|
شظيةُ بلحم يحتضر
سلمى مأمون
الحوار المتمدن-العدد: 4036 - 2013 / 3 / 19 - 00:53
المحور:
سيرة ذاتية
هل سمعتم عن شعار "تاكل نارك"! هذا التركيب اللفظي المتنزل من قاموس الشارع؟ إنه المرادف ل "إشرب من البحر". هو مبدأ الحياة هنا، حيث "الولاء للذات" فقط و ليحترق كل ما يقع خارجها. العبارة دالة على انحدارنا المزري من مباديء التكاتف و الترابط الوثيق مثل "إيد على إيد تجدع بعيد" الى بؤس "تاكل نارك"! خير تلخيص لبلايا المرحلة و التشوه المضطرد لكل جوانب حياتنا. عجباً، لقد نشأنا على الولاء للمباديء و القيم الجديدة "التقدمية". حينما كان المواطن يعيش بين الناس و يعنيه التفكير بالآخرين و الاكتراث بهم لأحساسه بالانتماء اليهم، و ليس بسحقهم و إهدار انسانيتهم كأنه مخلوق من سلالة أرقى. أوان الزهو بقيم المعرفة و الثقافة و الوعي، و احترام العلم و المتعلمين، و ليس بمقاييس القدرة على استدرار العواطف الدينية، بالاسراف في التدين المظهري و تتويجه بالثراء العاجل، كيفما اتفق. حينما كان الولاء للوطن، للسودان و ليس للقبيلة أو العشيرة، أو لدعاة الحكم بتفويض الهي مزعوم، أو لمبدأ "الفائدة". حينما القول بأن فلان "مختلس" أو "مرتشي" فضيحة بجلاجل و ليس مدعاة للفخر "بفهلوته" و براعته في "الاستفادة". عندما التفكير في الاغتراب جناية بحق الوطن بل الخيانة العظمى، و ليس مواجهة الدولة "طفشان" المواطن من ظروف الفشل الذريع، بالارتياح بل و الحض على ذلك "الماعاجبو يشوف بلد تاني يمشي ليها".
رحل جيل كامل من الآباء عن الحيّ و لحق به قسم كبير من الأمهات خلال فترة وجيزة. خلت منهم سلاسل من البيوت الرحيمة المتآزرة التي كنا نجوبها عبر ابوابها الداخلية المفضية واحدها الى البيت الآخر. و قد كان يحلو الانغماس في اللعب نهارات طويلة في ظلالها و غرفها البسيطة دون أن يفزع أحد من احتمال التعرض للأذى أو "الاستغلال" من الكبار، كما نرى في الآونة الأخيرة. بيوت كأنها امتداد طبيعي لبيوتنا؛ بيت بدور و بيت بخيته و سعاد و بيت سكينه و بيت حياة و حرم و آمنة و صفيه....بيوت لا حصر لها، أشبه بتاج من الطِيبة الرحيمة التي لا تتأفف من تجمع الاطفال و ضجيجهم بل تضمهم و تحنو عليهم و لاتبخل عليهم بالمتاح من اطعمة منزلية أو ثمار النبق و القنقليز (التبلدي) و اللالوب (ثمر شجر الهجليج) و نحوها. اليوم ما عاد اولئك في الجوار، ولا عاد ذاك المنوال متاحاً في واقع اليوم المستمر التعقيد، و في ظل التركيبة الجديدة للحيّ؛ الأشبه بوجبة مستعصية الهضم! انقسمت المشارب و الولاءات و أخذت تتضاءل فرص "الاندماج" و تصبح نجوم السماء هي الأقرب لمن يشتهي مغربية ونسة مرحة حول صينية شاي باللبن عند أقرب جار! فالخطوط حُمر متطايرة الشرر!!! و يزيد الوضع صعوبة أن يفقد المرء حضور أقرب مجايليه الى نفسه بسبب إستقرارهم في البلاد الأجنبية. في حين تتسع الشُقة باضطراد بينه و بين من مكثوا منهم: فقد "تحولوا" و تحوروا الى الوراء بقدر لايتحمل الانسجام. أندرجوا في التقسيم الجائر: مع أو ضد، و اعتمدوه أسلوبا للتعامل مع الآخرين، و اهتدوا به لتحديد مسافة الاقتراب او الابتعاد، و استعاضوا عن "أهل الضد" بدوائر "التأصيل" التي تتنقل لغتها بين خيارين: إما شرعي أو غير شرعي. أقاموا جدرانهم و شكلوا "منتديات التوبة"! طوبى لهم بمرادهم المدفوع "الأجر" مقدماً!
