أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - ماهر اختيار - المعاقون وذوو الاحتياجات الخاصة، هل من ربيع ثوري ينتظرهم؟ 1-2















المزيد.....


المعاقون وذوو الاحتياجات الخاصة، هل من ربيع ثوري ينتظرهم؟ 1-2


ماهر اختيار

الحوار المتمدن-العدد: 3761 - 2012 / 6 / 17 - 14:33
المحور: حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة
    


في خضم الربيع العربي الثائر، المزدهر والمؤهل لبناء أنظمة مدنيّة يَحكمها القانون قبل التقليد، المؤسسات قبل الأفراد، المُنتخِبون قبل الوارثون، تبرز على الساحة ثلاث فئات مختلفة من المواطنيّن وفقاُ لتصنيف برز منذ أكثر من عام: فئة الثائرين، وهي تضم أولئك المطالبين بتغيير جذري يقطع مع ماض مُستبد وجائر؛ فئة المؤيدين المدافعين عن النظام القائم لأسباب عديدة مفضلين الاستقرار على التغيير؛ والفئة الثالثة هي فئة الصامتين الشبيهين بأولئك الذين استوت حسناتهم مع سيئاتهم، إذ يجدون أنفسهم، من جهة أولى، بين جنة التغيير نحو مزيدٍ من الحريةِ ونيل كرامة ما فتئوا يتمنونها، ومن جهة أخرى ترهبهم نارُ المجهول المُّلوح بها من قبل السلطة القائمة ومن نتائج التغيير غير المضمونة.
هذا تصنيفٌ كلاسيكيٌ اعتدنا على تقديمه في نقاشاتنا ويحضرُ ضمن الكثير من المقالات التي تتناول الربيع العربي بالدراسة والتحليل. لكنه تصنيفٌ يتجاهل فئةً رابعةً صامتةً هي أيضاً، وصمتها هذا يعود لعجزها عن التعبير عن حالتها، ولافتقادها أدوات تساعدها على جذب انتباه العالم لرغبتها في تغيير النظام السياسي القائم الذي عمل على تهميشها طوال عقود من الزمن. هي فَئةُ لم تمتلك بعد فرصةً لتوضيح احتياجاتها والنقص الذي يخنقها، لأن النظام السياسي والاجتماعي السائدين يتجاهلانها في الحرب وفي السلم وفي حالتي الاستقرار والتغيير. في المقابل، نلاحظ بأن حالة الظل التي تعيشها هذه الفئة الصامتة ليست نابعة من فقرها المادي ولا من انتمائها الطبقي أو من مولدها الإثني أو الطائفي، بل إنها نتيجة لغياب أو لتغييب بنى تحتية تساعدها على الخروج من صمتها وتصغي لمطالبها. إنها فئةُ المعاقين والمقعدين وذوي الاحتياجات الخاصة. إنها فئةٌ صامتةٌ عجزاً لا إرادةً، صمتها نتيجة غياب القدرةِ وليس في انعدام الرغبةِ، إن صمتها غالباً ما يكون خِلْقَةً لا سلوكاً أو خُلُقاً. هي فئةٌ صامتةٌ ولكن ننسى أنها صامدةٌ، وتُكَوَّن قاعدةً من قواعد المجتمعِ، دونها لا تكتملُ صورة هذا الأخير ولا تتبلور مؤسساته المُكرَّسَة لخدمة مواطنيها.
