منذر مصري
الحوار المتمدن-العدد: 1151 - 2005 / 3 / 29 - 11:57
المحور:
الادب والفن
1- الزيارة
بمناسبة لا تستحق الذكر، تسليم أوراق من بلدية برج القصب التي تعمل فيها مراقبة فنية، إلى مديرية تخطيط اللاذقية، حيث أعمل منذ ثلاثين عاماً!، زارتني ( فاطمة بلة ). ولأني، لا أذكر كم من السنين التي انقضت ولم ألتق بها ولا بأي من قريباتي من بيت ( البلِّة )، فلقد أظهرت بشكل واضح اهتمامي بزيارتها وأصريت على أن تمكث ما يكفي من الوقت لأسألها عن أحوالها وأحوال أخوتها وأخواتها وعمتها سعاد التي أناديها بابنة عمتي. ولأخبرها بدوري عن أحوالنا التي تعرف عنها الكثير دون أن أقول لها. لا أدري ما العمر الذي هي عليه الآن ابنة ابن عمة أمي،( فاطمة ). هذه الفتاة الرقيقة التي لا يظهر من يديها سوى أصابع صغيرة بأظافر ملحمة، ومن وجهها الصغير بدوره ما يسمح به الحجاب من رقعة ضيقة تتجمع فوق بشرتها الشاحبة ملامح دقيقة لا أثر عليها لزينة. و( فاطمة ) مثلها مثل أختيها ( أسمى ) الأكبر منها سناً و( سمية ) الأصغر لم يأتها النصيب بعد، إلا إنهن جميعاً كما يبدو قد تركن ذلك خلف ظهورهن. ولا هم لهن إلا تدبير معيشتهن يوماً بيوم ومحاولة جمع ما يكفي من القروش البيض تحسباً لأيام سوداء، خبرن مثيلاتها كثيراً، وأحسب أن بيت البلِّة قد أخذوا حقهم وما يزيد منها. أما أخوتها، وهم من أعطى لبيت البلّة هذه المكانة في المدينة، حيث صار صالوني حلاقة ( حمادة وخالد ) ومحل السندويش ( وليد )، التي يعملون بها محطة لقاء عشرات الأصدقاء اللاّوادقة من مختلف حاراتهم من الصليبة إلى المشروع إلى الزراعة إلى حارة الرمل وأستطيع القول السوريين عموماً .. الشعراء والرسامين والممثلين ولاعبي كرة القدم ومشجعيهم الحطينيين والتشرينين .. يحضرني من أسمائهم: ( عبد الله هوشة وأسامة منزلجي وأيمن زيدان وأسامة محمد وأسامة شعبان وزياد عبد الله ومحمد دريوس وزياد عدوان وفادي يازجي ونضال سيجري وخلدون مصطفى وبدر زكريا ومنذر حلوم وعمار زريق ووسيم خاشو ودانيال شمالي ونزار محفوض وهالا محمد وتهامة الجندي وهيفاء بيطار وندى منزلجي ) .. دون ذكرنا نحن بيت ( المصري... رفعت ومصطفى وماهر ومرام ومنى ) وأنا ..
2- ( فؤاد بلَّة )
ــــــــــــــــــــــــــ
أول أبناء ( البلَّة ) ...( فؤاد ) الذي توفي في ال /23/ من عمره، والثاني ( محمد ) الأصغر منه بسنة والذي سقط من سطح بيتهم في الطابق السابع وتوفي بطريقة أكثر مأساوية في عمر ال ( 34) .. وهناك كذلك ( وليد وخالد وحمادة ) والثلاثة بخير .. حمداً لله . ورغم أني كنت أزيد فؤاد بإحدى عشر سنة، في تلك المرحلة من العمر التي تصنع السنتان أوالثلاث سنين، فرق جيل! إلا أنه كان صديقي. كان الفتى ( بالتعبير المفضل عند نوري الجراح وأتباعه ) يتمتع بحشد من المواهب الحقيقية. كان يكتب الشعر ويرسم ويؤلف أغان، وكان ممثلاً بقدرات ملحوظة، فلقد أدى دور ( عتريس ) في أول مسرحية ( حكاية من الميناء ) كتبتها وأخرجتها جماعياً ومثلتها فرقة المسرح الجامعي، كما قام ببطولة المسرحية الثانية بعنوان ( ترال لال لا ) وكانت من تاليف الفرقة أيضاً وكان لفؤاد الحصة الأوفر من الأفكار والحوارات، كما صمم ونفذ ديكورها، وقد قام بإخراجها السينمائي ( أسامة محمد) ، صاحب ( نجوم النهار ) و( صندوق الدنيا ) اللذين قدما برأيي الاقتراح الأهم في السينما السورية. وما زلت أذكر إعجاب ( أسامة ) الشديد به. أما ظروف تسرع ( فؤاد ) وموته بهذه السن؟ فهي اضطراره للقيام بعملية جراحية لإزالة دمَّل كبير في أسفل ظهره. ورغم بساطة وسخافة هذه العملية، قتلته. لأنه بسبب ضعف بنيته أو فقر الدم الذي يبدو أنه كان يعانيه ولم يتنبه له الطبيب !! أو بسبب عدم العناية بتنظيف الجرح كفاية، أصابته حال تجرثم شديدة أدت لإزرقاق وجهه وأطرافه ومن ثم موته .. أي عدم تحسب أي إهمال من قبل الطبيب والطاقم الجراحي الذي قام بالعملية، لماذا لم يجر فحص دم دقيق قبلها، لماذا لم تؤجل حتى يصير ( فؤاد ) مستعداً لها!؟ أما لماذا لم يرض ( فؤاد ) بأن يجري العملية في دمشق، كما كانت عمته سعاد تنصحه؟ فذلك لأنه، مثل كثيرين من اللاَّوادقة الذين عشت معهم وأنا منهم، لا يطيق السفر إلى دمشق وربما لا يطيق دمشق ذاتها. وافهموا ذلك على النحو الذي ترتؤونه.