يوماً عن يوم يختفي الجيل الغير متزمت في الحي، و يتركنا مع حكاياتهم معلّقة كغمامات أنيسة فوق ما كان بيوتهم، فيما يشبّ "الرعايا" و طالبي القرب و الرضا الرسمي، حتى تاهت أوصاف الحيّ، و أخذ يفقد طابعه القديم. لاسيما و بنيته مخترَقة بتلك "الملوِّثات" كأنها الخلايا النائمة أو الصاحية ما المشكلة: لا حياء في الولاء ما دام لوجه (ال.....)! ثمة بيوت ارتبطت بتلك الظاهرة، نهضت من خرابها و صعدت بالمتبق من اهلها "الشاطرين" الى كبد السماء، و كلّو ببركة الجيل الجديد "المتفتح"!! اسدَلوا الأسود و علّوا نبرة التأصيل و طبقوا الشحم فوق اللحم على اجسادهم الهزيلة (سابقاً) و تعلموا الحديث من تحت انوفهم. راكموا الأموال و النساء و السيارات و الاعتمارات و الحجات و خطفوا أبصار المعدمين!!! و رحل نفر آخر ممن ينطبق عليهم هذا الوصف الى أحياء أخرى/ أرقى، لأن الجوار ما عاد "يليق بمقامهم" الجديد!
بيعت بيوت أخرى بعد خرابها فاستأجرها أو تملكها سكان جدد ينتمون فقط الى ما يتملكون، و مَن على شاكلتهم. فاصبح وجودهم مكملاً للفئة الأولى و يؤلفان معاً حضوراً "متوحش النكهة" يحدق فينا كأننا مخلوقات هبطت من كوكب آخر، بحياد، من خلف زجاج سياراتهم العابرة. على أنني آسفُ لبعض البيوت القديمة الجميلة و لكنها موصدة بعد تفَرُق أهلها بشتى الأسباب، فهي لا تُفتح إلا "عند اللزوم"! بينما تتوكأ أخرى في التقسيمات و الجدران العازلة و الأبواب التي لا يمر منها أحد؛ فتُحصي بضعة مستوحشين في هذا البيت المطفأ، و حفنة في ذاك الصامد بشق الأنفس، و بيوت كثيرة في مهب الاندثار إن لم "تلحق نفسها"! ما هكذا كان مواطنو الاحياء الشعبية؛ غرباء كأحجار مبثوثة بمجرات قاحلة. تتناهبهم الاغراءات و الفرص السهلة. كانوا مكافحين شرفاء يعيشون معززين مكرمين بالقدر المتاح لهم "مستورين" بحصيلة عملهم و كدحهم النظيف. لا يهزهم ذو جاه او منصب فيركضون ذليلين في إثره. يتنكرون لأصلهم! حاشا، فقد كانوا يطبقون مبدأ "مد رجليك على قدر لحافك" بكبرياء و ثقة بالنفس. و يرفدون الحياة العامة بأجمل النماذج من النساء و الرجال...و لكن!!! الأزمة اللعينة "مرمطت" كل المباديء و المعاني الجوهرية و ارسلت بالناس الى سباق الثراء كيفما اتفق. بلى، هذه العبارة الدقيقة "كيفما اتفق". هي بالضبط ما يعبر عن الحاصل. أطبقت الأزمة بتلابيب الحياة، و أنجبت توليفة مشحونة بالتنافر و التفاوت و فيض المرارات. لست بمقام نعي الحيّ، فهو لم يتوفى رغم الحصار و التمشيط، لكنه يحتضر. و الفضل راجع في تشبثه بالحياة، إلى ذاك القدر المتناقص من مواطنيه، الذين مازالوا على قيد الحياة المنتزعة بعرق الجبين، يفعلون وسعهم ليظلوا مرفوعي الهامات، و يرفدونه بالحيوية و الوصل الجميل، يصارعون و يرسَخون إزاء زبد الفلل "المستعارة"!
