حميد طولست
الحوار المتمدن-العدد: 3916 - 2012 / 11 / 19 - 16:56
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ـــــــالحق في المدينة، وبرج شباط !!!ــــــــ
لاشك أن التخطيطات العمرانية والسياسات الإسكانية للمدن، يتم في كثير من مناحيها، وفى أغلب أحوالها، تتم في البلدان غير الديمقراطية، ولعقود طويلة، داخل الأندية الخاصة، والغرف المغلقة، وعلى الخصوص عندما يعلق الأمر بما يصب فى مصلحة فئة أو شريحة محدودة من المجتمع على حساب مصلحة القاعدة العريضة من الشعب، وحينما يمس التخطيط الوعاء العقاري للمجالس والجماعات المسيرة للأراضي المحيطة بالمدن، التي كانت ومازات، مثار لعاب المنعشين العقاريين، ومهيج لجشع المضاربين، ووسيلة تربح المتنفدين، الذين يخصخصون كل شبر منها، ويحويلونها، إلى مجرد ركام من العمارات والدكاكين من أجل الربح السريع، الذي يحول المدن، تحت سمع وناظر الجميع، إلى سلعة يُتاجر بكل مقوماتها، بما فيها سكانها؟ الذين أصبحت أهميتهم ومقدارهم، لا يقاس بإنسانيتهم، بل بما تحققه أراضي مدنهم من أسعار في الأسواق العقارية، ما جعلهم غرباء في مدن موحشة، تقسمهم إلى تجمعات طبقية تعيش أغلبيتها في معزل عن غيرها من التجمعات الأخرى في نفس مساحة المدينة التي لا تحفظ وزنا لساكنتها، ولا تقيم لهم قدرا، ولا ترسي لهم جذورا، حتى أولئك الذين سكنوها طيلة حياتها.
كم كنت أحسب -بعد ما يقرب من العام على تولي الحكومة الجديدة- أن سياسة المدينة ستحتل مكانة خاصة في الأجندة الحكومية، والمشهد السياسي والإداري والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وستوجه عنايتها واهتمامها، نحو معالجة المشاكل الأكثر حدة في المجتمع المدني, بدءا من الاستبعاد الاجتماعي، والعزلة الحضرية والمجالية، وصولا إلى التمييز السلبي الذي تعاني منه الكثير من الفضاءات الحضرية، وأن هذه الحكومة –خلافا لغيرها- ستعمد إلى منطقا جديدا في الفعل من خلال إشراك عدد كبير من الفاعلين في معركة مكافحة تلك العزلة، وذاك الاستبعاد الاجتماعيين، وأن المسؤولين على مدننا بها، سينشغلون بتطبيق رؤى حكيمة، تتوخى المعالجة الشمولية للإشكالات الخطيرة التي تعيشها جل المدن المغربية، ولا تسمح لاساكنتها من تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية والبيئية؛ فإذا بي، للأسف وغيري كثير جدا، نكتشف أنّ جل المتنفذين، وأكثرية المسؤولين عن إدارة ترابها، قد انشغلوا –كسابقيهم في الحكومات المتعاقبة- بسياسات شكلية غير جوهرية لا تتعدى كونها، سياسة كيدية ثأرية، تحمل في طياتها شبهات الغل والانتقام والتنكيل المجاني الذي حول مجالات المدن إلى فضاءات هشة غير قادرة على توفير أبسط مقومات المعيشة الأساسية لكتلة ضخمة من البشر، وغير مهيأة بشكل ملائم لقيام حاضرات أو حواضن استراتيجيات التمدن المؤثرة في الإنسان ومحيطه، والتي يمكن اكتشافها بمجرد نظرة خاطفة إلى وضعية الكثير من الأحياء الهامشية المعزولة, أو الناقصة التجهيز أو غير مهيكلة، والمناطق الصناعية المهجورة داخل الكثير من المدن.
ولاشك أن هذه النظرة ستفضح وضع تلك المدن المزري، وقصور جاهزيتها للتأقلم ومسايرة التغيرات الديمغرافية والسوسيو/اقتصادية، وحاجتها الملحة للتجديد على المستوى الحضري، ويعري حالة النتائج المجالية المترتبة عنها على مستوى التعمير والجوانب الاجتماعية, المتمظهرة في الأزمات المجالية التي خلقت قطاعات حضرية مستبعدة اجتماعيا ولا تملك المقومات الأساسية لحياة ساكنة المدن الحديثة، والتي جعلت الإنسان غريبًا في وسط مجتمعه، بدل أن يكون هو العنصر الأساسي والفاعل الرئيس الذي يشارك غيره في تشكيل مستقبل محيطه ومدينته، ليس عبر صناديق التصويت فقط، -كما يتخيل البعض رغم أنها أفضل صور ممارسة الديمقراطية وأسماها درجة- ولكن عن طريق مشاركة فعّالة وشاملة، تتناول أدق التفاصيل التى تمس الحياة اليومية، انطلاقا مما أصبح يسمى بـ"الحق في المدينة" الذي نادى به المفكر الفرنسي، هنري ليفيبر، والذي يؤكد في أساسياته على حق المجتمعات في تقرير ماهية وشكل ومصير مدنها، وسبل استعمال محيطها، وإعادة تركيب أوضاعها الحالية، والحفاظ على تاريخها، والتحكم في جُل ما يشكل ويدير مقومات وطبيعة ومجالات الحياة فيها، وذلك حسب رؤى جديدة تقدمية تتعدى في مضامينها المفهوم الضيق لسياسة المدينة التي يتحكم فيها رؤوس أموال المتنفذين، الذين لا يهمهم قليلا أو كثيرا أن تزيد أو تتعمق معاناة الشعب من ساكنة المدن والذين يستخسرون فيهم "حقهم في المدينة" الذي يمكنهم من تقرير مصير وماهية وطبيعة الأرض والبيئة والمساحة التي يعيشون عليها وفيها، والذي يجمعهم حولها مصير واحد، وهدف واحد، مبني على المطالبة باسترجاع كل الأملاك والأراضي والشواطئ التي استُولي عليها ظلمًا واستئثارًا، وتحويلها إلى ما يخدم المجتمع عامة.