إن فكرة اختيارنا لهذا الموضوع متولدة من قناعتنا بأن نتائج الثورات العربية لا تُقاس بمدى قدرتها على هدم الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة مُجسّدةً قطيعةً كاملةً مع ماضيها، بل في قدرتها على بناء واقع أفضل؛ واقع يُمهد لإحداث تغيير في آلية التفكير، ويُؤسس لمجتمع يَّضمن الاحترام والمساواة والتعايش السلمي بين جميع مكوناته. ولعل واحداً من المؤشرات المُمهدة لبناء هذا الواقع هو الموقف من المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، فالثورة التي تعمل على إحداث تغيير سياسي واقتصادي دون القدرة على تغيير النظرة الاجتماعية والثقافية والعرف العام تجاه المعاق، ودون سعيها لبناء مؤسسات تلقي الضوء على معاناة هذه الفئة الصامتة محاولةً عِلاجها، فإنها تخرج من صفتها الثورية لتلتصق بما يسمى بالردة الحضاريّة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: أليس من المُبكر التطرق لمثل هكذا موضوعات؟ ذلك لأن الشعوب العربية الثائرة - والتي ما زالت تصارع وتناضل ويسقط منها الشهداء بالمئات – لم تفلح بعد في قطف ثمرات ثورتها. أليس البحث عن الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية بعد فعل الثورة يمثلان خطوة تسبق، نظرياً، مناقشة موضوع بصدد المعاقين ومشكلاتهم والبحث عن أفضل الطرق لعلاجها؟
لعل الإجابة على هذا السؤال تقودنا لشرح الإشكالية التي دفعتنا للمساهمة في كتابة هذه المقالة. إذ كانت الشرارة التي أشعلت بارود الربيع العربي تعبيراً يائساً من إنسان يُدعى محمد البوعزيزي الذي كان محروماً من أهم حق من حقوق الإنسان، ألا وهو حق العيش بكرامة. لقد أعلن التمرد على حياة الذل فأشعل جسده منهياً وجوده الفاقد للمساواة ولاحترام السلطة السياسية لحقوقه. أراد أن يحرق ذاتاً خانعة، ذاتاً مستسلمة للظلم وللاستبداد. لقد استطاع البوعزيزي ترك بصمة على جبين التاريخ الإنساني مفادها: عندما نفقد الأمل في مستقبل أفضل، فإن الحاضر يصبح كريهاً مريراً، لذلك فلتُحرق كل ذات بلا أمل. ولعل كل فاقد للأمل يمتلك بالقوة فعل محمد البوعزيزي، والمعاق لا يخرج عن هذه القاعدة. لا بل إن كل معاق يُجسد ذاتاً تطمح لتجاوز حالة الذل والنقص والضعف سواء عبر حرق ذاته أو عبر حرق كل ذات ونظام ومجتمع يظلمها ويعمل على تهميشها. باختصار إن ذات المعاق تبحث، مثل كل الذوات العربية الثائرة، عن ثمرات ونتائج تجربة البوعزيزي من خلال تغيير الحال والتأسيس لمستقبل أفضل يحقق كرامته بوصفه إنساناً.
سنحاول إذاً تأمل وضع فئة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة دافعين بورقتهم - الخاسرة دائماً في عهد معظم الأنظمة العربية الاستبدادية - للنقاش تساوقاً مع ربيع الثورات العربية. فشعاع وألوان هذا الربيع لن يحققا نتائجهما المرجوة دون أن تشمل كل مكونات المجتمع بما فيها هذه الفئة الطامحة للخروج من دائرة الشفقة ومانحي الزكاة نحو مجتمعٍ يحترمُ إنسانيتهم وحقوقهم بوصفهم مواطنين، ويسعى لاقتراح برامج ومشاريع مؤسساتية تقدم لهم حلولاً جذريةً بعيدةً عن الاعتبارات الضيقة. ولعل الأسئلة المُتولدة من إشكالية موضوعنا هذا تدور حول ما يلي: لماذا لم تنجح معظم الأنظمة العربية في تطوير بنى تحتية مُكرسة لخدمة المعاقين؟ هل معاناة هذه الفئة هي نتيجة متوازية مع التراجع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الراهن لهذه الأنظمة ؟ لماذا عجزت الأنظمة البائدة وتعجز الأنظمة الحالية عن بناء وعي جمعي يهتم بالمعاق بوصفه إنساناً بعيداً عن خلفيته الدينية أو المذهبية أو العرقية ؟ هل تنطبق على هذا الوعي قاعدة فاقد الشيء لا يعطيه؟ فالمواطن العربي يناضل من أجل نيل حقوقه في الحرية والكرامة والمساواة، وبالتالي التعامل إنسانياً مع المعاقين يكون نتيجة لنيل المواطن السليم هذه الحقوق؟ لعل هذا السؤال الأخير يبرهن لنا على صوابية فكرة أن ربيع العرب لن يُثمر ثورةً حقيقيةً تؤسس لمستقبل أفضل دون امتداد ألوان هذا الربيع إلى جميع مكونات وفئات المجتمع بما في ذلك فئة المعاقين.