كان ياما كان. لاتمنح السلطات المكلفة باصدار "تصاريح البناء" تصديقاً بالبناء أعلى من الطابق الارضي والمنزل قائم في جوار من البيوت الأرضية. هكذا عاش الناس قبل مايربو على العقدين في قلب الاحياء الشعبية بالعاصمة. و لكن أُسقط مؤخراً هذا الشرط. و اصبح كل من "استطاع" ان يبني اي عدد شاء من الطوابق، قادر على تحقيق مراده بقلب أي حي يشاء و إن كانت البيئة المحيطة اعشاشا من الجوالات البلاستيكية و قطع الكرتون! فقط لأنه يملك المال. و ليذهب الجوار الى الجحيم. و لم لا فقد أُسقطت الاعتبارات المرتبطة بحقوق المواطن البسيط في كل شيء من لقمته و صحته حتى حماية خصوصيته بداخل بيته. و لكن كم من جار اليوم "يكشف" احواش جيرانه و هو يسلط أضواءه على "الغلابه" مثل كشافات الاستادات الرياضية حتى اوقات متأخرة من الليل دون أن يستحي على عينه و يسائل نفسه عن حقه في اقتراف ذلك التعدي! و طبعاً دون أن تتوفر اي حماية قانونية "للمكشوفين". فالفرصة كلها اليوم لمن يملك، ليخرق كل القوانين و التقاليد و ينجو بجلده. ليتمدد طولا و عرضاً و يشيد حصونه على جثة مواطنه الفقير. فيصبح الأخير مُحاصراً بأقصى ركن محروما من مجرد الراحة في عقر داره، و عليه ان "ينكتم" فهذا ليس اوانه بل اوان الأثرياء الجدد، أثرياء الغفلة من "الموالين" المتدفقين على العاصمة من القرى و النجوع، المقتحمين العاصمة كاسراب الجراد، ليحطوا رأساً في أرقى الفلل. فليستمتعوا إذن ببلكوناتهم المزدانة بالورود و أقفاص الطيور و يقيموا "لمّاتهم" و حفلات اعراسهم المغلقة و حسبنا الاستمتاع بانعكاس زيناتهم المضيئة و ضجيج المغنين النشاز. كأنهم ينتمون الى شعب آخر غيرنا، يتصرفون دون أدنى وخز للضمير أو مراعاة "لحق الجِيرة". ولا غرابة، فلسان حالهم من جنس الخطاب الرسمي: "الما عاجبو يرحل...."! هاقد طرزوا أطراف الحي "بالفلل" البديعة التي برزت الى الوجود فجأة، و لم يسمع لهم أحد من قبل بثراء موروث ولا تجارة مزدهرة أو دخل كبير في الغربة. صفتهم الوحيدة الفارقة أنهم مغالون في مظاهر التديّن و أشياء أخرى!!!! يظل حيّنا مثال واحد للعديد من الاحياء المحاصرة، المهددة بالانقراض و الذوبان في التركيبة الجديدة....كم هي ماسخة!
