جمال علي الحلاق
الحوار المتمدن-العدد: 3277 - 2011 / 2 / 14 - 13:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الدكتاتوريّة ليست أفراداً فقط ، بل ثقافاتٍ أيضاً ، وعلينا الآن ، بعد أن تعلّم الشارع العربي لعبة إسقاط الحكّام ، أن نبادر نحن أيضا كمثقّفين أو كعاملين في حقول الثقافة ، أن نبادر بإسقاط تلك الثقافات وأصنامها .
***
المطلوب الآن ، الإسراع في ضرب الأصول التي تقوم عليها الثقافة الدكتاتوريّة بكلّ أشكالها وأنواعها ، هدم البكائيات أو ما يُساهم في إدامة البكاء ، فالحياة ليست عزاءً مستديماً ، وليست طقوساً تهزأ بالعقل البشري .
ينبغي الخروج على كلّ ثقافة تدعو وتعمل على تجريد الفرد من إحساسه بالحياة ، وإحساسه بقيمة وجوده حيّاً .
***
ينبغي الخوض في كلّ ما يمكن أن يؤسّس قيمة ، في كلّ ما يدعم الرغبة في البقاء ، البقاء كأفراد لهم خصوصيّاتهم ، ولهم تاريخهم الشخصي ، الخصوصيّات التي تجعل الحياة أكثر إختلافاً ، وأكثر عمقاً ، فالبشر ليسوا أعداداً متطابقةً وإلا أصبحوا غنما .
البقاء كرغبات تسعى للتحقّق ، رغبات لا تعرف الخوف ، وتمتلك الثقة بالإعلان عن وجودها ، رغبات تعرف كيف تحلم ، وتعرف كيف تجعل حلمها واقعاً .
ينبغي على الآخر أن يسمع ، وأن ينتبه لوجودنا الفعلي في الحياة ، ولا شيء غير إرادتنا من يجعله ينتبه لهذا .
***
أعي جيّداً أنّني حيٌّ ، في لحظةٍ تاريخيّةٍ تجعل كلّ ما قبلها على قيمته يبدو غير جدير بالإتكاء عليه . في لحظة تمتلك خصوصيّتها ، والإنتماء لها يتطلّب أن أحمل الممحاة معي دائماً ، وأن أبدأ بالحذف مباشرةً ، وأوّل ما أحذف المقدّس وملحقاته .
***
وأنا أتابع تفاصيل الثورة المصريّة ، كنت أقلّب شاشات القنوات الفضائية بحثاً عن أيّ خبر جديد يجعلني أكثر التصاقاً بالشارع الحي ، كنت أنزف عاطفة وانتماءً للثورة ، ولم أكن الوحيد حتماً ، فالملايين من الناس كانت تراقب الثورة من قارّات العالم كلّها ، وتنزف قلقاً على الثوّار ، لكنّني كنت أصاب بالخيبة والخذلان كلّما تصفّحت قناةً عربيةً حكوميّة كانت ، أو مؤسّساتية دينية ، سواء أكانت إسلاميّة أو مسيحيّة ، فهذه القنوات ظلّت تبثّ هذياناتها المقزّزة بعيداً عن نزيف الشارع الحي .
كنت أقفز غيضاً وحنقاً على القائمين على إدارة هذه القنوات ، أسبّ وألعن المؤسّسات التي تغذّيها ، كان إنفعالي هائلاً ضدّ هذه القنافذ ، التي تجثم هامدةً على صدور النوافذ والمسامات .
***
وكم كان مخزياً لي كعراقي أن يبادر الطالباني أو التمثال الهشّ الى مساندة تمثال مصر المتداعي . غير أنّ التماثيل تتشابه في الطول والعرض وفقدان الإحساس وهلمّ جرّا .
***
لكنّني الآن ، وقد خرجت من حدّة الإنفعال ، وبعد أن قطف الثوّار ثمرة الخروج والإعتصام ، وهدأ قلق الناس ، وهدأ قلقي أيضاً ، أحاول أن أجد تبريراً عقلانيّاً لذلك السلوك المتّحد عند الأطراف المتضادّة المتحاربة ، فلا أجد تبريراً إلا أنّهم جميعا لا يملكون شيئاً حيّاً كالذي يمتلكه الشارع ، وأنّ نزولهم الى الشارع كان سيكشف عقم وموت الأفكار والحياة التي ينادون بها وإليها .
***
لم يعد الدين حيّاً ليقود أو يشير الى تظاهرة تدعو الى الحياة .
الحياة الآن خارج نطاق الدين ، إذن ، فأصحاب القنوات الفضائية الدينية بكلّ اتّجاهاتها يعون ذلك جيّداً ، لذا فهم لا يشيرون الى أيّ شيءٍ حيٍّ في شارع الحياة ، كما أنّهم يسكتون عن الحياة التي لا تشبه كتبهم الميّتة .
الحياة الآن للأحياء فقط ، أمّا الموتى فيتقنفذون هنا وهناك على محيط الوطن العربي ، يتقنفذون داخل مؤسّساتهم ، يتقنفذون داخل كتبهم ، يتقنفذون داخل قصورهم أو كهوفهم على السواء ، البساط ينسحب بقوّة الشارع الحي ، وتساقط أحجار الدومينو يُلهم الأحياء خطواتهم القادمة .