بدايةً دعونا نتناول تعريفاً سائداً للإعاقة، وثم نختار إحدى الدراسات العربية التي تحاول تشخيص المشكلة واقتراح حلولاً لمعالجتها. يُّعرف مركز دراسات وأبحاث ورعاية المعوقين الإعاقة بالقول إنها تعني قصوراً أو عيباً وظيفياً يصيب عضواً أو وظيفة من وظائف الإنسان العضوية أو النفسية بحيث يؤدي إلى خللٍ أو تبدلٍ في عملية تكيف هذه الوظيفة مع الوسط. إن الإعاقة موجودة في تكوين الإنسان وليست خارجة عنه، تؤثر على علاقته مع الوسط الاجتماعي بكل أبعاده، الأمر الذي يتطلب إجراءات تربوية تعليمية خاصة تنسجم مع الحاجات التي يتطلبها كل نوع من أنواع الإعاقة. وهناك أسباب كثيرة للإعاقة منها أسباب وعوامل حدثت قبل أو بعد الولادة، إضافة إلى العوامل الوراثية التي تؤدي إلى إعاقات ذهنية وعقلية.
سنحاول أن نتخذ من عناصر هذا التعريف ركائز أساسية تُوجه معالجتنا لهذا الموضوع، ولنعرج الآن على عينة من مقالات تناولت مكانة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة في الدول العربية، مثل تلك الدراسة التي قدمتها د. فوزية بنت محمد أخضر (دكتوراه في فلسفة التعليم الخاص، الولايات المتحدة الأمريكية). اعتمدت د. فوزية في دراسة1 حول "حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وتكييف البيئة لتلائم احتياجاتهم" على كتب متعددة وعلى خبرة ميدانية طويلة، ومعايشة فعليّة لهذه الفئات ولأسرهم. هي تتحدث، على سبيل المثال، عن الخطوات التي تحققت في المملكة العربية السعودية مثل الإقرار بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة في التعليم والتدريب والرعاية دون تمييز. كما أكدت على أن هذه الخطوات تتماشى مع تعاليم الإسلام التي تحث على المساواة والعدل وعدم التفرقة بين القوي والضعيف، والتي جعلت أيضاً معيار التمييز بين البشر هو التقوى. وبعد استعراضها لبعض النصوص الدينية عددت إنجازات المملكة في هذا الميدان: إذ رأت أن النظام الوطني للمعاقين يهدف إلى توفير الرعاية الصحية والتربوية والاجتماعية الشاملة، مع توفير المساعدة المادية وإدخال قضية ذوي الاحتياجات الخاصة في المناهج التربوية العامة. كما يهدف، هذا النظام، إلى توجيه الرأي العام إلى الاهتمام بمشكلات هذه الفئات وإعدادهم إعداداً سليماً للاعتماد على النفس ومشاركتهم مشاركة فعلية. كما يسعى إلى تحسين واقع المعاقين في جميع المؤسسات وقطاعات المجتمع الخاصة والعامة. وذكرت في نهاية دراستها بعض الصعوبات التي تعترض هذه الفئة مثل: التنقل، الأرصفة، درج الطائرة الخ. وثم عددت التوصيات الواجب تطبيقها مثل: تكييف جميع وسائل النقل لتلبي متطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة، تخصيص أماكن خاصة لمواقف السيارات، تحديد أماكن خاصة للمكفوفين في جميع وسائل النقل الخاصة والعامة، تخصيص مساكن مؤهلة وفقاً للمعايير خاصة بهم، تسهيل معاملات المعاقين في مؤسسات الدولة وضرورة بناء بنى تحتية تسمح لهم بارتياد هذه المؤسسات دون عوائق... الخ.
