|
الليبرالية الجديدة وثنائية الشكل والمضمون
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1122 - 2005 / 2 / 27 - 11:08
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اتفقنا على سبيل البحث والدرس لأي موضوع مادي وأدبي، على مقاربة تتناوله عبر ثنائية الشكل والمضمون، مع الأخذ في الاعتبار أن الفاصل ليس تاماً بين شكل أي موضوع ومضمونه، فالمضمون يستدعي شكله ويحتمه، كما أن الشكل يحدد الكثير من ملامح مضمونه، بحيث يجوز لنا أن نتحدث عن مضمون الشكل، أو شكل المضمون، وسنحاول هنا الاستفادة من هذه المقاربة، للمزيد من الفهم لليبرالية بوجه عام، ولما يطلق عليه حالياً في شرقنا "الليبرالية الجديدة". الليبرالية في عموميتها أقرب لأن تكون شكلاً محضاً، بأقل قدر من المحتوى أو المضمون، فإذا اختصرنا (بالقليل من التجاوز على ما أظن) الليبرالية في مفهوم: "حرية الفرد المطلقة، التي لا يحدها إلا حدود حرية غيره من سائر أفراد المجتمع "، تكون الليبرالية مجرد إطار لا يحوي بداخله إلا القليل من العلامات الإرشادية، المكملة لطبيعة الإطار، لتكفل أمرين على ذات الدرجة من الجوهرية، أولهما اتساع الحرية الفردية لأقصى مدى، والثاني تأمين ذات القدر من الحرية لجميع الأفراد، دون تميز خاص لفرد مهما كان موقعه، أو جماعة مهما بلغ عددها أو جنسها أو عقائدها الفكرية، علمانية كانت أم مقدسة. هي هنا أشبه بكتاب قوانين لعبة كرة القدم، والذي يحدد أبعاد الملعب وتعليمات الحركة، التي تتيح الفرص المتكافئة لجميع اللاعبين، لكنه لا يحدد خطة اللعب أو أسلوبه، وإن كانت تلك المقارنة يشوبها عدم الدقة، فإنما لأن الليبرالية لا تفعل ككرة القدم، فتحتم لعب الكرة بالقدم وليس باليد، وتعطي مميزات خاصة لحارس المرمى وما إلى ذلك، فالمبدأ الأساسي لليبرالية هو أنها مجرد إطار نموذجي يتيح تحقق إنسانية الإنسان الفرد، وإطلاق ملكاته الإبداعية بلا حدود أو قيود، وهي بهذا شكل محض بلا مضمون مفروض، من حقك أن تلعب الكرة بقدمك أو برأسك أو بيدك أو لا تلعب على الإطلاق، وأن تجلس القرفصاء على البساط الأخضر تهمهم أو تتمتم أو تلتزم الصمت المطبق، على أن لا يعيق أي من أفعالك باقي اللاعبين عن تحقيق ذواتهم وممارسة حريتهم، ففي ظلال الليبرالية يمكن أن تكون متديناً بأي دين سماوي أو وضعي، أو أن لا تكون متديناً على الإطلاق، ويجوز أن تكون عقلانياً وعلمياً في نظرتك للواقع وقراءة ظواهره، أو أن تتناول الأمور بنظرة غيبية، مستنداً لادعاءات ميتافيزيقية، تنفرد بها أو يشاركك فيها أقلية أو أكثرية، كما يحق لك أن تعلن وتدعو لآرائك بكل الطرق، بغض النظر عن تقييم الآخرين أو موقفهم من آرائك، والليبرالية بهذا لا تعطي المبرر لأي من كان بأن يرفضها أو يدينها، لأنها لن تؤدي لانتقاص أي حق من حقوقه، ولن تمنعه من أن يكون بالكيف الذي يهواه لنفسه. ما تقدم كان يمكن أن يكون صحيحاً على إطلاقه ونهائي، إذا كان الانفصال حاسماً بين الشكل والمضمون، لكن إذا ما انتقلنا إلى ما يفرضه الشكل من مضمون، أو ما يسمى بمحتوى الشكل، سنجد أن إطار الليبرالية وقواعدها تستدعي مضامين