سلمى مأمون
الحوار المتمدن-العدد: 4088 - 2013 / 5 / 10 - 19:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حب الحياة هو الشرارة الضرورية لإشعال شهية التغيير. لكنه خجول هذا الصوت الذي يخاطب الناس اليوم بلغة "أحِبّوا الحياة" لكي تتلقاها أسماعهم بايقاع أحبوا أنفسكم كما أنتم و أحبوا أرضكم و اهلها و كل ماهو لكم و صارعوا لتحققوا انفسكم و تمضوا الحياة كما يليق بالبشر المتحضرين لا بالرضا و التسليم بما يتفضل عليكم به الطغاة؛ لأنكم تستحقون الأفضل.
العيب في الثقافة البديلة، الناقضة، المناوئة، المعوَّل عليها إفشاء تلك الروح. فهي لاتزال ضعيفة النبض. و جهودها مبعثرة و روحها كغريق يستغيث بشاطيء معزول. و من ينتظرون الخلاص قد طال بهم الانتظار حتى تكلسوا بفحيح النهاية و الموت و عذاب القبر، أو الانعطاف بهم بين الفينة و الاخرى الى نداءات الجهاد كلما احترق طرف "المثلث" بجمر المظلومين.
هل من شاشة فضائية تعين الناس على قدح الشرارة الواهبة!
يقعدنا عن انتزاع الحياة الكريمة المنتمية الى نبض العصر أننا حتى اللحظة لم نستقر على قناعة نهائية حول هويتنا, لنبني حولها الشخصية الواثقة المعتدة بمكوناتها. تلك نقطة الانطلاق الضرورية المفقودة لنلقن انفسنا درسا في حُبّ الحياة يجعلنا نُحيي معنى الوطن و المواطنة. كما قال احد اخوتي اننا لن نكون على ما يرام ولا مؤهلين لاعادة النظر في واقعنا و النهوض لتغييره ما لم نشهد الجار يفتح بابه و يلق السلام على جاره بحب!
و أضم الى قوله اننا بحاجة الى اعدام مقولة "السودان ما عندو وجيع" أي بلا نصير, تلكم المخذِّلة المتداولة بكثرة للدلالة على التسليم التام بانصراف أهله عنه و انسداد الافق, و التي يتم توظيفها بخبث لتثبيط الهمم. بلى للسودان وجيع مكتوي باوجاعه حتى نهاية الدنيا: وجيعه الرسمي شعبه الذي لايُبطل أهليته و انتمائه و مسؤوليته تجاهه تسلط فئة بعينها على الحكم و التصرف بالثروات مهما طال انفرادها بالقرار.
كيف يبدو المواطن؟ يبدو و كأنه قُد مِن حجر, فهو يعيش منذ عقود مضموماً على وحشة أشبه بفجوة دامية بصميم دماغه, تطلب الامتلاء بالسلام و بالقبول و بالحُبّ. و لعله مستحق أن يتوجع في سبيل الظفر بها. و له أن يستوعب مزايا سودانويته و يميزها ايجابا لا سلبا فلا يضطر للتلاعب بها بالمبيضات الكيماوية كما يدأب عدد من اناثنا مؤخراً أو يتنصل من افريقانيته لأنها تحيله الى "العرق الدساس". ذاك فحوى المحادثات الهامسة المتضاحكة سخرية أو غبناً. و معترك شائك التصق فيه ريش العنصرة بعظم البشر و لكن لا شيء يستعصي على الوعي المدعَّم بالحُب حسمه.
عموماً، يشكل انعدام الوضوح حول الهوية عقدة حياتنا التي لن نتجاوزها بالخطب المستدرة للعواطف أو شراء بعض السياسيين بمناصب أو بحلقات الرقص مع الآخر بأزيائه القبلية على ايقاع اهزوجة على غرار(ياي بلدنا و كلنا اخوان) كما ظللنا نرى منذ ايام نميري و حتى وقت قريب، فقد اصبحت "كليشيهات" تثير الشفقة و لم تفلح في منع انفصال الجنوب عن رحم السودان الأم. فالعقدة بحاجة الى رؤية جديدة و حلول عملية و قرارات حاسمة و مناهج حديثة و سياسة كاملة جوهرها دستور دائم قائم على المواطنة و المساواة في الحقوق و الواجبات. يلزمها عهد جديد. و يلزمنا التحضير لذلك العهد ببث بذور القبول و الحب بين مواطنينا. يلزمنا البدء بتطبيب الجروح الغائرة و تلطيف التسمم الايديولوجي الرسمي بالتقارب الفكري و النقاشات الواعية و مبادرات الابداع و العمل الخيري و التركيز على الخروج بالافكار من قمقم الشعار الى غبار التعامل اليومي الشائك.
