أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان محمد صالح الهيتي - قراءة في قصص (حمامة شاقوفيان)















المزيد.....


قراءة في قصص (حمامة شاقوفيان)


قحطان محمد صالح الهيتي

الحوار المتمدن-العدد: 3781 - 2012 / 7 / 7 - 17:55
المحور: الادب والفن
    


شهادات نزيهة في قصص ، بهذه الجملة الصادقة المعبرة قدم الكاتب والإعلامي عبد المنعم الأعسم لمجموعة قصص (حمامة شاقوفيان) للقاص رسمي رحومي الهيتي ، وحين قرأت القصص كلها تأكد لي ما قاله الأعسم ،فهي باختصار:" شهادات (أو ذاكرة) سرية نزيهة يمكن أن يكون لها شأن في بناء قسمات مرحلة خطيرة من تاريخنا".
ضمت المجموعة إحدى عشرة قصة ولم يكملها ثلاثة عشرة قصة لأنه أراد أن يقول لنا: بانها احدى عشرة ومع الشمس والقمر سيكتمل العدد وسنراهم عليه شاهدين.
من خلال قراءتي للقصص اكتشفت أن للعنوان دلالة خفية لا تبدو إلا بعد الاطلاع على محتوى القصص ،فالكتابة عند رسمي ليست سردا إنما هي حوار بوجهين فبعد قراءة كل القصة نتوقف ونقول :إن هناك حكاية أخرى تطل من بين السطور، فلكل واحدة ظللها والظل يروي قصة أخرى قد تكون مخالفة للظاهر.
بحثت في قواميس اللغة العربية عن أصل الكلمة فلم أجد الفعل (شقف) في المختار من صحاح اللغة وبحثت عنها في لسان العرب فوجدت (شَقْف) وتعني الخزف المُكسَّر، ولم أجد لها في العَيْن أي أثر. لم أجد للشاقوفة في قواميس اللغة معنى ولكني وجدت لها في ذاكرة الهيتيين بخاصة والعراقيين بعامة الف معنى ومليون ذكرى. فهي عند الهيتيين فعل ماضٍ، وحاضرٍ ومستقبل. وهي عندهم مصدر كل الأسماء، وكيف لا إنها عالم خاص، فبها الفيلسوف والشاعر والكاتب والفنان ،وفي مدرستها الجامعة كتب عبد الحميد الهيتي و محمد أمين علي وسعيد حمد عواد وبعدهم غازي الكيلاني وطراد الكبيسي وعبد الباقي سيد نوري ،وذاكر ابو كطية وغيرهم الكثير أولى قصائدهم في الحب والغزل والوطنية والنضال. و فيها وتحت سعفات (جرداغها) قرأ مدني صالح أصول الفلسفة فكتب (أشكال والوان) وفيها أتقن يوسف نمر ذياب قواعد اللغة العربية ، وفيها درس وائل مخلف بكر الأدب الإنكليزي ،ومن طينها (الحري)انجز ربيع ريحان أول تماثيله ،وفيها رسم سبتي الهيتي أولى لوحاته. ومع هذا التنوع الثقافي والفكري كانت الشاقوفة مدرسة لكادحي هيت ففيها اجتمعت أول خلية حزبية شيوعية ،ومنها انطلقت اكثر من تظاهرة هتفت (ملينا من خبز اليابس ملينا من حكمك نوري) ومنها خرجت تظاهرات مؤيدة للزعيم عبد الكريم قاسم وفي إحداها هتف المتظاهرون (هيت قطعة من السوفيت ... تكلم يا المهداوي تكلم)،وبقيت الشاقوفة موطنا لمعتنقي الفكر اليساري ورمزا لهم واذا ما أجَبتَ من يسألك أنك هيتي ،يقول :لك كيف حال الشاقوفة. ومثلما كانت مدرسة جامعة للفن والأدب فقد كانت موطنا لفريق رياضي هو فريق الفتوة.
