أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث















المزيد.....

حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 3785 - 2012 / 7 / 11 - 19:38
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


طرح الربيع العربي إشكاليات ومشكلات الدساتير وصياغتها، لاسيما في البلدان التي حصلت فيها عمليات انتقال من شكل نظام حكم إلى شكل آخر، وخصوصاً بعد إطاحة بعض الأنظمة، كما حصل في تونس ومصر، أو انهيار النظام القانوني والأمني والقضائي في بلدان أخرى، كما حصل في ليبيا، أو عند تجاور القديم مع الجديد وتداخلهما، مثلما حصل في اليمن، حيث اضطر رئيسها علي عبد الله صالح إلى التنحي، في حين لايزال يمسك بقوة على بعض المفاصل الأساسية، وخاصة في الجيش وقوى الأمن، أو أن قوى التغيير لم تَطَلْها بعد، أو ربما لم تصلها بما فيه الكفاية، الأمر الذي يشكّل حالة من القلق والتوتر وعدم الاستقرار وضعف الثقة .

وأيّاً كان شكل التغيير، فإن موضوع الدولة والنظام السياسي وعلاقة الحاكم بالمحكوم والحقوق والواجبات، لايزال يشكّل قاسماً مشتركاً أعظم لإشكاليات ومشكلات صياغة الدساتير والمبادئ القانونية والقواعد العامة التي ينبغي أن تتضمنها .

وإذا كنّا نعرف أن عملية صياغة الدستور تستغرق وقتاً طويلاً، لاسيما إذا كان دستوراً دائماً، فإن إعلانات دستورية أخذت طريقها في بعض البلدان وتنتظر بلدان أخرى صياغات دستورية لتسيير المرحلة الانتقالية، التي أصبحت ضرورية لأكثر من اعتبار، لضمان سير العدالة . الأول يتعلق بالكشف عن الحقيقة كاملة، والثاني لمساءلة المرتكبين، ووضع حدّ لعمليات الثأر أو الانتقام أو انتشار مظاهر الكراهية والحقد والكيدية، والثالث لتعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، والرابع لجبر الضرر شخصياً ومجتمعياً، والخامس لتهيئة المستلزمات لإصلاح النظام القانوني والقضائي والأمني، لكيلا يتكرر ما حصل من ارتكابات وانتهاكات في السابق، مستقبلاً .

لقد شهد العالم دساتير وأنظمة ومدوّنات قانونية مختلفة منذ القِدَم، حتى يمكن القول إن مدوّنة أوركاجينا العام 2300 قبل الميلاد، وقانون أورنمو، هي أقدم القواعد الدستورية في العالم، وهي تعود إلى العهد السومري، وقد سبقت شريعة حمورابي البابلية الأكثر شهرة في العالم، بنحو ثلاثة قرون (حيث حكم حمورابي في الفترة بين 1792 1750 قبل الميلاد وأصدر شريعته بعد ثلاثين عاماً من حكمه)، ثم جاءت دساتير أثينا العام 621 قبل الميلاد . وكان ما تركه لنا أرسطو من إرث حضاري وقانوني ودستوري مهم جداً، لا سيما في أعماله “دستور أثينا” و”السياسة” و”الأخلاق”، وأعقب ذلك دستور روما المدوّن في العام 450 قبل الميلاد .

ولعل دساتير الهند “مراسيم أشوكا” التي جاءت في القرن الثالث قبل الميلاد كانت جهداً إنسانياً متميزاً لتنظيم الحقوق والواجبات، ولاسيما علاقة الحاكم بالمحكوم، وعلاقة المواطنين ببعضهم، وحل مشكلاتهم، والفصل في نزاعاتهم، وتسوية أمور البيع والشراء والديْن والإقراض وغير ذلك . وكذلك ما تركته الفلسفة التاوية (الصينية) من قواعد دستورية وقانونية وأخلاقية في إثراء الفكر الإنساني .

وكان دستور المدينة “صحيفة المدينة” مدوّنة دستورية صاغها النبي محمد (ص)، وهي عبارة عن قواعد لتنظيم علاقة المسلمين مع غيرهم: اليهود والوثنيين، وعلاقتهم مع بعضهم (الأوس والخزرج)، وقد صيغت بعد هجرة الرسول إلى يثرب من مكة التي غادرها اضطراراً، وهذه القواعد لتسوية المنازعات وحل المشكلات وتنظيم طرق دفع الدّية، ونظام الضرائب وبث روح السلام المجتمعي .