***
ثقافة حيّة تخلق مجتمعاً حيّاً .
وعليه فإنّ بؤس الشارع العربي من المحيط الى الخليج يؤكّد أنّ الثقافات التي ساهمت في إنتاجه هي ثقافات ميّتة ، لذا ينبغي كنس القمامات كلّها ، كنس كلّ أشكال المقدّس ، بكلّ تدرّجاته ، وبكلّ أطيافه .
ينبغي تنظيف الشارع من كلّ ما يدعو الى التنازل عن حقّ الحياة . كنس كلّ ما يدعو الى القناعة .
كنس كلّ ما يدعو الى الصبر .
الدعاء لا يوفّر فرص عمل للعاطلين ، ولا يجعل حجم رغيف الخبز أكبر من صور الحكومات .
ينبغي غسل الأدمغة من كلّ ما يعيق القدرة على التفكير الحي ، فبعض التفكير موت .
***
ثقافة الغد أكثر عمقاً وسموّاً من اليوم والأمس .
الحياة تعلو ، وعلم الإنسان ومعرفته الحياتية في نمو واتّساع ، كلّ خطوة هي معرفة جديدة ، هي خبرة أخرى تضاف الى الخبرات المتراكمة ، تجعل الإنسان أعلى قيمة من الأمس ، وتجعله أكثر قدرة على رؤية الأشياء من زاوايا أخرى مختلفة .
***
ينبغي العمل من أجل حياة أكثر جدوى وأكثر فاعلية ، حياة ينمو أطفالها في مناخاتٍ صحيّةٍ . حياة تحترم الطفولة وتتبنّاها ، بل وتعمل على إدامتها . حياة لا نرى أطفالها عتّالين ، أميّين .
طفل يعمل يعني حكومة تسرق ، وليس هذا فقط ، بل أنّها تعيش عالة عليه .
ينبغي القضاء على حكومات تعيش عالةً على الأطفال .
***
ينبغي العمل من أجل حياةٍ تحترم العقل ولا تعمل على تعطيله أو تأجيله ، حياة لا تضع الكوابح أمام الأسئلة الناسفة ، الأسئلة التي تقتلع الأصول من جذورها .
العقل للبحث والتنقيب ، العقل مغامرة كبرى خارج أسوار المقدّس ، وخارج نطاق الحرام .
***
عراقيّاً ، أشعر بالغضب على كلّ أشكال المقدّس ، فجميعها تعمل على إنتاج مؤسّسات تمتصّ دم الشارع ، تسرق الحياة وتعمل على إنتاج الموت سواء في الأفكار ، أو في الممارسات اليومية . تجعل الفرد مُسْتَلَباً خاضعاً ذليلاً ، تعمل على إستغفال الفرد ، والضحك عليه ومنه معا .
***
المليارات التي تُسرق بشكلٍ يومي .
هذا التقاتل الفضّ على النهش والعضّ في جسد الدولة .
أموالٌ طائلةٌ في جيوبٍ وجببٍ قليلة .
بينما الشارع ينزف بلا خدمات .
الشارع يشتعل صيفاً ، ويتجمّد شتاءً ، في دولة لا يستحي قادتها من الكذب والإدّعاء .
لذا ، ولكي لا يذهب غضبي سدىً ، أكتب بكلّ ما لديّ من أملٍ بالحياة لأجعل وجودي ذا قيمة ليس لي فقط ، بل لكلّ من يريد أن يخرج الآن الى الشارع ، لكي يصرخ حتى يثقب آذان الصمّ ، في دولة تتضاعف أعداد أراملها وأيتامها على مدار الساعة .
***
لم يعد الشارع العراقي بحاجة الى بناء مساجدٍ أو كنائسٍ أو صوامع ، فكلّ هذا تبذير بالمال العام ، تبذير يعمل على جعل الشارع أكثر خمولاً وشحوبا .
أليس مقزّزاً أن نرى تصاعد تراكم القمامات والمزابل مع تصاعد أعداد المساجد ؟! ومع هذا فالله جميل يُحب الجمال !!!!
***
الناس يتظاهرون لأنّ مدناً تطفح شوارعها بالمجاري المدجّجة بكلّ أنواع البكتريا ، ولا نافذة لأطفالها سوى اللعب في هذه الوحول وهذه النجاسات .
***
أقول : من السخف ، الآن ، أن يبرّر مسؤول منطقة ما فقدان الخدمات فيها ، بأنّ هذه المنطقة أو تلك لم يُعتنى بها في العهد البائد . فهذا التبرير يكشف ضحالة الإحساس بالمسؤولية ، ضحالة تصل الى درجة الإنعدام .
الناس بحاجة الى خدمات صحيّة تحميها من أعاصير الأمراض التي تعصف بها من كلّ اتّجاه .
الناس بحاجة الى ماء نظيف ، الى شارع نظيف مشجّر ، بحاجة الى كهرباء تلغي لعنة الشتاء والصيف .
الناس بحاجة الى تغيير شامل في مناهج التعليم .
ينبغي العمل على حذف الدروس التي تكرّس الأمّية في التلاميذ والطلبة ، كالوطنية ، والتاريخ ، والدين .
الناس بحاجة الى قنوات تلفزيونية وفضائية لا تروّج للغباء وللأمّية .
الشارع العراقي بحاجة الى هواء آخر .
#جمال_علي_الحلاق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