أي عالم هذا الذي يجتمع فيه الفيلسوف والشاعر والكاتب والفنان والرياضي والعامل والفلاح والكاسب ويديره (غفير) الرجل الذي عرف بطيبه، وسمو أخلاقة وعلو همته. ذلك الإنسان الذي جعل كل ما في الشاقوفة (كائنا)فأسمى ابنه (كائن).
لقد اقترب رسمي الهيتي في كتابة قصصه إلى قصيدة النثر،وجعل من بضعها صعبا ممتعا لا سهلا ممتنعا. فحين تقرأ عناوين من المجموعة (ضجيج العدسة)و(آمال قريبة جدا)و(جبرهن) و( حدود الخديعة)و (التداول السلمي للأحلام) تجد رغبة كبيرة في قراءة كل واحدة منها وحين تحلق في فضاءاتها وتسرح بين مروجها حتى اذا انتهيت شعرت بأنك ما زلت تريد المزيد .
في القصة الأولى (مقامة إسماعيل يوسف زايد) وجدت نفسي بين ثلاثة كبار الأول فيلسوف، والثاني بطل، والثالث مبدع .وجدت نفسي بين مدني صالح ومقاماته الرائعة، وإسماعيل يوسف زايد المناضل الذي كان "طيرا يتعرى عند نزيف أسراره ،ويستبيح أقماره تحت وطأة الدم" والثالث هو رسمي الذي وظف بعضا من مقامات مدني صالح توظيفا رائعا ليؤكد لنا بأن :" الذي قام به إسماعيل يوسف زايد كان على قدر كبير من الأهمية في اتجاه المحافظة على شيء عزيز وثمين وخطير". لقد تأكد لي أن كلا من هؤلاء الثلاثة هو عزيز وثمين وخطير.
ما يجمع الثلاثة أنهم تخرجوا بامتياز من جامعة أسمها(الشاقوفة)،وأنهم من مدينة أهلها "يحفظون أنسابهم في صناديق مغلقة ولا يفتحونها إلا في الخلافات حول نسب أو نسبة أو انتساب..."
وفي القصة الثانية (ضجيج العدسة) "تحسم العدسة أمرها ،ينتظم البعد البؤري لفيزياء اللقطة ... تطق آلة التصوير وهي تحدث ما يشبه النتيجة ؛ تراكمت عنده الخبرة ،فاضحت خزينا ثرا يمده بأساليب عديدة تنتقل من الغوص في القاع إلى المحاكاة ،إلى الانبهار ثم الدهشة" كل ما في الحكاية أن الرجل أراد أن يقيم معرضا لصوره الجديدة ولكن الأمر يستوجب الحصول على إجازة لإقامة المعرض، فالفن غير مباح عرضه لأنه يهدد الأمن الوطني. وبقي يقنع نفسه بضرورة العدول عن ذلك لان إقامة المعرض سيثير حفيظة المسؤولين ويُصّعد من عداواتهم إزاءه لأنه متهم بتعمد أثارتهم. وحين قدم مجموعته الجديدة ،قالوا له هذه هي الصور ذاتها في معرضك الذي أقمته في العام الماضي ،وقد استشهد المسؤول بلوحة القطة لمجرد أنها قطة أو لأنه لا يفهم في الفن ودلالاته شيئا ولا يعرف غير وجه القطة، عندها دافع الفنان عن لوحاته قائلا لهذا المسؤول الجاهل: هنا القطة تموء..... بينما في معرضي السابق كانت صامته. والطفلة هنا اكثر أملا وإشراقا ... ومع كل هذا لم يفهم المسؤول ما في اللوحة وربما فهم – وهو الذي لا يفهم - أن حركة القطة وموائها تعني انقلابا ،وأن إشراقة وجه الطفلة يعني الثورة ،فقال له "إن دائرته لم توافق على إقامة المعرض في الوقت الحاضر".