أو نظريات وعقائد وتستبعد أخرى، مع التأكيد على أن عملية الاستدعاء أو الاستبعاد لا تكون على أساس تفضيلي تقييمي لتلك المضامين في ذاتها، بما يعد خروجاً أو استثناء من القواعد الليبرالية، وإنما لتعارض النتائج التطبيقية للأخذ بها مع قواعد اللعبة (الليبرالية). فمن حقك ليبرالياً أن تعلن عن آرائك ومعتقداتك بكل الطرق، لكنك إذا دعوت للكراهية أو ممارسة العنف بين فئة وأخرى، فإن النتائج التطبيقية لدعوتك إذا ما وجدت رواجاً، ستكون التصادم بين أفراد وفئات المجتمع، وهذا يخالف المبدأ الأهم (وربما الوحيد) في الليبرالية، وهو ألا تتعارض حريتك مع حرية غيرك، فمن هنا على سبيل المثال يكون قيام الليبراليين العرب الجدد برفع طلب لمجلس الأمن الدولي، لإنشاء محكمة عالمية لمحاكمة مصدري فتاوى القتل والإرهاب، أو وقف بث قناة المنار في فرنسا، وبعض المقاطعات لقناة الجزيرة، كذلك موقف المجتمع الدولي من حكومة حزب يميني متطرف وصل بالانتخابات إلى حكم النمسا، وتجريم معاداة السامية، ومطاردة رموز الفاشية والنازية في الماضي، ورموز البعثية والأصولية الإرهابية في الحاضر، والحيلولة دون استغلال الأحزاب الدينية العنصرية المتعصبة، للآليات الديموقراطية للوثوب على السلطة، كل هذه الفعاليات ليست من قبيل تنكر الليبراليين لليبراليتهم، كما يحلو للبعض المغالطة، وإنما هو محتوى الشكل الذي يفرض وجوده، والذي بدونه لا يكون للشكل من وجود حقيقي، وكأننا ندعو إلى الفوضى أو العدم، أو للعودة بالإنسانية إلى مرحلة ما قبل مفارقة الإنسان لأجداده القردة في أعالي الأشجار!! من نفس المنطلق، وكما يستبعد محتوى الشكل بعض الأمور، يستدعي أخرى، فهو يستدعي الديموقراطية كنظام للحكم، والملكية الخاصة والاقتصاد الحر والأسواق المفتوحة كنظام اقتصادي، ورغم هذا فإن الليبرالية ليست منافساً أو بديلاً للأيديولوجيات أو الأديان، فهي لا تحدد للإنسان (في وصايا عشر) ماذا يفعل وماذا لا يفعل لكي يحسن مصيره في الدنيا والآخرة، ولا تدلي بدلوها في قضية الوحدة العربية أو الأوروبية أو ما شابه، هي تتسع إذن لجميع الأديان والدعاوى والأيديولوجيات وأنماط الحياة، هي جنة التنوع المتناغم، وليس المتنافر المتصادم. أما الليبرالية الجديدة، والتي يتنامى الاهتمام بها والدعوة إليها في المنطقة العربية، فالأمر معها ليس كما سبق، من حيث ثنائية الشكل والمضمون، على الأقل في مرحلتنا الراهنة، لأنها في الحقيقة دعوتان لا دعوة واحدة، دعوة ابتدائية ودعوة نهائية، النهائية تهدف إلى إرساء ليبرالية بالمواصفات العالمية السابق توضيحها، أما الابتدائية فلها ذات الشكل الليبرالي، لكنها تحوي المزيد من المضامين المحددة، لأنها تهدف إلى التخلص من عناصر التخلف والفاشية المتغلغلة في منطقتنا، والتي يمنع وجودها سيادة فكر وعلاقات ليبرالية، لإزالة واستبعاد الشواهد والأبنية والنظم والأفكار المستقرة منذ قرون تستعصي على الاستقصاء، لتمهيد الأرض للأبنية والعلاقات الجديدة، فهي تناهض الفاشية العروبية والدينية التي تعادي الآخر وتحقر منه وتستبعده، وتعادي التفسير الغيبي للظواهر الطبيعية