عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 3873 - 2012 / 10 / 7 - 03:34
المحور:
المجتمع المدني
في مقال للمفكر والسياسي المحنك د. وحيد عبد المجيد، المتحدث الرسمي باسم الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، نشرته صحيفة المصري اليوم بنفس هذا العنوان في 5 أكتوبر 2012، يحاول الدكتور، كما يصف في مجادلة لنصرة حرية التعبير مع أحد المحافظين المتخوفين من أن تؤدي هذه الحرية غير المنضبطة إلى ظهور الصحف والمجلات البورنو (الإباحية)، أن يطمئن هذه الفئة الطيبة المتدينة من الشعب المصري على أن ظهور مثل هذه الصحافة يستلزم أولاً وجود ثقافة وحريات وممارسات جنسية "ما أبعدنا نحن في مصر، والشرق كله على اتساعه" عنها. حتى، في عالم الافتراض، لو حدث ذلك فعلاً ونفذت الصحافة الإباحية من ثقب حرية التعبير حينئذ، من وجهة نظر الدكتور بالطبع، لن تكون هذه صحافة، "ولا علاقة لها بحرية التعبير من قريب أو بعيد، وما أسهل التصدي قانونياً لعمل إباحي يقع فاعله تحت طائلة القانون، الذي يعاقب على مثل هذا الفعل باعتباره خدشاً للحياء." الدكتور وحيد يتفق مع زميله المحافظ، الخائف على الأخلاق القويمة من حرية التعبير، في كون حرية التعبير لا تشمل الصحافة الإباحية (البورنو)، التي يجب منعها وملاحقتها وقمعها بالوسائل القانونية. هل فعلاً حرية التعبير تستثني "صحافة البورنو" كما يريد الدكتور وحيد وصاحبه؟
الظاهر أن لا الدكتور وحيد ولا صاحبه يفهمان حقيقة ماذا تعني "حرية التعبير"، ويقعان في خلط بين "التعبير" و"الفعل". لولا هذا الخلط لما توصلا أصلاً لهذه النتيجة المجحفة التي تقصي بدكتاتورية معهودة غير مشفوعة بحجج مقنعة "صحافة البورنو" من حرية التعبير. في واقع الأمر، هذا الفهم الخاطئ لمفهوم حرية التعبير هو السائد في الثقافة العربية والإسلامية بوجه عام، وهو الباعث والمحرض على ردود الأفعال المتشنجة والعنيفة لما تصور في الغالب على أنها إساءة استعمال لحرية التعبير كما يراها الدكتور وصاحبه، كتلك التي حدثت في حالات الفيلم والرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول.
في الفهم الصحيح لحرية التعبير، يوجد، ولابد أن يوجد، فصل وتمييز واضح ما بين حرية "التعبير" و"الفعل". لا أحد على الإطلاق يعاقب عن "التعبير" في حد ذاته، مهما كانت الأفكار أو المعتقدات التي يعبر عنها، شاذة أو معتادة، محافظة أو متحررة، مؤدبة أو فاحشة. التعبير، في حد ذاته، مفتوح تماماً بلا بداية ولا نهاية، وليس له لون ولا طعم ولا رائحة، ولا دين ولا مذهب ولا مدرسة. هو مطلق بلا حدود في جميع الاتجاهات دون أي تفرقة أو تمييز فيما بينها على الإطلاق. السبب وراء هذه المساواة المطلقة بين كافة أنواع التعبير هي المساواة التامة والمطلقة أيضاً بين جميع البشر. طالما أن جميع البشر، داخل النظام السياسي الواحد، متساويين بطبيعتهم الإنسانية وبنظامهم السياسي في كل الحقوق والواجبات، لابد أن يكونوا متساوين بالمثل في التمتع بحقوق حرية تعبير متساوية؛ وطالما أن الاختلاف والتعارض والتناقض وحتى الصراع سنة طبيعية بين البشر في كل مكان وزمان، حتى داخل الدين الواحد والمذهب الواحد والبيت الواحد، إذن لابد من أن يختلف التعبير فيما بينهم عن هذه الاعتقادات والتوجهات والصراعات المختلفة. هكذا، "حرية التعبير" المختلفة تستمد مشروعيتها من الناس المختلفين، الذين هم، بجانب اختلافاتهم، متساويين. هكذا يكون من حق كل إنسان أن يعبر عن نفسه مثل أي إنسان آخر، وطالما هؤلاء الناس مختلفين في المعتقدات والتوجهات، لابد من ضمان حرية تعبير متساوية للجميع، بصرف النظر عن محتوى ذلك التعبير. أساس حرية التعبير هو المساواة الطبيعية والسياسية بين كل المواطنين وحقهم الطبيعي والسياسي في أن يعبروا عن أنفسهم المختلفة، ليس أساسها المحتوى الذي يعبرون عنه. "حرية التعبير" حق للإنسان ذاته، بصرف النظر عن ما يعبر عنه.