وفى القصة الثالثة (آمال قريبة جدا) يبين لنا رسمي الهيتي معاناة الأب الباحث عن (آماله) في محاولة أخيرة للوصول إلى صديقه ،ومن ثم إلى ابنته ولكنه لم يفلح في الوصول إلى (آماله ) وكيف له أن يصل إليها والوضع تغير كثيرا في بغداد فلا امن و لا أمان، بل مفخخات تضرب كل شيء ،واغتيالات تدنس كل أمال القلوب.لقد اصبح أبو (آمال ) دون مشيئته احد قادة المعارضة في الخارج والسبب مضحك ومبكٍ في آن واحد، فكل ما في الأمر أن أهله بعثوا له أغراضا ونقودا مع احد أصدقائه الذاهبين إلى دمشق وبسبب الأحداث التي أعقبت غزو الكويت اشترك ذلك الصديق في تلك الأحداث التي وصفتها السلطات بالغوغاء ووصفها القائمون عليها بالانتفاضة أو الثورة ..وحين القي القبض على ذلك الصديق الذي اعدم وجدوا ورقة فيها اسم وعنوان أبي (آمال) ومن اجل إلقاء القبض عليه استخدموا كعادتهم أخس الطرق ومنها تجنيد النساء لاصطياد الرجال، وهكذا جاءته عدوية صالح التي تزوجها فيما بعد وصارت (أم آمال) التي لم تقتل كما ظن فقد رآها في خلال رحلة البحث مع رجلين في سيارة تحمل أرقام هيئة دبلوماسية عندها دارت به الأرض بطريقة لم يعتدها من قبل .
وفى القصة الرابعة (حمامة شاقوفيان) التي سميت باسمها المجموعة يقول لنا رسمي الهيتي :" الشاقوفة مكان في الأزمنة ،وليس زمن في الأمكنة" ،وأقول: الشاقوفة مكان كان في زمن مضى حاضرة لمدينة هي واحدة من اقدم المدن في العالم إنها مدينة هيت. ولكنها ليست ككل الأمكنة ،فهي ديوان ومضيف .
لم تكن الشاقوفة عمارة من طابق أو من عدة طوابق ولم تكن مبنية بالإسمنت ولا مطلية به. لقد كانت (جرداغا) من سعف النخيل تحيط به وتظلله بضع نخلات سامقات على الفرات العذب وأمامه اشهر دالية في العراق هي دالية التربة.فيها(حب ماء) على محمل خشبي من صنع (جلوي) يتدلى عليه دلوان مطليان بقير هيت. وفيها (وجاغ) وفيها كل الشيء إلا الكراهية.
تعود أن يجيء إلى الشاقوفة طائر حر لينقل الخبر إليها ومنها ،وليعرف حال الرفاق فيها. لم يكن هذا الطائر طامحا بمال ولا جاه ولا منصب ولا سلطان ،إنه مناضل جاء من الجبل ليعرف من الرفاق من منهم يرغب في الصعود إلى القمة ، فكان المجيب صبحي يعقوب :أنا ورافع عبد السلام وفاضل حسين .
لم يكن مجيء هذا الطائر الذي اسمه (خاجيك بغداسار) إلى الشاقوفة مفاجئا فقد كانت له اكثر من زيارة .وهو في كل مرة يعود إلى الجبل يكون دليلا للراغبين في النضال. وبسبب تكرار زياراته ورحلاته من هيت واليها كان أقرب إلى (حمامة) ولأن اسم أبيه كان مخالفا لأسماء أبناء طائفته ،ولأنه كان عاشقا لهيت وللشاقوفة، ومن أجل أن يُخلّد أسمه، فقد صار اسم (خاجيك بغداسار) حمامة شاقوفيان.
فرح ابن شاقوفيان بهذا الاسم وأحبه ،وحمله معه من هيت إلى (ناوزنك) و(هورامان) و(بهدنان)،من هناك من حيث ارض البطولة، وردت الأخبار عن استشهاد إسماعيل يوسف زايد ومن ثم (حمامة شاقوفيان)"فوادعا أيها الزاجل عند طراوة الفجر وأنت تمارس رقصك الدامي في حضرة الغجر... سلاما".