قليلة ذكرياتي عن ( فؤاد )، ولكن ما بقي منها بعد كل هذه السنين لا بد وأنه سيبقى معي حتى موتي، صورة عن وجهه التقطتها له مع ابني شكيب، ضحكته الدائمة ، حركاته المبالغ في جرأتها أثناء تمثيله في تلك المسرحية، صوته وهو يقرأ لي قصائده، رسومه لبابا نويل على زجاج المحلات التجارية بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة قبل وفاته بأيام، حتى قيل إنه لم يمت قبل أن يزين المدينة التي يحبها، آثار اقدام كبيرة وحافية، كل خطوة بلون، على القسم الأخير من الدرج الواصل إلى باب بيته، لوحته التي تمثل جلجامش زماننا بأنفه المعقوف وجمجمته المسطوحة. تصوروا منذ ذلك الوقت وبذلك بعمر كانت له تلك الرؤية وتلك القدرة على التعبير والمجاهرة! أي متعة وأي فرح كان يستطيع أن يقدمه ( فؤاد ) لنا ، أي معنى وأي غنى كان يستطيع أن يكونه في حياتنا؟ كم خسرنا في موته؟ أقول لكم .. لا أحد يستطيع تحديد مقداره.
زرت ( فؤاد ) في المشفى مرتين أو مرة واحدة لا أذكر، أذكر في المرة الأخيرة كان الشاعر الراحل محمد سيدة معي .. وعندما رأى ما كنت عليه اثناء تلك الزيارة وما خلفته بي رؤية ( فؤاد ) يمضي سابحاً بلا هوادة على سرير موته الباكر. : صاح بي ( أستغرب فيك .. الفتى سيموت سيموت ..أ تريد الموت معه !؟ )
كانت الشاعرة هالا محمد السباقة في الكتابة عن ( فؤاد ) بعد وفاته .. لأ ول مرة أعرف أنها تكتب ولأول مرة تقرأ لي شيئاً كتبته، قرأت لي تلك القصيدة التي وردت في كتابها الأول ( ليس للروح ذاكرة ) :
( وداع )
ــــــــــــ
أيُّها الصَّديق
وأنتَ راحل
لم يحصل سوى
أن الشارعَ الممتد بين بيتك والمقبرة
ازدحم أكثر من العادة بقليل.
أيُّها الصديق
الإعلانات تملأُ الشوارع
الفساتين الملونة
وأنتَ فجأةً
اعتليتَ جداراً
وصرتَ ورقةَ نعوة .
اعذرني
ففي غمرةِ حُزني عليكَ
كنستُ بيتي
وفي غمرة حُزني عليكَ
أعددتُ طعاني
وفي غمرة حُزني عليكَ
وجدتُ نفسي
أستمتعُ بالحزنِ عليكَ
وبكيت.
/
أيُّها الصديق
ما أقسى أن نكونَ في هذا العالم
( حفنةَ تُراب
وحفنةَ بَشر. )
ـــــــــــــــــــــ ..
أما ما كتبته أنا، فهو أحدى قصائد مخطوطة ( دعوة خاصة للجميع ) :
المُرورُ مِن خَرمِ الإبرَة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( إلى فُؤاد بَلَّه )
رفيعاً
تحلُمُ بِالمُرورِ
من خرمِ الإبرَة
شاهِراً سَيفَي
شارِبيكَ المُشَّعثين ! .
/
خفيفاً
لَم تُثقِل على أَحد
وما أَنَّ شيءٌ تحت نَعلَيكَ
عِشتَ تَنُطُّ وَتَلعَب
حتَّى تَلَقَّفَتَّكَ
بِشِدقِها الأَرض .
/
تُرابٌ قَليلٌ
يكفيكَ ..
ــــــــــــ 18-3-1983( أرختها بيوم وفاته كي لا أنساه مع أنها كتبت لاحقاً )
أما شاهدة قبره، فقد أختيرت هذه الكلمات من إحدى قصائده ونقشت عليها :
( غنوا فوق قبري
أغاني الحبِّ والأمل
فحتَّى في قبري
يتفجرُ الأمل )
ــــــ
لكني أتساءل حيال مأساة كهذه، ترى عن أي أمل كان ( فؤاد ) يتكلم ؟ وأي أمل يستطيع موته الفاجع تفجيره فينا !!؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع ( 2 من 2 )
#منذر_مصري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