حقيقةً، ليس هدفنا هنا انتقاد ما قدمته د. فوزية، وإنما مناقشة فكرة مهمة تتضمن عدة أسئلة- متصلة طبعاً بدراستها هذه وببعض الدراسات الأخرى المتقاربة في مرجعيتها النظرية - : هل تمثل النصوص الدينية منطلقاً نظرياً كافياً لتطبيق ما تدعو إليه هذه الدراسة من توجيه الرأي العام للاهتمام بمتطلبات ذوي الاحتياجات الخاصة، والضغط على الحكومات العربية لتطوير مؤسسات مكرسة للاهتمام بهذه الفئة حاضراً ومستقبلاً؟ وهل الدعوة للامتثال امتثالاً كاملاً لما تقوله بعض النصوص الدينية يقود إلى إحداث تغيير في الوعي الجمعي، وقطيعة مع ماض وحاضر يتجاهلان المعاق وذوي الاحتياجات الخاصة ؟ ما العلاقة بين إهمال المعاق وتهميش مشكلاته والتأخر في إيجاد حلولٍ لمعاناته، والفهم الجامد لبعض النصوص الدينية ضمن مجتمع يسوده نظام سياسي مستبد، مغلق وأحادي التوجه السياسي؟ هل نحن بحاجة لربيع يثور على ثقافة ماضوية في تعاملها مع المعاقين؟
يمكن التأكيد على الفكرة التالية: تبقى الثورة غير مُنجزة طالما لم تستطع اختراق الجمود الفكري المهيمن على الوعي الجمعي وبالأخص على الثقافة الدينية السائدة في المجتمع العربي. فكيف يُمكن إحداث تغييراً يُمهد لمستقبل أفضل دون تجاوز ثقافة تمتلك دائما أجوبة مُنجزة لكل مشكلة تنخر هياكل المجتمع وميادينه المتعددة! وما أعجب المجتمع الذي يهلل لربيع ثوري وأفراده لا يفتؤون يقيسون قضايا الحاضر على شروط القديم مستسلمين لتركة الأجوبة المتوارثة دون نقد أو تمحيص! ولعل التمسك بالنصوص الدينية وطريقة فهمها يجسدان جزءً لا يتجزأ من شكل الثقافة السائدة ومحتواها تجاه المعاق، فلا تخلو مقالة في هذا المجال من نص ديني يحث الناس على حسن معاملة الضعفاء ويحدد لهم منْ يستحق الرعاية ومنْ لا يستحقها. ولا نبتعد كثيراً عن المنطق عندما نقول بأن هذه المقالات تعكس، بطريقة أو بأخرى، الثقافة والوعي السائدين في الشارع العربي تجاه المعاقين. وقد لا تتولد، نظرياً، أو قد لا تستمر معاناة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة من عامل التمسك بالنصوص الدينية ومحاولة موائمتها مع مقتضيات العصر، وإنما يأتي استمرار هذه المعاناة من جمود قراءة هذه النصوص، ومن الإصرار على البقاء حبيسي الماضي عبر الظن أن الحلول جميعاً تكمن في مفردات هذه النصوص وغاياتها الصالحة لكل زمان ومكان.
في الواقع، لا تنفصل دعوة الأنظمة السياسية - المُنتخبة لإدارة الدولة عقب ربيع الثورات العربية – لمزيد من الاهتمام بقضايا المعاقين عن ذاك الحامل الفكري الذي يُوجه ويردف الوعي العام بأفكار تتعلق بقضية التعامل مع المعاقين، ولذلك نفضل مناقشة حالة المعاق من عدة زوايا تبدأ بوضع هذا الحامل الفكري موضع تساؤل ونقاش، وثم محاولة اقتراح حلول ممكنة وقابلة للتطبيق في ظل تغيير سياسي مرتقب ومأمول في مستقبل قريب. ولعل المثال الأكثر وضوحاً للبدء في مناقشة هذا الحامل الفكري هو توفر عدة نصوص دينية يتم توظيفها من قبل بعض الكتّاب وتكررها، بقصد أو بدونه، ألسن العامة للتدليل على اهتمام الإسلام بقضية المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة. سنعلق على هذه النصوص مظهرين الفهم العام لمضمونها دون البحث عن قراءات تأويلية أخرى ممكنة، وذلك محاولة منا لحصر المقالة ضمن وجهة نظر واحدة من ضمن وجهات نظر متعددة، ولإيجاد مخرج ممكن للإشكالية التي إنطلقنا منها.