وفي القصة الخامسة (الذبحة الوطنية) وجه رسمي الهيتي الأحداث والشخصيات وفق المسار الذي ارتضاه قصد توضيح أفكاره دون تكلف ولا تصنع، وبأسلوب شيق. ولأنه ابن بيئته، فهو يصغي لنبض مجتمعه وما حوله ، ويعايش تحولاته وتجدد أحداثه، حيث يضع الكاتب أصبعه بتقنية أدبية عالية في الحرفية على ظاهرة التصفية الجسدية التي اتبعها نظام البعث في الخلاص من مناوئيه. فقد قطعوا أوصال محمد الخضري واعدموا بشار رشيد وقتلوا عامر سلطان "ابن الشقيقة الجليلة (عفته باني) سفيرة الأحلام من مدينة من أعالي الفرات" كما "قتلوا ماسك الواح المودة (نافع بديوي)".لقد قتلوا حمامة واغرقوا مزرعة وخربو خضرة الحقول وذبحوا الطبيب فكانت الذبحة والمذبحة.
وفي القصة السادسة(جَبَرْهن) "مسيرة أطول من الوجع الذي يتاخم عذابات المزارعين التي تتشظى أحلامهم وأمنياتهم على مساحات البيدر في الأرض المحروقة بأوامر السلطان". في هذه القصة مالك بستان وحارس بستان وجبرهن المفتول العضلات وشاعر الشامية جبار كاظم العذاب.
من الشامية - تلك المدينة الأثيرة عند جبار كاظم العذاب – تبدأ أحداث هذه القصة حين يجد جبار نفسه مضطرا إلى مغادرتها بعد أن طبع على جبينها قبلة الوداع راكضا إلى نبع السراب في بغداد. ولأنه احترف في مدينته عمل المعجنات فقد وجد نفسه عاملا في مصنع صغير للمعجنات في منطقة علاوي الحلة ببغداد تلك المنطقة المكتظة بالمارة والتي اتخذ من احد فنادقها سكنا ومناما لساعات الليل. ولكنه لم يقطع الوصل عن مدينته فقد كانت الأخبار غير ساره حيث حملات الاعتقالات واصبح جبار واحدا من المطلوبين .
وفي الشامية بقي جَبَرْهن المتطاول حد امتلاك الحقيقة والذي اصبح اسمه رمزا يؤشر إلى عذابات الشامية يمر يوميا ومنذ ساعات الصباح الأولى من أمام البستان في طريقه إلى النهر ولم يسال احد من أهل مدينته عن هذه الرحلة اليومية ولم يجرا احد منهم أن يستفهم عن سر العصا التي يحملها، لقد اصبح جبرهن لغزا حتى انهم شككوا في كونه من مدينتهم .
هرب جبار من عذابات مدينة إلى مركز امل بعيد ،وهرب مالك البستان وحراسه وتصدع حائط الطين ولم يبق مع الطيبين سوى جَبَرْهن وعصاه التي" أضحت سارية علم باتجاه الأمل ... الأمل البعيد"

وفي القصة السابعة (باب السنجة) والتي كنت عنوانا لمجموعته القصصية الفائزة بجائزة الإبداع في مهرجان نازك الملائكة ،يعود بنا رسمي الهيتي إلى ذلك الزمن الجميل ليكتب لنا بلغة شعرية رائعة " ناعسة.. ناعسة ،باب السنجة ،تتوحد كل أزقتها في ظلمة موحشة، وحجارتها تضج بصمت ابدي يتقاطع مع الصوت الذي يحدثه مرور الريح على ماء النهر الذي ينساب بهدوء ...."
