نائل الطوخي
الحوار المتمدن-العدد: 1099 - 2005 / 2 / 4 - 11:54
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
تم يوم الجمعة الماضي اعتقال ثلاثة من النشطاء اليساريين في معرض القاهرة الدولي للكتاب كانوا يوزعون كتيباً بعنوان "طريق الاشتراكيين نحو التغيير" و بعض البيانات التي تدعو لرفض التمديد لمبارك. النشطاء هم إبراهيم الصحاري, باهو بخش, و مروة فاروق. كذلك تمت مصادرة إصدارات مركز الدراسات الاشتراكية الذي ينتمي إليه النشطاء الثلاثة.
في صباح الجمعة الماضي هاتفتني مروة فاروق. طلبت مني الحضور اليوم لمركز الدراسات الاشتراكية. قالت لي "عايزين نشوفك". قلت لها "ربنا يسهل". و لكنني لم أذهب, و هي أيضاً لم تذهب, كل منا لسبب مختلف, فبينما كنت أنا أجلس في الفراندة أشرب الشاي مع سيجارة و أقرأ كتاباً كانت هي قد استقرت على الأرضية الرطبة للزنزانة. ضرب الصحاري بقسوة من رجال الأمن أثناء القبض عليه. و أنا لم أكن قريباً من الصحاري, كنت أشاهده فقط من بعيد و تعارفنا يوماً بشكل باهت, غير أن ما وقر في ذهني كان شيئاً واحداً, أن هذا الشاب ليس في جسده موضع لكدمة و لا في قلبه موضع لحزن. كنت أحسه منهكاً و مستنزفاً.
شيء ما كان يمكن ملاحظته في مناقشات مركز الدراسات الاشتراكية, هو جرح ما في الهواء, كأن يأساً أطبق على الجميع, لأن لا شيء يحدث, و لأن عصا السلطة ماتزال هي التي في الشارع و ليذهب صوت الشيوعيين هباء, الشيوعيين (لنستعمل لفظاً أكثر تهذيباً: اليساريين) الذين يحاربون كل شيء ما عدا إمكان قيام وطن اشتراكي علماني و ديمقراطي, يحاربون الدكتاتورية المباركية و توحش الرأسمالية "الوطنية!!!!!" و قوى التخلف الظلامي و الإمبريالية الأمريكية و الصهيونية. هم في هذا محاصرون من الجميع, يحاولون بموارد محدودة جداً التحرك بين الناس (منفصلين كذلك عن حزب اليسار الأساسي في القاهرة, التجمع, الذي بدأ يلوح باعتباره صوتاً للسلطة في الكثير من الأحيان). و بينما كان يعرض نشطاء مركز الدراسات الاشتراكية إصدارات المركز على زواره القليلين, و هي الإصدارات التي تتنوع من مجلة "أوراق اشتراكية" و حتى كتاب المركز, يبيعونها بجنيهات قليلة, و نادرا ما يشتري أحد, في الغالب يستعير الجميع المجلات و الكتب ولا يعيدونها. أثناء كل هذا يبدو نشاط المركز آمناً و رقيقاً, طالما ظل في حدود ذاته, و إنما يبدأ الخطر عندما يحاول الاشتراكيون التحرك بين الناس, هذا, للمفارقة, في الوقت الذي ينعي فيه كل أبواق النظام و رؤساء تحرير الصحف الرسمية على المعارضين عدم تحركهم بين الناس و عدم نزولهم إلى الشارع. و برغم هذا فقد تغفر الدولة للاشتراكيين كل شيء, ماعدا التحامهم بالناس, لأنها, في نومة كهفها, تتصور أن الشارع هو ملك لها فقط, بينما أي نظرة إلى الشارع تؤكد أن ذلك تصور فكاهي في أفضل الأحوال, غير أن الشارع للأسف ليس كذلك ملكاً للاشتراكيين, و إنما ملك لقوى الإسلام السياسي. قد يتعاطف غالبية الناس مع الاشتراكية (في صورة متأسلمة منها) غير أن هذا لا يصل أبداً إلى مرحلة فكر ناضج و متبلور. هنا يحاول الاشتراكيين حفر طريق ما, تذكير الناس بمصالحهم المهدرة و التي ليست هي بالضرورة تحريم السجائر و منع روبي من الغناء لأنها تكشف عن بطنها. و يحققون نجاحات بطيئة و واثقة أحياناً. و لأول مرة يتجمع الناس في وسط القاهرة للتظاهر رفضاً لشيء لا يتصل بقضيتي فلسطين و العراق, كانت القضية هي رفض التمديد لمبارك و رفض توريث ابنه جمال الحكم, هذا التجمع الذي صورته بعض المحطات الأمريكية, و أهمها قناة الحرة, بحقارتها المعتادة على أنه دعوة للتدخل الأمريكي في شئون مصر الداخلية, بينما يرفض الاشتراكيون هذا بعنف. أي نبل هذا يا اصدقائي الحمر!