مازال حالنا على صعيد الهوية أشبه ب "مشروع قيد التنفيذ" تعطل في طور المداولات الابتدائية، بينما تاريخنا مثخن بالنزاعات القديمة و الجديدة الغيرمحسومة؛ الجارية منها و المتوقعة، و بالانفصال المعاش و ذاك البادية بوادره، و بالفوارق الاجتماعية العميقة و الضغائن و لم يبدأ بشكل واسع زحزحة الصخور من منتصف الطريق. ليس تشاؤماً، و لكن استشعاراً عميقاً لما ينضح به وعي المواطنين من نفور متأصل تجاه بعضهم البعض، تظلماً من تصعيد و تمييز لفئات بعينها دون الكثيرين من المؤهلين الذين تتم ازاحتهم من مفاصل الفعل و بقرارات جائرة, و ما ترسب في مفاصل حياتنا من انقسامات عرقية و قبلية لا أرجح زوالها سلمياً ولو عبر عقود طويلة، و إن ازلنا النظام الحالي اليوم. فهذا الوعي المأزوم العنصري المعاش ليس في اوساط الحاكمين فقط ، بل هو بقدر لا يقل عنه كثيراً "يعشش" في مخيلات المحكومين. نلمسه في حياتنا اليومية يتغذى بالكراهية النابعة من إرث المظالم القديمة و الجديدة. لهذا أحس بأننا لا محالة ذاهبين الى انفصالات جديدة قد ترسل ما سمي يوما ما "بالسودان" الى الانقراض، لتحل محله شراذم إمارات نُصرة او قاعدة أو ما شابه. و أستشعر أنه ينتظرنا ما هو أشأم من الصوملة إن لم نتحرك عاجلاً لمعالجة الفكرة التي ستجعلنا نتواشج و نعيش أخيراً (كلنا اخوان) بمعنى الكلمة.
إن مررتم بالخرطوم التي تعتبر "العاصمة" لهذا الشتات من الأقوام، المتنافرة السحنات و الألوان و اللهجات و "المقامات" فسوف تلحظون التوتر الساكن في صمت المارة و نظراتهم التائهة و ملامح الارهاق المزمن و نفورهم و حركة اجسادهم و تفلتات غضبهم في معاملات البيع و الشراء البسيطة و في تعامل اصحاب المركبات مع بعضهم البعض اثناء حركة المرور و بذل الالفاظ النابية بدون مبرر كاف و في السخط العارم على صبي الحافلة الذي يحصل قيمة الرحلة كأنه مسطِّر العذاب للبشرية. ستدركون أن الخرطوم ليست عاصمة قومية كما يسمونها، و لا تنطبق عليها مقولة "وعاء انصهار" بل مرآة النشاز و الفُرقة, و معترك الإثراء المهول على حساب الافقار المذري, و فضيحة الفشل الاداري. لن تروا شعباً بل بقايا بشر تتحرك في مشهد من الفوضى المعمارية و اللافتات الصفيقة.
خذوا اليوم اي نموذج عشوائي من فردين بعرض الطريق، و لن يقبل أي منهما مساواته مع الآخر في المواطنة. إذ لابد أن يكون أحدهما من قبيلة "أشرف" من الأخرى! أو راقبوا أي فردين آخرين يلتقيان للمرة الأولى بمكان عام و لكنهما "ودودين" يتجاذبان أطراف الحديث و ترقبوا السؤال المحتوم : "إنت قبيلتك شنو"؟!! ثم تابعوا التباري على اثبات النسب الى "العروبة" و إفحام الآخر بنيله اثبات "الشرف".
عجيب عماء البصيرة الذي يتلاعب بالعقول و المصائر و يحرف الانظار عن كنز التنوع و روعة التثقاقف. كأنما الناس مولعون بالتنقيب عما يفرقهم و يشرذمهم بدلا من التكتل حول الأسباب العميقة الجوهرية التي تسري بدمائهم و تحتم توحدهم و التئامهم! و لكن يبطِل العجب أننا في بلد تبنت حكومته هذا المبدأ الذي جعل إدارة السجل المدني تخصص خانة إلزامية في قاعدة بياناته اسمها: (القبيلة)! و قس على ذلك سياسات التوظيف و الاستثمارات و التسهيلات و المناصب و المصاهرة و دقي يا مزيكه!
تراقب العين بكمد ما تبق من دولة "السودان الشمالي" و هو يتحلل بأسيد الفشل و الكراهية الرسمية و الاستهتار بأمن المواطنين و حاضرهم و مستقبلهم و مِحنة المعارضة، الجناح السِلمي، التي تمسك بالعصا من المنتصف، و موقف عامة الناس الذين يشتمون و يشكون بلواهم لطوب الأرض ثم ينتظرون خلاصاً سحرياً لايضطرون فيه لمواجهة الموت. نبأ غير سار: عاجلا ام آجلاً سندخل طور الاقتتال الواسع الذي لن يستقر بدونه ما تبق من أشتات هذا الوطن المضعضع الاسم و الهوية, على قِرار. قد تكون السنة اللهب بالفعل بعيدة اليوم عن المركز و لايشعر أهله بلسعها بعد ايمانا بأن "الشوك مجرور بجلد الآخر" و ليس فوق جلدهم, و لكنهم ليسوا بأمان، لا أحد بأمان و إن اختار الحياد. إذن لم لا تكون الشرارة هي الحُبّ و اصِلاً لمزق قماشة اليسار ببعضها و طارحاً للذابلين الى أرفف الذكرى؟
و لم لا نعزز الالهام بالحُبّ لأنفسنا و لطينتنا الافريقية ملتحمة بدماء المهاجرين الى أرضنا و بسكانه الأفارقة الأصليين، و لأرضنا المتنازعة بالتناحرات البدائية التي يتكسب من ورائها المتكسبون اخوان المال و زينة الدنيا و رضاء "أولي الأمر"! لم لا نقيم الحُبّ للحياة التي من شأنها أن ترتقي بنا الى العصر. بلى، كلنا أخوان في الواقع لا كما ابتذلَت تلك الاهزوجة القديمة، و لا رجاء فينا إن لم نغرس الحُبّ في طعامنا و نوظف براعاته المنظِّفة كالمطر الذي يعقب العواصف الترابية.
يبق الأمل معقوداً على مَن اختاروا الكيّ بالنار آخر الدواء، فطوبى لهم و لخطاهم المنتصرة.
الحُب مبهور ينتظر!
(يتبع)
#سلمى_مأمون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