يعود بنا رسمي الهيتي إلى ليالي مدينة هيت وبالتحديد في قلعتها حيث اجتمع عبد الحافظ وصبحي وخميس وابن خالتهم التي تعد لهم الشاي وهم يقرأون على ضوء فانوس وحين ينتهون من دروسهم يتبعثرون في الأزقة في انتظار صباح يوم تنشق فيه السماء عن مولد شمس جديدة تاركين خالتهم جميلة بانتظار عودة الزوج المقامر. ومع انتظار الخالة جميلة يسكن الليل إلا من وقع ارجل وعصا فرج الأعمى الذي اعتاد العودة إلى بيته متأخرا.
في صباحات باب السنجة يصوغ النهار من وجوه أهل المدينة فرحا ينتشر في سمائها. وبعد أن يعلن الفجر مولد يوم جديد يحمل (السقا دلي) (تنكتيه)صاعدا نازلا ليسقي أبناء مدينته ماءا فراتا، وهو يغني "حيك بابه حيك".
كثر الأبناء، وكبر الأولاد ولم تعد القلعة كافية لوحدتهم ،فانتشرت البيوت الجديدة، وتوسعت المدينة، وصار بها اكثر من حي في كل واحد منه مدرسة أو اكثر، وصار في المدينة مشفى وشوارع جديدة ،ومع المقاهي الكثيرة فيها ، كان للموظفين نادٍ هو من اقدم النوادي في العراق لا زال ينبض حيوية بمن يرتاده من المحبين الذين يسرقهم الحديث إلى أيام ذلك الزمان ،فيضحك منهم من يضحك على نكتة حدثت فيه، ويبكي منهم من يبكي على عزيز كانت له معه أيام.
لم نعد نر باب السنجة ولا أي اثر له فقد خنقه (الكورنيش) وقامت على أطلاله حاضرة بائسة ولم تعد "هيت إز كريت سيتس"
وفي القصة الثامنة ( حدود الخديعة) ينقلنا رسمي الهيتي إلى أجواء الحرب ، إلى حيث وحدته العسكرية التي خسرت الحرب المجنونة اكثر من مرة بسبب جهل وقلة وعي القادة والضباط .لقد كان جنديا خريجا يجيد ترتيب الملفات وتجليدها ومن اجل هذا أبقوه في (القلم) بالرغم من عدم انتمائه إلى صفوف الحزب الحاكم وبالرغم من عدم رضا ضابط الاستخبارات عن هذا الاختيار.
يقول الضابط للجندي- مهما كان تحصيله العلمي ومستواه الثقافي – حين يحرجه بأمر ما : لا تناقش ... نفذ ثم ناقش ... أنا ضابط وأنت جندي . ولكن مثل هذا الضابط يستعطف الجندي في الموضع القتالي وعند اشتداد المعركة وعند الحاجة اليه ،وهو ما تم مع بطل حكايتنا هذه حيث طلب منه آمره أن يكتب له بحثا يتعلق بموضوع" معالجة الحشود البشرية في الحرب" واعدا إياه بمكافأة مالية وإجازات طويلة وإعفاء من التدريب والواجب .
لقد وافق (أبو خليل) على كتابة البحث كونه لم يكن مخيرا في قبول أو رفض العرض لسببين الأول: يندرج في سياق القائد والجندي والثاني لثقته بنفسه و قدرته الشخصية في" إثبات أن هناك قدرات هائلة يتمتع بها الجنود حينها تفوق كثيرا المستوى المعرفي والثقافي لأغلبية الضباط" .انجز البحث وقدمه إلى آمره الذي طلب منه أن يسلمه إلى ضابط التوجيه السياسي في مقر الفيلق ومن ثم يتمتع بإجازة دورية. بعد أيام قليلة ،وفي أثناء إجازته دخلت وحدته في معركة جديدة مع العدو، وكالعادة خسرت المعركة . ولما التحق بوحدته التي كانت في مرحلة إعادة التنظيم لم يجد من (قوتها) سوى ضابطين واقل من ثلاثين مقاتلا "وهؤلاء كل ما تبقى من تعداد الوحدة ،أو بالأحرى تم تأجيل موتهم إلى معركة أخرى".