أما وثيقة العهد العظيم “الماغنا كارتا” الصادرة عام ،1215 فقد حرّمت اعتقال أي إنسان حر أو سجنه أو الاعتداء على ممتلكاته أو حظرها أو تدميرها أو نفيه، إلاّ بحكم قضائي، وهي وثيقة مهمة لعلاقة الملك بالنبلاء، ومهّدت إلى إصلاحات دستورية وقانونية في إنجلترا وأوروبا لاحقاً .

ويعدّ دستور سان مارينو (إيطاليا) المكتوب باللغة اللاتينية، من المقدمات المهمة للدساتير الحديثة، ويتألف من ستة كتب تلك التي حددت المجالس والمحاكم والقانون الجنائي والمدني والإجراءات القضائية وسبل الإنصاف، وهو الدستور المكتوب في العام 1600 وأعقب ذلك دستور كرومويل (عريضة أو ملتمس الحقوق-Pétition of right ) العام 1628 .

وكان مونتسكيو قد نشر كتابه “روح القوانين” أو “روح الشرائع” عشية الثورة الفرنسية التي اندلعت في 14 يوليو/تموز العام ،1789 حيث أصدرت دستورها لاحقاً (في 3 سبتمبر/أيلول 1791) و”إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، ولكنّ ذلك جاء بعد الثورة الأمريكية، وكتابة دستور الولايات المتحدة في العام 1776 الذي استغرق عقداً ونيّفاً من الزمان، حيث تمت المصادقة عليه في 21 يونيو/حزيران 1788 .

لكن ما لفت انتباهي وأنا أزور ليتوانيا وعاصمتها فيلينيوس، أنني اكتشفت من خلال مترجمتي الشابة إيلينا غازيوليتا Elena Gasiulyte أن دستور ليتوانيا هو ثاني دستور حديث في العالم بعد الدستور الأمريكي، وليس الدستور الفرنسي، كما كنت أعتقد، وربما هو الاعتقاد المهيمن على دارسي تاريخ الدساتير والقوانين ولاسيما الحديثة، والفارق بينهما أربعة أشهر، حيث صدر الدستور الليتواني في 3 مايو/أيار 1791 .

ولعلّ فلاسفة عصر التنوير وما بعده مثل توماس هوبز وجان جاك روسو وجون لوك ومونتسكيو وفولتير وغيرهم، كانوا قد أثّروا في الحركة التنويرية الدستورية في أوروبا كلّها، وإنْ كان الأمر بدرجات متفاوتة، وهم الذين دعوا إلى اعتبار السيادة للشعب، وقالوا بفصل السلطات واستقلال القضاء، فضلاً عن تحديد الحقوق والحريات، العامة والخاصة .

لقد دفعني الفضول العلمي والمعرفي للبحث عن دستور ليتوانيا التي تقع في شمالي أوروبا وهي جزء من دول البلطيق الثلاث: إضافة إلى لاتفيا وأستونيا، وتشترك حدودها مع روسيا البيضاء أيضاً (الجنوب الشرقي) وبولونيا، وعبر بحر البلطيق إلى الغرب، حيث تقترب من السويد والدنمارك .

كانت ليتوانيا بلداً كبيراً ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، لأنها تضم روسيا البيضاء وأوكرانيا وأجزاء من بولونيا وروسيا، إضافة إلى أراضي دوقية ليتوانيا . وقد اتّحدت ليتوانيا مع بولونيا التي كانت مدينة كراكوف عاصمتها في العام 1569 وشكّلت ما عُرِفَ بالكومنولث البولوني الليتواني الذي استمرّ أكثر من قرنين من الزمان، ولكنه تم تفكيكه منهجياً بين العام 1772 والعام 1795 .

وإذا اعتبرنا أن الدستور الأمريكي هو الدستور الأول الحديث في العالم، فإن دستور ليتوانيا المتميّز هو الثاني، لكن ليتوانيا خضعت للإمبراطورية الروسية لاحقاً، ثم استقلّت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في 16 فبراير/شباط ،1918 واستعادت إنشاء دولتها ذات السيادة، ثم أعيد احتلالها خلال الحرب العالمية الثانية من قبل ألمانيا النازية بعد أن خضعت للنفوذ السوفييتي، وأعاد السوفييت احتلالها مرّة أخرى في العام 1944.

