|
لي وطن من آلامي
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 09:42
المحور:
الادب والفن
لا يمكن لهوية الإنسان أن تلعب دورا مؤثرا في القضايا الاجتماعية ، أو في اثبات النظريات السياسية أو بطلانها . فإنّي أشترك مع كثير من السويديين رغم اختلاف الهوية و لون البشرة في الكثير من المسائل ، وفي مقدمتها القلق و ثقل الواقع الرهيب على النفس و الروح. فاختلافي معهم في الهوية لا يؤخر و لا يقدم شيئا. فأتذكر مقطعا من قصيدة الشاعر الخالد سهراب سبهري : "من أهل كاشان أنا لكن كاشان ليست مدينتي مدينتي ضاعت وأنا بالحمى شيدت مدينة في ضقة أخرى من الليل" أنا أيضا لم تعد خانقين مدينتي ، إنها هجرتني و هجرتُها ، و قد شيدت لي مدينة من أحلامي و آلامي . فالطفل، سواء الأوروبي أو الشرقي ، المقيم في السويد أم العراق، منذ أن يعي وجوده يحلم أن يغدو في كبره شخصا مهما ، أو ينال شهرة تطبق الآفاق و تشغل الناس ، رياضيا شهيرا ، فنانا معبود الملايين ، مثلا. فيسعى مذذاك للتغلب على ما يقف في طريقه حجر عثرة ، و يحاول بوسائل عديدة أن يبدّل رتابة الحياة إلى شوق وبهجة . و في حوالي الخمسين ، عمر النضوج العقلي ، ينتابه قلق كبير في أن يموت دون أن يترك أثرا سوى زوجة ، إن كان متزوجا، لا تلبث تنساه بعد فترة وجيزة ، أو كتابات لا يستسيغ أحد أن يقرأها .
ربّما يلتقي المرء صدفة في مقهى أو حافلة رجلا أعمى ، أو شيخا طاعنا في السن ، عاجزا عن رؤيته جيدا ، يسأله: من أنت؟ صوتك ليس بغريب ، ألستَ ابن فلان ؟ يستدرك حينذاك أن والده لا يزال يُذكر ، و لكن ما جدوى الذكرى ؟ فيستدرك أن جدوى الذكريات يكمن في نوعيتها و كيفيتها ، لا مجرد كونها ذكريات فحسب. الحياة في الكهولة تتكرر غالبا في أقنعة وهمية مختلفة كثيرة يُخفي فيها المرء حقيقته و ذاته. و من حسن حظ الإنسان ، إن لم يكن من رعايا نظم الاستبداد في الشرق ، أو من المغضوب عليهم في الغرب، أنه يمكنه أن لا يفصح عن أمور كثيرة تخصّ شخصيته و تاريخه ، مثل عضويته في حزب ما ، وأمور عائلية ، أو عا هات غير مرئية لا تؤثر على الحضارة الإنسانية ، مباشرة على الأقل. يشعر المرء في ذاته أن حرية الإختيار التي يتمتع بها ليست تعبيرا صادقا عن أناه ، بل أنها على الأرجح هروب من الواقع الذي يشكل حاجزا بينه و بين معيشته البريئة للحياة، و عليه أن يقتنع أن الحرية لم و لن تكون مطلقة . و يرى أن الصلات التي تتبلور إثر الإنتماءات الطبقية ، و الخلفيات الإثنية أو المناطقية تنفصم و تتحلل تحت تأثير التحولات في البنيان الاجتماعي، و بالتالي المنظومات الفكرية . لذلك يجهد في أن يبطل تذمره عبر مشاهدة برامج التلفزيون و الاستماع للموسيقى و الغناء ، وإن كان على ثقافة واسعة يتعامل مع النظريات الفلسفية قديمها و حديثها، أو يحاول كتابة مذكراته . أعماله في هذا العمر تعطيه وعودا بالتحرر من القيود التاريخية و البيولوجية ، و تخاطبه : مالعمل ؟ إنها هكذا مثلما ترى ، لكنها ما كانت لتكون هكذا، كان يجب أن تختلف عما ترى. و حين يتم تبنّي مثل هذه الظاهرة و تسميتها يصبح لها وجود ، يغدو المرء جزء لايتجزأ منه. و لكن الهوية ، كما أرى، لا تلعب الدور الذي يمكن أن تلعبه المنزلة الإجتماعية و النظريات السياسية. و إن ّ الذين يعتبرون الهوية امكانية اختيار في هذه العاصفة الهوجاء لأنماط الحياة الثقافية و القوالب الأيديولوجية لا يريدون أن يفهموا أن ما يدعونه في الحقيقة ، هو مضاد للهوية . إنه تعبير عن الغرور الروحي الكامن في عمق اللاأدرية بدون رؤية وادراك مبادئ حركة التاريخ، كما أنه محاولات لملئ الفراغ و الخواء الذين يعانون منهما. وإن تضمين الحياة في منظومة غريبة لأسهل من رؤية مسيرتها القاسية عبر القرون ، حيث حياة الفرد مقررة في المكان المعين بالولادة والموت و الزمن و القدر. ومن الأفضل أن يسعى المرء للتغيير و التصحيح و التفكيك بوسائل اصطناعية من أن يعيش هكذا حياة مفروضة . ربما كل الأمور سارت عبر الزمن هكذا. أحيانا نتمرد على التاريخ و نخاصمه بدل أن نخشاه ، مثلما كانت تفعل أجيال عديدة من قبل. فهذه هي طبيعة الإنسان. غالبا أراني في صراع مع تفاهات الحياة و مع الأنا و الذات. إنّي أقيم في ثالثة أكبر مدن السويد ، مالمو، لكنّي أشعر بفراغ روحي و عزلة ، ليس من الناس فحسب ، بل من الحياة الرتيبة ، و من اختلاف الفصول و الحياة والموت ، و ربّما من الميتافيزيقا التي تبقى بعد رحيل البشر من الدنيا. فإنّي لا أخرج من البيت راكبا دراجتي الهوائية في الساعات المتأخرة من الليل بطرا و لا أشرا، بل هروبا من الواقع الذي يكاد يخنقني . و إنّ المرأة المتوحدة التي لا يأتيها النوم في الليل ، و تطل برأسها بين الفينة و الفينة من شباكها ، مثلي لا تتحمل الواقع ، و من يتحمل هذا الواقع حقا؟ من ؟
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مات ابن باز الغرب الإمبريالي
-
تثاؤب الخواطر
-
العشائرية و المجتمع المدني نقيضان
-
خيرالله طلفاح في الجمعية الوطنية مشرِّعا
-
حلبجة بحاجة لمداواة جراحها العميقة
-
e pur si mouvولكنّها تدور
-
نار بروميثيوس لن تنطفئ أبدا
-
ما أغناي ! لي الدنيا كلّها
-
البقرة الحنون
-
سونامي العراقية
-
معجزات أم التجرّد من الشعور الإنساني؟
-
سُوْرَة المشاهدة - للشاعر الإيراني سهراب سبهري ( 1928_ 1980
...
-
للشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد ( 1935_ 1967 ) لا يبقى إلا الص
...
-
أحد سكان العراق سنة 38هجرية : ... ما ينهاهم دينهم عن سفك الد
...
-
هل يمكن للإسلام السياسي ألّا يكون ارهابيا؟
-
التهاب الخواطر
-
!واحتس ِ نسمة ً من ريح ِ الخريف
-
جذور العلمانية تكمن في السعي للحياة الأفضل
-
ثلاث شمعات تضئ دربنا في زمن العتمة المطبقة
-
قراءة في كتاب - العابرة المكسورة الجناح ، شهرزاد ترحل إلى ال
...
المزيد.....
-
أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك.. تردد قناة توم وج
...
-
بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا
...
-
الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب
...
-
تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا
...
-
بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9
...
-
دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة
...
-
اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم
...
-
-المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض
...
-
الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ
...
-
الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|