فلا غرابة في أن يدعونا وضع مدن بلادنا غير المستوعبة لمتطلبات الحاضر، وغير المستعدة لتحديات المستقبل، للتفكير الجدي في جدوى مثل هذه السياسات، التي لا تقدم عملا وطنيا هادفا، ولا تهدف إلى تحقيق غايات شعبي في الحرية والانعتاق ولا تؤدي إلى تحسين أحوال الناس المعيشية، والتي وضعت مصير الكثير من ساكنة مدننا، على كف عفريت، ودفعت بكل توَّاقِ إلى "مجتمع جديد متطور"، إلى الانتفاض – انطلاقا من إحساسهم بالغربة في وسطهم- على الذل والتهميش ومطالبها بالحرية والكرامة، وإلى المطالبة بتغيير جذري في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تدير حياة الإنسان ومحيطه، هذه الانتفاضات هي أساس تلك الحركات المتعددة التي أصبحت صرخات مدوية رددتها مظاهرات عارمة عبر العالم، من حملة احتلال وول ستريت ولندن، إلى حركات تقدمية بدأً من أمريكا الجنوبية، وصولاً إلى حركة "كفاية" بمصر، وبروز حركة مبادرة «القاهرة من الأساس» بمصر ومبادرة «مشاع» مؤخرًا في بيروت، وغيرها كثير من الحركات والمبادرات عبر العديد من الجهات الأخرى من العالم، والتى تهدف كلها إلى نشر الأفكار الجديدة الداعية إلى نمط جديد للمدينة التى تعبر عن كافة سكانها وتتفاعل معهم، عبر الرفع من مستوى وعى المواطنين بالمشكلات العمرانية المحيطة بهم، وإثارة مخيلتهم حول مستقبل مدنهم، كما هو حال النقاش الذي أثاره بالقاهرة مجموعة من الشباب المتحمس، المكونة من فريق من الباحثين فى مجال السياسات العمرانية الخاصة بالأراضى وعدد من الأكاديميين والناشطين المشتغلين بالعمران، بالإضافة إلى مجموعة من المثقفين والكثير من القاهريين المحبين لمدينتهم، والذي تمحور نقاشهم حول طريقة اتخاذ القرارات التى تمس المدينة والمواطن وكيفية إشراك المواطنين فيها مستغلين وسائل التواصل الاجتماعى الحديثة، في نشر أفكارهم الداعية للوصول إلى نمط جديد لمدينة القاهرة، التي يريدونها مدينة تعبر عن كافة سكانها وتتفاعل معهم، وقد ابتدعوا لذلك مسابقات تسعى لتفعيل دور سكان القاهرة فى مستقبل مدينتهم، على أوسع نطاق ممكن.
فهل من الممكن أن يتم مثل ذلك عندنا، ويتبنى مثقفونا وفعاليات المدن، مثل تلك الأفكار كحل ناجع لتحسين أوضاع محيط وبيئة المدينة المغربية، بدل ترك المجال مفتوحا أمام العابثين بأصالتها التاريخية، ومعالمها الطبيعية، كما فُعل بمدينة فاس، التي شُوه مجالها بما لا يتلاءم وطبيعتها كعاصمة علمية للمملكة، بما أقحم -قبل أعوام قليلة- من معالم غريبة بمجالها، تتمثل في أسدين نشاز، غير متناسق مع طابع المدينة، والذين أضيف إليهما، مؤخرا، مسخ جديد سمي تجنيا"برج إيفل" بدل "برج شباط" الذي وضعه عمدة فاس راجيا به الخلود فى التاريخ حتى تذكر سيرته الأجيال القادمة، بصرف النظر عن رأي ودور الساكنة المهمشة حول ما يجتاح مجالهم الحضري الذي يعيشون فيه، من النشاز الذي لا يتلاءم والسياقات التاريخية والعمرانية، ومتلطلباته الاجتماعية والثقافية، بيئةً ومساحةً ومدينةً.
حميد طولست [email protected]
#حميد_طولست (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