ليس غريبا في تلك الحرب أن تخسر الوحدة المعركة ،وأن يعاد تنظيمها اكثر من مرة فالنتيجة واحدة (تطعيم المعركة ) بألوف من الضحايا الأبرياء وبتكريم للقادة والضباط بالأوسمة والأنواط ،ولكن الغريب هو أن يحاكم الجندي الذي كتب بحثا ويكرم القائد الذي خسر معركة وكل هذا نتيجة تسلط وقيادة من لا يعرفون عن الحرب قانونا ولا يدركون لها معنى ،لأن الآمر مجرد (سلطان) و(خليفة) .
وفي القصة التاسعة (زمن الحلاوة الأولى) يعود بنا رسمي الهيتي مخبئا ثياب طوفان ذاكرته والوان البهجة بعد خمس وعشرين سنة باحثا "عن ركام القحط المر، عن ذلك الوعد والعهد والوثيقة" يرجع باحثا عن وطنه وعن انتمائه ،وحين يعلم بان منزل أهله قد بيع يقف ليسأل : إن المنزل وطن .. هل يباع الوطن؟ وبالرغم من هذا يظل باحثا عن هويته التي تركها في منزل أخيه عندما سكن فيه ما يقارب السنتين والتي أخبرته عنها ابنة أخيه سناء بانهم قد وضعوها في علبة معدنية صغيرة ودفنت في إحدى زوايا الحديقة . ذهب إلى حيث المنزل المباع وطرق الباب وفتح له، وبعد أن عرَّف بنفسه قال لصاحب المنزل :إن لي عندكم أمانة مدفونة بإحدى زوايا هذه الحديقة ،وقبل أن يسمح له بالتحري عن كنزه المدفون قال: إنها تحت النخلة كما قالت لي سناء، عندها طلب منه مضيفه أن ينتظر قليلا ولم يطل الانتظار فقد دخل أبو طارق حاملا صحنا تملؤه حبات تمر تلك النخلة ،وحين اكل بعضا منها وجد هويته .
وفي القصة العاشرة (كتيبة علوان النفط) يعود بنا رسمي رحومي إلى معسكرات الجيش لينقل لنا من داخلها تلك العلاقات الحميمية التي كانت تربط المقاتلين المنتمين لعراقهم لا لدياناتهم أو طوائفهم أو قومياتهم ،لقد اتخذ من شخصية علوان النفط رمزا لأغلب افردا الجيش العراقي الذين قاتلوا دون أن يعرفوا لماذا يقاتلون فيقتلون .لقد أدمنوا على حالة عدم التسريح من الجيش وعدم الانتصار في المعارك، واصبح الموت مؤكدا ولكنه مؤجل إلى حين.
في هذه القصة انتهج رسمي فكرة متفائلة تستند في عمقها على أن الأمور لابد أن تنتهي في يوم من الأيام إلى الخير في إشارة لإعطاء الشخصية الرئيسة فيها صبغة إيجابية وهي تصارع من أجل وجود موطئ قدم لها في عالم ليس عالمها، مع التشبث بالإصرار على حب الحياة وعدم الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع، تاركا نهاية القصة أفقا مفتوحا على كل الاحتمالات لتحريض القارئ على صياغة النهاية المتخيلة حسب ما يحمله من تصور ورؤى ذاتية للموضوع.
