جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 4015 - 2013 / 2 / 26 - 21:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعلّمتُ أن أقرأ التاريخ المدوّن لا باعتباره الحقيقة ، بل الغشاء الذي يحجبها ، وعليه فما تمّ تدوينه ليس إلا زاوية واحدة للقراءة ، المقصود منها صرف عيون القرّاء والباحثين عن باقي القراءات المحتملة أو الممكنة . وبالتأكيد فإنّ اللحظة التي تعبر تدخل مباشرة في نطاق التاريخ ، وعليه فإنّني وإن كنتُ أكتب هذا السطر الآن فإنّ بداية السطر دخلت في التاريخ المدوّن لأنّها عبرت ، نعم ، عبرت الى حدّ لا يمكن حذفها أو محوها .
الإنسان كائن تأريخي ، وهو مهووس جداً بالتلفّت ليس بحثاً عن الحقيقة فقط ، بل لمتابعة فقداناته الذاتية ، تلك الفقدانات التي تجعله يشعر أحيانا بأنّه أبديٌّ قياساً بالذين قد عبروا .
هذه المقدّمة البسيطة تأخذني للحديث عن تجربة بشريّة تتكرّر دائماً لكن بصور شتى ، وبأساليب مختلفة أيضا ، أقصد مطاردة الذين لا يقنعون بغشاء الحقيقة الذي يحاول الإعلام الرسمي للحكومات تصديره باعتباره الحقيقة .
وبوضوح تامٍ أريد أن أقف عند تجربة الباحث أحمد القبانجي ، الذي تمّ إعتقاله ، لا يهمّ المكان ، بل الطريقة والدوافع ، فالرجل في محاولاته النقدية الجريئة لقراءة الفهم السائد لنصوص القرآن أو النصوص المجاورة لها - سواء عند رجال الدين أو عند العامة - بدا كما لو أنّه كسر الخطوط الحمراء التي تسيّج العين والعقل والفكر للفرد المسلم ، ولأنّ اللحظة البشريّة الراهنة هي لحظة حقوق الإنسان فإنّ الدول والجمهوريات ، حتى التي لا تؤمن بشريعة حقوق الإنسان ستكون تحت طائلة إستفهام كبير لو أنّها كشفت عن نفسها بعلنيّة صلفة ، لذا تحتاط الحكومات هنا وهناك عندما تتجاوز على بنود حقوق الإنسان العالمية بأن تجعل دوافع الإجراءات بعيدة جداً عن أصولها الحقيقية .
لقد تمّ اعتقال القبانجي في إيران تحت ذريعة التجسّس ، وليس لأنّه تجاسر على الخطوط الحمراء لإعاقة الفكر والعقل واللغة ، لقد تمّ جرّ القضية الى حلبة أخرى ، فالعصابات الأمنيّة التي ألقت القبض عليه وهي تمثّل جهات عديدة عراقية وإيرانية ( هناك إشارات أنّ العمليّة تمّت بإيعازات إخوانيّة مصريّة أيضا ) ، وهذه إشارة صارخة الى تحالف الأضداد والمتناقضات إزاء أيّ خطر يمكن أن يهدّد الأطراف كلّها ، لا يمكنني أن أنسى هنا مقولة تشرشل في تبرير تحالفه مع ستالين : " أنا على استعداد للتحالف مع الشيطان ضدّ هتلر " ، إنّها لعبة سياسية صرفة ، أقول تحاول هذه العصابات معاً على إخراج الملف من سياقه الحقيقي الى سياق آخر لا يمتّ له بصلة ، هكذا يتمّ التغاضي عن جرأة القبانجي على كسر الخطوط الحمراء وإلصاق تهمة التجسس به وهي خيانة عظمى على الكلّ مُرغماً أن يسكت إزاءها .
أقول هكذا تمّت كتابة التاريخ البشري دائماً خصوصاً مع الذين تجاسروا على كسر المحرّمات والتابوات ، الذين خرجوا على استبداد النصوص والحكومات معا ، وعبروا الى قراءات أخرى أقرب الى العقل منها الى الخرافة .
لكن ، والى لحظة حقوق الإنسان فإنّ الأديان كلّها كانت تقف مثل سكين قاطعة حادّة جداً ، وكانت إتّهامات الزندقة والهرطقة جاهزة دائما ، لكنّها الآن أكثر عجزاً عن إبداء وجهها الحقيقي ، لذا تلعب بتكنيك تزييفي عالٍ جداً في سَوْق الأحداث بعيداً عن مواقعها الحقيقية .
