤهلا للخوض في أحاديث العقائد، وكذلك هو كانت أحاديثه منقولة من الكتب، فقد كان قارئا جيدا، ولكن لم اسمع منه أي رأي تبناه جاء من عنده سوى إنكار وجود الله. فمن آرائه المنقولة مثلا: إبراهيم وإسماعيل شخصيتان دينيتان وليس لهما أي وجود تاريخي حقيقي... وقد ورد ما يشبه هذا الكلام في كتاب "تاريخ اورشليم" للباحث السوري فراس السواح. ومن آرائه التي كان يتشبث بها ويستغلها للطعن بالدين، أن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في السنة السابعة للهجرة، فكيف له أن يروي آلاف الأحاديث عن النبي في غضون أربع أو خمس سنوات؟ وبالطبع فإن هذا الرأي أيضا ليس من عنده، فقد ذكر في كتاب "الإسلام السني" لباحث تونسي نسيت اسمه.
وقد قدم ذات يوم معلومة خاطئة مفادها أن القائد صلاح جديد رجل سني، والصحيح أنه علوي.
ذات يوم أريته صورة فضائية لإعصار تسونامي تظهر أن الأمواج قد كتبت على سطح البحر كلمة "الـلـه".
فقال: أنتم كلما رأيتم خطين متعامدين جعلتم منهما "الله"؟!
لا أنكر أني قد استفدت من محاوراته أشياء كثيرة، ولكنه طلب في اللنية ألا نخوض في أحاديث المعتقد، مع أن الأحاديث كانت تدخل عرضا في أغلب الأحيان ولم اكن أتقصد الجدل معه.
يوما بعد يوم بدأت الأحوال الصحية تسوء لهذا الرجل، وقد رحل بعيدا عن اللويبدة.
في المرة القادمة سيمرض هذا الشيوعي مرض الموت!

(10)
رحل الرجل الشيوعي عن اللويبدة، بالطبع لا أقصد أن أنتقص أو أسيء بتسميته "الشيوعي" ولكن هذه هي الزاوية التي تحدثت من خلالها عن هذا الرجل، وهو نفسه بالطبع، لم يكن يخفي هذا الوصف أو يتحسس منه.
وأشير إلى أنني قلت في المرة السابقة إنني كنت أستفيد من بعض كلامه، والمقصود بالطبع ليس كلام المعتقد والإلحاد؛ فالرجل يحمل شهادة البكالوريوس في الفلسفة، وهو قارئ جيد، فلا شك أن لديه الكثير مما يمكن أن يتحدث به ويقدمه للآخرين، وقد كان يكبرني بربع قرن تقريبا، وتجربته في الحياة واسعة في الأسفار وفي السجون السياسية.
كان يردد عبارة أعجبتني تقول: هناك أناس يخدمون الفكرة، وهناك أناس يستخدمون الفكرة.
رحل ومرت أشهر ولم أره! حتى صادفته في أحد الأيام في منتدى ثقافي خارج العاصمة عمان، كان جالسا على إحدى الأرائك وهو ينظر إلي ولا يستطيع أن يسلم علي، فانتبهت إليه، فإذا وجهه أصفر شاحب، وجسده قد نحل كثيرا، وفوجئت به حين مددت له يدي لأسلم عليه لا يمد يده ليسلم! وسبب هذا عجزه عن تحريك يديه بسهولة!
سألني عني وعن أحوالي، ولم أكن أفهم أكثر كلامه، فكنت أجيبه حسب فهمي للسياق العام الذي يتحدث فيه، ولاحظت أن لديه رغبة في الحديث ومواصلة الكلام، حتى سألني عن موضوع ثانوي تماما لا علاقة له به، ولا أدري ما الذي ذكره به!
سألت أحد الشباب عنه، فاخبرني عن مرضه -عافاكم الله-، وسألته إن كان قد عاد إلى ربه، فأخبرني بأنه ما زال على فكرته الأولى ولم يتزحزح عنها!
ولكن الله يمهل عبده، فما تزال أمامه الفرصة الأخيرة، سيدخل مستشفى البشير، وهناك سيجد من يذكره بالله قبل أن يسلم الروح!
ترى هل سينطقها؟!