في رحلةِ بحثنا هذه نجد، على سبيل المثال، مقالات تقتبس الآية التالية: "لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ". النور 61. بينما يقول البعض إن هذه الآية قد نزلت للحث على الجهاد، يرى آخرون أن سبب نزولها هو دعوة المسلمين من جهة أولى، إلى الابتعاد عن عادةٍ قديمةٍ، موجودة قبل الإسلام، تمثلت في شعور الناس بالحرج من تناول الطعام مع أصحاب الإعاقات. إذ كانوا لا يفضلون الأكل، على سبيل المثال، مع الأعمى لأنه، حسب اعتقادهم، لا يمكنه تميز الطعام وما فيه من طيبات. ومن جهة أخرى، يرى هؤلاء أن هذه الآية تحث المسلمين على الاندماج والاختلاط مع الأعمى أو مع ذوي الاحتياجات الخاصة بهدف إبعاد شعور النقص الذي قد يرافق شخصيتهم ويطبع علاقاتهم مع الآخرين. ما يمكننا ملاحظته في الآية أنفة الذكر هو تركيزها على إعطاء قاعدة أدبية تدعو إلى حسن معاملة أصحاب الإعاقة من خلال مجالستهم والتحدث معهم خلال وجبات الطعام. لكن ما يحتاجه وما يأمله المعاق، فعلياً، يتجاوزان مسألة قبول الآخرين مشاركته الطعام أو لا. فما يعانيه من نقص ومن آلم جسدي أو معنوي يتجاوزان دافع الجوع وإشباعه عن طريق هذه المشاركة الظرفية، ضيقة الآفاق والمفتقدة لحلولٍ مفصليةٍ في حياته.
نجد بعض الكتّاب يستشهدون، أيضاً، بالآية التالية "ولقد كرمنا بنى أدم". الإسراء 70 للتدليل على المساواة المتحققة بين الناس عامة دون تمييزٍ بين سليمٍ أو معاق. يؤكد هؤلاء الكتّاب عبر اقتباسهم لهذه الآية على أنَّ الله رفع من مكانة الإنسان معاقاً كان أم سليماً، ودعا إلى عدم التمييز بين الناس مهما كانت صفاتهم الجسديّة أو العقليّة، وذلك لسبب جوهري، أنهم سواسيّة أمام الخالق . لكن إذا ما عدنا إلى تفسير هذه الآية فإننا نجد أن سمو مكانة الإنسان عند الله يتجسد في نفي النقصان، لا بل يأتي تفسير ابن كثير ليهدم تلك المساواة المُفترضَة بين المعاق والسويّ قائلاً بأن تكريم الله للإنسان نابع من أن هذا الأخير يمشي قائماً منتصباً على رجليه، ويأكل بيديه؛ جعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك المعاني وينتفع بها، ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية. إذا ما افترضنا صواب الانطلاق من هذا النص للتدليل على تحقق المساواة بين جميع الناس، فإننا سنستنتج بأن تكريم الله للإنسان يمتد ليكفل فعلياً حياة المعاقين، فالأبكم يُبصر، والضرير يُميز الخير من الشر، والأصم يتنقل ويعمل بحرية، ومن لديه إعاقة حركية لديه نعمة العقل والتي تؤهله ليحقق ما يطمح له مثل الآخرين. لكن أليس هذا تفسيراً منقوصاً وبعيداً عن الموضوعية في بعض نقاطه؟ ذلك لأن من يفتقد خاصية حسيّة أو حركيّة أو عقليّة فإنه يجد نفسه مسلوب النعمة ومختلفاً، بالمعنى السلبي للكلمة، عن الآخرين. فإذا كان تشريف الله لفرد لديه إعاقة عقلية نابعاً من قدرة هذا الأخير على المشي والنظر والسمع..الخ، فبئس هذا التشريف الذي لا يؤهل صاحبه حسن توظيف هذه القدرات في حياته وعبر علاقاته مع الآخرين. لا بل إن قدرة هذا المعاق على حسن استثمار قدراته الحسية، مقارنة مع الأصحاء، تساوي الصفر، فهل هناك تكريم في منحِ القدرةِ على الكلام مع العجز عن اختيار الكلمات وتوظيفها في التفكير والـتأمل ؟ وهل هناك تكريم في منح حاسة النظر دون القدرة على تمييز الألوان والشعور بمتعة جمال مخلوقات الله "الطبيعة والإنسان"؟