وفي القصة الحادية عشرة والأخيرة (التداول السلمي للأحلام) قدم البطل لنا نفسه على أنه قاص مواظب على كتابة القصة منذ زمن طويل . سبق وأن كتب قصة أرسلها للنشر في إحدى الصحف ،وبعد مضي مدة طويلة تزيد على ستة شهور راجع تلك الصحيفة فقابل رئيس التحرير لمعرفة السبب في عدم نشر قصته تلك .سأله رئيس التحرير ما هو محور قصتك ؟ فأجاب: قصتي حلم ينقسم إلى ثلاثة مقاطع لم أجد علاقة بين مقطع وآخر .... وقبل أن يكمل حديثه سأله رئيس التحرير : ماهي المقاطع أو الأشياء التي رايتها في حلمك؟ أجاب مرتبكا متخبطا في حديثه وفي روايته فهو لا يدري هل الشارع مبلط بالإسمنت أو الإسفلت؟ ولماذا ذهب إلى حانوت الخياط وهو لم يشتر القماش من حانوت القماش الذي ذهب اليه لأنه مغلق؟ واستمر في هذيانه فتحدث عن المعبد وعن العملاق الذي منعه من الدخول اليه محاولا اغتصاب ابنتيه ،وحين لم يُعره رئيس التحرير اهتماما وبقي منشغلا بلوحة مفاتيح حاسوبه ،اصطنع حلما جديدا هو المرأة الكردية ،ثم حلمه بالخروف المربوط بسلسلة ذات حلقات ذهبية تنتهي بيد رجل لم يتبين ملامحه . واستمر يسرد حلمه بمقاطعه تلك وكان في "آخر المطاف يسير مع ابنتيه ويسير الخياط خلفه والقماش وذلك العملاق في المعبد بالإضافة إلى تلك الامرأة الكردية" ونسي الخروف والسلسلة الذهبية ،لقد كان يريد من كل هذا اللف والدوران أن يخفي كل ما يشير إلى أبعاد سياسية في حلمه ، فانكر منه الكثير ولكنه اعترف في موضوع الخروف والسلسلة ،وباعترافه هذا جاءنا بنظرية (سعرية) جديدة من خلال العلاقة بين أهم مادة غذائية وهي لحم الخروف وبين أسعار الذهب حيث أثبت لنا بالدليل القاطع :" أن سعر الخروف ومنذ عشرات السنين هو بمستوى مثقال الذهب".
لقد كان الحلم حين نام ولم يتغطَ بعد جلسة مع المعتقل المفرج عنه إسماعيل إسعيد الذي اخبره في تلك الجلسة نقلا عن والده بان لهم بيتا في المدينة القديمة فيه كنز مدفون ،وقد حاول مرارا دون علم أبيه أن يحفر أرضية البيت للوصول إلى ذلك الكنز وبمساعدة البعض من معارفه وأصدقائه". هنا فَسرَّ الحلم، فالمعبد هو البيت القديم ،والمرأة الكردية هي جدة إسماعيل (أم إسعيد الكردي) ،والعملاق هي إسرائيل التي تقدمت بشكوى إلى منظمة اليونسكو مدعومة بالوثائق التي تشير إلى عائدية (بيت إسعيد) إليها كونه كان معبدا يهوديا مارس فيه يهود هيت القدامى طقوسهم عندما كانوا يشكلون ما يقرب من ثلث عدد سكانها. ولا أدري هل أن قصة رسمي هذه كتبت في زمن سيجيئ.



#قحطان_محمد_صالح_الهيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قتلوا أم عامر ...قتلوا الديمقراطية
- ولي أنت
- ذات الخال
- آلية سحب الثقة من الحكومة وحل البرلمان
- وداعا يا صباح
- أباطيل وأكاذيب فيما قاله إبراهيم عبد الرحمن الداود
- نشيد هيت
- مانريده وما يريده السياسيون
- أمنيات عراقي بالعام الجديد
- حوار مع رجل تعدى الستين
- عبد الحميد عبد المجيد الهيتي
- سألت الحب
- إقليم الانبار بين الداعين اليه والرافضين له
- قصيدة دار سعدى
- المهلهل بن ربيعة
- الأفوه الأودي
- الشنفرى الأزدي
- كذبة المائة يوم
- حلم بين الكتل السياسية والكتل الكونكريتية
- رسالتان الى عمان والى السلطان


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قحطان محمد صالح الهيتي - قراءة في قصص (حمامة شاقوفيان)