مستوطنات الاثرياء يأخذني التراب الاحمر يومياً من عتبة البيت الى الطريق الرئيسي، بخطى تتقافز بين برك الطين لائذة بالفراغات الجافة، كيلا افسد حذائي الذي لا أحصله بسهولة ولا أضمن متى يتاح لي امتلاك البديل، أي بديل، لأن السوق لا يعترف بالقياسات الفارقة، و إن فعل فستكون حكراً على دكان او اثنين. و لئن توفر قياسي "المخالف" فسوف تتقلص خياراتي في الموديل و اللون و هكذا، فأرضى بما يرضى باحتواء قدمي، و لسوف ينتهز التاجر السانحة و يبتزني لادفع ثمناً أعلى. لمن المشتكى، حيث لا اسعار ثابتة ولا مساءلة، و فوق هذا و ذاك لا جودة ولا مقاييس. إضافة إلى تجاهل السوق الواضح لمواصفات القدم النيلية سليلة تهراقا، التي لا تتسق و القياسات المضحكة للاحذية الصينية. عموماً، يظل "الثمن" مستحقاً من دم المواطن العادي في كل شيء، ماذا أصابني، "فلآكل ناري"! أواصل سيري بحذر و أسرع الخطى، و انا العن من يمهدون السبيل لهذا الاختراق و الخراب، و أكيله لكل من يستمتعون بحياتهم المترفة على حساب تعاستنا المفتوحة النهاية. انتزع نفسي من لحم الحيّ المتداعي كشظية غائرة، و نظري يتملى بالملامح المهجورة، و تلك المستميتة على التأقلم بالمتاح، مقابل تزايد البنايات الشاهقة و مستوطنيها الغرباء وهي تفضح بيوتنا فتبدو متضائلة "كعلب الكبريت". ما لهم علينا؟!! هؤلاء لايكتفون بكشفهم حالنا بطوابقهم المترادفة فوق رؤوسنا الغلبانة، فهم يسهمون بنشاط في زيادة تدهور البيئة. بطريقتهم اللامبالية في التخلص من كثبان نفاياتهم و في قيام طواقم الخدمة بفللهم، يومياً بغسل المصاطب و البلكونات الرخامية او السيراميك أو البورسلين (هكذا!)، مروراً بالمفروشات و اشجار الحدائق و ممراتها و يرسلون الحصيلة جداولاً غزيرة "هدية مجانية" في أزقة ترابية، فتنحدر في مسيل عريض حد البصر. شريطا أو وشاحاً مجانياً لبيوتنا. ينفذون حرفيا حكم الغني على الفقير. تزداد منازلهم تألقاً و ننال الوحول (هكذا!). و لا أحد تجرؤ على المساس بهؤلاء "لأنهم"!!!!. كان المؤمل و بحكم امكانياتهم أن يهتموا بالبيئة بمستوى افضل على الأقل لابراز جمال "فللهم" المكلفة و لكن لم العذاب و الكلفة، و أساطيل سياراتهم الفارهة يخزي العين..... "ناس الحي ياكلوا نارهم"!
عبقرية الصمت تتسربل رحلتي عند ملتقى الزقاق بالطريق الرئيسي، بدوامات ترابية سخية، تنفضها اطارات السيارات التي يضاعف سائقيها من سرعتها عمداً لحظة أهُمّ أو أي امرأة بالذات، بعبور الطريق، فهذا "تكريم" ضروري من جملة التكريمات التي نتقلدها في الحياة اليومية. فما الذي أخرجنا من بيوتنا بالاساس؟! على المرأة أن تتحمل كل البلايا على مسؤوليتها لقاء الوصول الى وجهتها. لا استطيع منع نفسي من لعنة البداية المطينة ليومي. ثم ما هذا، كالمعتاد تتلاحق العربات المارقة كالصواريخ دون أن يتأنى أي منهم و يفسح للمرأة الطريق لتمُرّ. و طبعاً لم يقرروا بعد وضع خطوط عبور للمشاه، لعلمهم المسبق أن لا أحد سيلتزم بها. ربما لهذا السبب لم يتعبوا انفسهم بالاساس و يضيعوا الدهان و الجهد سدى. يجب ان "اصبر" حتى تتشكل مسافة كافية بين السيارات لاعبر ورغم ذلك سوف تخرق سمعي صرخات ابواق بعضهم "تنكزني" لاخلي الشارع! تصل الحافلة فاجلس منكمشة وسط قوم واجمين. لا احد يرغب في النطق الا بالصوت العالي عبر الموبايل. لا احد يلقي السلام و إن القاه لن يجيبه احد. ثم تحل مرحلة تتطلب أن يساعدوا بعضهم البعض على توصيل كلفة الرحلة من الركاب بالمقاعد الخلفية لمساعد السائق الرابض عند بابها الوحيد. يؤدون تلك الخدمة كأنهم "روبوت"! فجأة تحس خبطا على كتفك بقطعة نقود او ترى اصابعا ممدودة من خلفك تكاد تلامس وجهك تحمل ورقة نقود، و ما عليك سوى ان "تؤدي الخدمة" بصمت موازي و ترد لصاحب النقود ما تبق له منها و تكتمل "المعاملة" بدون شكراً أو لعنة حتى. أمنع نفسي عن أي محاولة للتساؤل على شاكلة: ماذا اصاب الناس، أو كيف تحولوا الى غرباء "ممانعين" عن أدنى حدود التعامل بين البشر، فذلك باب واسع ان ولجته لن أعود إلا بمزيد من الهَمّ. هذا ما آلوا اليه. سأبتلغ غيظي و اشغل نفسي بتأمل ارتال المركبات العامة و السيارات و الشاحنات و الجرارات و ناقلات الجند و البصات الضخمة و هي تصطك ببعضها البعض كصفوف من النمل. و يكون يوم سعدي حين تنقضي تلك الرحلة دون التعرض لأي من اشكال التحرش أو خراب بثوبي بمسمار بارز بأحد المقاعد المتهتكة، أو ينخدش حذائي بقدم غاشمة، كله الا حذائي!
