سلمى مأمون
الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 20:40
المحور:
الادب والفن
الساعة الواحدة فجراً، و لم يرخي اعصابي نعاس لكنني امتثلت لواجب الراحة فاغمضت جفوني بقوة وقد احال الارهاق و التوتر بدني الى كتلة مجوفة طافية في مجرى سيل، لم تنقذني منه سوى نغمة المنبّه الصاخبة عند الثامنة صباحاً....عبَر النوم خاطفاً و كأنني وضعت رأسي على الوسادة ثم رفعته فوراً. فقد انتهت مهلتة و لم يتفتت تعبي!...تجولت ببصري في الغرفة، و لاول مرة منذ زمن بعيد كان كل شيء على حاله، بالضبط كما تركته قبل ان يغيبني النوم...شعور صادم! احسست بالغربة و الكمد. فهذا ترتيب ميت لا اريده و لم اختاره..ثم ما أعجب المرء! في ذات اللحظة تذكرت ضجيجي المستمر من تخريبهم المستمرلمجهوداتي لتنظيف و ترتيب المكان...لكن في ذلك الصباح كانت فوضاهم اول مطالبي لميلاد الصباح بل و لاكتمال معنى الحياة. كيف مر الليل بدونهم؟؟؟ لقد اشتهيت تجولهم بداخل غرف البيت خلال الليل، فانا آوي للنوم قبلهم بساعات، فيأتون لاحقاً و يعيدوا تشكيل المكان على هواهم؛ مستعينين بضوء الموبايل، فاسمع سمفونيات مختلفة الايقاع: ذاك الصوت المتكرر لفتح و اغلاق باب الثلاجة و طرقعة مفتاح شعلة البوتجاز و ضجيج كيس الرغيف البلاستيكي يُحل و يُربط و صوت طلمبة السايفون وصخب انسكاب الماء من الدش... وقد كان اول ما يصدم بصري صباح كل يوم حجم الجهد التخريبي الذي ارتكبوه اثناء نومي: لطعات طين على حواف (الشاور) و فوضى ثيابهم و احذيتهم و بقايا السندوتشات و اكواب ملوثة ببقايا عصير الكركدي و منظر اللابتوب المغبرالملقى خارج (جرابه) و حوله مصارين التوصيلات و الاسلاك و السماعات و مساند الكنبة مبعثرة و فتات الطعام على الارض و أواني حفظ الماء بالثلاجة ملقاة فارغة على المنضدة امام التلفزيون....و تذكرت كيف كنت اثورعندئذ حتى اوقظهم من النوم مذعورين!!! افتقدت تلك الفوضى التي ظللت اعتبرها مزعجة و تحسرت على فقدها: بالفعل افتقدتها، و كيف لا افتقدها و لن يكتمل وجودهم حولي بدونها. أي ترتيب بليد يمكنه ان يغنيني عنهم؟ اللعنة على الترتيب و النظام ان كان الثمن غيابهم! ها هي ليلة واحدة بدونهم استطاعت ان ترعبني الى هذا الحد؟...و لكن ماذا ان طال الامد و تدهور الحال اكثر؟ ماذا لو سقطوا في ايدي الاشرار؟؟ كيف سيبدو المكان و بأي طاقة سيخفق قلبي؟...
غادرت السرير بصعوبة و اطفأت مكيف الهواء و لأول مرة دون ان يتذمر أحد، و ازحت الستائر عن النوافذ و لم ينكمش احد و يستدير الى الجهة الأخرى ليتجنب سطوع ضوء النهار أو يجذب الغطاء فوق وجهه باستياء...كم هي عزيزة هذه التفاصيل و عميقة المعنى في هذا الصباح الموحش!! بدا الطقس منذ ذلك الحين مكتوم الانفاس على عكس الايام القليلة المنقضية، مبشراً بنهار ملتهب و يالها من ظروف ملتهبة على اكثر من صعيد...فتحت التلفزيون لاكسر الصمت فعثرت على برنامج حواري حول الاوضاع الراهنة فتعمدت ترك الصوت عاليا ليُغرِق سكون المكان. لم اهتم بتناول الشاي كالمعتاد و اخذت اكوي بلوزة قطنية زرقاء كانت الأخف لونا و خامة لمواجهة الطقس. و لكن من سيناولني الخبز و الفول من الدكان قبل ذهابي للعمل؟ بقايا الخبزالذي بالثلاجة قديم، مجعد و قد مضى عليه يومان فكيف اشقه لاحشوه؟ يئست و تركته ملقى بداخل الثلاجة، و بسرعة لففت قطعة جبن و القيت بها بداخل حقيبتي اليدوية، و قلت ساتدبر امر الرغيف لاحقاً....
سابقت الدقائق و خرجت الى (قفص الطيور) فملأت وعاء الحبوب وغيرت الماء بوعاء الخزف لتنعم الطيور بالشرب و المرح حتى اعود، و نثرت الماء فوقهم فضجوا بالزقزقة، و رششت الماء على الفناء و انعشت هامات الشجيرات في المزهريات و مررت على نبتة (البوتس) في حافة النافذة جوار دولاب ملابسهم المنبعج و سقيتها. كان بصري زائغاً، و حركتي دائرية...توقفت و تلمست اصابعي بشكيرا و قطعتي ملابس رياضية كانت آخر ما خلعه احدهم قبل ان يبدل ثيابه و يخرج. رفعتها برفق و شمممتها و رتبتها فوق احد المقاعد و ربتت عليها بدلا من أن اربت على رؤسهم أو أوصيهم بانجاز بعض الامور قبل عودتي من العمل...و حاصرني الدمع فتنهدت بحرقة.. كم اشتاقهم!!! ثم زجرت نفسي و ذكّرتها أن هذا قد يكون تدبيراً مؤقتاً!!! من يدري....و واصلت استعدادي للخروج. تركت (اللابتوب) امام سريري حيث قضى الليل يطوف بي الانحاء لرصد الاخبار و التطورات و يشحن روحي بالتساؤلات و المخاوف ...و قررت انني لن احمله اليوم معي....هكذا..دون ان يترجاني أحد منهم و يرشوني بقبلة و كلمات ناعمة، و دون أن أخشى عليه عطلاً مفاجئاً في غيابي...تحممت بسرعة و خالفتُ روتيني اكثر و تركت بشكيري الرطب مفرودا فوق طرف سريري تحسبا لهبوب الغبار خلال ساعات غيابي، فلو كانوا بالبيت لما احتجت لهكذا تحوط. ساويت الملاءة و تذكرت تحذيري الثابت قبل خروجي: (حذار ان يرقد أحدكم على سريري) و تعجبت كيف فقد ذاك التحذير الهام معناه اليوم! و ادركت بوضوح قيمة الرد الثابت الذي كان يردده ابني الأصغر: (مستحيل، فانا احب رائحتك).
المكان قفر و لن يدخله احد في غيابي - لا احد سواي هنا الآن، اليوم و ربما لايام اخرى قادمة، و سيظل كالمتحف بانتظاري!!!...أرعبتني قسوة الفكرة و بسرعة غير عادية لا تشبه في شيء صباحاتي المتلكئة، اسدلت الستائر ثم وضعت القفل على الباب الخارجي و غادرت كالمطارَد...ابتعدَت بي المركبة و بي رغبة الا انظر ورائي. و أن أزيل كل ما رأته عيوني هذا الصباح و امنعه عن سكنى ذاكرتي. كان قلبي لا يشبه قلبي اليومي، كأنه تحول الى كتلة صماء تخضها بعنف اصداء الهواجس.
سلمى مامون
27/7/2012
#سلمى_مأمون (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