(11)
تعقيبا على الحلقة السابقة، جاء تعليق من أستاذي الدكتور عرسان الراميني، يقول فيه: الشيوعية شيء والإلحاد شيء آخر. الشيوعية نظام اقتصادي اجتماعي بالدرجة الأولى، ثم تأتي السياسة والدين ملحقين بهذا النظام. ومن حيث الدين بصفة خاصة، فإن الفكر الشيوعي لا يلقي بالا إلى العقائد السماوية، ويعد الاهتمام بها والنقاش حولها مضيعة للوقت، بل تعطيلا لآلة الإنتاج؛ ومن هنا، جاءت مقولة الشيوعيين "الدين أفيون الشعوب". بعبارة أخرى، الشيوعيون يسقطون الدين من دوائر اهتماماتهم، في حين أن الملحدين يجعلونه محورا من محاور تفكيرهم، وينشغلون بإقامة الأدلة على أوهام الأديان".
وعلقت من بعده: " ولكن صاحبنا أستاذي كان ينظر إلى الشيوعية من باب إنكار الخالق بالدرجة الأولى وكان يلح على هذا، أما من حيث الاقتصاد؛ فكان في فكره وعمله رأسماليا محضا. وحقيقة أنا أعرف شيوعيين يؤدون واجباتهم الدنينية كاملة من صيام وصلاة، ولكن كثيرا من أتباع الشيوعية انساقوا وراء فكرة إنكار الدين، والتي وجدت من يروج لها في بعض المجتمعات العربية، وربما كان هناك من فهم الفكرة خطأ حين ظن أن الشيوعية مبدا ديني أولا، فراح يتباهى بالإلحاد.
الشيوعية تعطي حرية الفكر الديني، وتمنح الشيوعي حق ممارسة طقوسه، والاتحاد السوفييتي (سابقا)، كان مليئا بالكنائس، وكان فيه المساجد أيضا، وفيه معابد اليهود، وفي الأحوال الشخصية كان كل يتزوج ويعقد قرانه حسب ديانته
لا أختلف معك أستاذي، ولكن كما قلت: طرحت الأمر من منظور ذلك الرجل فحسب"
على أية حال، دخل الرجل الشيوعي مستشفى البشير، وكنت أتابع أحواله من خلال الأصدقاء الذين كانوا يزورونه، وقررت زيارته من أجل أن أذكره بأيام الله في آخر أيامه، وكلما حاولت زيارته كانت العوائق والانشغالات تقف بوجهي، فسألت أحد الشباب هاتفيا إن كان أحد قد ذكر اسم الله أمامه، وذكّـره به!
قال لي: لقد ذهبنا إليه، وطلبنا منه أن يذكر الله.
- وماذا كان رده؟
- غضب كثيرا، وكان يشير بعينيه بالرفض التام، ولم يكن يقدر على الكلام.
وسألت شابا آخر، فأخبرني بأنه كان يشير إليهم بالخروج حين كانوا يذكرونه بالله
قررت أن أذهب بنفسي، وأن أخلي ذمتي من هذا الأمر مهما كانت النتيجة، فاتصلت بأحدهم لأعرف في أي قسم هو، فأخبرني بأنه قد مات!
في المرة القادمة، سيطلب مني ليث طلبا غريبا، لا يخطر على بال أحد!
(12)
رغم الحزن المطبوع في قلب ليث، إلا أنه كان مقبلا على الحياة، ولولا أنه هو الذي بادر وباح لي ببعض همومه، لما كنت توقعت أن في قلبه ذرة من حزن! فقد كان، وما زال، مقبلا على الحياة، محبا لها، بشوش الوجه، طيب القلب، صادق الوعد، ورغم صغره نسبيا، إلا أنه كان يدرك ما يحيط به من تجاذبات الحياة وتصاريفها؛ فكان لزاما عليه أن يكون أكبر من سنه قليلا!
ذات يوم جاءني ليث مندفعا! وكان يومها في الصف السادس. قال لي: أستاذ، بدي أعمل كتاب...، بدي أصير مؤلف
لم يكن الفتى مازحا، ولا ضاحكا! ولكن بماذا يمكن أن أجيبه؟ هل أقول له: إن وطنك يكره الإبداع والمبدعين، ويكرم الفساد والفاسدين!!؟
أشرت عليه بضرورة أن يقرأ ويقرأ
فقال لي: كيف؟
طبعا المرور ببعض المكتبات بالمدارس يحتاج إلى واسطة، ووقت المعلم بالكاد يكفي للقيام بالمهام المطلوبة، وأغلبها مهام عبثية، لا طائل من ورائها، تأتينا باسم التطوير التربوي، وتعزيز المهارات، وصقل الخبرات... ما شاء الله!
أشرت عليه بأن يذهب إلى مكتبة أمانة العاصمة، فهو يستطيع الوصول إليها، وليست ببعيدة عن بيته.
وبالفعل ذهب إليها على مدار يومين أو ثلاثة، وهو يقول: ما بعرف كيف!
وتلاشت الآمال العظيمة من رأس هذا الفتى، وعاد المؤلف الصغير خائبا!
كنا قد اعتدنا في المناسبات والاحتفالات، أن نقف دقيقة صمت على أرواح شهداء الأمة العربية، طبعا دقيقة الصمت هذه تحتاج إلى مكان وزمان مناسبين، فهل سمعتم بدقيقة صمت في قلب مجمع رغدان الصاخب بأناسه، والمـوار بأحداثه؟ ما سر تلك الوقفة يا ترى؟!