أعود لما سبق الإشارة إليه من وجوب التفرقة والتمييز ما بين "التعبير" و"الفعل" إذا أردنا التوصل للفهم السليم لحرية التعبير. إذا كانت حرية التعبير مطلقة، وهكذا ينبغي أن تكون، حرية الفعل ليست كذلك. السبب هو أن التعبير- فكراً أو قولاً أو كتابة أو حركة أو رسماً أو إشارة أو غير ذلك- لا يمثل اعتراضاً مادياً مباشراً للغير أو لحقه في التعبير المضاد، بينما الفعل ليس كذلك، حيث في الغالب يكون له تأثيراً مادياً مباشراً على الآخرين. في قول آخر، ما يضع الحدود للتعبير المسموح به وغير المسموح به قانوناً في المجتمع المتحضر حيث تسود قيم العدل والمساواة وسيادة القانون ليس مضمون أو محتوى التعبير ذاته، إنما الفعل المنبثق عن هذا التعبير. قد يكون موضوع التعبير فحشاً ودعارة وبذاءة غير متصورة لكنه، رغم ذلك، يندرج ضمن "حرية التعبير"، لأنه ببساطة لا يشكل تعدياً ولا خطراً مادياً مباشراً على آخرين، إنما يقتصر أثره على أصحابه ومحبيه ورواده داخل حدود خصوصياتهم الفردية والجماعية التي ينظمها ويكفلها لهم القانون. في المقابل، قد يكون موضوع التعبير تجسيداً لأرفع وأنبل وأقدس وأطهر الأفكار والنظريات والمعتقدات والتوجهات، لكنه، رغم ذلك، لا يندرج ضمن "حرية التعبير"، بل هو الذي يجب أن تتم ملاحقته قانونياً كما يريد المشرعان أعلاه، ببساطة لأنه قد ينطوي على تعدي أو عنف مادي مباشر على آخرين.
في مثال موجز، في القضية المعروف إعلامياً باسم "قضية مقتل طالب الهندسة" بالسويس حكمت المحكمة بالسجن المشدد 15 سنة على الشبان المصريين الثلاثة الذين كانوا يبتغون أن يأمروا هذا الشاب وخطيبته بالمعروف وينهونهما عن المنكر، لكن هذا "التعبير" المعتدي على حرية آخرين بدعوى هدايتهم احتد وتطور إلى "فعل" معتدي هو الآخر بالتبعية أدى إلى مقتل الطالب. في ضوء هذا الفعل العنيف والإجرامي المعتدي على آخرين، أصبح "التعبير" عن الأفكار والمعتقدات التي أوصلت هؤلاء الشباب الثلاثة إلى الفعل المتعدي، ورغم أن محتواه ومضمونه هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو المشجوب والمجرم الذي يجب ملاحقته قانونياً. أما طالب الهندسة وفتاته، حتى لو كانا، افتراضاً، قد ضبطا يمارسان جنساً صريحاً برضاهما في ركن مستتر في الشارع، لم يعتديا على أحد، لا تعبيراً ولا فعلاً. هما لم يحرضا أحداً على الرزيلة، ولم يرغما أحداً على ممارستها معهما. هكذا يكون أدعياء الفضيلة هم الذين تجاوزا حدود حرية التعبير، لأنهم تعدوا على آخرين، حتى لو بدافع الإحسان. في حين أن أدعياء الرزيلة لم يتجاوزا تلك الحدود، لأنهم لم يتعدوا برذائلهم على آخرين. من هذا المنطق، عاقب القانون "فعل" دعاة المعروف، لكنه للأسف لا يزال لم يحظر ولم يجرم "التعبير" الذي أوصلهما لهذا الفعل العدواني.
كل محتويات ومضامين التعبير بلا استثناء وعلى قدم المساواة الكاملة، وليس "صحافة البورنو وحدها"، عرضة للتجريم والملاحقة القضائية والعقاب في حالة واحدة فقط- حين تقود إلى فعل يعتدي على حريات الآخرين، حتى لو بحجة إدخالهم الجنة.
#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