سيماهم في تحديقهم اهبط لاستكمل رحلتي الى المكتب على بعد أمتار سيراً على الاقدام فلا تخذلني العيون - كل العيون كل الاعمار و الفئات، ذكوراً (و اناثاً كذلك لحيرتي الشديدة!)، جاحظة كفوهات مدافع في حالة تأهب قصوى، تتفحص كل جغرافية و تاريخ الاناث المارات من جميع الأعمار، دون ان يرف لها جفن. خاصة حين تضيء الاشارة حمراء و تصطف السيارات و يتطلب الأمر السير بمحاذاتها. يا للعذاب...أحس كأنني اتقلب في مقلاة من ثقل تركز الوجوه المحدقة فوق كامل وجودى. و اكاد اهتف: "ايها الناس، ارحموني! ماذا تريدون بعد و ثيابي "مطابقة" و ليس لي قرون أو ذيل! اتوتر و احرف بصري عن مظاهرة العيون عساها ترعوي و لكن هيهات. كأنهم أصبحوا لا يُستفزون لأي أسباب موضوعية، ولا يضطرون لاستخدام رؤوسهم و تحريك أعناقهم بسرعة الشهب السيارة، إلا لتفحص الاجساد الانثوية و نبشها بدون ذرة حياء. و الاغرب من ذلك عدم الاكتفاء "بالفحص الخصوصي" من قبل و من دبر، بل بالتركيز الهوسي على الوجه و التغلغل الى اقصى بقعة في قاع العين. يخال المرء أن القوم في مهمة خاصة لمطابقة مواصفات و ملامح معينة، لانهم مثلاً مكلفون بالعثور على مواطنة مفقودة "خرجت و لم تعد"، أو يحاولون ضبط مشتبه بهم مطلوبين للعدالة. و لكن في الواقع تلك طريقتهم "العادية" في توجيه بصرهم. طريقة فارقة ميزتُ بها أحد مواطنيّ في مدينة أوربية حيث "التحديق" تحرش، و لا عاقل "فاضي" لاهدار وقته الثمين في تفحص الوجوه و افتراس الاجساد الانثوية، أو جائع. ظل "أخينا" يحدق بي و يواصل سيره ثم يعود فيلتفت ناحيتي، فرثيت لحاله و قلت: أهلاً "من خلى عادته قلت سعادته" ويالها من خيبة قوية؛ أن يطبقوا ذات الاسلوب المريض حتى في هذه البلاد؟ و ما جدوى العيش بمجتمع متحضر إذن؟! تأكدت أنه "زول"، حين لم يبتسم أو يلق التحية، بل ظل مرتديا ذاك القناع المرتبك، الذي لم استطع رده الى الدهشة أم البهتان، في غياب أي مبرر لدهشة أو بهتان بالأساس!!. عملياً قدم عرضاً من صميم السلوك في "بلد المنشأ": الاكتفاء بالتفحص و المراقبة و "تمرين الرقبة" حتى يغيب احدنا، لأن التعامل المباشر مع "مَرَه غريبة" في الشارع أمر مناف للقيم و المُثل و التقاليد. تأسفت، و تصورت ذاك المواطن "القياسي" يصوغ من مجرد "الشوفه" رواية طويلة عريضة يستهلها ب:"يومداك شفت لي واحده سودانيه ....." و تلتهب المخيلات و تنسج مادة طازجة تحرك قليلاً ركود "الدوائر المعزولة".... اصل المكتب و اطمئن أولاً على سلامة حذائي و ابدأ بتفقّد ثيابي و جلدي خشية أن أعثر على آثار حروق من "مكاوي" العيون المسعورة. ثم اتمالك نفسي بعد تناول قارورة كاملة من الماء البارد و اقرر: "معليش يا سلمى، وجهتك أبعد مما توقعتي....إبتسمي"!