(13)
وصف أحمد فارس الشدياق ثوبا تلبسه امرأة، وكان مناسبا لها، بقوله: ثوبها عليها مثل وافق شن طبقة
شرقا من بيت ليث، وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات تقريبا يقع مجمع رغدان
كنت أسير في الممر الذي يفصل جناحي مجمع رغدان الرئيسين: مجمع الحافلات الكبيرة، ومجمع سيارات الأجرة الصغيرة، كثير منا ما يزال يتذكر ذلك الممر الذي امتدت إليه يد الخراب باسم التطوير والتعمير.
كان الوقت وقت الغروب، والساعة ساعة الذروة، مع أن ساعات مجمع رغدان كلها ساعات ذروة! فوجئت بتجمع الناس -وأغلبهم من فئة الشباب- في ذلك الممر الضيق والحيوي، فاقتربت حتى عرفت سر ذلك التجمع غير المعتاد في هذه المنطقة من المجمع!
جميعهم صامتون كأن على رؤوسهم الطير! لا أحد ينبس ببنت شفة، فهناك فتاة في الهوى من عمرها تقف على بوابة محل ضيق وصغير، وتمسك الهاتف الأرضي وتجري مكالمتها...
لباس الفتاة مثل وافق شن طبقة، بل قل أكثر مما وافق شن طبقة، من شدة ضيقه، عدا عن أنها على قدر من الجمال.
دقيقة صمت عجيبة تلك الدقيقة، لم يتلق الحضور أمرا من عريف حفل، بل لم يتلق أي واحد دعوة من أحد من أجل الحضور!
أنهت الفتاة مكالمتها ووضعت سماعة الهاتف مكانها، وبشكل عفوي تماما صفقت الأيدي لها! تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها مجمع رغدان مجتمعا على قلب رجل واحد!
أنهى الجمهور التصفيق بأدب واحترام، ولكن الفتاة ردت قائلة: شعب ما عنده...
عندها غضب الشباب وردوا عليها بكلام...
كان بصحبة الفتاة طفل هو بين العاشرة والثانية عشرة، أظنه أخاها، قادته وانسحبت، وانقسم الجمع نصفين بشكل عفوي وكأنهم يفهمون بعضهم مثل وافق شن طبقة! قسم الشباب الذين دون العشرين، ظلوا يلاحقونهاها، وقسم فوق العشرين راح لشؤونه، أنا كنت فوق العشرين.
كان في وجه الطفل وملامحه استغراب من نوع ما! كأنه يريد أن يعرف من المذنب ومن المسؤول: أخته أم الناس؟
في المرة القادمة سأتحدث عن رجل تسعيني تعرض لحادث غريب من نوعه!

(14)

منذ خشونة أظفاري، ومنذ أن وعيت على هذي الحياة، وأنا أشاهد "المولد"، قراءة قرآن، ابتهالات وأناشيد، توزيع حلوى من صناعة البيت، وعلى ما أذكر أنهم كانوا يوزعون صررا فيها شعير بالملح ردا للعين، وأذكر انهم كانوا يرشون الملح على العريسين كذلك.
على الجهة المقابلة لبيت ليث، وبالتحديد على أعلى جبل اللويبدة دعيت إلى "مولد" في بيت رجل من أصول شامية.
كان الشيخ أبو تيسير، إمام مسجد الشريعة، يطربنا بصوته الرخيم، وكانت لديه القدرة للتحكم بطبقات صوته، ومن بعده جاء شيخي الذي درست على يديه دورة في أحكام التجويد، الشيخ العراقي الشهيد عبد الباقي العاني رحمه الله، الذي قتله الأمريكان على أحد الحواجز في العراق.
كان صوت شيخي هادئا حزينا، يبعث الشجى والحزن في النفوس!
ما أفسد الجلسة بعض الشيء؛ هو صوت انفجار حدث في صالة المولد، لم يكن غازا ولا كازا...! وإنما كان هناك رجل ضخم الجثة، عظيم المنكبين جالسا على كرسي بلاستيكي، وفجأة انكسر هذا الكرسي به وسقط أرضا، ومن شاهد ليس كمن قرأ!
تناثر الكرسي شظايا في أنحاء الأرضية غير المفروشة، ونهض الرجل، وعادت الأمور شيئا فشيئا إلى ما كانت عليه، حتى لمحت ذلك الرجل التسعيني الوقور وهو يبكي!
كان الرجل التسعيني والد صاحب البيت، يسمع الابتهالات والأدعية ويبكي إلى الله!
بعد أشهر سمعت أن هذا الشيخ التسعيني تعرض لحادث مؤلم داخل البيت، حادث لم أسمع أن تعرض لمثله إنسان من قبل!