يبدو التناقض واضحا بين معرض للكتاب وبين مصادرة الكتب و القبض على موزعيها, فالكتب و المطبوعات ظلت في مركز الدراسات الاشتراكية يطلع عليها ويقرأها من يريد,(ممن بإمكانه اجتياز حاجز مجهولية المركز و تواريه عن الأنظار), و لم تتم مصادرة الكتب إلا في تلك "التظاهرة" الضخمة للكتاب. هذا بينما تزدهر في المعرض كافة أنواع الهمبورجر و الكفتة و الشاورمة (السورية و المصرية في الواقع, حرصاً على التعددية).
لا يثير أعصاب النظام الآن قدر الحديث عن تعديل الدستور بحيث يسمح باختيار الرئيس بالانتخاب المباشر من بين اكثر من مرشح. و عندما حدث المفكر محمد السيد سعيد الرئيس مبارك في هذا الأمر في لقائه بالمثقفين قال له الرئيس "اعمل لك دستور و حطه ف جيبك". و حينها تقرر إلغاء مشاركة محمد السيد سعيد في معرض الكتاب, هو الذي كان مدعواً دائماً فيه. في نفس الوقت لا يتخلى النظام عن محاولة تجميل ذاته, و حينما حدث الصحفي عماد الدين أديب مبارك عن المرشحين أمامه, نوال السعدواي و سعد الدين إبراهيم و محمد فريد حسنين, قال له مبارك: "و انا هزعل ليه؟ الديمقراطية كدا, يا رب يترشح مية, انا مبزعلش". هذا النظام الذي يحاول تجميل ذاته بطرق رخيصة يخونه ذكاؤه في بعض الأحيان, و عندما جوبه مبارك مؤخراً بسؤال حول دور جمال مبارك في حكم مصر قال إن جمال يساعده في الحكم, و لم يعرف الناس بأي صفة دستورية يساعد جمال مبارك في الحكم, هل هي بالجينات الوراثية التي تؤهله لذلك أم بشعبيته الجارفة (و التي لا تتعدى المحطات التليفزيونية الأرضية في مصر). غير أنه كان كافياً لمبارك أن يؤكد أن ذلك يحدث كما يحدث في فرنسا, كما تساعد الرئيس شيراك ابنته مثلاً, في مثال صارخ لخطاب يستمد مشروعيته من الخارج, و من الغرب بالتحديد, لا من شعبه.
و بعد, تقرر تمديد حبس النشطاء الثلاثة خمسة عشر يوماً آخرين, بينما, و في خطوط موازية, تم القبض على أيمن نور رئيس حزب الغد بتهمة تزوير توكيلات لإنشاء حزبه الوليد و تقرر تمديد حبسه خمسة و أربعين يوماً آخرين, و تم القبض في اليومين الماضيين على عشرة من الإخوان المسلمين لتتم إضافتهم إلى الستة عشر الفاً الملقون في سجون النظام منذ عشر سنوات بدون محاكمة, هذا بينما لم تغب بعد عن ذاكرة الناس فضيحة اختطاف الصحفي المعارض عبد الحليم قنديل و ضربه في طريق مصر السويس الصحراوي و إلقاءه عاريا (تماماً, كما ولدته أمه) في الطريق الموحش.
إنه موسم صيد كل البشر.
#نائل_الطوخي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