في الواقع، هناك العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تتناول بشكلٍ أو بآخر مسألة رعاية المعاقين والمقعدين، مثلاً الآية 10من سورة الحجرات: "إنما المؤمنون أخوة "، و حديث يقول:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه البخاري ومسلم. يبدو أن هناك تكاملاً بين الآية والحديث الشريف، فما لم تقله الأولى صراحةً شرحه الحديث عبر مفردات واضحة وعميقة. إذ يؤكد على أهميةِ التعاونِ والتعاضدِ بين الناس لأن المجتمع الإسلامي يؤلف جسداً واحداً، وأّن أي خللٍ أو ألمٍ يلمُّ بعضوٍ واحدٍ سيؤثر على سائر أعضاء الجسد. يُفهم مما سبق أن معاناة المعاق لا تصيبه وحده، وإنما تمتد آثارها السلبية لتشمل أسرته وبنى مجتمعه. ونستنتج من هذه النصوص صراحةً ضرورة الاهتمام بهذه الفئة سعياً لتحقيق نوعاً من التوازن الاجتماعي. في المقابل، إن تأمل هذه الآية الكريمة وما يقترحه الحديث الشريف يقودنا إلى إدراك القيود التي تحدد مضمونهما وإلى ملاحظة بعداً إنسانياً ضيقاً يحيط بمفرداتهما، وذلك لأنهما يقيدان التعاون والتعاضد وضرورة مساعدة أصحاب الحاجة بتحقق الإيمان بالعقيدة الإسلاميّة. أنها نظرة تتعارض مع حرية الاعتقاد ومع مبدأ ضرورة احترام المواطن بوصفه إنساناً بعيداً عن معتقده الديني، لا بل، إنها نظرة لا تنسجم مع حالة التنوع الإثني والقومي والطائفي الذي يُلون المجتمعات العربية ويخالف فكرة أن سقف الوطن هو المواطنة وليس دين ما أو قومية ما.
في الواقع، يقع أيضاً في هذه النظرة الضيقة من يستند إلى حديث آخر يقول: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" رواه مسلم. إن ربط مساعدة الضعفاء والمعاقين بفكرة الإيمان يدفع قارئ هذه النصوص للظن بأن الإسلام لا يرحب بالاختلاف، ولا يقبل بوجود أقلية غير مسلمة داخل مجتمعه، والدليل هو ما يلي : يحاول مثلاً من يستند إلى مضمون هذا الحديث التأكيد على تحقق فكرة العدالة الاجتماعية بين الناس، فالجميع سواسيّة أمام الله سوءاً كانوا سليميّ الجسد والعقل أو ذوي إعاقات دائمة، وذلك لأن مكانة الإنسان عند الله تُقاس بمدى الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية وليس بناءً على جمال مظهره الخارجي أو على كمال حالته الجسديّة أو العقليّة. في المقابل، إن ما يفتقر إليه هذا الحديث هو ذكر مكانة المريض عقلياً عند الله، أو كيف ينظر الله لذاك الكهل الذي فقد ذاكرته وإدراكه بأهمية القيام بواجباته الدينية! ما هي مكانة الشخص المصاب بمرض الزهايمر على سبيل المثال؟ هل ينظر الله إلى أعمالهم غير المتزنة والتي تتعارض مع مبادئ الدِين الحنيف؟ المشكلة هي أنّ من يستند إلى هذه النصوص الدينية لكي يُدلل على تحقق المساواة بين جميع الناس تفوته فكرة أن عماد هذه النصوص هو الإيمان، وأن مفردات مثل "المؤمنين والأعمال والقلوب" تعمل على تحقيق المساواة بين الناس ولكنها تنطبق فقط وبشكلٍ واضحٍ على فئتين من الناس: الأولى هي من يطبق الشريعة الإسلامية وهذا يفترض امتلاك ملكة العقل ويستبعد فئة المعاقين عقلياً أولئك الذين فقدوا، فيما بعد، قدرة الإدراك والتمييز. الثانية فئة المسلمين متضمنةً المعاقين عقلاً وجسداً، وهي فئةٌ تستبعد بدورها المعاقين والمقعدين الذي لا يعتنقون الإسلام.