(15)
ذلك الرجل التسعيني، الذي تركناه يبكي ويناجي ربه في المرة الماضية، امتد به العمر قليلا بعد "المولد" الذي حضرناه برفقته، ويبدو أن الحكمة الإلهية تشاء لهذا الرجل المزيد من الأجر في هذه الدار الدنيا قبل أن يودعها ويسلم الروح لبارئها!
ذات مساء وبينما كان محاطا بالأبناء وأبناء الأبناء، وفي البيت نفسه الذي أقيم فيه المولد، يطلب الرجل ممن حوله الذهاب لقضاء حاجته.
أوصلوه وأغلقوا الباب، وراحوا يتابعون جلستهم، ويبدو أن الحديث استلبهم، أو أن التلفاز خطفهم قليلا، فنسوا شيخهم الكبير وقتا زائدا عما يمكن أن ينسوه!
بعد زمن من النسيان تذكروه، وشعروا بتأخره! نادوا عليه فلم ييسمعوا له صوتا، فتحوا باب الحمام، وكان ما كان من أمره المحزن!

كان يريد المغادرة، فزلت به قدمه أرضا، ويبدو أنه أثناء الانزلاق أراد أن يتمسك بأي شيء ينقذه، فما كان منه إلا أن تأتي يده على الحنفية، وللأسف جاءت يده على الحنفية الساخنة التي فتحت ماءها الساخن باتجاهه!
راحت تسلخ جسده بالماء الساخن، بل الماء الساخن جدا، وهو يتلوى تحته ويصرخ بصوته الضعيف وما من مجيب! استمر الأمر مدة طويلة نسبيا وهو لا يستطيع الخلاص، ولا يستطيع أن يسمع إنسانا بما حل به!
عاش شيخنا عدة أشهر بعد هذا الحادث المؤلم، وللأسف لم أستطع المشاركة في جنازته.
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته!
في المرة القادمة سأتحدث إن شاء الله عن عدد من أصحاب ليث في صفه، سأتحدث عن ثلاثة من أصحابه الشراكسة.



#علي_هصيص (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما أجلَّ صفاتِها
- من أجل مدينة!
- مقطع آخر من رواية -ديزل-
- الرئيس الفقاعة
- نماذج من غبائنا العاطفي
- أبنائي وصحن القهوة
- سؤال موجه إلى طلابي
- أبناء أيوب
- هل يوجد لدينا مناهج لغة عربية؟
- آدم وإيﭭلين: من الشيوعية إلى الخبز السماوي
- مقطع من رواية (ديزل)
- مآخذ على كتاب -الصائح المحكي- لخالد الكركي
- لماذا فشلنا في تدريس التعبير؟
- كاميليا الرواية الأردنية
- يا حروفا في ضمائرنا
- ليل قديم
- المناهج: بين الواقع المفروض وآمال النهوض
- حسبي محبا
- لولا قافلة عطشى
- ابن خلدون علقمي دمشق


المزيد.....




- أحد قاطنيه خرج زحفًا بين الحطام.. شاهد ما حدث لمنزل انفجر بع ...
- فيديو يظهر لحظة الاصطدام المميتة في الجو بين مروحيتين بتدريب ...
- بسبب محتوى منصة -إكس-.. رئيس وزراء أستراليا لإيلون ماسك: ملي ...
- شاهد: مواطنون ينجحون بمساعدة رجل حاصرته النيران داخل سيارته ...
- علماء: الحرارة تتفاقم في أوروبا لدرجة أن جسم الإنسان لا يستط ...
- -تيك توك- تلوح باللجوء إلى القانون ضد الحكومة الأمريكية
- -ملياردير متعجرف-.. حرب كلامية بين رئيس وزراء أستراليا وماسك ...
- روسيا تخطط لإطلاق مجموعة أقمار جديدة للأرصاد الجوية
- -نتائج مثيرة للقلق-.. دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت
- الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف أهداف لحزب الله في جنوب لبنان ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - علي هصيص - حكاية ليث ( 1 - 15 )