استعادت ليتوانيا استقلالها مجدداً في 11 مارس/آذار ،1990 وهي أول جمهورية انفصلت عن الاتحاد السوفييتي السابق، بعد حركة البريسترويكا (التجديد وإعادة البناء)، حيث كانت قد خضعت إلى عمليات “ترويس” وتذويب للهوية وتعويم للخصوصية قابلتها بـ “مقاومة” شديدة، وحاولت موسكو الحيلولة دون استقلالها ومارست ضدها حصاراً اقتصادياً، بل هاجمت برج التلفزيون في 13 يناير/كانون الثاني ،1991 لكن ذلك لم يغيّر إرادة شعب ليتوانيا في الإصرار على نيل الاستقلال، وانضمت ليتوانيا المستقلة إلى الأمم المتحدة في 17 سبتمبر/أيلول العام ،1991 وغادر آخر جندي سوفييتي في 31 أغسطس/آب 1993 . وحصلت على عضوية حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في العام 2004 وهي عضو في مجلس أوروبا واتفاقية شينغن الموقعة في 21 ديسمبر/كانون الأول 1997 .

واتّبعت ليتوانيا طريق الحوار الواسع والنقاش المكثف إزاء صياغة دستور جديد وأجرت استفتاءً خاصاً عليه في 23 مايو/أيار ،1992 وأصبح النظام شبه رئاسي، وأجريت أول انتخابات في 25 أكتوبر/تشرين الأول ،1992 أما الرئيس فينتخب مباشرة من الشعب لمدة 5 سنوات (لدورتين فقط) وترأس ليتوانيا حالياً السيدة داليا كريباسكانيا، والبرلمان الليتواني من غرفة واحدة ويضم 141 عضواً (ينتخبون) لمدة أربع سنوات .

تلكم هي حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث، لشعب صغير لا يزيد سكانه الآن على ثلاثة ملايين نسمة، ولكنه يتمتع بإرادة قوية وثقة بالديمقراطية وبصندوق الاقتراع، مستفيداً من تاريخه الدستوري العريق الذي امتاز بمستوى رفيع من التنوّع الثقافي والعرقي والتسامح الديني، ومن حاضره الذي يتّجه إلى إعلاء شأن الحريات العامة والخاصة، وقد سُجّلت ليتوانيا بوصفها واحدة من أسرع الاقتصادات نموّاً في الاتحاد الأوروبي (العام 2007) وذلك قبل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية .



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدار برلين الثاني !
- من باليرمو إلى دوكان
- صبراً جميلاً وعزاءً حاراً لفقدان الراحل جاسم القطامي
- الثورة التونسية ومسار التغيير العربي
- المسيحيون والبيئة الطاردة
- النموذج الإسلامي
- يوسف سلمان يوسف ... فهد- الأخيرة
- الاتجار بالبشر
- يوسف سلمان يوسف ..(فهد)-( 2 – 3 )
- يوسف سلمان يوسف ... فهد ( 3 – 3 )
- تعويض الضحايا!
- يوسف سلمان يوسف -فهد-...(1 – 3 )
- زمن الفتاوى ومغزاها
- خمسة آراء بصدد المسألة الكردية في العراق
- السياسة في معناها
- حلّق في فضاءات شاسعة وسبح في بحور واسعة-*الجزء الثاني
- الحق في الجمال
- الأسرى الفلسطينيون والوعي النقدي المطلوب!
- المساءلة والحقيقة في بعض تجارب العدالة الانتقالية
- المفكر السيد الصدر حلّق في فضاءات شاسعة وسبح في بحور واسعة*( ...


المزيد.....




- الاحتلال يغلق معبر كرم أبو سالم بعد إدخال شاحنة وقود واحدة ل ...
- الضفة الغربية.. اقتحامات واعتقالات وهدم البيوت وتدنيس الاقصي ...
- هجوم رفح المرتقب - الخوف والقلق يسيطران على النازحين
- رايتس ووتش: بإغلاقها معابر غزة إسرائيل تستهزئ بأوامر العدل ا ...
- 4 أسئلة توضح مدى إمكانية اعتقال الجنائية الدولية لنتنياهو
- رئيس وزراء العراق: ما يحدث في غزة غير مسبوق وانتهاك صارخ لحق ...
- برنامج الغذاء العالمي: 5 ملايين سوداني على بعد خطوة واحدة من ...
- تهديد قضاة لاهاي لمنعهم من اصدار مذكرات اعتقال لقادة -اسرائي ...
- الاحتلال يشن حملة اعتقالات جديدة في الضفة
- الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - عبد الحسين شعبان - حكاية الدستور الثاني في العالم الحديث