بعد هذا التقديم الموجز لأحد جوانب الحامل الفكريّ الذي يجسد عنصراً بارزاً من عناصر ثقافة المجتمع العربي في تعامله مع فئة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، سندرس في الجزء الثاني من هذه المقالة بعض الخطوات العملية والتي يقتبسها بعض الباحثين للبرهنة على فاعلية هذا الحامل الفكري الذي يهتم بظروف ومشكلات هذه الفئة ويسعى لإيجاد حلولٍ فاعلةٍ وناجعةٍ للحد من آلامهم الجسديّة والنفسيّة والتخفيف من حدة النقص الذي يعانونه.
1- http://www.gulfkids.com/ar/index.php?action=show_art&ArtCat=1&id=1475



#ماهر_اختيار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل بالضرورة وراء كل فعل ثوري مؤامرة؟
- يوميات جندي فرنسي في أفغانستان وإشكالية حضور الآخر
- التوازن البيئي ومفهوم حدود الممكن
- آلية استبداد الأنظمة العربية لشعوبها مُستمرة، فهل من حلٍ؟
- ربيع الثورات العربية... عوائق تأخره وآفاق نجاحه
- التوازن البيئي من الضرورة الجغرافيّة إلى مسؤوليّة الإنسان ال ...
- أهمية ودور الشعب من أدبيات التصوف الاجتماعي إلى مناهج الحولي ...
- الإنسان أمام كوارث الطبيعة، من الوجود إلى السلب
- أنسنة الحاكم العربي وفعل المواطنة، المبالغة في مدحه خيانة لل ...
- يبحثون عن طاقة لا تقتل وسطهم البيئي، ونبحث عن حاكم لا يقتل ش ...
- ضرورة التأسيس لأنظمة حكم قابلة للخطأ في البلدان العربية
- التصوف الاجتماعي... وجه من وجوه انتقاد الاستبداد السياسي
- علاقة الحاكم العربي بشعبه...استمرار لماضٍ قاتم!
- الثورات العربية وضرورة التأسيس لدولة القانون...إسقاط الطبقة ...
- غياب القانون بوصفه أزمة في بنية البلدان العربية


المزيد.....




- بعد قانون ترحيل لاجئين إلى رواندا.. وزير داخلية بريطانيا يوج ...
- تقرير أممي مستقل: إسرائيل لم تقدم حتى الآن أي دليل على ارتبا ...
- الأمم المتحدة تدعو بريطانيا إلى مراجعة قرار ترحيل المهاجرين ...
- إغلاقات واعتقالات في الجامعات الأميركية بسبب الحرب على غزة
- مراجعات وتوصيات تقرير عمل الأونروا في غزة
- كاريس بشار لـCNN: العنصرية ضد السوريين في لبنان موجودة لدى ا ...
- رئيس بعثة الجامعة العربية بالأمم المتحدة: العمل جار لضمان حص ...
- الأمم المتحدة: نزوح أكثر من 50 ألف شخص بسبب المعارك شمال إثي ...
- بعد تقرير -اللجنة المستقلة-.. الأونروا توجه رسالة للمانحين
- مراجعة مستقلة: إسرائيل لم تقدم أدلة بشأن ادعاءاتها لموظفي ال ...


المزيد.....

- الإعاقة والاتحاد السوفياتي: التقدم والتراجع / كيث روزينثال
- اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة / الأمم المتحدة
- المعوقون في العراق -1- / لطيف الحبيب
- التوافق النفسي الاجتماعي لدى التلاميذ الماعقين جسمياً / مصطفى ساهي
- ثمتلات الجسد عند الفتاة المعاقة جسديا:دراسة استطلاعية للمنتم ... / شكري عبدالديم
- كتاب - تاملاتي الفكرية كانسان معاق / المهدي مالك
- فرص العمل وطاقات التوحدي اليافع / لطيف الحبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - ماهر اختيار - المعاقون وذوو الاحتياجات الخاصة، هل من ربيع ثوري ينتظرهم؟ 1-2