الكلّ سيسكت الآن ، لأنّ الجهات التي أخذت القبانجي لم تأخذه بسبب آرائه المنفتحة ، لأنّ هذه الجهات تقف أصلاً مع حرية التفكير ، وأنّ دينها يدعو الى استخدام العقل في القراءة والبحث والتنقيب ، و، و، لديهم الكثير من هذه الهراءات الجاهزة والمزيّفة . لا أحد سيشير الى كشفه الفاضح لمجلس أخيه ( صدر الدين القبانجي ) وتبعيّته الذليلة لغرف إصدار القرارات ، أعترف هنا أنّها كانت مكاشفة هائلة جداً ، ولعلّها أن تكون السكّين الأكثر ضغطاً على الرقبة ، فقد كشفت أوراق اللعبة من داخل البيت نفسه ، خصوصاً وأنّ المكاشفة موثّقة فلمياً وموضوعة على اليوتيوب يراها ويصغي لها كلّ باحث عن الحقيقة .
لا أحد سيشير الى جرأته في الضحك على عقول المنبريين وأتباعهم ، ناهيك عن جرأته في التهكّم على الفهم السطحي للماضي ومحاولة المراجع الدينية بجرّ الناس إليه .
المراجع الدينية في أغلب الحالات أدوات للرأسمال الديني ، ولا تمتلك القدرة على إلغاء المنابع الثرّة الرافدة له ، وفي أغلب الأحيان يكون صمتهم إزاء الطقوس الأسطورية ناتج عن قناعة بأنّهم غير فاعلين في عملية إيقاف ماكنة الرأسمال الديني ، وبالتأكيد فإنّ إنتقاد ممارسة الطقوس الأسطورية يعني محاولة إغلاق الكثير من المؤسّسات التجاريّة المعتاشة عليها ( تجارة أقمشة ، طعام ، محابس ، تُرب ، و، وألخ ، وبالتأكيد فإنّ الخُمس تجارة التجارات ) ، وهذا الفعل يدخل في سياق الحرب الإقتصادية ، لقد فعلها ( علي شريعتي ) من قبل عندما أعلن بأنّ " رجل الدين عالة على المجتمع " ، لذا تمّت تصفيته في لندن بشكل غامض عام ( 1977 ) ! لم يقتله السافاك ، بل قتلته الضفة الأخرى لنفس إتّجاهه الديني ، لقد تمّ قتله لأنّه هدّد الرأسمال الديني الطفيلي والمعتاش على أجساد الفقراء والبسطاء عبر هذه الطقوس بعيداً عن مدى صحّتها أو منطقيّتها ، القضية ليست دينية صرفة ، بل إنّ القراءة الإقتصادية هي الأرجح لها .
لقد تمّت لعبة إعتقال القبانجي بتكنيكٍ عالٍ ، وسيذهب الرجل ضحيّة سهلة ، لقد وقع في الفخّ عندما ذهب برجله الى قم ، هكذا ، تبدو الحكومة العراقية بريئة تماماً كأولاد يعقوب ، أمّا الحكومة الإيرانية فإنّها تحاول أن تحمي بيتها ، هكذا ، يتمّ إسدال الستار ، الكلّ بريء ، والقاتل ، الذي يقف على سطوح الخطوط الحمراء لا ينتمي لأحد ، بل لأنّه كلّهم جميعا لا يحتاج الى إعلان .
بل الأدهى من كلّ ذلك سيبدو الدفاع عن حريّة الفكر والإعتقاد للقبانجي وكأنّه دفاع عن طائفةٍ بعينها ، في لحظة عراقية طائفية بامتياز فجٍّ .
أقول ، لحظة القبانجي هذه ، والتي دخلت في التاريخ منذ لحظة وقوعها ، تجعلني أكثر إلتحاماً في قراءتي للتاريخ المدوّن باعتباره قدرة الحكومات على الكذب والتزييف والتمويه ، ما تمّ الآن قد تمّ هناك في البداية الأولى طبق الحافر بالحافر ، وهذا يجعلني أكثر إصراراً على كشف الجذور التي تمّ بها بناء رأسمال هذا الطوطم الهائل ، أو هذا الصنم الهائل ، الجاثم بكلّ ثقله على صدور وعقول الناس ، هذا الذي يسمّونه الدين .
#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