حكاية مفاجئة: تمر صباحاً بسيارتها المضيئة كشعاع الغيمة تحملني طوعاً و بحس التزام منقرض بينما شعار الحقبة الأعلى "تاكل نارك"! كيف؟ لم نلتق سابقاً أو نتعارف بأي قدر ولو بحدود معرفة الأسماء. فهي لم تنشأ في جوارنا، بل انتقلت مؤخراً لتستقر مع ذويها بذات المنزل القديم لأسرتهم، بعد أسفار متواصلة في أنحاء الوطن. هي لم تكن بين أترابي أو زملائي في أي من المراحل الدراسية أو مجالات العمل، لأنها أصغر بكثير. و لكن، كيف فاتتني؟ كيف فاجأتني؟ اسمها مطابق لحنوّها العفوي. نبرة صوتها و عيونها تماماً كوالدتها، التي أحبها و إن لم تربطنا سوى سكنى ذات الحيّ. بيننا رابط خاص اعتادت أن تعبّر عنه حين يرحل أحد من الحيّ و نلتق بمنزل العزاء؛ أن تضمني و تبكي؛ تعزيني بطيبة غير أرضية تؤكد المغزى: أن الفقد في محيط الحي من جذر فقد ذوي القربى. تلك هبات البيوت التي لم تُشترى و لم تُسدِل الاسمال و لم تراكم الطوابق و الثراء الزفر. تلك بيوت الحيّ الجميلة. روحه التي تنبض بعناد .......كم هو ضروري وجودها لعافية الأماكن!
#سلمى_مأمون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صلاة كونية
-
حجر في مستنقع القهر
-
هامش (جينيس)
-
ليمونتان بغياهب الروح
-
انتظار سيدة -الهايكو-
-
أين تسهر هذا المساء
-
شتاء خارج التغطية
-
كائنات ضوئية تصعد الباص
-
رهانات الصباح بين المفتاح و المطرقة
-
أعلى من نوتات الغجر
-
غياب
-
الزومبي(في ذكرى انتفاضة 27 مارس/ 6 ابريل السودانية 1985)
المزيد.....
-
حل لغز كرات سوداء أثارت رعبا بعد ظهورها على شواطئ بأستراليا
...
-
الأمر الذي يستحق المتابعة وعلاقته ببوتين.. وودوارد يكشف لـCN
...
-
آخر تطورات صراع الأغلبية بمجلسي النواب والشيوخ بعد إعلان ترا
...
-
أول مطعم للمثلجات حائز على نجمة ميشلان في العالم..ما سره؟
-
الولايات المتحدة.. تظاهرات واشتباكات مع الشرطة رفضا لفوز ترا
...
-
ساندرز: حرب غزة بين أسباب فشل الحزب الديمقراطي الأمريكي
-
مصر.. فيديو للأمير سلطان بن سلمان مع عمال مصريين يثير التفاع
...
-
ترامب بعد فوزه.. محادثات مع قادة العالم حول الحرب في أوكراني
...
-
ترامب يفوز بالانتخابات، لكن ماذا عن قضاياه القانونية؟
-
ألمانيا ـ الحزب الديمقراطي الحر يعلن سحب وزرائه من الحكومة
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|