والاجتماعية، وتحرض على الثقة والإيمان بالعلم، والاستعانة به في تناول كافة قضايا واقعنا، كما تستبعد التابوهات والمحرمات المقدسة التي تعوق حرية الحركة والعلاقات البناءة، تحقيقاً لرفاهية الإنسان، مثلها العلاقات السياسية والاجتماعية الاستبدادية والمتحجرة، والتي تنتج بشراً لا يصلحون لشيء غير الأكل والإخراج، وبالأكثر العنف الإرهابي المدمر، وتهدف للتخلص من ربقة الماضي والتحرر من إساره، والتوجه نحو المستقبل نستشرفه، ونستقرئ إمكانياته، وتستبعد المفاهيم البالية والعنصرية للوطنية والقومية، التي تجعل منها عامل فصل وانعزال عن المجتمع الإنساني، الذي يتجه صوب الوحدة، كما تدعو للتخلي عن نظرتنا وتوجهاتنا القديمة لمعالجة مشاكل المنطقة المزمنة مثل المشكلة الفلسطينية، واستبدالها برؤى منفتحة ترحب بالآخر، وتسعى للتوصل معه إلى حالة تناغم واستقرار، عوضاً عن التصادم والصراع الأبدي المدمر. الليبرالية الجديدة تحوي في شطرها الابتدائي إذن قدراً أكبر من المحتوى (وصايا عشر)، تتسق بالطبع مع الشكل (الليبرالي)، تبشر به وتعمل على تفعيله، حتى تصبح أرضنا صالحة لاستزراع الليبرالية، وعندها تنتفي الحاجة لهذا المضمون المستزاد، لننتقل للمرحلة النهائية، والتي تكاد تخلو الليبرالية فيها من المضمون، ليقتصر الأمر على الشكل ومضمون الشكل، تاركة مساحة المضمون الواسعة لخيارات البشر المتنوعة، والتي تزيد عن ستة مليارات خيار!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخطاب الإعلامي العربي بين الوصاية والتضليل والليبرالية المف
...
-
د. سيار الجميل . . عفواً
-
ثوابت الأمة والخلط بين الواقعية والانهزامية
-
مستنقع الكذب وضبابه
-
فيصل القاسم يسفر عن وجهه الليبرالي
-
الاتجاه المعاكس- والإجهاز على المشكاة
-
فيصل القاسم . . من وإلى أين؟
-
مشهدان من مسرحية عروبية ساقطة
-
أمريكا أمريكا . . تلك الأرض المقدسة
-
البعض يريد كليباً حياً
-
إبراهيم نافع والفاشيون العرب
-
حوار مع صديقي الملحد -2
-
الليبراليون الجدد يوقدون الشموع
-
المسألة القبطية ومنهج الرقعة الجديدة على ثوب عتيق
-
حوار مع صديقي الملحد
-
غلب حماري
-
خواطر من عرس ابنتي
-
ليس رداً على صنديد العروبة عبد الباري عطوان- العراق وفلسطين
...
-
هموم مشرقية 2 - تقييم الذات بين الحقيقة والادعاء
-
الفتاوي القرضاوية ومصير العقارب
المزيد.....
-
إسرائيل وغزة.. عام على حرب 7 أكتوبر
-
كيف تغيرت حياة باتشيفا بعد اختطاف عائلتها في السابع من أكتوب
...
-
يوم فقد عبدالله كل شيء في غزة
-
عام على هجوم حماس ـ أمن إسرائيل و-مصلحة عليا للدولة- لألماني
...
-
تصريح صحفي صادر عن المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية
-
تأثير حالة الحب على الصحة
-
كم يبلغ ثمن خيانة الوطن.. ما هي المبالغ التي تدفعها أوكرانيا
...
-
فرقة إسرائيلية ثالثة تنضم إلى العملية في جنوب لبنان (صور+فيد
...
-
الشيف بوراك يفتتح أول مطعم له في مصر
-
بوريل: يمكن أن تنتهي الحرب خلال 15 يوما.. هل هذا ما نريده لل
...
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|